القيروان

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
القيروان

هي مدينة في وسط البلاد التونسية تبعد مسافة 156 كيلومترا عن مدينة تونس، ومسافة 57 كيلومترا عن مدينة سوسة، وتقع على ارتفاع 60 مترا فوق مستوى سطح البحر. وهي مركز ولاية تشتمل على 546.600 ساكن (تعداد 2004) يعيشون فوق مساحة تساوي 680.000 هكتار. وتتفاوت درجات الحرارة بالمدينة تفاوتا شديدا إذ تتراوح بين بضع درجات مئويّة تحت الصفر في الشتاء و40 درجة أو أكثر في فصل الصيف. وتهبّ على المدينة ريح السّموم الصحراوية بمعدّل 21 يوما في السنة. أمّا معدّل نزول الأمطار فهو يتراوح بين 250 و300 مم في السنة، ويصل إلى 500 مم بالمناطق الغربية من الولاية. ويتفاوت نزول الأمطار تفاوتا شديدا من سنة إلى أخرى، إذ تنتقل المنطقة من الجفاف إلى الفيضانات البالغة حدّ الكوارث، وقد كانت فيضانات سنة 1969 من أكثرها تدميرا وإتلافا للمنشآت والخيرات. وإنّ سدّ واد زرود، الذي يمكّن من خزن 80 مليون متر مكعّب من المياه، وكذلك سدّ واد مرق اللّيل يسمحان باجتناب مثل هذه الفيضانات وتفاديها، وبتوسيع رقعة الأراضي القابلة للريّ بالزيادة في مساحتها الحالية البالغة 14.000 هكتار (منها 8.000 هكتار فقط مستغلّة في الزراعة استغلالا فعليا).

وتتكوّن القيروان حاليا من "المدينة" القديمة ذات الأزقّة الضيّقة الملتوية حيث تحافظ الأسواق أو تكاد على الطابع العامّ الذي اكتسته منذ القرن الثامن عشر. وهذه "المدينة" لا تزال اليوم محاطة بأسوار ذات شرفات، مبنيّة باللّبن، تحصّن جنباتها بين المسافة والأخرى دعائم وأكتاف قائمة مستديرة. ويزيد طول هذه الأسوار على ثلاثة كيلومترات، وبغرب المدينة وشمالها الغربي تمتدّ أرباض "القبليّة" و"الجبليّة" و"جلاص"، وفي الناحيّة الجنوبيّة، بين باب الجلاّدين (أي ممارسي صناعة الجلود) - الذي أطلق عليه منذ الاستقلال اسم باب الشهداء، وهو باب الدخول إلى المدينة القديمة - ومحطّة السكّة الحديديّة، تقع المدينة العصريّة حيث توجد الدواوين الإداريّة والبنوك والنّزل وغير ذلك. وقد بُني حيّ سيدي سحنون، بالناحية الغربية. ويوجد بها حي آخر، وهو حيّ المنصورة. أمّا أهمّ المعالم التاريخيّة بالمدينة، بالإضافة إلى الجامع الكبير، فهي مسجد ابن خيرون الأندلسي أو الثلاثة بيبان التي تشكّل واجهته أنموذجا جميلا من المعمار الأغلبي.

وقد أقيم هذا المسجد سنة 252هـ/866م، على يد محمد بن خيرون المعافري الأندلسي، وجرى إصلاحه وترميمه في القرن الخامس عشر، ثمّ فسقية الأغالبة من جهة باب تونس، ومقام سيدي الصاحب، وقد كان في أوّل الأمر مقاما بسيطا وقديما يؤوي أحد صحابة الرسول عليه السلام و هو أبو زمعة البلوي. وفي ذلك الموقع قام الباي حمودة باشا المرادي بتشييد المبنى الحالي، وكذلك مقام سيدي عمر عبادة الذي تمّ بناؤه في القرن التاسع عشر بأمر من الصادق باي (1859 - 1882).

