زبير التركي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1924 - 2009م]

زبير التركي

زبير التركي رسام تونسي، ارتبط اسمه بمدرسة تونس لفنّ الرّسم. وُلد سنة 1924 بمدينة تونس. وتُوفّي بضاحية رادس سنة 2009. بعد دراسته بجامع الزيتونة وتردّده على مدرسة الفنون الجميلة حصل على المرتبة الأولى في مناظرة الدّخول إلى مدرسة ترشيح المعلّمين. درّس العربيّة في المدارس الفرنسيّة إلى حدّ سنة 1952. ثمّ توجّه إلى ستوكهولم ليَدْرُسَ بأكاديميّة الفنون الجميلة. شارك في عدّة معارض وقتذاك بستوكهولم وكولونيا وبراغ وميلان، حيث حصل على جائزة هذه المدينة لفنّ الرّسم. وعند عودته إلى تونس بُعيد الاستقلال، خرج بفنّ الرّسم إلى الفضاءات العامّة والمؤسّسات العموميّة في بعض الرّسوم الجداريّة التي أنجزها بوساطة خامات مختلفة مثل الدّهن والحديد المطرّق اعتمادا على تجربته في فنّ الرّسم الخطّي. صمّم عدّة ملصقات لأيّام قرطاج السينمائيّة، كما اشتغل بتصميم الديكور المسرحي وملابس الشخوص في مسرحيّة مراد الثالث للأستاذ الحبيب بولعراس والمخرج علي بن عياد وبعض المسرحيّات التي كتبها عزالدين المدني...كما مارس زبير التركي فنّ النّحت في بعض الأعمال القليلة لعلّ أبرزها تمثال ابن خلدون بتونس. وأسهم في تأسيس الاتحاد الوطني للفنون التشكيليّة سنة 1968. وكان أوّل رئيس له، كما يعود إليه الفضل في بعث مركز الفنون الحيّة بالبلفيدير. وكان قد ترأس أيضا الاتحاد المغاربي للفنون التشكيليّة وشغل خطّة عضو بمجلس النوّاب ومستشار لعدّة وزراء الثقافة بتونس. وكان الفنّان زبير التركي قد أسندت إليه الكثير من الجوائز والتقديرات. وللرسّامَين عمّار فرحات والهادي التركي (شقيقه الأكبر) الفضل في توجيهه وتأطير تجربته في الرسم الخطّي في فترة شبابه. وكان ذلك ممهّدا لدخوله مدرسة تونس لفنّ الرّسم بعد تأسيسها بعدّة بسنوات. فقد تأسست جماعة مدرسة تونس سنة 1948 على يد الرسّام الفرنسي المولود بتونس بيار بوشارل. وقامت على مقولة أسبقيّة فنّ الرسم الخطي على التعبير اللوني. وهو منهج قديم في تاريخ الفنّ عُرف منذ الاغريق وتواصل حتى عصر النهضة وبعدها.ومن أعضاء هذه المدرسة من الفنّانين المُتوفين نذكر عبد العزيز القرجي وصفيّة فرحات وعلي بالاغا وإدغار نقاش وموزس ليفي وإبراهيم الضحاك ونالّو ليفي... فضلا عن كون الموضوعات التي تطرّقت إليها هذه الجماعة كانت تستمدّ أساسا من الذاكرة التراثيّة والاجتماعيّة والمعماريّة التونسيّة. فقد رسموا مشاهد من التقاليد الشعبيّة بالمدينة، معتمدين على ما اكتسبوه من تقنيات الرسم الحديث وأساليبه على أيدي الأساتذة الفرنسيّين والايطاليين والرّوس. ولعلّ من أهمّ مزايا هذه الجماعة أنّها روّجت ثقافة اللوحة الفنيّة بتونس. ولقد نهل زبير التركي من معين التراث الاسلامي بالقيروان وفاس وإصبهان. وكانت الألوان التي اعتمدها في لوحاته المائيّة صريحة وحادّة مثل الأصفر الأمغري والأحمر القرمزي والأخضر، المغرقة في الاضاءة. وهي مستمدّة من ألوان الحرير والمخمل والشاشية بالأسواق التونسية في عمق المدينة. ويؤكّد المناخ التعبيري الذي وسم أعمال زبير التركي - وهو المُغرق في الانفعاليّة والعمق الوجداني - قدرة الرسّام على استنطاق تعبيرية الضوء القادم من الذاكرة التونسيّة بروائح لونيّة مفعمة بالحنين. بل إن للأستاذ محمود المسعدي رأيا آخر عندما قال: إن لوحات زبير التركي بالرسم الخطي على الورق الأبيض من القوّة التعبيريّة بحيث تُغني عن اللجوء إلى الألوان، لما تُوفّره هذه الخطوط من صفاء وصدق وقوّة تعبيريّة.

