الحركة التشكيلية الحديثة بتونس

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1894 - 1984م]

مدخل عام[عدّل]

لئن نشأت الحركة الفنية الحديثة في تونس على هامش الثقافة التقليدية بتأثير التيارات الغربية، فقد كان التراث الجمالي العربي الإسلامي دائما قيمة مرجعية لابداع الفنانين التونسيين، يستقي الكثيرون منه بعض عناصر أعمالهم، منذ بدايات التجربة التشكيلية بمفهومها الحديث، حتى وإن استندوا في الأساس إلى رؤية جمالية غربية. وبتطور الحركة الفنية التونسية برزت اتجاهات أخرى حاولت الارتباط على نحو أكثر عمقا بالموروث الجماعي، وبناء تجربتها على مجموع التعبيرات الفنية الإسلامية. وبالإضافة إلى فنون العمارة والرقش العربي والخزف التقليدي والصناعات الحرفية والتجليد وغيرها، ظهر في القرن التاسع عشر فن جديد بتونس، هو الرسم على الزجاج. وقد كان شائعا في بلاد كثيرة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، ويعدّ هذا الفن أولى محاولات الانفتاح على البيئات الثقافية المجاورة، كما يشتمل في أسسه الجمالية على تأليف بين الفن الغربي عن عصر النهضة الأوربي، وعناصر مستقاة من التقاليد العربية الاسلامية في الخط والرقش.

بدايات الفن الحديث[عدّل]

خلافا للرسم على الزجاج، وتقاليد الرقش العربي المستندة إلى قيم جمالية وروحية جماعية، يبرز التعبير الفني الحديث بالمعنى الغربي مترجما عن رؤية ذاتية فردية تضع الفنان في مواجهة اللوحة باعتبارها نافذة خاصة على العالم. وقد بدأت بواكير الرؤية الجديدة في قصور الأمراء والأعيان والبايات (مثل حسين باي في العقد الثالث من القرن 19) الذين اعتادوا تكليف فنانين أوروبيين بإنجاز صور شخصية لهم منذ بداية القرن التاسع عشر، وتزامن ذلك الولع بالصور وتحوّل تدريجي في نمط الحياة الاجتماعية حسب النموذج الغربي كما نراه في العمارة واللّباس والتأثيث. وكان أحمد بن عصمان (النصف الثاني من القرن التاسع عشر) أوّل رسام تونسي يمارس فنّه طبقا للتقاليد الغربية في مجال الصور الشخصية على الأخص.

ولكنّ الرسم المسندي وغيره من التقنيات التشكيلية الحديثة ما كانت لتتطور في تونس لو أنّها بقيت مقتصرة على القصور، وكان لا بد من إيجاد علاقة جديدة بين الفنان والجمهور لتنشأ حركة فنية حديثة حقّا. وقد تحققت تلك العلاقة بظهور مؤسّسة "الصالون التونسي" سنة 1894، وهو معرض فني سنوي أسّس لسدّ حاجة ثقافية شعر بها المستوطنون الأجانب، وصار له أثر بعيد المدى في نشر الممارسة التشكيلية والتذوق الفني، وكان الاطار الأول الذي ظهرت فيه التجربة الفنية التونسية. افتتح المعرض الأول للصّالون التونسي يوم 12 ماي 1894، أي بعد ثلاثة عشر عاما من تمركز "الحماية الفرنسية" على تونس. وكان التنظيم بإشراف "معهد قرطاج"، أهمّ مؤسسة ثقافية وعلمية تعمل آنذاك على إعطاء بعد ثقافي فنّي للحضور الفرنسي يكمل المناشط الاقتصادية للمؤسسة الاستعمارية. وشجّع نجاح ذلك المعرض الأول على تنظيم معارض أخرى، فأصبح الصالون التونسي تظاهرة دورية سنوية، وامتد نشاطه إلى ما بعد استقلال البلاد حين استمرّ تنظيمه حتى سنة 1984,، تاريخ انقطاعه نهائيا عن النشاط. احتضن الصالون التونسي في السنوات العشرين الأولى من وجوده تيار الاستشراق الفني الذي اكتسب حيوية جديدة في إفريقيا الشمالية (الجزائر وتونس) بعد تراجعه في أوروبا بتأثير من النزعات المحدثة كالواقعية ثمّ الانطباعية. وكانت الرؤى والأساليب التي تحكم فنّ الصالون تتسم بالروح الإقليمية الضيقة المنغلقة، المميزة للفكر الاستعماري. ولم تبدأ التجارب المحدثة الأولى في الصالون إلا قبيل الحرب العالمية الأولى عندما عرض سنة 1913 عدد من أعمال فنّاني الطليعة الفرنسيين أمثال: ألبرت غلايز، وماري لورنسان، وأسماء أخرى من أعضاء "صالون الفنانين الفرنسيّين". وقد نشط ضمن الصالون التونسي، وطوال الفترة الممتدة حتى الحرب العالمية الثانية، عدة فنانين من الأجانب، منهم ألكسندر فيشي (A.Fichet) الذي ترأس الصالون منذ 1913 حتى وفاته سنة 1966، وأرمان فرجو (A.Vergeaud) الذي شغل طويلا منصب مدير مدرسة الفنون الجميلة، وعبد الكريم جوسوا، والكسندر روبتزوف، وبيير بوشارل (P.Boucherle)، وهنري دابادي، وموزس ليفي، (M.Lévy) وأنطونيو كوربورا (A.Corpora) وغيرهم.

الروّاد[عدّل]

يحي التركي من روّاد الفن التشكيلي التونسي

وعلى هامش المعارض السنوية الفرنسية، أو في إطارها بدأ الفنانون التونسيون الأوائل خطواتهم مثل الهادي الخياشي وهو التونسي الثاني بعد أحمد بن عصمان الذي مارس التجربة التشكيلية. على أنّه من الإنصاف اعتباره فعلا أول رسام محترف بالمعنى الحديث للعبارة، إذ كان يتكَسّبُ بعمله، وإن كان يعوزه التفاعل المباشر مع الجمهور العريض لامتناعه عن تنظيم معارض فردية. وبعد الهادي الخياشي برز عبد الوهاب الجيلاني الذي أخذ يعرض في الصالون بداية من سنة 1912، وحتى قبيل الحرب العالمية الأولى، وهي الفترة التي غادر فيها تونس إلى فرنسا، حيث أقام طوال حياته، وأسهم طويلا في مناشط مدرسة باريس مع أسماء لامعة في سماء الفن العالمي مثل: موديلياني وبيكاسو وسوتين عوشاغال وزادكين وغيرهم. وكان عبد الوهاب الجيلاني قد بدأ دراسته الفنية في أوائل القرن العشرين في مرسم فنان فرنسي يدعى بنشار وذلك قبل إنشاء مدرسة للفنون الجميلة سنة1922. وإذا كان عبد الوهاب الجيلاني هو أوّل تونسي مسلم يشارك في معارض الصالون، فإنّ فنّه بقي حاملا لسمات "مدرسية" اتباعية، ولا نلمس في أعماله القليلة الباقية أي مؤشر على الانتماء إلى البيئة الثقافية التونسية. وإلى جانب الهادي الخياشي المرتبط بأوساط اجتماعية خاصّة، باعتباره رسام صور شخصية، وعبد الوهّاب الجيلاني الذي تطوّرت رؤيته خارج البيئة التونسية، برز يحيى التركي أهمّ شخصية بين الرواد، إذ كان لتجربته أبعد الأثر في تشكّل الملامح المميزة للحركة الفنية التونسية ونموّها لاحقا. ويعود ذلك أولا إلى اقتحامه ميدان الابداع متكّسبا بفنّه، وتأسيسه رؤية فنية تستند إلى تعامل تلقائي مع الواقع الخاص للبيئة التونسية، في صيغ تعبيرية بسيطة، ولكنها على صلة وثيقة بالحداثة، بعيدا عن الوسائل الأكاديمية الاتباعية الشائعة في أوساط المستوطنين الأجانب.

علي بن سالم لوحة عرس تقليدي في الهواء الطلق

كان لكل فنان من هؤلاء الرواد شخصية خاصّة تميّزه وترسم خطوطا عريضة لتطوّرات لاحقة في صلب الحركة التشكيلية بتونس. فقد حاول عبد العزيز بن رايس المتوفّى سنة 1962 التعبير عن عالم هادئ من المناظر الطبيعية، والمشاهد يلفّه الصمت، وتبرز فيه المادة الدسمة للألوان المحدودة عنصرا أساسيا في بناء اللوحة على حين جهد علي بن سالم في البحث عن عناصر من الثقافة التقليدية الشعبية لتوظيفها في تكوينات قريبة الصّلة أحيانا بالمنمنمات العربيّة الاسلاميّة القديمة، وأحيانا أخرى بتقاليد الرسوم الشعبية على الزجاج. أما حاتم المكّي فكان شخصية قوية متحوّلة لا تستقرّ على اختيار فني، وقد مارس على امتداد حياته الفنية أساليب مختلفة وتقنيات متنوعة، متنقّلا من المائيات الخفيفة إلى الآداء الخطي العنيف، ومن الأجواء الواقعية إلى التعبيرية إلى ما فوق الواقعية، مرورا بمحاولات في الفن البدائي، كما مارس الفن الاشهاري كالملصق وطابع البريد، وصمّم أوراق العملة والنقود.

حاتم المكي

ويعدّ عمار فرحات المولود سنة 1911 بحقّ من أكبر الشخصيات في تاريخ الحركة الفنية التونسية، إن لم يكن أكبرها عند بعضهم، وهو فنان عصامي مارس في أول حياته مهنًا صغرى، وعرف الحرمان والبطالة، ولكنه ظل طوال حياته مخلصا لمثل جمالية سعى بكل جهده إلى تحقيقها في نقله للواقع الاجتماعي. وقد نمت تجربة عمار فرحات على إثر حياة حافلة بالكفاح والعطاء الانساني جعلته يتدرج من وضعه باعتباره واحدا من أبناء الطبقة الفقيرة إلى مرتبة كبار الفنانين. ويراوح عالم عمار فرحات بين رؤية واقعية للأشياء، وصور عفوية يسيطر فيها المجاز والرمز. وتتّصل الواقعية عنده بتجربته المباشرة في بيئة المدينة العتيقة، وبعلاقاته بالناس من أوساط اجتماعية مختلفة، وخاصة طبقة العمال والتجار الصغار والموسيقيين الزنوج. وفي مقابل ذلك يعبر عمار فرحات أحيانا عن أفكار عامة ورؤى رمزية مثل معاني العائلة والشباب وجمال الحياة في الريف.

ولعمارة دبش، المولود سنة 1918، مكانة مهمّة في تاريخ الحركة الفنية التونسية بفضل مخطّطاته الفنيّة المتميّزة بالنضج والحرية. وقد بدأ يعرض أعماله في الصالون التونسي سنة 1937، حتى سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثمّ هاجر إلى فرنسا، وامتدت إقامته بها حتى بداية الستينات. وفي سنة 1967 أقام معرضا ضخما لأعماله في القاعة البلدية للفنون جمع فيه أكثر من مائتي عمل بين رسوم ومخطّطات فنّية كانت بمثابة التلخيص لمساره الفني طيلة أكثر من ربع قرن. وفي نهاية الستينات عاد عمارة دبش، وقد أصبح فريسة اليأس والقلق إلى فرنسا حيث وضع حدّا لحياته.