تأسيس القيروان[عدّل]

يُنسب تأسيسها إلى القائد عقبة بن نافع. على أنّ تأسيس المدينة قد تحقّقّ في الحقيقة على عدّة مراحل، واعتراه كثير من التردّد، وأسهم فيه عدد من القادة العسكريّين. لقد مكّنت معركة سبيطلة (في سنة 27هـ/647 - 648م) عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح من التحكّم عمليّا في قيَادَة مقاطعة المزاق البيزنطيّة، بعد تراجع البيزنطيّين إلى ما وراء خطوط هم الخلفيّة المحصّنة التي كانت تحمي مقاطعة البروقنصليّة. وليس من المحال ولا من الغريب أن يكون أولئك الفاتحون الأوّلون قد بلغوا آنذاك في غاراتهم نواحي القيروان، قبل الانجلاء عن البلاد مقابل جزية ذات وزن وقيمة. بل إنّ ابن ناجي يشير (المعالم، ط. تونس 1320هـ/1902م، ج 1، ص 30) إلى وجود مسجد بالقيروان أطلق عليه اسم ابن أبي سرح.

وفيما بعد تزداد الأمور وضوحا ودقّة. فقد قام معاوية بن حديج بثلاث حملات على إفريقيّة، وذلك، على التوالي، سنة 34هـ/654 - 655م، وسنة 41هـ/661 - 662م، ثمّ 45هـ/665م. وعبر في المرّات الثلاث الممرّ نفسه الذي سلكه سلفه، ووصل إلى منطقة قمّونية حيث نزل بجيشه. ويخبرنا بتفاصيل ذلك ابن عبد الحكم فيقول إنّ ابن حديج في سنة 34هـ/654 - 655م" افتتح قصورا وغنم مغانم عظيمة واتّخذ قيروانا عند القرن". ونجد معاوية بن حديج نازلا من جديد عند القرن سنة 41هـ/661 - 662م، كما نجده مرّة أخرى بالقرن سنة 45هـ/665م. وفي هذا الباب يقول المالكي إنّ: "ابن حديج اختطّ مدينة عند القرن قبل تأسيس عقبة القيروان، وأقام بها كامل المدّة التي بقي فيها بإفريقية". ويؤكّد ذلك ابن ناجي من جهته فيقول: "وعند عودته إلى قمّونيّة ابتنى ابن حديج بناحية القرن مساكن سماها القيروان، وكان موقع القيروان الحالية لا يزال غير مسكون ولا معمور" (المعالم، ج 1، ص 41). أمّا الموضع الذي سمّاه ابن حديج "القرن" (أي الجبل) فهو يستمدّ تسميته من علوّ موقعه. وهو دون شكّ ذلك الجبيل الصغير (على ارتفاع 171 مترا) المعروف اليوم ببطن القرن والواقع على مسافة 12 كيلومترا بالشمال الغربي من مدينة القيروان الحاليّة على طريق جلولا. فالاختيار الأوّل بخصوص تأسيس القيروان وقع حينئذ على مكان مرتفع في مأمن من الهجومات المباغتة ومن مخاطر الفيضانات. هذا ولئن لم تحافظ "قيروان" معاوية بن حديج على دورها باعتبارها عاصمة لافريقية فإنّها لم تفقد مع ذلك وجودها، واقتصر النّاس بعد ذلك على تسميتها بالقرن. فبموقع القرن هزم في سنة 124هـ/742م، الثائر الخارجيّ عكاشة على يد حنظلة بن صفوان والي إفريقية. وقد ورد ذكر القرن مرّة أخرى في أواخر القرن الثانيه/أوائل القرن التاسع م. ثمّ لا نقف بعد ذلك على أثر لها عند المؤلّفين، فلا يذكرها البكري ولا الإدريسي.

وفي سنة 50هـ/670م قام الخليفة معاوية مؤسّس الدولة الأمويّة بفصل إفريقية عن حكم ابن حديج ليعهد بولايتها إلى عقبة بن نافع، مقرّا مع ذلك ابن حديج على ولاية مصر. وعندما حلّ عقبة بمقر ولايته "لم يعجب بالقيروان الذي كان معاوية بن حديج بناه وتذكر المصادر مع كثير من التفاصيل والجزئيات المشوبة أحيانا بمسحة العجائب والخوارق، كيف ركب عقبة مع مشاهير مرافقيه، وفيهم جماعة من الصحابة، لارتياد موقع جديد. فوقع اختياره على موضع سهل كان كثير الشجر والنبات تأتي إليه الهوام والوحوش. وهناك أقيمت مدينة القيروان الجديدة وقد ركّز بها عقبة فورا الجهازين اللاّزمين لتستقيم فيها ظروف الحياة الطبيعية السليمة، فبنى المسجد الجامع ودار اإامارة وجها لوجه. ثمّ ظلّ ساهرا على إقامة المدينة وتشييدها كامل مدّة ولايته الأولى - وهي خمس سنوات - ولم يخرج فيها لغزوة أو لحرب.