لوحة للرسام زبير التركي

ومن لوحات زبير التركي "صيف في المدينة"، "منظر من سيدي بوسعيد"، "امرأة البخور"، "صانع الشاشية"، "العرس"... وفي مثل هذه الأعمال نرى الرسّام وكأنّه يرسم نفسه ويرسم أهله وذويه وأفراد عشيرته، لتخليد نُبل الإنسان والمدينة وتاريخها الاجتماعي. وقد قال لنا زبير التّركي ذات مرّة عند زيارته بمشروع متحفه الخاص برادس "كلّ هؤلاء الشخوص المرسومة هم شخصيّات حقيقيّة إنّهم أقربائي وشيوخ الحومة...إنّني أرسم نفسي وإيّاهم". إنّ من أبرز ما يثير الانتباه في لوحات زبير التركي بالألوان المائيّة (غواش على الورق)، على نحو ما بدا في معرضه الاستعادي سنة 2000 بقصر خير الدين ومتحف مدينة تونس، هو ما يحتمله أسلوب التلوين من ميل خفيّ إلى غنائيّة التعبير التشكيلي وتحرير الفعل الفنّي من عقلانيّة الخطوط (الجانب الغرافيكي في الرسم) نحو انفعاليّة اللمسات اللونيّة وشاعريّتها الحالمة. وتأتي هذه التعبيرة اللونيّة لتخليد عنصر الحياة في شخوص زبير التركي، إذا ما قاربنا المسألة وفق ما قاله أحد منظّري الحداثة التشكيليّة ونُقّادها (وهو دنيس ديدرو) من أن الرّسم هو ما يمنح الشّكل للكائنات، بينما يمنحها اللّون الحياة.

فالتّسريع في نسق الأداء الفنّي للألوان على اللوحة، بقدر ما يؤكّد جرأة الرسّام في صياغة زخرف الملابس، تشكيليّا، كما في لوحة "رجل بيده مروحة" بعيدا عن التّنميق والافتعال، فإنّه يؤكّد خبرة العين الفنيّة لدى الرسّام، إذ عند تحويل العناصر الخطيّة (الغرافيكيّة) إلى لمسات مرتجلة بوساطة العجينة اللونيّة، يبدو الرسّام غير مبالٍ بالتفاصيل الدّقيقة للشخصيّة المرسومة، سواء ما تعلّق منها بالبنية التشريحيّة للجسد أو بالملابس التقليديّة ومتمّماتها وزخرفها (البرنس والجبّة والفرملة والتطريزات والحواشي الجانبيّة).المستمدّة من ثقافة اللباس التونسي. ولكنّه في الواقع يُقاوم في خامة العجينة اللونيّة (سريعة الجفاف) عنادَها ويطوّعها تشكيليّا حتّى تُفصح هذه اللمسات الخشنة عمّا سكتت عنه الخطوط الدّقيقة أو عمّا تخلّت عنه. والنتيجة هي أنّ الزخارف والغرافيزمات الملازمة للباس، تصبح مراكز مشعّة لتدخّلات الفرشاة وتنقذ الفضاء الفنّي من الرتابة البصريّة، كما تُزوّده بمؤثّرات حركيّة. ويبدو ذلك على سبيل المثال في لوحة "الباي يغادر قاعة الصّلاة" حيث تزدحم العلامات الملكيّة والأميريّة والأوسمة والشعارات والنّياشين التي تُزوّق الزيّ الأميري أو الباياتي. إنّ ضربات الفرشاة ههنا لا تعوّض بنية الرّسم ورشاقة الخطوط وهيبة الشخوص المدينيّة المرسومة، بل تتحرّك داخلها، بحريّة واثقة من سلوكها على اللوحة.

