عبد الرزاق الساحلي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1941 - 2009م]

لوحة لعبد الرزاق الساحلي

عبد الرزاق الساحلي فنّان تشكيلي تونسي، وُلد بمدينة الحمامات سنة 1941 وتوفّي بها سنة 2009. كان قد حصل على شهادة مدرسة الفنون الجميلة بتونس سنة 1969 والاجازة في الفنون التشكيليّة بباريس ,VIII فانسان، سنة 1982.

شرع في عرض أعماله ضمن معارض شخصيّة منذ سنة 1969 بكلّ من تونس وفرنسا وإنقلترا وهولندا وألمانيا، كما كانت له مشاركات غزيرة في عدّة معارض وصالونات بتونس مثل معرض اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين ومعرض الجائزة الكبرى لبلديّة تونس ومعارض المركز الثقافي الدّولي بالحمامات وبعض المعارض والبيانالات الكبرى بالخارج (فرنسا، ألمانيا، الجزائر، المغرب، نواق الشط، طرابلس، إسبانيا، بلجيكا، أنقلترا، البرازيل، البرتغال، الولايات المتحدة، لبنان).

درّس فنّ الرّسم وتقنيات التّعبير التشكيلي بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس في التسعينات، ثمّ بالمعهد العالي للفنون الجميلة بنابل حتّى سنة 2006. وحصل السّاحلي على عدّة جوائز.ولئن عُرف السّاحلي بأعماله في مجال الرّسم الزيتي، فضلا عن تخصّصه في فنّ الحفر، فقد مارس عدّة فنون تشكيليّة أخرى، مثل الخزف والرّسم الخطّي وفنّ التنصيبات وفنّ الحدث الذي يعتمد على الأداء الصّوتي لتراكيب منطوقة خاصّة يبتدعها للغرض. ويُعتبر السّاحلي من أبرز رُوّاد هذا الجنس الفنّي في العالم. ومثل هذا التنوّع الأجناسي في مدوّنة هذا الفنّان المرئيّة والملمسيّة والمسموعة والذهنيّة قد أدّى إلى إغناء الخطاب التشكيلي لديه والتّعاطي مع الفنون من داخل مقاربة عضويّة تقوم على مزاوجة بعضها لبعض واستعادة علاقاتها البنائيّة، ومن ثمّة، المزاوجة بين خامات وحوامل وتقنيات مختلفة. وبالقدر نفسه، تقوم هذه المقاربة على ردم الهوّة بين الشكل الفنّي والموضوع المتداول في الحياة اليوميّة.

إنّ الفنّ في هذه التجربة ممارسة يوميّة تتجاوز فضاء القُماشة لتتوزّع على محامل مختلفة. كلّ شيء في بيئتنا اليوميّة يمكن أن يكون مادّة لتمرير الفعل الإبداعي، مثل الملابس والخشب والبلاستيك والصّفائح المعدنيّة وجدران السّفن والأكياس الورقيّة التي نضع فيها مشترياتنا والقماش القنّبي الذي يستعمل لجني الزيتون. إنّها مصالحة ما بين الفنّ في أجلى نبله الابداعي والحياة اليوميّة في أبسط تجلّياتها. فقد كان السّاحلي ينهل مفرداته وعلاماته المحشورة داخل اللوحة، من معين الحياة وزخم الأشياء المستعملة والصّور النباتيّة والحيوانيّة وكل ما يعترضه من موضوعات الحياة اليوميّة، فيعمل على ترصيفها داخل فضاء شبه متجانس. وإنّ مثل هذه المقاربة التي تصل جماليّة الفنّ بجماليّة الحياة اليوميّة، لهي من أهمّ مميزات هذه التجربة التي أهّلته لأن يكون بامتياز أحد أهمّ المجدّدين من المشتغلين بالفنّ المعاصر في تونس وخارجها.

تطالعنا لوحات الساحلي الزيتيّة بتلك الأرضيات المسطّحة وكأنّنا بإزاء نسيج تشكيليّ ينزع إلى اللانهائيّة أو كأنّ اللوحة جزء من عالم شاسع يمتدّ خارج الإطار ويتكوّن من صور لأشياء وأدوات وحيوانات مستمدّة من الحقل البصري المألوف في حياتنا اليوميّة مثل الكأس والهاتف والكرسيّ وصور لطيور وحشرات. وقد يُدرج الساحلي ضمن هذا الحقل علامات أخرى ذات طبيعة خطيّة مثل الأشكال الحلزونيّة والنجميّة والأهلّة والأسهم، فيما قد يختزل الرسّام قاموس علاماته في أشكال مجرّدة، هي بمنزلة مفردات أو وحدات تشكيليّة. فيجرّدها من هيآتها الواقعيّة لتصبح كيانات تجريديّة محشورة في الفضاء البصري المفعم بالحركيّة.وهكذا، تتجاور هذه الوحدات. فتصنع نسيج اللوحة. وتقسّمه بين ملاء وخلاء أو ما بين عناصر مضيئة وأرضية معتّمة.