الجيل الثاني[عدّل]

ينتمي أغلب الفنانين التونسيين من الجيل الثاني إلى ما يسمّى مدرسة تونس. و "مدرسة تونس" هي أول جماعة فنية تضم فنانين تونسيين في تاريخ الحركة الفنية، وإن كان مؤسسها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، فنّانا فرنسيا يدعى بيار بوشارل. وقد انتسب إليها من الرواد يحيى التركي وعمار فرحات، ومن الجيل الثاني جلال بن عبد الله، وعبد العزيز الڤرجي، وعلي بالاغا، وصفية فرحات، وزبير التركي، والهادي التركي، وإبراهيم الضحاك، ومن الجيل الثالث (الذي برز إلى الوجود بعد استقلال البلاد (1956)) و حسن السوفي، وعبد القادر الڤرجي والتحق بها أخيرا فتحي بن زاكور. ويتميز كل فنان من الجماعة بمسار خاص، ولكن الأغلبية على اتفاق حول جملة من الرؤى الجمالية، وهم يتحلّون بقدر كبير من الانضباط والتضامن وهو ما جعل "مدرسة تونس" أكثر الجماعات تماسكا، بحيث لا تزال تنشط على الساحة الفنية، بخلاف جماعات كثيرة أخرى، ظهرت بعدها ثم اختفت لافتقارها إلى التنظيم. ورغم انعدام أهداف جمالية وصيغ تشكيلية محددة ومشتركة بين أعضاء الجماعة، فإنهم توصلوا بالممارسة إلى تقديم صورة عامة مشتركة عن الواقع تستند إلى حس خاص يترجم عن تعلّق بالقيم الجمالية والعاطفية للحياة التقليدية والثقافية الشعبية، وعن تثمين للتراث الفني. ويمثل هذا التوجه يحيى التركي، وعمار فرحات، وزبير التركي، وعبد العزيز الڤرجي، وعلي بالاغا، وصفية فرحات وغيرهم.

لوحة لزبير التركي

إنّ لتأثير القيم الفنية التقليدية بعدا شكليا في أعمال الڤرجي وابن الآغا. فالأوّل يحاول إعادة اكتشاف جماليات المنمنمة الاسلامية ثم النفاذ، في فترة متأخرة، إلى استيهامات الحياة الباطنية الشعبية، أمّا الآخر فيحاول الإفادة من الرسم على الزجاج، والخط العربي، ومختلف تقنيات الحرف الشعبية وأشكالها، على حين يبني زبير التركي شعبيته الواسعة على رواية عالم حقيقي، إنساني، متنوع، مستعينا في أغلب الأحيان بالخط المجرد من أي مادة لونية. ويتناول الزبير التركي عالمه بنظرة الفيلسوف الشعبي المطبوعة ببعض السخرية التي لا تصل، مع ذلك، إلى حد التهكم أو التشهير. ويستعير جلال بن عبد الله من البيئة والتقاليد أشياء متفرقة: أشكالا فنية وعناصر معمارية، قطع أثاث ومنسوجات، أدوات وأواني، ملابس وحليّا يزين بها عالما خياليا تسكنه نساء جميلات يجمعن بين مقاييس الحسن اليونانية والعربية، ويفتح جلال بن عبد الله عالمه الحميم هذا على لا نهائية البحر وزرقة السماء، بعيدا إلى ما وراء جبل "بوقرنين" في عرض خليج تونس. لقد كان لمدرسة تونس دور مهمّ في تطوير الفنّ والتعريف به، وأصبحت تقاليدها غداة الاستقلال في أواسط الخمسينات، وحتى بداية الستينات، متماثلة في الأذهان مع ما ينبغي أن ينهض به الفن من التعبير عن القيم الروحية والمادية للمجموعة الوطنية.

جيل التغيير الجمالي[عدّل]

الهادي التركي

لقد فضّل بعض الفنانين مثل حاتم المكي والهادي التركي، رغم انتماء هذا الأخير إلى "جماعة مدرسة تونس"، الخروج عن التصور السائد والقائل باعتبار الانتماء الثقافي في الفن مشروطا بتحويل قيم البيئة إلى اللوحة في إطار حكائي سردي أو رمزي. وكان هذا الموقف مؤشّرا لظهور آراء جديدة بين الفنانين الشبان في بداية الستينات، وتناقض الأسس الجمالية والتقنية لجماعة "مدرسة تونس". ويرى فنانو الستينات أنّ التعبير عن الهوية الثقافية الوطنية ينبغي أن يكون بعيدًا عن حالات التناغم مع البيئة، وأن يحقق وجوبا تجاوزا للمضمون الحكائي لمظاهر الحياة اليومية، بتمكين الفنّان من التعبير الحر خارج القيود، والافادة من التجارب التشكيلية العالمية. فنرى الكثيرين من أولئك الفنانين يتجهون إلى التجريد والتعبيرية والسريالية وغيرها، على حين يركز بعضهم الاهتمام على البحث عن رموز الموروث الفني ودلالاته، وتسيطر على الاتجاهات الجديدة الرغبة في التنويع والتجريب، وتبرز معاني التحول والتغيير من حيث هي قيم أساسية في العمل الفني.

التجريد[عدّل]

قام التجريديون التونسيون بمهمة أساسية في تاريخ الحركة الفنية، وهي مصادمة التصورات القديمة، والحث على إثارة أسئلة جديدة حول أهداف الفن التشكيلي ووسائله، وأسهموا في توجيه حسّ الجمهور المثقف إلى التيارات الجمالية المحدثة. ومن الملاحظ أنّ التجريد بإثارته للتساؤلات أدخل حركية على الوسط الفني في مجموعه، إذ أنّه أثر مباشرة في الفنانين التشخيصيين الذين أصبحوا يولون أهمية متزايدة للشواغل التشكيلية الصرفة، ويعتنون أكثر بوسائل الانجاز وتقنيات التكوين، وإن لم يتخلّوا عن موضوعاتهم التقليدية. ورغم بقاء الاتجاهات التجريدية اتباعية خاضعة للتجارب السائدة في الغرب، فإنّها أبرزت عدة شخصيات مهمّة في تونس منها الفنان الهادي التركي الذي بدأ حياته الفنية متأثرا بتوجهات جاكبسون بولوك (التعبيرية التجريدية) ثمّ بمارك روذكو في أجوائه التأملية، وأسلوبه الشفّاف النابض، ولكنه اكتسب مع الزمن شخصية متميزة تستقي أصالتها من محاولة التعبير عن علاقة غامضة بين عامل الواقع والتجريد باستعمال دلالات رمزية للألوان تقترب أحيانا من الحس الصوفي. ومن التجريديين التونسيين نذكر الحبيب شبيل، وهو ممن تناولوا التجريد في صيغه الأكثر نقاء دون أيّ إشارة، بعيدة أو قريبة، إلى الواقع. وينتمي رضا بن الطيب كذلك إلى الجيل نفسه، وتظهر في تكويناته عناصر بنائية تضفي عليها مظهرا عتيدا محكما مع حسّ متميز بدرجات اللون الأزرق. ومن التجريديين أيضا عمر بن محمود في بداياته، وإسماعيل بن فرج، ومحمود التونسي، وحبيب بوعبانة، ورفيق الكامل. ولأعمال هذا الأخير أهمّية خاصة في الاتجاه التجريدي لقيمتها المتميزة أولا ثم لتأثيرها في بعض الفنانين الشبان ممّن تتلمذوا له في مدرسة الفنون الجميلة. وتتميز أعماله في فترة ما بأحادية اللون وتبدو أشكالها كالعائمة في فضاء يذكّر بعامل الخلية الحية.وانتقل الفنان في نهاية السبعينات إلى صيغة تجريدية جديدة تقوم على تكوينات أكثر إحكاما وصرامة في الخطوط والألوان، وتحاول الإفادة من تقنيات التلصيق. وإلى جانب الفنانين المنقطعين تماما إلى التجارب التجريدية مثل الهادي التركي والحبيب شبيل وغيرهما، نجد فنانين آخرين مارسوا التجريد في فترة أو أخرى من حياتهم الفنية مثل خليفة شلتوت وعمر بن محمود وعادل مقديش.

وبدأت ظاهرة التجريد في الانحسار بحلول نهاية السبعينات بتأثير عودة التشخيصية بقوة في أساليبها المختلفة كالتعبيرية والتشخيصية المحدثة والفن الفطري، وتخلّى عدد من الفنانين في بداية الثمانينات عن التجريد، منهم حسن السوفي الذي جرّب الأسلوب "العلاماتي"، ثم انتهى إلى تشخيص تلميحي يختزل الأشكال الواقعية في صخب مادة لونية ثرية. وانتقل رفيق الكامل إلى أسلوب على صلة بتجارب التشخيصية المحدثة و "البوب أرت" راسما الحياة اليومية بضرب من الرصد يفيد من تقنيات التصوير الفوتوغرافي. وفي نهاية الثمانينات عادت الحيوية إلى التجريد بتطور تجربة بعض الرسّامين مثل نور الدين الهاني ورشيد الفخفاخ والحبيب بيدة وسامي بن عامر في إطار رواق "شيم" الذي كان له دور نشيط، على امتداد عشر سنوات، في تجديد الممارسة التشكيلية، كما ظهرت في التسعينات بعض التجارب التجريدية ذات اتجاه انفعالي (أسماء منوّر) أو ذات بنائية هادئة (آمال بنّيس).

الاتجاهات التّأصيليّة[عدّل]

في بداية الستينات، وبموازاة التيار التجريدي برزت محاولة من الفنان نجيب بن الخوجة لاعطاء التجريد صبغة محلية بإضافة عناصر من التراث التقليدي، وانطلقت على إثر تلك التجربة تجارب أخرى لفنانين يستلهمون الخطوط أو الكتابة العربية وعناصر الزخرفة والرقش العربي في بناء اللوحة. وتعيد الأساليب التأصيلية الجديدة إلى الأذهان الشبه بين الحيز الجمال الحديث ذي البعدين والحيز العربي الاسلامي. وتنقسم في جملتها إلى اتّجاه بنائي يمثّله خاصة نجيب بن الخوجة، واتجاه حروفي من أبرز دعاته نجا مهداوي. ترتكز تجربة نجيب بن الخوجة أساسا على ضرورة الارتباط بالتجارب التشكيلية العالمية استنادا إلى موقف نقدي من التجريد "الاتباعي" مثلما كان يمارس في تونس، ومحاولة الاستفادة من العناصر التراثية في الخط والعمارة لادماجها في حيز جمالي ذي بعدين. ويقوم أسلوب الفنان على موضع البنية المعمارية للمدينة باعتبارها نسقا وإيقاعا، وتتكون الصيغة الأكثر شيوعا لهذا الأسلوب من هيكل يعتمد على علاقة ثابتة ومتكررة بين الخط المنحني والخط المستقيم في تكوينات توحي بنسق الخط الكوفي الهندسي والعمارة الاسلامية.