فنحن بإزاء تجربة تقوم على قوّة الرسم الخطّي من البداية إلى النهاية كما هو الشّأن لدى غالبيّة أفراد جماعة مدرسة تونس. أما تدخّلات الألوان بوساطة فرشاة جريئة كهاته، فهي دعمٌ لتعبيريّة الخطوط مهما تهيم بالفنّان نحو آفاق تشكيليّة رحبة تلامس التجريد. وفعلا يبدو المشهد في لوحة "العرس" تشخيصيّا (عروس تتجمّل بين مرافقتيها) ولكنّ الناظر إلى هذه اللّويحة، عندما يرصد سلوك الفرشاة (وهي تستعرض فتنتها التشكيليّة وغوايتها اللونيّة في ملابس النسوة) يلاحظ إلى أيّ مدى يؤكّد الرسّام نزوعه إلى التجريد. وهو الذي جعل من القفطان حجّة فنيّة لتكشف الفرشاة فنّيّاتها الخبيئة من خلال لعب حركيّ، تغازل من خلاله التفاصيل اللونيّة وطيّات القماش ومؤثّرات الاضاءة والظّلال...لعب شديد التوازن. إن سياق اللمسة، قد يبد وثانويا وجانبيّا أمام البعد الحكائي للموضوع. ولكنّه، في حقيقة الأمر، يخفي مضمونا تشكيليّا حريّا بأن يكون في مركز اهتمام النظر، إذ اللمسات اللونيّة التي تصوّر أنسجة الملابس، كما في لوحة العرس"، ترتقي إلى أن تكون لوحة تجريديّة موازية ذات نسيج تشكيلي لونيّ وغرافيكي ثريّ بالحركة ويقوم على مراوحة ذكيّة ما بين الشّفيف والكَمد، الدّاكن والمضيء... من ثمّة فكلّ أعمال زبير التركي بالألوان المائيّة تُفصح عن وجود لوحة تجريديّة موازية داخل اللوحة التشخيصيّة. إنّه ذلك السّياق التشكيلي الخفيّ الذي تحتمله اللوحة وكأنّه يلتمس شرعيّة حضوره الجمالي من سلطة الموضوع التمثيلي والمشهدي للوحة. وعلى هذا النّحو، يتدرّج الفنّان بالعلامة الفنيّة من السّياق المرجعي والتذكاري إلى السياق التشكيلي الخالص الذي ينزع نحو استقلاليّته.

فقد تقدّم لنا اللوحة (قصّة عروس تتجمّل أو منظر شيخ يطالع جريدة أو امرأة بيدها مروحة). وقد يبدو كلّ شيء في مثل هذه السينوغرافيا بديهيّا وعاديّا. ولكنّ اللوحة، في الجانب الاخر من النظر، تقصّ علينا مسار تكوّنها التشكيلي ما بين خطوط ولمسات! فبداهة الموضوع لا تحجب قوّة الإثارة التي تمارسها على النّاظر هذه الفرشاة الزّلوقة والذكيّة عندما تتّخذ من أبسط العناصر المكوّنة للمشهد (تفاصيل اللباس، الأرضيّة التصويريّة، الخلفيّة المشهديّة...) مراكز قوى بصريّة ينزع من خلالها الرسّام إلى لعبة تشكيليّة أخرى تقوم على دعم السياق التشكيلي في سلوك الفرشاة في أعمق تجلّياتها الغنائيّة. ومن ثمّة يتمكّن الفنّان من خلق الفرصة لفتح آفاق للتجريد من داخل التجسيد. أمّا تراكب الطبقات اللونيّة، فهو تقنية الفنان لمقاومة جفاف المادّة اللونيّة إذ تظهر لمسات فوق أخرى لتنشيط الملمح الغنائي التجريدي وتدارك سطحيّة الفضاء التصويري على الورق. وقد يعمل زبير التركي على تطعيم مائيّاته بخامة الدهن الزيتي لمضاعفة حركيّة اللمسات. فتبدو الأنسجة اللونيّة مُزيّتة بما يكفي لانتاج مؤثّرات التّشافّ والاضاءة والتنويعات اللونيّة ما بين السّاخن والبارد، الدّاكن والمضيء، كما في لوحة العرس. وهكذا فنحن نتعسّف على أثر زبير التركي ونتجنّى على حداثته الفنيّة عندما نكتفي بأن نصنّفه داخل المدوّنات الفنيّة التذكاريّة والسّرديّة والتّصاوير التراثيّة التي تستعرض نمط الحياة في المدينة. فلا نتحدّث عن فنّ الرّجل إلا اعتمادا على الموضوعات التشخيصيّة التي قدّمها، إذ تكمن وراء تشخيصيّة الموضوع طريقة الرؤية التشكيليّة لعناصره المكوّنة. وهي رؤية لا تخصّ سوى زبير التركي دون غيره من رفاقه الذين سبق أن تناولوا الموضوعات نفسها. وفي ضوء هذه الرؤية تتحدّد إحدى الخصوصيّات الأسلوبيّة الأكثر حداثيّة وإبداعيّة لدى هذا الفنّان. ذلك ما ظلّ يستوجب نظرا متقصّيا، رغم سعة ما كتبه المؤرّخون والدّارسون عن الرجل مقارنة بأبناء جيله من الفنّانين.