أمّا أبو المهاجر دينار الذي خلف عقبة في الولاية فقد "كره أن ينزل في الموضع الذي اختطّه عقبة بن نافع" وانتقل بالعاصمة مسافة ميلين على طريق تونس في منطقة يسكنها البربر. وقد أطلق على هذه العاصمة الجديدة التي عُثر على آثارها منذ عهد قريب اسم "تاكروان" (ابن ناجي، المعالم، ج 1، ص 43). ويوحي الجرس البربري لهذا الاسم وكذلك المحيط العمراني الذي اختير للمدينة بالبرنامج السياسي الجديد للحكم المركّز على التقارب مع السكّان الأصليّين للبلاد، وهي السياسة التي استهلّ أبو المهاجر نهجها ولم تَرُقْ هذه السياسة الخلافة المركزيّة، فتوجّه عقبة من جديد إلى إفريقية سنة 62هـ/682م. وكان أوّل ما بادر به هو إرجاع العاصمة إلى الموقع الذي سبق اختياره لها. ومنذ ذلك العهد سوف تبقى القيروان بمكانها لا تتحوّل عنه.

وتشير كلّ الدلائل إلى أنّ هذا الموقع قد كان فيما مضى مركزا لقرية قديمة أدركها الفتح الاسلامي بعد أن آلت إلى الخراب كعدد من مثيلاتها. وقد أفادت أولى المباني التي أقامها العرب، دون شكّ، من استخدام موادّ الاثار المتوفّرة بكثرة على عين المكان. وهناك موّاد متفاوتة القيمة الأثريّة، موجودة ضمن المعالم التّاريخيّة أو بالمساكن البسيطة، كُشف عنها حتّى في أسس مبنى الجامع الكبير بمناسبة القيام بأشغال للترميم والاصلاح (خلال السنوات 1969 - 1972). وبناحية الشمال يوجد، غير بعيد عن القيروان، مكان يدعى "الأصنام"، وهو يستمد اسمه، فيما يبدو، من كثرة عدد التماثيل التي عثر عليها الفاتحون العرب هناك. ويؤكد البكري أن سوق الضرب كانت فيما مضى موقعا لكنيسة. هذا وتؤكدّ المصادر بوضوح أنّ مدينة القيروان أقيمت على موقع مدينة قديمة كانت للأوائل تسمّى قمّونيّة. هذا الموقع لم يكن عند تأسيس القيروان على ما آل إليه فيما بعد من الجفاف والجدب. أجَلْ، إنّه لم يحدث بها انقلاب مناخي، لكنّ البشر فيها قد اعتراهم التغيير وبدّلوا تبديلا. فهذا ابن عذاري يفيد بأنّ عقبة أصدر أمره بأن يقطع الشجر حتّى تبنى المدينة. ويخبرنا البكري من ناحية أخرى بأنّ غابة زيتون القيروان في القرن الرابعه/العاشر م كانت من الكثافة بحيث إنّها تفي وحدها بحاجة المدينة كلّها من الخشب دون أن يلحقها ضرر أو يمسّها نقص يذكر، كما يفيدنا ج. ديبوا أيضا (في المصدر المذكور نفسه) أنّ أرض المنطقة خصبة وثريّة بفضل ما يحمله إليها واد مرق اللّيل وواد زرود من "طمي مخصب" فقد كان يكفي حينئذ إيجاد حلّ لمشكلة الماء.