نجا المهداوي

أمّا نجا مهداوي فقد بدأ تجربته مع التجريد واللوحات المجسمة، ثم انتقل في بداية السبعينات إلى الحروفية في أعماله الفنيّة. ورغم أنّ نجا مهداوي حريص على عدم الاهتمام بمضمون الحرف العربي مركزا اهتمامه على التأثير البصري للتكوينات، ورغم أنّ هذه الشكلانية تصل إلى حد استنباط حروف وعلامات لا وجود لها في الكتابة المعروفة، فقد بقي مع ذلك ملتصقا بتقاليد الخط والزخرفة الإسلامية. فهو يحافظ، عمومًا، على أسس الحيّز الجمالي التقليدية، ويحرص على المظهر التنميقي، وملء الفراغات على نطاق واسع. وانتسب إلى التيار الحروفي فنانون آخرون مثل محمد صمّود ومحمد الزواري، مع العلم أنّ فنانين كثيرين جربوا الحروفية على نحو متقطع، وفي مرحلة أو أخرى من مسارهم الفني مثل علي بلاّغة وخليفة شلتوت والهادي اللبان وغيرهم. وينتمي إلى الاتجاهات التأصيلية فنانون انطلقوا من التجريد، وانتهوا إلى أساليب تجمع بين حرية البناء التجريدي واستلهام الأشكال والرموز المأخوذة من التراث الزخرفي الاسلامي، أو من الصناعات الحرفية الشعبية. وقد انتمى إلى هذا الاتجاه، في مرحلة ما، عدد من الفنانين من الشباب مثل علي الزنايدي ونور الدين الهاني والحبيب بيدة...

التجارب التشخيصيّة المحدثة[عدّل]

رغم أنّ التجريد كان أهمّ تجارب جيل الستينات في مواجهة جيل "مدرسة تونس" السابق، فقد ظهرت اتجاهات تشخيصية محدثة تطرح علاقات متجددة بالواقع. واقتنع فنانون مثل محمود السهيلي والحبيب السعيدي والبشير الأخضر بضرورة اعتبار المعالجة التشكيليّة الحرة في مقدمة شواغل الفنان كما اقتنع بذلك التّجْريديّون، ولكنّهم، مع ذلك، رفضوا تحلل عناصر الواقع وغيابه التام في مادة اللون، وألقوا بذلك نظرة جديدة على عالم الأشياء يغلب عليها الاختزال والذاتية، وتصل أحيانا إلى تخوم التجريد. والواضح أنّ التشخيصيين الجدد يرفضون مبالغة التجريديين في تجاهل الواقع، كما يرفضون المفهوم الاحتفالي والسكوني للتشخيصية المحافظة والعاكسة، في نظرهم، لرؤية سطحية للعالم. إنهم، من خلال التعبيرية والسريالية والتشخيصية المحدثة والفن الفطري، يعرضون صورة تحليلية أو تأليفيّة للواقع حسب ميول الفنان الذاتية بحيث تتداخل حقيقة الوجود الخارجي للأشياء بواقع الادراك الباطني. وتأخذ التشخيصية أحيانا منحى الالتزام الاجتماعي كما نراه عند الصادق قمش في إحدى مراحل عمله، وقد أسهم في الاتّجاهات التشخيصية الجديدة فنانون من أجيال سابقة عرفوا بأسلوب أكثر محافظة. ومن هؤلاء حاتم المكي عندما جرب في مرحلته الأخيرة تشخيصية محدثة قريبة الصلة بما فوق الواقعية، وكذلك عبد العزيز الڤرجي الذي تخلى عن أسلوبه الدقيق المتأثر بالمنمنمات الإسلامية للانخراط في تجربة حرة خارجة عن الوقار والاتزان السائدين عند أبناء جيله، ومعبرة عن الطبيعة الساخرة والمنفعلة للروح الشعبية، ومذكرة بالفنون البدائية وتعبيرات الأطفال. ومن التشخيصيين الجدد عادل مقديش بعالم مكعباته السابحة في فضاء شفاف، واستحضاره لأجواء حكائية شرقية، وعبد الرحمان المتجاولي والطاهر المقدميني المتأثران في مرحلة ما بالانجليزي فرنسيس بيكون، والمنصف المانسي في أجواء أجساده السقيمة المكفنة باللفافات، والمنصف بن عمر الذي يصل عالم الحلم والخيال بالنقد الاجتماعي اللاذع.

وهناك مجموعة أخرى من التشخيصيين يتابعون حلما ذاتيا منقطعا عن التفاعل المباشر بالبيئة، كأنما ينمو ويتطور خارج الزمن، مثل عالم البشير الأخضر المفتوح على الفراغات الشاسعة، ومناخات فتحي بن زاكور المذكرة بقصائد الشاعر الألماني ماريا راينر ريلكه، ورسوم فؤاد الزاوش المنتقلة بين رؤية عجائبية ورصد فوتوغرافي للمشاهد الواقعية، وقويدر التريكي الحفار المعروف، وقد انتقل إلى الرسم ليروي عالما غريبا تتمازج فيه ممالك الحيوان والنبات والجماد في رؤى شعرية تجمع بين البدائية والترميز، وتدين في معالجتها الشكلية للتصوير الشعبي وإلى باول كلي P.Klee. كما نذكر شخوص حمادي بن سعد العملاقة ذات التخطيطات القوية، وأجواء الانتظار والأسى المسيطرة على عالم محمد الأمين ساسي، واستيهامات أحمد الحجري الجامعة بين التخيل الأكثر إبداعا وعناصر مبعثرة من واقعه اليومي ونتف من أحداث طفولته الماضية، وتأتي أهمية أحمد الحجري في تاريخ الحركة الفنية التونسية من كونه يجمع بين تلقائية التعبير عن عالمه الزّاخر بالأخيلة ومعالجة تشكيلية هي من النضج والاكتمال بحيث تجعله في مصافّ كبار المبدعين في تونس وخارجها.

الرسم الفطري[عدّل]

يمثّل الرسامون الفطريون اتجاها على هامش الأساليب الفنية السائدة، وتعكس أعمالهم شواغل متنوعة: أحلامًا ذاتية، وصورًا للواقع الاجتماعي، وحنينًا إلى المدينة العتيقة، واحتفالاً بالحياة العائلية. وأهمّ ممثلي هذا الاتجاه في تونس البغدادي شنيتر وعلي الڤرماسي ومحرزية غضاب وعز الدين البراري. ويشكل الرسم الفطري إضافة مهمّة إلى الرؤى والممارسات التشكيلية من حيث إنّه ينبئ عن رؤية متحررة من الأسلوبية المدرسية ومن الالتزام بأي خطاب نظري. إنّ عصامية الفطريين وتطوّر تجربتهم خارج المؤسسات الأكاديمية تمنح رؤية المتميزين منهم اتساعا ونفاذا لاستيعاب مظاهر طريفة من الحياة، واستنباط حلول تشكيلية تبدو أحيانا باهرة. وهو ما يسميه كاندنسكي "الواقعية الكبرى التي تخضع الأشياء إلى معالجة لا توجد في الطبيعة". ويبدو عالم بغدادي شنيتر الأكثر استجابة لشروط "الجمالية الفطرية"، إذْ إنّها تترجم بتقصّيها شتات أوهامه واستيهاماته عن تعبير مغرق في الذاتية.

ملامح المعاصرة في الفن[عدّل]

بقيت الفنون التشكيلية باختلاف اتجاهاتها وأساليبها وفية لجمالية تقليدية تعتمد المساحة المخططة الملونة واقعا أوحد للتعبير، غير أنّ تحولات عميقة قد طرأت منذ عقود على معنى الفن وأهدافه فانتقل من "نتاج مادي" يُقدّمه الفنان إلى واقع أكْثر تعقيدا يمتزج فيه الوجود المحسوس للشيء المنجز بالحركة المبدعة من حيث هي سلوك، ويندرج ضمن علاقة بالبيئة يكون للفكرة فيه دور رئيس. وهكذا يترك الفن الاخبار عن الواقع البصري إلى طرح مفهومي للعالم، متحولا من "تمثيل" الأشياء إلى "تقديمها" من خلال "أحداث تنشيطية" و"تنصيبات" وغيرها. وقد اشتهر عبد الرزاق الساحلي بممارسة ذات أبعاد مفهومية تنشيطية بالإضافة إلى رسومه، حيث اعتاد تقديم عروض لما يُسمّى بالشّعر الصَوْتي وهو عبارة عن أصوات حُرّة لا معنى لها، وإنجاز "تَنْصيبات" تشغل حَيّز العَرْض على نحو غير مألوف. وقد تبعه في ذلك فنانون آخرون مثل خالد بن سليمان ونادية الجلاصي وفاطمة الشرفي المسدي، كما حاول نور الدين الهاني ورشيد الفخفاخ في إطار رواقهم "شيم"، تجربة يتيمة (الأربعون طاطا) أنجزوا فيها "تنصيبا" شاملا شغل كامل حيز الرواق، واعتمد مرجعية متشعبة امْتَزَجَت فيها رموز التاريخ القرطاجي القديم بأجواء القرابين وبالشعرية الصوفية.

تقنيات أخرى[عدّل]

تركّز الحديث حتى الان على تقنيات الرسم نظرا إلى استئثارها بأوفر نصيب من جهد العاملين ضمن الحركة الفنية التونسية. فالتقنيات الأخرى كالنحت والخزف والفنون التخطيطية والسجاد ليست لها سوى مرتبة ثانويّة في مسار الحركة في مجموعها. ويعود ذلك إلى أسباب تاريخية واجتماعية وثقافية. فمنذ الفترة السابقة للاستقلال كان النّحت هامشيا في تظاهرات الصالون التونسي، ثم إنّ تكاليف إنجاز الأعمال النحتية المرتفعة نسبيا تعوق انتشاره بين الفنانين فضلا عن افتقاد النحت التشخيصي لتقاليد تاريخية في مجتمع مسلم. وإذا استثنينا نحّاتين اثنين أو ثلاثة، يعرضون أعمالهم في فترات متباعدة، فإنّ النحت يتّجه غالبا إلى إنجاز بعض النصب والتماثيل العمومية ممّا تأمر بإقامته الدولة. ومن النحاتين التونسيّين نذكر خاصة الهادي السلمي والهاشمي مرزوق، وبعض الرسامين الذين مارسوا النحت أيضًا مثل عمر بن محمود والزبير التركي. وتبدو تجربة الهادي السلمي المتوفّى سنة 1995، الأهمّ في هذا المجال، فقد كان رائد النحت في تونس والأغنى تجربة من النحّاتين، وحاول طوال حياته إيجاد تقاليد لهذا الفن، ودمجه في العمارة والحيز التعميري للمدن، وكان عمله ذا منحى تعليمي إذ أخذ على عاتقه التّعبير عن اتّجاهات عدّة للنحت بحيث بدت مجمل أعماله اختصارا لمدارس كثيرة منذ رودان إلى اليوم. ولا يكاد الأمر يختلف فيما يتعلّق بالخزف. فعلى الرغم من عراقة البلاد التونسية في صناعة الفخار والخزف، لم يطرأ على تلك الفنون، من وجهة نظر إبداعية حديثة، تطور ونمو بحجم أهميتها في التراث الفني. ومثل ذلك يقال عن فنون السجّاد والنسيج، وقد يكون العدد المحدود من الخزافين والنسّاجين في الحركة الفنية الحديثة راجعا بالذات إلى عدم القدرة على تجاوز التراث الهائل الذي لا يزال يحافظ على تقاليد حية إلى اليوم في الصناعات الحرفية الشعبية. ومن أهمّ ممثلي الخزف الفني في تونس خالد بن سليمان، والهاشمي الجمل، ومحمد اليانڤي، وعائشة الفيلالي. أمّا السجاد فتمثّله صفية فرحات ومحمد نجاح.