إنّ اللوحة بمنزلة صورة فوقية لفضاء ممتدّ يُلقي بضفافه على نحو مستمر ولا يعبأ بالحدود. بل إنّ هذه العلامات والمفردات المحشورة عندما تغزو أرضيّة اللوحة وتكتسح فضاءها برمّته، توحي بتجاوز الاطار. وهو ما جعل السّاحلي يعفي لوحاته من الاطارات المضافة حتّى يدعم فيها إيحائيّة الفضاء الممتدّ ويبرز الحواجز بين عالمه التشكيلي والمحيط البصري للمُدرك المعيش والذاكرة اليوميّة الحيّة. إنّ هذه الفضاءات المنبسطة تستحضر ثقافة الفضاء الممتدّ وإيحاءات اللانهائيّة في الفنّ العربيّ الاسلامي. ولكنّ انزعاج الساحلي من الحبكة الهندسيّة للفضاء وميله إلى التحرّر في معالجته لعلاماته بحسّ طفوليّ بكر ولعب فنيّ مرتجل داخل عمليّة الانشاء، أدّيا إلى انفتاح عمله الفنّي على مرجعيّات متنوّعة من داخل الفنّ المعاصر. ومن ذلك "التشخيصيّة الحرّة" والتعابير العفويّة الخام في بعض المشارب الافريقية المعاصرة، وخصوصا على مستوى الحساسيّات اللونيّة المختارة، الموغلة في التضارب والحدّة والسّخونة أحيانا. وبظهور تجربة السّاحلي في فنّ الخزف، لم تعد عناصر الفضاء المحشور ثابتة. بل أصبحت علاقاتها قابلة للتغيّر من معرض إلى آخر تحتمل أوضاعا شتّى، إذ مكّن فنّ الخزف من تحرير الفضاء التشكيلي لدى عبد الرزاق الساحلي والخروج من المساحات المسطّحة والمتجانسة في اتّجاه نوع من العمق أو البعد الثالث. فقد عمل على "تصنيع" مفرداته وحوّلها إلى قطع خزفيّة منسابة يتغيّر ترتيبها من وضع إلى آخر.

ولئن كان انتقال منظومة العلامات لدى الساحلي من الحياة اليوميّة إلى اللوحة الزيتية، قد أفقدها محسوسيّتها وبُعدها الثّالث، لتتحوّل إلى صور ورسوم وهيئات سريعة الأداء فإنّ انتقال هذه العلامات إلى فنّ الخزف، من خلال فضاءات ممتدّة أو تنصيبات، قد أعاد إليها خاصيّة المحسوسيّة وقابليّة العلاقات المتحرّكة. وحتّى تمرّ العلامة من الرّسم إلى الخزف، عمل الفنّان على تخليصها نهائيّا من ملمحها الواقعي الذي عُرفت به في الذاكرة اليوميّة ليُكسبها هيآت مجرّدة. والمسألة أكثر من مجرّد حذلقة تشكيلية. إنّها تتعلّق برؤية تحويليّة في مقاربة الفضاء الحيّ على نحو خاصّ في صناعة العالم البصري من جديد، تشكيليّا. وهكذا، يكون الفنّ جملة من العمليّات التي يمارسها الفنّان على مادّة العالم، على نحو مستمرّ. فقد حوّل الفنّان عالم الأشياء إلى قاموس ممتدّ من الصّور اليوميّة. ثمّ حوّل هذه الصّور إلى مفردات مجرّدة. ثمّ تدارك محسوسيّتها. وحوّلها إلى مقاطع خزفيّة. فأبدل علاقاتها. وبثّ مزيدا من الحركيّة في نظامها، بحيث أصبحت تقبل علاقات متجدّدة ما بين بعضها على نحو لا نهائيّ، سواء كانت ملقاة على الأرض أو معلّقة على الحائط في شكل قطع متجاورة. وقد لمع هذا الأفق الأخير بوضوح في المعرض الشخصي الذي قدّمه سنة 1997 ب قاعة يحيى بتونس، هذا المعرض، الذي يعتبر علامة مفصليّة في هذه المسيرة الفنيّة. وكلّ المحطّات التي أدركها الساحلي في مسيرته أكّدت أمانته للمقوّمات الأساسيّة لأسلوب خطابه التشكيلي، وخاصّة فيما يتعلّق بلعبة الخلاء والملاء، بحيث إنّ كلاّ من التنصيبة والمنحوتات الخزفيّة وغير ذلك من التقنيات، ليست سوى امتدادات شرعيّة، متطوّرة لتجربته في الرسم الخطي والزيتي.

ويبقى الانسان موضوعا للعمل الفني، أولا وآخرا. وتشرق حريته على نحو متجدّد عندما تتنوّع أبعاد الرؤية. إنّ الفنان يغذي أشكاله من روحه الانسانيّة. فهو يبعث الحياة في أشكال العالم المسطّحة التي جمّدتها الحضارة الاستهلاكيّة وجرّدها الاستعمال اليوميّ والرمزيّ من شحنتها العاطفية الحيّة واغترب فيها الكائن الانساني. ففي فنّ عبد الرزاق الساحلي تتسلل الحياة من روح الفنّان وتدبّ إلى أن تتلبّس بمجال الشكل وتخترق سطحه. ليس الفنّ رسما لأشكال الحياة بل هو بعث جديد للحياة في الأشكال، بعد أن جمّدتها الحضارة وسطّحها الاستهلاك.