وقد عثر هؤلاء، على مسافة بضعة أميال جنوبيّ الموقع الذي اختاروه لتأسيس القيروان، على منشأة لخزن المياه أطلقوا عليها اسم "قصر الماء"، يزوّدها مجرى مبنيّ يجلب المياه الملتقطة من العيون على بعد 33 كيلومترا غربا، بمنطقة ممّس التي تسمّى حاليا "هنشير الدويميس". وقد توقّف عقبة بن نافع بقصر الماء عند رجوعه إلى دمشق في سنة 55هـ/675م. (ابن عبد الحكم، الفتوح، ص 68). ثمّ أصبح المكان بعد ذلك موضع تجمّع القوافل المتّجهة إلى المشرق. وقد حقّق العرب نهوض المنطقة بعد خرابها وأعادوا إليها سالف ازدهارها بمواصلة سياسة الريّ التي اتبعها وسلكها من سبقهم وتوسيع نطاقها. وقد كانت الابار والمواجل التي لا يكاد يخلو منها بيت أو مسجد تقدّم للناس مساعدة محسوسة تضاف إلى طاقة المنشآت المائية الكبرى، وأشهرها بحقّ ما أقامته دولة الأغالبة. لذلك نرى كلّ الرحالين والجغرافيّين العرب ينوّهون حتّى أواسط القرن الخامسه/الحادي عشر م بثراء تلك المنطقة. وبعبارة موجزة فإنّ المنطقة التي وقع عليها الاختيار لتأسيس القيروان - علاوة على ما كان يتوفّر فيها من خصائص إستراتيجيّة كانت تتميّز أيضا بأنّها قابلة للاحياء الزراعي حتّى توفّر البنية الاقتصاديّة الضروريّة لنموّ مدينة كبرى وتطوّرها. ولم تتحوّل هذه الجهة إلى منطقة سهوب وسباسب إلاّ بسبب تقاعس الانسان وقعوده عن الجهد والعمل.

تاريخ القيروان[عدّل]

اضطر أهل القيروان إلى مغادرة المدينة بمجرّد تأسيسها. فقد أودت كارثة تهودا، جنوب بسكرة، بحياة عقبة بن نافع مؤسّس القيروان الأوّل، وحياة جميع من خرج معه من أصحابه في الجيش، فقتلوا عن آخرهم. فكانت هجرة المسلمين نحو المشرق، واستقرّ كُسَيْلَة القائد البربريّ المنتصر بمدينة القيروان - وقد بقي بها بعض سكّانها من العرب المسلمين واتخذها عاصمة لملكه السريع الزوال (64 - 69هـ/684 - 689م). فجاء بعد ذلك زهير بن قيس البلوي.

ومرّ بعد ذلك من السنوات أربعة عقود هادئة مطمئنّة قبل أنّ يعود البربر من جديد إلى تهديد عاصمة المغرب تهديدا جديّا. وفي سنة 124هـ/742م، كانت المدينة على وشك السقوط أمام سيل جيوش الخوارج، إلاّ أنّها قد أنقذت في آخر لحظة بفضل انتصارين غير منتظرين حصل أحدهما بالقرن والثاني بالأصنام. ولم يحالفها الحظّ سنة 140هـ/757 / 758م. فاستولى عليها ورفجّومة من الخوارج الصّفريّة بإعانة بعض سكّانها، وأخضعوها لسيطرتهم أكثر من سنة كاملة، وقضوا على من كان بها من القرشيّين، أي الطبقة الأرستقراطية من أهل المدينة.

وحرّرت القيروان في شهر صفر من السنة الموالية (جوان - جويلية 758م) على يد أبي الخطّاب الإباضي القادم إليها من طرابلس. وقد استخلف بعد ذلك على ولايتها عبد الرحمان بن رستم الذي سوف يكون فيما بعد مؤسّس الامارة الرستميّة بتاهرت. ولم تلبث المدينة طويلا على تلك الحال، ففي شهر جمادى الأولى من سنة 144/أوت 761 جاء محمّد بن الأشعث فأعادها إلى جادّة الولاء للمشرق، وخصّنها بأمر من الخليفة العباسي المنصور، وبنى أوّل سور حولها (وقد شرع في إقامته في شهر ذي القعدة من سنة 144/فيفري 762، وفرغ من بنائه في رجب 146/سبتمبر - أكتوبر 763). لكنّ هذه التدابير والأشغال التي استوجبتها الأحداث المذكورة لم تجعل القيروان بمأمن من ويلات الدهر ومصائبه. ففي سنة 154هـ/771م، حاصرت المدينة جموع متحالفة من البربر الصفريّة والاباضية. فقدم يزيد بن حاتم المهلّبي (155 - 171هـ/772 - 788م) موفدا من المشرق على جناح السرعة، ومعه عدّة ووسائل، فاستعاد أمر المدينة بيده ووضع حدّا نهائيا للاضطرابات والفتن التي أحدثتها حركات الخوارج بإفريقيّة. لكنّ خطرا جديدا حلّ بالبلاد، وهو خطر الجند. فأصبحت القيروان موضوع صراع بين قوّاد الجند المتمرّدين على السلطة. وفي سنة 194هـ/810م، هدم الأمير الأغلبي إبراهيم الأوّل (184 - 196هـ/800 - 812م) أسوارها وفكّك أبوابها عقابا لها على محالفتها الجند المتمرّدين. ثمّ عادت إلى مثل صنيعها الأوّل، ففي سنة 209 / 824م، فتح سكّان القيروان أبواب مدينتهم - وقد كانت أعيدت إلى مواضعها - لمنصور الطّنبذي. وكان العقاب في هذه المرّة جذريّا، إذ عمد الأمير زيادة اللّه الأوّل (201 - 223هـ/817 - 838م) إلى "هدم سور القيروان حتّى ألصقه بالأرض" جزاء على ما اقترفه سكّانها.