بدأ الاهتمام بالحفر الفني بتونس منذ سنة 1966 في معرض محفورات إبراهيم الضحّاك الخشبية، وقد مارس عدد محدود من الفنانين التونسيين أساليب الطبع الفني، منهم خليفة شلتوت، ومحمد بن مفتاح، وقويدر التريكي، والهادي اللبان، وقد درسوا الحفر في باريس باعتباره تخصّصا أو تابعوا فيه دورات تأهيلية قصيرة، مثل فوزية الهيشري في فترة ما بين سنتي 1962 و1976. ورغم أهمّية الحفّارين التونسيين في مسار الحركة الفنية، ورغم جهودهم المتواصلة للتعريف بأساليب الحفر الفني، فإن الجمهور لا يقبل بسهولة على ما يعتبره فنا "تَعَدّديًّا" لا يضاهي قيمة العمل الفني الأوحد، كما أنّ وسائل توزيع المحفورات بقيت بسيطة ومحدودة. فباستثناء إبراهيم الضحّاك الذي أمكنه نشر ثلاث مجموعات حفرية هي "الجازية الهلالية"، و"طيور"، و"أسماك"، فإنّ بقية الفنانين اكتفوا بطبع نسخ محدودة من كلّ محفورة ينجزونها. ويهتمّ إبراهيم الضحاك في محفوراته باستلهام الروح الشعبية في تلقائيتها، معبّرا عنها بأسلوب يستمدّ قوته وأصالته من تخطيطاته الخشنة والبدائية. أما محمد بن مفتاح فإنّ عالمه يتردد بين مفهوم "مادي" يترك كلّ الحرية لتعبير الخامة في تفاعلها مع الأحماض، وحيز أكثر إحكاما واتزانا، وإن كان لا يخلو من بعض الانفعالات. ويبدو قويدر التريكي أكثر جموحا وانفعالا في عالمه المُتّسم بالتلقائية والقريب من أحلام الطفولة، في حين تتحرك شخصيات المَأساة الانسانية عند الهادي اللبان في أجواء معتمة صامتة. بعد مرور زهاء القرن على بداية حركة الفن الحديث في تونس، يبدو الابداع التشكيلي عنصرا أساسيّا في الواقع الثقافي التونسي، ويبرز ذلك من النمو المطرد لعدد الفنانين التونسيين، وتعدد المعارض الفردية والجماعية. ولعل ثراء الساحة الفنية راجع إلى تضافر عوامل عدّة منها: عراقة تقاليد الفن الحديث، ومجهود الدولة في مساعدة الفنانين، وتوفّر مؤسسات أكاديمية جادة مثل المعهد الأعلى للفنون الجميلة بتونس والمعهد الأعلى للفنون الجميلة بصفاقس، بالاضافة إلى عدد من المعاهد الفنية الخاصة. لقد اكتسب الفنانون التونسيون تجربة طويلة في ممارسة الفن الحديث، وتؤلّف أعمالهم تراثا أسهم إلى حد بعيد في إغناء الحياة الثقافية بتونس. ولا يمكن المحافظة على تلك المكاسب إلا بمواصلة الحوار لايجاد صيغة اندماج بالواقع الراهن للفن العالمي المعاصر مع المحافظة على ملامح ذاتية، وتوفر رؤية نقدية لمجموع التجارب الحالية للخروج بها من الطرق المعتادة إلى تصور جديد لمهمّة الفن في المجتمع، ولدور الفنان باعتباره عنصرا فاعلا في بناء مدينة المستقبل.

حداثة الرّسم التونسي[عدّل]

تعدّ سنة 1925 نقطة البداية لظاهرة الرّسم في تونس وهي ظاهرة نتجت في أواخر القرن التاسع عشر عن إقامة عدد من الرسّامين المستشرقين ببلادنا أمثال هنري لورنس (Henri Laurens) ألبير ماركي (Albert Marquet) بول كلي (Paul Klee). ولم يجد هذا الشكل الفنّي الجديد تفاعلا في أوّل عهده إلاّ عند الجالية الأوروبيّة. فكيف كان الشرق في عيون المستشرقين؟ "إنّ الشرق الذي يحلم به القرن 19 هو قروسطي وإقطاعي تمجّد فيه قيم السلام والحرب والصيد والخيل والفروسية والشجاعة والبطولة". وأمثلة هذه الصورة للشرق كثيرة، نذكر منها رسوم أوجان دولاكروا (Eugène Delacroix) وباري (Barry) وأوجان فرومنتان (Eugène Fromentin) وإدوار ريو (Edouard Riou). الصّورة الثانية هي الكشف عن الثروات الطبيعيّة دون الاكتراث بحياة المغاربة وبتاريخهم. وكلود موني (Claude Monet) الذي أقام بالجزائر لآداء الخدمة العسكرية من سنة 1860 إلى سنة 1862 يعترف بأنّه بقي غير مكترث بجمال الطابع المحلّي لكنّه انبهر بالضوء. فالصور التي يعبّر عنها الرسم الاستشراقي تنحصر في التعبير الشكلي. فهي رموز لأشياء شوهدت ولم تفهم. وعرضه ما هو إلاّ تسجيل لمرحلة اكتشاف لقيم الفنّ للفنّ. وهذه الرؤية لعلاقة الشرق بالغرب اتضحت اليوم من زاوية التبادل الثنائي. وتنوّع العروض التي تستحسن الفنّ الشرقي دليل على ذلك ومنها عرض غرب - شرق (Orient - Occident) لمدينة ستراسبورغ (Strasbourg). وما التّعريف بجمال المواقع عند المستعمر إلاّ وسيلة لتبرير حركة الاستيطان للذين يرغبون في الاقامة. فالرسم أداة دعاية للمستعمر، وهو ما أدّى إلى رفض كلّ خطاب للفنّ التشكيلي. ويمكن استخراج خاصيتين للرسم الاستعماري: فمن حيث الشكل: يتناول الرسم مناظر ومشاهد نسخت عناصرها بوضوح في إطار محلّي وهو ما نتج عنه تشابه من حيث الوظيفة والصورة مع بطاقات البريد. ومن حيث المحتوى: إنّ السطحيّة واللاّمبالاة تخصّان هذه المقاربة حيث إنّ الشيء الممثّل ينظر إليه بصيغة وثائقيّة. لذلك لم يكن هذا الرسم يعبّر عن المجتمع التونسي. وهذا يؤكّد طابعه الهامشي.وعند الحديث عن الجيل الأوّل من الرسّامين، من الحتمي أن نذكر المدارس التي جمعتهم ونعني: قاعات العرض من جهة ومدرسة الفنون الجميلة من جهة أخرى. وتميّزت فترة ما بين الحربين بتنظيم ثلاثة معارض:

  • معرض "تونس البيضاء في الصحراء" Tunis la blanche au désert الذي أقيم بباريس سنة 1924 وغايته تقديم مظاهر تونس في العصور القديمة. وبلغ عدد المشاركين فيه 69 رساما منهم 16 ينتمون إلى الجالية الفرنسية بتونس، وأرسلت بلدية الحاضرة 14 لوحة.
  • "المعرض الاستعماري" (L'exposition coloniale) المنتظم بمناسبة مئوية احتلال الجزائر سنة 1931 الذي أبرز صورة المستعمر "المنتصر".
  • "معرض 1937" الذي زوّق فيه لأوّل مرّة "الجناح التونسي" رسّام شاب تونسي، وهو علي بن سالم.

وتواترت عروض أخرى أقلّ أهميّة بمختلف القاعات وبالأخصّ "صالون المدرسة الفرنسيّة"كما كانت أخبار الفنّ محلّ تعليق الصحفيين المتخصّصين مثل شارلي (Charley) بصحيفة La Dépêche Tunisienne وMarchand بصحيفة (le petit matin) أو الرسامين مثل ألكسندر فيشي ونقّاش E.Naccache.

أمّا مدرسة الفنون الجميلة فتعود جذورها إلى سنة 1922 عندما فتحت ورشة رسم حرّة بالمدينة العتيقة ب"دار بن عيّاد" كان ينشّطها أرمان فرجو (Armand Vergeaud) وأ. فيشي. أمّا اللوحات المعروضة فكانت تعكس الطابع الأكاديمي للصورة الكلاسكيّة. وتطوّرت بعد ذلك هذه الورشة إلى "مدرسة الفنون الجميلة" (Ecole des Beaux Arts) التي أحدثت بأمر مؤرّخ في غرّة أكتوبر 1930 وموقّع من مدير المعارف، لوسيان باي (Lucien Paye). وكانت هذه المدرسة التي يديرها أرمان فرجو تُلَقّنُ بالاضافة إلى الرسم، النقش والنحت والتزويق (والخزف مادة اختياريّة). وفي سنة 1948، انتقل مقرّ المدرسة إلى نهج سيدي عبد السلام حيث واصل بيار برجول (Pierre Berjole) مباشرة الإدارة إلى حدود سنة 1966، أي عشر سنوات بعد الاستقلال. ومكث تأثير المدرسة في الانتاج الفنّي محسوسا لسببين اثنين أوّلهما أنّ جلّ المدرّسين كانوا رسّامين وبهذه الصفة كانت دروسهم لاتخلو من نزعات ذاتية تعمل على تواصل أنماط التصوير الفنّي. والآخر أنّ جلّ الرسّامين كانوا من روّاد ورشات المدرسة، نظرا إلى ندرة العنصر العصامي، نذكر منهم (Corpora) ويحيى التركي وعمّار فرحات وعلي بن سالم. ويعود الفضل إلى هؤلاء الرسّامين المؤسّسين في غرس هذا الفنّ في المجتمع التونسي. وليس بغريب أن يسجّل نشاطهم بداية مغامرة طويلة أثبت وجودها بكثير من التّضحيات وعلى حساب تمزّق وضعهم أحيانا تجاه مجتمعهم. ونلمح هذه الشواغل في مختلف الأعمال مثل لوحة أ. فيشي (1925) "السيّدة ذات المعطف الأسود" (La dame au manteau noir). ونرصد اهتماما بوجه الشبه، ويظهر ذلك دون شكّ في الجزئيات والملامح مثل الوجه الذي طرق باللون الواضح المظلم سعيا إلى الوفاء للواقع.

تبلور الرسم التونسي في أعمال الرسّامين الذين عاينوا واقع البلاد، هذه الأعمال التي عبّرت عن تفاعل عميق مع الوسط التونسي.ذلك أن فكرة الرسم التونسي تنمّ عن تفاعل حقيقي لمجموعة أوفر مع رابطتها الاجتماعيّة.فالرسم على البلور مثلا الذي تُمارسُهُ أقلّية كان يمثل الفنّ التونسي الأصيل. ونعتقد أنّ مجموعة الأربعة سنة 1931 هي التي جعلت التعبير التشكيلي يجمع بين الظاهرة الفنّية والواقع الاجتماعي. وأوّل عرض لهذه المجموعة انتظم بقاعة تقع بنهج سان شارل St Charles هي الان مقرّ صحيفة La Presse. وكانت هذه المجموعة تتركّب من أربعة رسّامين يهود مثّلوا لأوّل مرّة العنصر التونسي وخاصة ليفي الذي كانت أعماله ذات تعبير بليغ.

  • موزس ليفي Moses Lévy(1968 - 1885) :

ولد بتونس سنة 1885 من أب بريطاني وأمّ إيطالية كان يتردّد طيلة الفترة المتراوحة بين 1900 إلى 1906 على المدارس الفنّية بإيطاليا. ثم عاد إلى تونس لاكتشافها من جديد حيث اكتمل تكوينه. ويظهر ذلك في أعماله التي تبرز فيها لوحة "نهج بالمدينة" Rue de la Médina المنظر النموذجي المتكوّن من عنصرين: المئذنة والقبّة وهي عناصر التعبير المعهودة في الرسم الاستعماري دون السعي إلى الهدف نفسه. وتفرز هذه اللوحة محيط حركة ساخنة، ويظهر ذلك من تعابير اللون والضوء. ومن أعماله أيضا "بَدويَة")Bédouine((1925)، "نهج المرسى" Rue de la Marssa(1929)، "نساء عربيات خلف النافذة" Femmes arabes à la fenêtre "اليهودية الجميلة" La belle juive. كما شارك موزس ليفي على نحو منتظم في الكثير من المعارض الفنّية ومنها عرضه خمس لوحات بصالون تونس (1931) الذي احتوى على 80 لوحة و12 رسما من ضمنها رسم "المرأة العجوز الحاملة للبخور" La vieille dame porteuse d'encens ورسم "بدوية" Bédouine. لقد لامس موزس ليفي الواقع بشيء من المبالاة وبثّ فيه شحنة عاطفيّة مكّنته من الاقتراب أكثر من فنّه: ""إنّ توالي الواقعية البصريّة مع الكتابة التشكيليّة تؤلّف خاصية الرسم عند ليفي".

  • بيار بوشارل (Pierre Boucherle) :

ولد بتونس سنة 1894K وهو يعدّ الأب المؤسّس لمجموعة الأربعة ومدرسة تونس. بدأ حياته الفنيّة بنشر رسومه في الصحف وذلك في الفترة المتراوحة بين سنة 1916 وسنة 1928. حصل على منحة من الحكومة سنة 1923 لمواصلة دراسته بباريس وتبنّى أسلوبا حافظ عليه دون إعلان الرغبة في التغيير. وهو الذي صرّح: "ليس هناك أنواع في الرسم، بل هناك النوع الجيد النوع والرديء". يطغى على تقنيّته الطابع الأكاديمي. فهو يستعمل المكوّنات المحكمة مثل لوحته "الطبيعة الميّتة" Nature morte التي تقدّم أشكالا في غاية البساطة خالية من أيّ جزئيّة. فالفضاء قُسم إلى مخططات تؤكّد التكوين المحوري للوحة. ويتميّز أسلوبه باستعمال الألوان الصافية النقيّة وثنائي النور والظلام.

  • انطونيو كُربورا (Antonio Corpora) : ولد بتونس سنة 1909 من والدين إيطاليين.

تردّد سنة 1928 على ورشة فَرْجو Vergeaud بمدرسة الفنون الجميلة. وتأثر منذ صغره بالرسامين الكبار بيكاسو Picasso ماتيس Matisse شاغال Chagall براك Braque. وفي سنة 1929K شارك لأوّل مرّة في الصالون التونسي ونالت لوحاته نجاحا كبيرا، وهو ما شجّعه على زيارة تونس سنة 1930. وكان من رفاق Pozzi Carena ثم ارتحل إلى باريس سنة 1931. واستقرّ بها إلى سنة 1937 ولكنّه ظلّ يزور تونس وإيطاليا. وهو يعدّ أوّل رسّام تجريدي عرفته تونس.

  • لويس للُوش (Louis Lellouche) :

تلقّى دراسة أكاديميّة مكّنته من نسخ روائع متحف اللوفر Louvre. لوحته "الحارة" La Hara(1930) تمثل حيّ اليهود بالعاصمة الذي يتّقد حيوية بحركة المارين ومناشط التجّار، حيث يقوم كل فرد بحركة عفويّة تتناغم وسائر الحركات. وقد جذبت مجموعة الأربعة الكثير من العناصر الجديدة وارتفع عددها سنة 1944 إلى عشرة نذكر منهم يحيى، عمّار فرحات، ابن عبد اللّه، أرنولد Arnauld، نقّاش Nello Lévy ،Naccache. ساعد الاستقلال على الفصل بين أفراد المجموعة. وهو يعدّ اللّحظة الحاسمة لأنّ "تاريخ الوطن انفصل عن تاريخ فرنسا". هذه اللّحظة أثارت جملة من التأويلات فالاستقلال سمح للمجموعة بأن تؤكّد وجودها إيجابيّا، إذ حرّرها من كبت السّلب أو الاستلاب: "إذ لا يوجد أيّ مستعمر لا يحلم ولو مرّة واحدة بأن يكون مكان المستعمر". ولكن هل يمكن أن تكون أيّ علاقة بين الثقافة والنضال من أجل الحريّة؟ هل كان الاستقلال محرّكا للثقافة أم هل كان مجرّد ظاهرة ثقافيّة؟ فالرّسم على البلّور ومختلف المنتجات الأدبيّة وخاصّة شعر الشّابي أسهمت في إبراز الرغبة الجماعيّة للظهور على نحو مغاير للذي كان يفرضه المستعمر. هكذا أعاد الرسم الاعتبار لصورة التونسي الفلكلورية بإدماجه في إطار جديد. فقد شارك الفنّ على نحو إيجابيّ شامل في تشكيل نظرة جديدة للذات والعالم. ثمّ أصبحت سيرورة التغيير الاجتماعي حقيقة سياسية واجتماعيّة بإحداث مجلّة الأحوال الشخصيّة.على أنّ هذا التغيير الذي يبدو ثوريا حافظ على أرضية القيم التقليديّة وخاصة منها الاسلاميّة.فقد اتّخذ المجتمع التونسي في سنوات 1960

  • 1965 مظهرا جديدا يحمل سمات حضور الدولة الوطنيّة. واهتمّ الرسم في تلك الفترة بالعنصر الاجتماعي الذي لا يزال مشدودا إلى الحياة التقليديّة (زبير التركي، الڤرجي، عمّار فرحات) أو رصد ظاهرة التغيير الجديدة (السهيلي، ابن محمود، صرفاتي Sarfati). والغريب في هذه الأعمال توجّهها المشترك من حيث موضوع البحث الذي سيزداد ثراءً لدى الجيل القادم. فهذه الوضعيّة جعلت الفرد يسهم باحتشام في التذكير بالفارق الجمالي بين المدينة والريف.

وبحلول سنة 1961، سنة إحداث كتابة الدولة للشؤون الثقافيّة والأخبار، بدأت عملية توظيف الفنّ - وكانت إحدى مهام هذه المؤسّسة - ردّ الاعتبار للتراث الثقافي والعلاقات ذات الطابع الثقافي مع الخارج خاصة مع المنظّمات الدولية. هذان التوجّهان سيكون لهما انعكاس على الرسم الذي انخرط في سياق السياسة الثقافيّة خاصة في الفترة الأولى. فقد دعت الدّولة الفنّانين إلى المشاركة في "الانجاز الوطني" الذي يعمل على إرساء "قوميّة جديدة وأصيلة". وأوّل عمل بادرت به الدولة كان تكريم الفنانين وتحميلهم مسؤولية السياسة الخاصة بالفنّ. ومن ثمّ أصبح الفنّان شخصيّة رسميّة بعد أن كان مهمّشا في الفترة السابقة للاستقلال. ولقد أنتجت أفلام وثائقية تعرّف بالفنّانين لدى الجمهور وتؤكّد أهميّة الدور المناط بعهدتهم في المجتمع. ونهجت الإذاعة ثمّ التلفزة المنهج نفسه وأعدّت برامج للهدف ذاته. ومن جهة أخرى نشرت كتابة الدولة للثقافة أوّل كتاب خاصّ بالرسام القدير زبير التركي وأسّس الاتحاد الوطني للفنون التشكيلية سنة 1969. وأرست هذه الفترة أسس اتجاه جديد لتنظيم المؤسّسة الفنّية من الدولة وذلك على مختلف المستويات: النظام الأساسي للفنّانين والعروض الفنيّة وخاصة اقتناء الأعمال. وهذا التطوّر الطبيعي لظاهرة توظيف الفنّ أدّى إلى "التشخيص". وفي أعمال يحيى التركي (1901 - 1960) الملقّب بالأب المؤسّس للرسم التونسي، ظهرت تلك الخصوصيات التي تعود إلى فترة مجموعة الأربعة (1934) ومجموعة العشرة (1944). فيحيى التركي، الفنان العصامي، كان باتّصال مع الأوساط الغربية (المجلاّت الفنيّة) وهو ما مكّنه من التعرّف إلى الكثير من الرسّامين. كما أنّ زياراته المتكرّرة إلى باريس وإيطاليا أسهمت بقدر وافر في التمكّن من الفنّ الغربي. وإن كان يحيى بعيدا عن ميدان البحوث الذي اختاره معاصروه فذلك يعزى إلى اختيار شخصي، ألا وهو الاتصال بوسط اجتماعي آخر. وهذا ما جعله يَبْتكر لغة تستمدّ عناصرها من نظام آخر للقيم. فبفضل يحيى بدأت عملية إرساء ترقيم جديد لعلامة اللوحة في مجال هادف ينطلق من وجهة نظر جديدة. هذا الاسترجاع للعلامة المحليّة في فنّ الرسم وردّ الاعتبار لها أداة اتّصال في وسط المجموعة يعدّان ما يسمى تحوّل العلامة أو مجازية التعبير، وكان يحيى أوّل من مهّد لها. في أعمال عمّار فرحات، تبدأ عملية استعمال التخطيطات المتعاقبة وهو ما يوحي على نحو محتشم بتبنّي الطريقة الأفقيّة. ويحافظ من جهة أخرى على شبكة الصور نفسها والطريقة ذاتها في إحاطة الأشياء بخطّ مكثّف ولكنّه بسيط كما يظهر ذلك في أعماله: جلسة موسيقيّة والدّكانة. كذلك نكتشف مع هذا الرسام العصامي بعدا آخر للتعبير الحدسي المرتكز على ما يجود به المنطق السليم.ففي لوحته "الأجيال الثلاثة" (1953)، نلمح موضوع "ليلة الزفاف" وهو تعبير يخصّ بوجه عام الرّسم في تلك الحقبة. يعرض عمّار فرحات ثلاث شخصيات: الأمّ والبنت وأختها الصغرى.ويبادر الرسّام بتصغير عناصر اللوحة إلى مستوى تخطيطات بسيطة. فالنظرة والحركة هما اللّتان تمهّدان لتلامس الأيدي وهو ما يعبّر عن حالة اهتزازية يتكوّن منها موضوع اللوحة. ولئن بدت لغة عمّار فرحات تستقي من تقاليد يحيى في فنّ الرسم، فقد أضافت بعدا تعبيريا جديدا بتصوير المشاعر النابعة من الواقع الاجتماعي الشعبي. فانضمام عمّار فرحات إلى التوجّه التقليدي في فنّ الرسم طيلة فترة البدايات كان من أجل بلورة لغة تشكيلية أصيلة.أمّا علي بن سالم فهو يقدّم رسمًا يشمله الطابع المنمنم تطرق فيه العناصر المكوّنة للمشهد بكلّ دقّة. فلوحة "الحنّاء" تركّز الاهتمام على أحد المشاهد من الحياة العائلية المتعلّقة بالعرس. ويحدّد ترتيب الأشياء وتنظيمها الإطار الاجتماعي للحفل وأمّا أرضية الصحن المزدانة بالخزف ووضوح الأدوات واللّباس فهما يدلاّن على الوسط البرجوازي المرصود في اللوحة، وكذلك عملية إبراز الزربية في الوسط والقطّ والزهريّة في أوّل التخطيط وتصفيف الأصداف على حافة الزربيّة، كلّ ذلك يشهد على سيرة حضريّة. هذا الحضور شبه المكثّف للأدوات بشّر بنظام جديد للفضاء حسب وظيفته في الواقع. وشارك حاتم المكّي على نحو ملحوظ في هذا الفنّ وكان من المدافعين المُتحَمّسين الذين أنجزوا أعْمَالاً متميّزة. ولد حاتم المكّي سنة 1918 بجاكرتا من أب تونسي وأم أندونسيّة. اقتحم ميدان الرسم منذ بدء شبابه. وحصل على الجائزة الكبرى للرسم للحكومة التونسية سنة 1938. وتميّزت حياته المهنيّة بإقامة طويلة بباريس حيث شارك في الكثير من المعارض، وخاصة معرض La Biennale de Menton الذي انتظم سنة 1954 حيث نال جائزة في الرّسم. هذه الأحداث جعلت الرسام حاتم المكّي فنّانا متفتّحا على التوجّهات الفنيّة العالميّة، متشبّعا بالمعارف ومحتضنا الفنّ من وجهة نظر عالمية أكثر منها حسّية. كان إنتاجه غزيرا وجلّ أعماله انحصرت في الخمسينات من القرن 20م. لوحاته "الجوع" و"الأمومة" و"امرأة" و"الصراع" تؤكّد الالتزام الذي يجب، حسب رأيه، أن يجسّد منطلق العمل الفنّي ونهايته.فلوحة "الجوع" تقدّم عبر تقنيّة "الكَشْط" (grattage) شخصا متفاوت الأبعاد (حركات مبتورة وأعضاء متجاوزة الحدود). هذا الشخص هو بصدد جذب حبل مربوط بعنقه، وهذه الحركة توحي باقتراب نهايته. فهو يمثّل بهذا الشّكل المعذّب بؤس العالم الثالث. أمّا العملية الانتحارية، فهي تكشف عن تقويم الرسّام للوضع. هذه اللوحة تعدّ بمثابة موقف حول وضع اجتماعي - سياسي خاص بمجموعة بشرية مُضْطَهدة. وهذا يدلّ مرّة أخرى على التزام المكّي في الرسوم المصاحبة لأشعار الشابي، رمز الوطنية. وهو يعتبر لدى كلّ التونسيين مثالا للمُثقّف الرافض للخضوع والاستسلام.نلاحظ كذلك من الرسم المصاحب لقصيدة "الفنان الضرير" Pour un musicien aveugle اقتصادا في الخطوط يعبّر عن مأسوية القصيدة (والصلابة والأظفار المكسّرة). وفي سنة 1965، قرّر المكّي الانسحاب من مدرسة تونس ومن ثمّة الابتعاد عن الفنّ الجامع لعدد كثير من الرسامين. ومنذ ذلك التاريخ، انقطع المكّي عن العرض وانكبّ على إنجاز رسوم لجلّ الطوابع البريديّة. هذه الرسوم التي كثيرا ما تأخذ طابعا تمجيديا لذلك لا يمكن حسب نظرنا أن تكون موضوع دراسة من القبيل نفسه الذي تتطلبه الأعمال المندرجة في بحث شخصي.