وبذلك أمكن للأمراء من بعده أنّ يحكموا في شيء من الهدوء والطمأنينة إلى زمن ظهور الدعوة الشيعية بإفريقيّة. ولم تساند قلعة المذهب السنّيّ أمراءها المهدّدين بالخطر، بل وقفت منهم موقفا سلبيا إن لم يكن معاديا تماما حتّى خرج آخر الأمراء الأغالبة من عاصمته متستّرا تحت جنح الظّلام. وقد زاد حكم الفاطميّين في توسيع شقّة القطيعة بين مدينة عقبة بن نافع والسلطة. فقد ساند أهل القيروان ثورة أبي يزيد النّكّاري الخارجي (332 - 336هـ/943 - 947م). وعندما خاب أملهم بعد ذلك في نجاح هذا الثائر تخلّوا عنه، فلم ينجهم ذلك من نزول العقاب بهم. وقد جرى في ولاية المعزّ (407 - 454هـ/1016 - 1062م) استهلالها بانتفاضة على الفاطميين (15 محرم 407هـ/24 جوان 1016م). وقد شرع الهلاليّون في محاصرة القيروان منذ سنة 446هـ/1054م، فتخلّى لهم عنها المعزّ وانصرف إلى المهديّة فنزل بها في سنة 449هـ/1057م.

ومنذ ذلك العهد لم تبرز القيروان كثيرا على مسرح الأحداث. وفي سنة 583هـ/1187 قدم المنصور الموحّدي على جناح السرعة من المغرب الأقصى للقضاء على خطر بني غانية الداهم قبل استفحاله. فخرج من تونس إلى القيروان حيث نزل بجيش قبل القيام بهجومه على منطقة الحامّة وتدارك ما لحق عساكره في بادئ الأمر من النكسات. وبعد ذلك بسنوات قليلة استولى يحيى بن غانية على مدينة القيروان وكامل إفريقيّة لكنّ هذا النصر الذائع الصيت كان عاجل الزوال، فعادت القيروان بسرعة إلى حكم الموحّدين ثمّ الحفصيّين من بعدهم. وفي سنة 669هـ/1270م، أحدث نزول لويس التّاسع ملك فرنسا بقرطاج انزعاجا في جميع أنحاء البلاد. وقد كان في نيّة المستنصر الحفصي أنّ يتحوّل بقاعدة حكمه من تونس القريبة من الخطر الداهم إلى القيروان; لكنّ الوباء وضع حدّا للنزاع المسلّح. أهمّ حدث جرى بها في ذلك العهد، كان في شهر محرّم من سنة 749هـ/أفريل 1348م إذ انتصر البدو من العرب على أبي الحسن المريني، الذي كان غلب على إفريقيّة، وحاصروه بالقيروان (ابن خلدون، كتاب العبر، ج 4، ص 564، 814 - 816، 819). ولئن تمكّن من فكّ هذا الحصار والرجوع إلى تونس، فإنّ هذه الهزيمة كانت إيذانا بأفول نجمه نهائيّا وأدّت إلى جلائه عن البلاد.