أمّا الزبير التركي فهو يحتلّ مكانه من حيث هو رسّام متفرّد بين التعبير الشكلي القديم وفضاء العلامة التقليديّة. ولد سنة 1924 بتونس وتلقّى تكوينا فنّيا بمدرسة الفنون الجميلة بستكهولم عندما أقام بهذه المدينة من 1952 إلى 1954. وإثر عودته إلى تونس، انضمّ إلى الحركة التشكيلية وتبنى مبدأ الالتزام الاجتماعي.

وشمل إنتاجه الذي ظلّ غزيرا إلى مَا بَعْدَ سنة 1965 عددا من الرسوم واللوحات والمشاهد الحائطيّة. وهو إنتاج موحّد من حيث مبدأ رصد حياة التونسيين عبر لغة أكثر دقّة وأكثر إحكاما من الذين سبقوه، إذ يعطي للعمل الفنّي مدلولا تراثيّا في الدرجة الأولى. فالمشاهد تتجاوز مدلولها الذاتي لتنتصب علامة ثقافيّة مميّزة للوسط الاجتماعي. ومن ثمّ نستشفّ تحليلا عميقا لعناصر الانتماء الثقافي. وتعدّ مجموع الرسوم التي يحويها كتاب "تونس الأمس واليوم" عنصرا مهمّا في الانجاز الجملي، إذ لأوّل مرّة يبادر فنان بتقديم مجموعة متكاملة من الرسوم. إنّ لوحة "صورة عائلة" تطرق موضوعا متداولا ولكن تقدّمه في صيغة جديدة. خاصيتان تبرزان من أوّل وهلة: الخطّ الذي يرسم حدود الأشكال واللون الممتدّ (اللون الطيني الأحمر للتعبير عن وجه الشخص الأبعد أو الأحمر القاني على شعر العروس الممتدّ في الوسط). بقي التعبير بالشكلية التقليديّة وقراءتها تستوجب دائما استجلاء اللاوعي الجماعي. والتطوّر يكمن في إقحام قيم فنيّة جديدة ستجلب شواغل أخرى. إنّ قراءة التعبير الجديد للعلامة/الرمز تتطلّب موقفا فكريّا أيضا ولكن دونما معارضة نظام القيم الذي قاد الرسم في الحقبة السابقة. وانطلاقا من ذلك فهو يمثل نمطا جديدا للتماثل وليس أسلوبا جديدا. وهذه الظاهرة تتجلّي في تطوّر الادراك وليس في أزمة قيم لم تكن مقبولة لدى مجتمع تلك الحقبة.إنّ العمل الفنّي يندرج في تواصل الرسم الواقعي للفكرة السابقة ويتجدّد بتقديمه الرمزيّة محورا للتعبير. لقد أصبح هناك تباعد للتعبير الواقعي لصالح أسلوبية ترتيبية للأشكال وإدخال قواعد جديدة في العلاقة بين الشكل والأداة.والمقارنة بين أعمال الڤرجي: "العائلة" وبلاّغة "الغسّالات" وابن عبد اللّه "العروسة" وصفية فرحات "حفل خطوبة بالوردانين" تبيّن حضور الخاصيات الشكلية على جميع الأوجه، مجال مسطّح مبسوط يتخلّله ترتيب تصفيف خطي للعناصر وإبراز للدليل الثقافي. هذه المقاربة تعتمد على فكرتين أساسيتين:

الأولى: إنّ الصّور البشرية والأصوات المادية كانت معاملتها على قدم المساواة بقدر مكونها في العمل المنجز.

الثانية: إنّ العلاقة بين العناصر المرسومة تخضع للضوابط الفنيّة والشكليّة، لا للمنطق الروائيّ أو الواقعي.

ولوحة بلاّغة "بائع العطور" تعرض شخصيات موجودة فقط من خلال علاماتها الهنداميّة. فهي من الايحاء الأسلوبي نفسه للأدوات المحيطة بها، كما نلمس خاصية شكلية أخرى، وهي المتعلقة بالأرضية المرسومة وقد أعدّت بمادة موحّدة. هذه التقنيّة تسمح بتباعد الأداة المُشَخّصة وتمتين وظيفتها من حيث هي علامة. وتعدّ لوحة ابن عبد اللّه "صاحب القطّ" أحسن مثال لهذا الأسلوب.أمّا الرسم الزيتي لابن عبد اللّه فهو عبارة عن مجال تهيمن عليه تعبيرية الأداة باعتبارها مرجعيّة اجتماعيّة. فالأشكال البشرية تكاد تكون مفقودة في لوحاته وهي تعمل حسب خاصياتها الثقافية دون الاخلال بنظام العرف الثقافي. فالأشكال النسائيّة في عمومها تتميّز بخصوصيتها الهنداميّة، وكثيرا ما تكون مرسومة من وجهة جانبيّة فتحمل الملامح الخلقيّة نفسها مع شيء من الاختلاف في تسريحة الشعر ولون العيون كما تدلّ عليه أعمال: "الفتيات والحمام"، و"نساء أمام المرآة" أو "الخياطة".

وتزامن ظهور هذا الرسم الزيتي مع فترة بلغت فيه طبقة من المجتمع مستوى اقتصاديا فرض عليها المطالبة بانتماء ثقافي معيّن. هذه الطبقة ستعمل على إثبات رقيها الاجتماعي باقتناء أدوات ثقافيّة مميّزة، منها الأعمال الفنّية. ونلاحظ، إذا استثنينا اللوحات التي اقتنتها الدولة، أنّ المشترين جلّهم من الموظفين السامين والعناصر الاجتماعيّة المترفة التي برزت بعد فترة الاستقلال. وعلى مستوى العمل المنجز، ندرك تنظيميّة الأسلوب وهي خاصية تؤكّد أنّ هذا الرسم الزّيتي ينتعش في نطاق دائرة اجتماعيّة ثقافية.

وفي بداية الستينات ظهر الجيل الثالث من الرسّامين. وتميّز رسمهم خاصّة بتنوّع الأساليب المقتبسة لعرض شواغل ناجمة من توجّهات إيديولوجيّة ومطامح جديدة. وصار السؤال المطروح هو: كيف نطوّع العالم ولأيّ غرض؟ وتولّدت عن هذا الموقف المطالبة بأصالة "مُفْرطة". على الصعيد السياسي، يبدو أنّ الاختيار الاشتراكي قد أجاب عن مجمل الطلبات. ونتج عن ذلك أنّ تجربة رسّامي الجيل الثالث قد تميّزت بخاصيتين أساسيتين:

أ - البحث عن تعبير جديد للتصوير الفنّي يحدث قطيعة مع الأساليب التقليديّة.

ب - الانفتاح على الثقافة العالمية الذي يظهر في تعديل التعبير التشكيلي مع التيارات العالمية.

هاتان الخاصيتان تستجيبان لمتطلّبات جديدة فرضتها تحوّلات المجتمع وتعبّران عن رغبة في تبنّي توجّهات عصرية. ولكن ظهرت من خلال هذا التمشي، المنتفع من الانفتاح، صعوبات جمّة واجهها الرسّامون، هي تحقيق ذاتهم عبر لغة تعبّر عن أدوات ثقافيّة للمجتمع الغربي.

وبدراستنا لهذا الرسم، نستشف على صعيد علامة التصوير، اتجاهين:

  • الأوّل يستعمل عنصر الشكلية أو التجريديّة.
  • الثاني يتبنّى العلامات الشكليّة والواقعيّة.