ولمّا أعاد شارل الخامس Charles Quint امبراطور إسبانيا الأمير الحفصي مولاي الحسن إلى عرشه (في 14 جويلية 1535) تحت الحماية الاسبانيّة، أصبحت القيروان إذ ذاك عاصمة لإمارة مستقلّة يحكمها أحد الصلحاء الشابيّة يدعى سيدي عرفة. وفي سنة 1542 حاول مولاي الحسن الحفصي إرجاعها إلى نطاق حكمه لكنّ عساكره خذلوه. وهكذا احتفظت الشابيّة بحكم المدينة حتّى قدوم الرايس درغوث الذي انطلق من طرابلس، وجاء فطرد الشابيّة واحتل المدينة (يوم 3 جانفي 1558) وأقام عليها حيدر باشا واليا. وفي عهد الدّولة المراديّة ازدادت القيروان تدهورا وأفولا. أجل، لقد أظهر حمودة باشا المرادي بعض الاهتمام بالمدينة، فقدم إلى الجهة سنة 1631 وأطرد منها قبيلة أولاد سعيد وركّز بالمدينة حامية من "صبايحيّة الوجق". ولكنّ ما لبثت أنّ حلّت الحرب الأهليّة بين علي باي وأخيه محمّد. وانضمّت القيروان إلى صفّ محمّد، فأصبحت بعد اتّفاق سنة 1678، الذي قسّم البلاد بين الأميرين المتنازعين، عاصمة حكمه (ابن أبي الضّياف، الاتحاف، ج2، ص 55). وقد ناوأت القيروان بعد ذلك مراد الثالث "أبا بالة" (1699 - 1702) فحاصرها وفرض عليها غرامة جماعية كبرى. ثمّ أبيحت نهبا ضدّ الجزائر. وفي السنة التّاليّة (1701) أصدرت الأوامر إلى سكّان القيروان وأجبروا على تخريب كامل مدينتهم بأيديهم، باستثناء الجوامع ومقامات الأولياء الصالحين التي أُبقي عليها (ابن أبي الضّياف، الاتحاف، ج2، ص 76). وإثر اغتيال الطاغيّة مراد الثالث تمكّن إبراهيم الشريف من تدارك ما حصل من أضرار. ورخّص لأهالي القيروان في سنة 1703 بالرجوع إلى مدينتهم ورفع أنقاضها وإصلاح ما خرب منها (ابن أبي الضّياف، الاتحاف، ج 2، ص 81).

وقد لجأ حسين بن علي إلى القيروان وحاصره فيها ابن أخيه علي باشا مدّة خمس سنوات قبل أن يقبض عليه (في 13 ماي 1740). وفي الوقت نفسه هُدم سور المدينة. وبتولية الأمير محمد الرشيد (1756 - 1759) ابن حسين بن علي، حظيت القيروان من جديد برعاية السلطة وبعرفان أولاد مؤسّس الدولة، فأعيد بناء سورها ومُنحت عددا من الاعفاءات الجبائيّة وتحسّنت حال أهلها تحسّنا ملحوظا. ولم تجد الحظوة نفسها في عهد الأمير حسين الثاني (1835 - 1824)، إذ غُرّم أهلها بمبلغ باهظ ممّا أدّى بهم إلى الافلاس واضطرّهم إلى بيع ما يملكون لتسديد ما فُرض عليهم. لذلك كانت القيروان، في سنة 1864م، من أنشط مراكز ثورة علي بن غذاهم. واحتلّت المدينة دون مقاومة ولا قتال يوم 26 أكتوبر 1881، وانفرد أبناء جلاص وحدهم مدّة من الزمن بالقيام ببعض عمليات المقاومة المحدودة.

الجغرافيا التّاريخيّة[عدّل]

عمارة القيروان حول المسجد

كان عقبة بن نافع قد بدأ باختطاط موقع المسجد الجامع ودار اإامارة وحول هذين المعلمين، وداخل منطقة يبلغ طول محيطها 13.600 ذراع (ابن عذاري، البيان، ج 1، ص 21) أي ما يقارب 7.5 كلم، قسّمت الأراضي ووزّعت على القبائل، مثلما حصل من قبل بالبصرة والكوفة، وقد أسّست في ظروف ممّاثلة. لكنّنا لا نملك معطيات مدقّقة في هذا الشأن باستثناء بعض الإشارات والتلميحات. فنعلم مثلا (البكري، المسالك، ص 23) أنّ بني فهر - وهم بطن من قريش ينتسب إليهم مؤسّس المدينة - نزلوا شماليّ المسجد الجامع في عهد هشام بن عبد الملك (105 - 125هـ/724 - 743م). وحتّى في القرن الثالثه/التّاسع م، فإنّ أحياء المدينة قد حافظت على طابع التقسيم المعتمد بوضوح على النسب والقبيلة. فمن ذلك ما ذكر لنا من وجود حارة يحصب ورحبة القرشيين وسوق اليهود.