ويعتبر الهادي التركي أحد الرسامين التجريديّين الأوائل بعد أ. نقاش. ولد بتونس سنة 1922 وانضمّ بأعماله إلى تيّار الجيل الثالث، بخلاف معاصريه في سنة 1958. هذا الرسام الذي تعاطى في بداية حياته الفنيّة الرسم الواقعي التعبيري، تبنّى منذ رجوعه من الخارج التعبير التجريدي. ورسمه ينطلق من تقارب المساحات الملوّنة التي تنتظم دون قواعد ثابتة، عن طريق علاقات يفرضها الموضوع أو اللحظة أو الحالة النفسانيّة للفنان. وتنوّع أعماله تشهد على ذلك. فلوحة "الجنوب التونسي" تظهر تخطيطين ينفصلان أو يتباعدان على صعيدي اللّون والرسم على حدّ السواء. أمّا لوحة "آثار قرطاج" فهي تتكوّن من برقش ألوان خفيفة متداخلة متشابكة تبدو في شكل فضاء غير خاضع لضوابط. هذا البرقش المتلبّد سحبا من الألوان توحي برؤية خيالية تبوح بعواطف شخصيّة. وتؤلّف أعماله الأخرى مثل "الملعب" أو "بياض الصبح" أو "انطباع الغرب" وحدة في طرق مجال مختلف، إذ نتبيّن فصلا واضحا بين الأشكال وتعارضا للألوان من جهة تقارب المتكاملات (وبالأخصّ في لوحة "شعور المغرب") وكذلك تعاقب تخطيطات في العمق موحية عبر مختلف الاحتدادات للوّن. هذه التغييرات في التعبير تنمّ عن طابع غير متشدّد في تمشّي الفنّان إذ تسهم في تحديد البعد العاطفي الشخصي لهذا الرسم. وفي حين كان الرسم الزيتي للجيل الثاني مجسّما للمدلول بخلق الأدوات الرمزيّة يبادر الهادي التركي بفَتْح مجال يتراءى في التأمّل الباطني.

ولدى السهيلي والسعيدي، تتجدّد معالم أسلوبيّة سيكون لها شأن كبير لدى عدد كثير من الرسامين، وقد شارك السهيلي بانتظام في معارض مدرسة تونس بداية من سنة 1961. وفي سنة 1975, أنشأ صحبة مجموعة من الرسّامين (نذكر منهم على وجه الخصوص بلخوجة وبودن وابن عبد اللّه ورفيق الكامل) "رواق ارتسام".

مدرسة تونس وخصائصها[عدّل]

لا يحيلنا الاسم الذي اتّخذته مجموعة على مفهوم مدرسة بالمعنى المتعارف ولا إلى اتّجاه خصوصي ولا على نظرة جمالية مخصوصة، بل هو مجموعة من الرسّامين كان هدفهم الأساس الدّفاع عن مصالح الرسّامين المحترفين ضدّ جحافل الهواة التي زحفت على الصالون التونسي. وفي سنة 1956 خلف يحيى التركي بيار بوشارل في رئاسة هذه المدرسة التي ضمت : صفية فرحات وعلي بلاّغة والزبير التركي وإبراهيم الضحّاك وحسن السّوفي. وبقيت - وعلى رأسها الرسّام عبد العزيز الڤرجي - تشارك إلى اليوم في تحريك الساحة التشكيلية وإبراز رؤى فنّية مختلفة ذات مراجع مكانية/محلّية على مستوى المضمون، معالجة بوسائل تشكيلية مستلهمة من التراث : من فنّ المنمنمات وبعض الأساليب الفنية التي تطوّرت منذ بداية القرن العشرين في أوروبا كالوحوشية والتكعيبية والسريالية وغيرها.

والظاهر من خلال البنية العامّة لأعمال مدرسة تونس أنّ أغلب فنانيها، وإن اختلفوا أسلوبا ومعالجة، فإنّهم تعمقوا في طرق الموضوعات المرتبطة بالواقع المحلّي، بل بجزء من واقع مدينة تونس تحديدا. فكانت أعمال جلال بن عبد الله معبّرة عن الحلم بالماضي الرومنسي للمرأة البَلْدية الحضرية الجميلة "القابعة" في قلعتها، وهي محاطة بوصيفاتها، في أسلوب كلاسيكي المعالجة مثالي الرؤية. وكان الزبير التركي مولعا بتصوير المظاهر التقليدية من عادات وصنائع وشخصيات حميمة مبالغا في تركيز الاهتمام عليها عَبْرَ رسم أصيل محكم التقنية ساخر الأسلوب. أما عبد العزيز الڨرجي - وإن كانت رسومه الزيتية والخطية تعبّر عن قدرة على التّجاوز في تناول هذه الموضوعات بطفولية وعفوية حسب حسّ يعانق التكعيبية - فالبنية الأساسية في "لاَوَعْيه" لم تتحرّر من هذه المضامين. وكذلك شأن علي بلاّغة الذي أولى أهميّة بالغة لرسم الرموز والعلامات والأشكال الهندسية الموجودة في الحوامل المعمارية والأدوات التقليدية، وقد تجسّد إبداعه في اختيار هذه العناصر والتأليف بينها وتحويرها على الحامل الذي كثيرا ما نجده لوحا منقوشا وملوّنا في آن واحد. ولم يشذّ عن القاعدة في مدرسة تونس إلاّ الهادي التركي وصفية فرحات وحسن السّوفي في اتخاذهم منحى التجريد والتوزيع الجريء للعناصر التشكيلية في إطار البحث عن الخصوصية الذاتية، وإن بدا تأثّرهم واضحا بما حدث في الغرب الأوروبي والأمريكي من تحوّلات تشكيلية ومعرفية على المستويين الشكلي والمضموني، وهو ما يؤدّي إلى القول إنّ "مدرسة تونس" لم تتّجه إلى رسم الواقع التونسي من منظور تقليدي فقط، بل سعت إلى الاندماج في إطار "الرسم المعاصر" الذي آمن مؤسّسوه بضرورة استقلال اللّوحة والبحث في داخلها عن عالم يوافق، أو لا يوافق، وظيفتها باعتبارها عملا فنيا مبدعا ومتفرّدا. ويبدو أنّ التحوّل الذي وقع في اختيارات بعض المنتمين إلى جماعة "مدرسة تونس" كان ناتجا عن انفتاح الساحة الثقافية التونسية وإفرازها لفنانين شبّان برزوا في ستينات القرن الماضي وعاملوا الرسم معاملة "جديدة" وحاولوا منح نَفَس "ذاتي" لهذا الرسم الذي بقي محافظا على اختياراته المضمونية منذ ظهوره ولم يقطع مع هذه الاختيارات إلاّ في مستوى معالجاتهم الفنيّة وأساليبهم المتنوّعة.

التجريد[عدّل]

تعكس بعض أعمال الرسّامين الذين ظهروا وعملوا في ستّينات القرن الماضي (منها الأعمال التجريدية الرّائدة للهادي التركي) مخيال جيل أراد تأسيس علاقة جديدة بالواقع الاجتماعي في تونس وذلك في إطار توق أفراده ومؤسّساته الثقافية والسياسية إلى نحت مشروع مستقبلي. ورغم محدودية تأثير الفنّ التشكيلي فقد تجلّت في "المعارك الفنية" طوال تلك الفترة قناعات يمكن وصفها بالطوباوية سعت إلى تأكيد قدرة هذا الفنّ على المشاركة في ذلك المشروع بنحت الذكاء الذّوقي العام وتوجيهه. وقد شكّلت هذه القناعات "ثورة فنية" بالنّظر إلى الظروف التي ظهرت فيها. ويبدو أنّ إرادة البحث عن "تفنّن" جديد لم تقتصر على محاولات إنتاج هذا الفنّ بل الدّفاع عنه ضمن مجموعات فنّية يحمل أفرادها الهموم والمطامح نفسها، فكانت "مجموعة الستة" سنة 1964، ومجموعة "اتجاهات جديدة" سنة 1965 و"مجموعة الخمسة" سنة 1967. واللاّفت للانتباه أنّ نجيب بلخوجة كان حاضرا في جميعها. وبتأمّل بعض اللّوحات التي أنجزت في تلك الفترة نجد سيطرة شبه مطلقة للتجريد الذي ينتمي مرجعيّا إلى الحركات التجريدية الغربية، وخاصّة منها التجريدية الغنائية والهندسية والتعبيرية التجريدية واللاّتشخيصيّة وكأنّ هؤلاء القادمين الجدد قد اتّخذوا موقفا جماعيا موحّدا ضدّ التشخيص "الفلكلوري" الذي يتعلّق شكليا بكل ما هو تقليدي.

كانت أعمال نجيب بلخوجة في بداية الستّينات منعرجا تشكيليا نظرا إلى توصّل هذا الرسّام إلى إيجاد معادلة بين نزعة تؤكّد هوية تراثية متجذرّ ة وأخرى تبُ شّ ر ُ بهويّ ة حداثية مستقبلية، فكانت بنيات رسومه كما عهدناها - ولا تزال - إضافة إلى تناولها للتجريد الهندسي الذي بدا متجاوزا للرسّم الحكائي ومتعاملا مع الخواطر الجمالية الحميمة. ونستطيع القول إنّ أعمال نجيب بلخوجة تمثّل قطيعة معرفية مع أسلوب الماضي في اعتباره الواقع العينيّ مصدر إلهام واستلهام، إذ ندخل معه عالم الدلالة التشكيلية المنصهرة في الأسس البصرية المندمجة في واقع المعمار العربي الاسلامي بأشكاله التوبولوجية المتناغمة في علاقتها بحركة الخطّ الكوفي الهندسي. ولعلّ في اختيار بلخوجة هذا المنحى ردّ فعل يجيب هذا الفنّان به عن مسألة الانفتاح على الاخر عبر حداثة محافظة على الهوية. وبرز في الاتجاه التجريدي أيضا الحبيب شبيل الذي كانت أعماله تعتمد منهج البحث عن التوازن عبر الأشكال المستطيلة والمربعة والخطوط المنقوشة في إيقاعية لونية متنوّعة، فكانت مربعاته ومثلّثاته ومستطيلاته تتحاور وتتراكب محدثة شفافية متميّزة بانبجاسها من جهتي التجاور والتّراكب، موهمة بالبعد المتقارب/المتباعد في آن واحد، متأثّرا في ذلك بالفنّان اللاّتشخيصي نيكولا دستال. وتطوّرت تجربة رفيق الكامل التجريدية تطورا عموديا وأفقيا إذ اختار مسار التجريد عبر إحكام تقني واقتراح لوني طريف، واستفادة ذكية من اللّون الواحد المائل إلى الرّمادي الموزّع في أشكال خلوية موحية بأبعاد ثقافية عميقة. وقد ظهر بتونس في الستينات أيضا رسّامون مارسوا التجريد أمثال : محمود السهيلي ولطفي الأرناووط والناصر بن الشيخ وعبد الحميد بودن وعمر بن محمود وإسماعيل بن فرج وخليل علولو والحبيب بن مسعود ورضا بالطيب ونجا المهداوي. وواصل مسيرة هؤلاء في السبعينات إبراهيم العزابي وعلي الفندري والحبيب بوعبانة والمسطاري شقرون ومحمد الأمين ساسي. أما الثّمانينات فقد ظهر فيها نور الدين الهاني ورشيد الفخفاخ وسمير التريكي والحبيب بيدة، محاولين الاضافة في هذا المسار الذي لم يثبت في اختياره الاّ القليل منهم.