وكما كان شأن البصرة والكوفة من قبل، لم يكن للقيروان في بادئ الأمر سور يحميها، فبقيت ما يناهز القرن مدينة مفتوحة على ما حولها. ثمّ اضطرتها صروف الزمان، كما رأينا، إلى الاحتماء منذ سنة 144هـ/762م، بأسوار سمكها عشرة أذرع. (البكري، المسالك، ص 24). وقد كانت ولاية يزيد بن حاتم المهلّبي محمودة العواقب على المدينة، فبادر بتنظيم أسواقها وإفراد كلّ منها بصنف من النشاط (ابن عذاري، البيان، ج1، ص 78). وبلغت المدينة أوج عزّها وازدهارها في القرن الثالث هـ/التّاسع م، إذ أصبحت عاصمة مستقلّة بأمرها. وأقيم بجوارها سنة 184هـ/800م قصر إمارة محصّن، وهو قصر العبّاسيّة. ثمّ تلاه سنة 263هـ/877م قصر إمارة ثان أضخم بناء وأوسع أرجاء وأكثر فخامة وترفا، وهو قصر رقّادة. أمّا مقاييس المدينة وأبعادها إذ ذاك، فيشير البكري (المسالك، ص 25 - 26) إلى أنّ "السّماط" المحاذي للجانب الغربي من الجامع الكبير كان طوله، من باب أبي الرّبيع جنوبا إلى باب تونس شمالا ميلَينْ وثُلُث الميل، وهو ما يساوي (بحساب 1600 متر مقابلا لميل البكري) أربعة كيلومترات إلاّ قليلا. ويمكن أن نفترض أنّ عرض المدينة كان يعادل طولها. ومثل هذه المساحة يقتضي عددا من السكّان يبلغ عدّة مئات من الآلاف وتؤكّد هذا التقرير دلائل أخرى: فقد كانت المدينة تعدّ، حسب ما يرويه البكري أيضا ما لا يقلّ عن 48 حمّاما. وقد أحصي في إحدى المرّات، بمناسبة عاشوراء، عدد الثيران التي تمّ ذبحها لسدّ حاجة استهلاك السكّان، فبلغ ذلك 950 ثورا. وهو ما يعدّ مقدارا من اللّحوم لا يقلّ عن 200 طنّ. فهل يكون مثل هذا القول من باب المبالغة فحسب؟ وحتّى إذا سلّمنا بذلك فإنّ مثل هذه الإشارة توحي بوجود عدد لايستهان به من السكّان بالمدينة. ويذكر اليعقوبي الذي كان يكتب في النصف الثاني من القرن الثالث هـ/التاّ سع م أنّ زائر القيروان يلقى بها أناسا من مختلف العناصر والأجناس. فمن عرب ينتسبون إلى قريش ومضر وربيعة وقحطان وغيرها من القبائل، وفرس من خراسان، إلى بربر وروم وغير ذلك. وإلى جانب المسلمين - وهم الأغلبيّة - فقد كان يوجد بها يهود ونصارى.

فسقية الأغالبة

ولقد رخّص الوالي الفضل بن روح (177 - 178هـ/793 - 794م) بإقامة كنيسة بالمدينة. وقد كان لكنيسة القيروان في أواسط القرن الثالث هـ/التاسع م عدّة رؤساء (عياض، المدارك، ص 132). وتدلّ النقائش المكتوبة على أن ّ نصارى القيروان حافظوا على استعمال اللاّتينيّة في كتابات شواهد قبورهم حتّى القرن الخامس هـ/الحادي عشر م. هذا ولم تعُدْ منشآت خزن المياه المقامة منذ خلافة هشام بن عبد الملك (105 - 125هـ/724 - 743م) كافية لكل هذه الخلائق (البكري، المسالك، ص 26). ومن الثابت أنّ عدد السكّان قد استمرّ في التزايد في عهد الأغالبة، وهو ما يفسّر إقامة خزّانات جديدة للمياه لسدّ الحاجات المتزايدة. وقد كان الماجل المتّخذ بباب تونس قد بني في عهد الأمير أبي إبراهيم أحمد (242 - 249هـ/856 - 863م) - ولا تزال آثاره تملك إعجاب النّاس إلى اليوم. أمّا الجامع الكبير - وهو أقدم معلم ديني في المغرب الاسلامي - فقد واكب هو أيضا نسق التوسّع بالمدينة وتجدّد مظهره. وقد اتّخذ هذا الجامع شكله وحجمه الحاليين منذ القـرن الثالث هـ/التّاسع م، باستثناء بعض الجزئيات.