العلامة التراثية[عدّل]

كان الرسم العربي الحديث، وفي إطاره الرسم التونسي، مسبوقا ب"حضارة العلامة" التي أكّدت حضورها في الفنّ قديما وحديثا. ومنذ القرن الأول للهجرة كانت العلامة حاضرة حضورا قويا في فنون المخطوط (خطا وزخرفة) وفي الفنون المعمارية والأدوات والالات ذات الاستعمال الوظيفي.وكانت حاضرة أيضا في الفنون الجماعية الشعبية، ولا تزال هذه العلامة حيّة ومتوهّجة في الحوامل التراثية المختلفة. في أواخر سبعينات القرن العشرين نشأ جيل جديد من الرسّامين يحمل هموما فكرية ونظرية جعلته يعيد النظر في الممارسة التشكيلية، ووجد هذا الجيل نفسه في أجواء متأزّمة اختلطت فيها السّبل واشتدّت فيها الصراعات بين القديم والحديث، بين جيل الروّاد والجيل الثاني، بين أصالة شكلانية فلكلورية وحداثة غير واعية، كما احتدّ النقاش الايديولوجي حول مسألة الأصالة والحداثة (المعاصرة) ومدى تفاعلهما مع تحقيق العالمية. وقد أدّى هذا النقاش إلى محاولة تأكيد الانتماء الثقافي بوسيلة استغلال الموروث الثقافي واستلهامه ومعانقة العلامات في حوامل فنوننا الشعبية وموروثاتنا المعمارية والتعامل الفنّي التشكيلي مع العلامة الخطية العربية بعد تجريدها من المعنى بحثا عن "بعدها الواحد" على طريقة الفنانين العراقيين: شاكر حسن آل سعيد ورافع الناصري وضياء العزاوي. وفي هذا الاطار برز الرسّام نجا المهداوي بأسلوبه المميّز متعاملا مع العلامة الخطية بحثا عن جمالية جديدة لها. ويظهر في تعامله هذا تكرار في التنوع وتنوع في التكرار. ويبدو أن خطاب المهداوي يتجاوز الممارسة التشكيلية في حدّ ذاتها ليؤكّد آنتماءه إلى الحضارة العربية الاسلامية. ومن التّجارب المهمّة التي حقّقت ذاتها حسب هموم تلك الفترة، تجربة نور الدين الهاني الذي تعامل مع الموروث من داخل حركة "الحرفية الريفية" في تفاعلها مع حامل صناعتها. فلقد غيّر وضع حامله عند الممارسة وعوّض الفعل عليه فوضعه على الأرض بطريقة أفقية وانهمك يتحاور مع علاماته البسيطة المستلهمة من الوشم ويوزّعها توزيعا ينبع من خواصّها البنيوية فجاءت متعانقة متشابكة تسبح في نهر الألوان الشفّافة. ولا يزال الهاني يبحث الطريقة نفسها وإن "هاجر" من العلامات التراثية نحو عالم أرحب، عالم الذات في معاناتها الفردية. وقد اتّخذ خالد بن سليمان المنحى نفسه وبدأ تجربته ب"إمضاء العدول" في كتاباتهم الغامضة وأنتج أعمالا تميّزت بالحركة الخطية عبر الجرأة المندفعة في طرح إشكالية اللوحة التي يتعامل معها بقوّة اللّون وسرعة الحركة.

الذاتية[عدّل]

تمتاز تجارب الحاضر بإبداعات تتّسم بالحرية والعمق في التعامل مع اللّوحة وباستقلالية تامّة عن الهواجس الخارجة عن عالمها والبحث في الأشكال انطلاقا من نزوات كل فرد لتحقيق ذاته. وفي هذا المجال يتفرّد عبد الرزاق الساحلي بتجاربه البصرية التي يعبّر بها عن الصدمة اللونية والجرأة التشكيلية، عبر مسارات مختلفة وحوامل متنوّعة يمرّ فيها من الصورة الفوتوغرافية إلى الورق الرهيف، ومن ثمّة تأخذ منتجاته شكل التجارب التي يتحاور بمقتضاها مع الموادّ في علاقتها بهذه الحوامل وما تفرزه من مدركات بصرية وإيقاعات لونية منسابة عبر اللّمسات واللّطخات المتراكبة والمتجاورة، مستخلصا رؤى ممتزجة بهموم حضارية تفرض الشعور بالانتماء (دون العودة إلى مرجع مرئي مباشر) إلى حلم إفريقي الجذور، باستلهام شخوص غريبة وحيوانات أشدّ غرابة، معبّرا في الوقت نفسه عن المأساة والملهاة في كرنفال الفضاء التشكيلي. وأما رشيد الفخفاخ الذي اتّخذ في بدايته "المربع السحري" في مختلف توافقاته النظمية واللونية حسب نسقه الرياضي الهندسي والصوفي فيبدو للناظر إلى أعماله أنّه تحرّر من ذلك، وليس هذا التحرّر جوهريّا، لأنّه بقي وأصرّ على البقاء ضمن عالم الحلم السحري، وظلّ آفاقيا في تعامله مع المطلق. وما يبدعه هو تجريد مطلق تؤدّي فيه الأشكال والألوان دورها الأبدي في إنتاج النور. وهنا تبدو منهجية الانتقال من المربع السحري إلى سحر المربّع المتحرّر من هندسته والملائمة مادّته والمتلاعبة ألوانه في تسيّب طليق، ويَعْبُرُ معه الناظر إلى إمكاناته التوليدية وإلى آفاق تتّسع للاَنهاية اللّون الضوئي ولامحدودية الضوء اللّوني. وفي حقل التعبير عن الذاتية والنزوع العديد إلى إبرازها كانت بعض الهواجس والرؤى تهفو إلى الخروج إلى عالم الحسّ المادي، وقد وجدت هذه الرؤى الفردية حيّزات مادية استجابت لندائها. ويبدو أنّ هذا التعبير وجد مجاله في أعمال الفنانين الذين اعتمدوا التخيّل والتخييل كالشاذلي بن خامسة والهادي اللبّان وعادل مڤديش ومحمد بن مفتاح وأحمد الحجري وفوزي الشتيوي. ولكلّ فنان من هؤلاء أسلوبه المتميّز في التعبير عن التّخيل والحلم. وتستوقف الناظر أعمال قويدر التريكي لما تمتاز به من رؤى طفولية ممتزجة بحسّ ريفي يمتدّ في رحاب غابة سرمدية تتحاور فيها حيوانات إنسية في جوّ من التعاطف حينا والتنافر حينا آخر; تسير سيرها التشكيلي المفردي في تتابع عناصر قافلة مترامية الأطراف لا تنتظم وفق خطّ ثابت بل تحتلّ عناصرها حيّز اللوحة موزّعة كتوزيع الأطفال لألعابهم في إيقاعية عفوية. وأمّا محمد الأمين ساسي فإنّ انتقاله من تجريداته في بداية الثمانينات إلى رؤاه التشخيصية في أواخرها كان انتقالا توليديّا إذ تشكلت هذه التجريدات الرّمادية لتكوّن شخوصا شفافة تتحاور في عالم خيالي احتفالي.

وهكذا احتفل الرسم التونسي طوال الثمانينات في وحدته وتنوّعه بطاقات ما إن وجدت الفرصة لتحقيق ذاتيّتها حتى برزت إلى الوجود مؤكّدة تجاوز المعيش وتأسيس عوالم وجودية جديدة متفرّدة ومفعمة بالتساؤلات ومتدفقة رؤى وتخيّلات. واليوم تتواصل بحوثهم حول إمكانات المخيال، مع انضمام عناصر جديدة تتلمذت في المعهد العالي للفنون بتونس، إضافة إلى استمراريّة نشاط "مدرسة تونس" محافظة على الروح والمنحى أنفسهما المتميّزين بالتنوّع. فبين تجريدية الهادي التركي و"تراثيّة" جلال بن عبد الله نجد تواصلا أسلوبيا لدى كل من علي بلاّغة والزبير التركي وعبد العزيز القرجي، كما نجد بحوثا جديدة لدى كل من الزبير الأصرم وفتحي بن زاكور وإبراهيم الضحّاك. وأمّا بقية الفنانين فيمارسون العمل الفردي إنتاجا وعرضا إلاّ في بعض المناسبات التي تتيحها لهم معارض اتحاد الفنانين التشكيليين أو بعض المبادرات الأخرى. ويمكن القول إنّه أضيفت إلى قائمة النشيطين في الساحة التشكيلية التونسية أسماء مثل سمير التريكي الباحث في ما يختزنه التجريد الهندسي من اختراقات جديدة للحيز الفضائي، والمنجي معتوق الباحث في ما يختزنه الجسد من إمكانات تخييلية، وعلي الطرابلسي في تعامله مع النسيج في إخراج جديد ومعاصر، وعائشة الفيلالي بإبداعاتها المتنوّعة المتميزة في مجالي النسيج والخزف، وبوجمعة بلعيفة في النحت، وعبد الملك العلاني الذي يواصل تجارب بدأها في الثمانينات، وفوزية الهيشري التي تنتقل بين الحفر والرسم، وسامي بن عامر الباحث في إفرازات المادة اللونية عَبْرَ تجريدية تعبيرية مبتكرة، وباكر بن فرج الذي يواصل تجربته الحفرية بثبات باحثا عن عوالم جديدة لأبحاثه.ولكن من الصّعب رصد جميع الاتجاهات الجديدة وتوضيح مختلف منطلقاتها وأهدافها الجمالية. وما يمكن قوله راهنا إنّها تخفي نوعا من المواجهة للمنحى التقليدي الفلكلوري "المتعايش" معها.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • Ben Cheikh Naceur,peindre à Tunis,peinture Maghrébine et Histoire,Ed l’Harmattan,Paris,2006 texte extrait d’une thése pour le doctorat de troisième cycle soutenue en1979 devant l’université de Paris Sorbonne .
  • Bida Habib,itinéraire d’une peinture ,dans tendances de la peinture contemporaine au Maghreb,1988.
  • Bouzid dorra,Ecole de Tunis,éd Alif,Tunis,1972
  • Chakroun Mostari,une peinture qui défie le temps,Texte de Khaled Guesmir,Tunis,2011
  • Dhahak Brahim, Entretien dans l’Atelier du peintre,F&H Devalière,Cérès Production,Tunis,1999
  • EL Gouli Sophie,La peinture en Tunisie,Origine et développement.Ouvrage tiré d'une thèse de doctorat de troisième cycle soutenue en 1974
  • Hamza Alya, Alexandre Roubtzoff,Peintre Tunisien,ED Alif,les éditions de la méditerrané,Tunis,1994
  • Khayachi Noureddine,Texte de Hedi Zahag,Les éditions de Tunis-Carthage,Tunis,1982
  • Lasram Zouber,Naissance d'un langage et élaboration d'une identité picturale en Tunisie,Thèse de doctorat de troisième cycle soutenue en 1978 à Pars Sorbonne
  • Louati Ali,L'Aventure de l'Art Moderne en Tunisie,éd Simpact Éditons,collection Patrimoine,Tunis,2000
  • Lepetit B,les pionniers de la peinture en Tunisie,minstère de la culture,Tunis,2002
  • Mahdaoui Nja,Texte de d'Edouard Maunick,Cérès Productions,Tunis,1983
  • Megdiche Adel,Texte de H'bib Salha,éd Dar Chriet Tozeur,Tunis,1996
  • Patrimoine et création:Arts plastiques Tunisiens Contemporains,Ouvrage collectif,Préface Rachida triki,Ed,Beit AL-Hïkma,Tunis,1992
  • Peintures Naïfs Tunisiens,Texte Jalel Kesraoui,Cérès Production,Tunis,1977
  • Romdhane-Hanafia Nabila, Traces de Calligraphei Arabe dans l’œuvre picturale contemporaine de trois plasticiens Tunisiens:N Belkhoja ,N Ben Cheikh et N Mahdaoui,Thèse de troiséme cycle,I.T.A.A.U.T,Tunis,1985