جامع عقبة بن نافع بالقيروان

وقد كان جدّد بناءه حسّان بن النّعمان، ثمّ وُسّع نحو الشّمال وبنيت مئذنته الحالية في خلافة هشام بن عبد الملك على أقرب تقدير. وجدّد بناءه بعد ذلك يزيد بن حاتم سنة 157هـ/744م ثمّ جاء الأمير زيادة اللّه الأوّل فهدم الجامع برمته، باستثناء المئذنة فيما يبدو، وأقام بناءه من جديد (سنة 221هـ/836م) مع المحافظة على اتجاه جدار القبلة الذي حدّده واتخذه عقبة بن نافع، (رغم ما كان في ذلك الجدار من انحراف نحو الجنوب يبلغ 31 درجة تقريبا). وزاد الأمير أبو إبراهيم أحمد في توسيع الجامع، وتجميله (سنة 248هـ/862 - 863م). ومنذ ذلك التّاريخ لم تدخل أشغال الترميم والتجميل المتعاقبة التي جرت بالجامع أي تغيير على شكله ومظهره العامّ. وقد أضاف إليه المعزّ بن باديس الصنهاجي (407 - 454هـ/1016 - 1062م) المقصورة الحالية. وقد جرت بالجامع أشغال توسيع وتجميل أخرى في عهد الدولة الحفصيّة، ثمّ في القرون السّابع عشر والثامن عشر والتّاسع عشر. وآخر ترميم حظي به كان من سنة 1970 إلى 1972.

وساعد تطوّر المدينة على نهضتها الفكريّة فأصبحت القيروان في القرن الثالث هـ/التّاسع م من المراكز الثّقافيّة الرئيسة في بلاد الإسلام. وكان الإمام مالك المتوفّى سنة 179هـ/795م يعدّها، مع الكوفة والمدينة، إحدى عواصم العلوم الإسلاميّة الثلاث (ابن ناجي، المعالم، ج 2، ص 38). قد بنى الخليفة المعز لدين اللّه الفاطمي فعلا قناة تجلب الماء من الجبال لتملأ الفسقيات والمواجل بالمدينة بعد المرور عبر قصر صبرة (المقدّسي، أحسن التقاسيم، ص 15)، وكان يشقّ المدينة ما لا يقلّ عن 15 دربا كبيرا، وصلتنا أسماء عدد منها (المقدّسي، ص 17 )، كما أنّ مساحتها قد زادت أيضا عن ذي قبل. ويذكر لنا المقدسّي (ص 15) أنّ "ضلع المدينة كان يساوي ثلاثة أميال إلاّ قليلا" (وهو ما يعادل 5,5 كلم تقريبا على أساس 1900 متر مقابلا لميل المقدّسي). ويمكن أن نستنتج من هذا أنّ عدد سكّانها قد ازداد على نحو ملحوظ، وقد بلغت بذلك أوج اتّساعها.

ومنذ ذلك الوقت دخلت القيروان مرحلة الركود ثمّ التقهقر، رغم ما كان يتحقّق فيها من انتعاش بين الفينة والأخرى يُمكنها فقط من الاحتفاظ بشيء من المكانة والاعتبار دون أنّ يعيد إليها يوما ما كانت عرفته من سالف المجد. وقد صاحب نقل الخلافة الفاطميّة إلى القاهرة (سنة 361هـ/972م) امتصاص شديد لموارد إفريقية واستنزاف لخيراتها. وحمل الفاطميّون معهم إلى مصر مدّخرات الذهب والفضّة التي كانت موجودة بالبلاد. وفقدت القيروان نهائيا صفتها ودورها باعتبارها عاصمة. ولم يحفل الأمراء الصنهاجيّون الأوائل بالإقامة فيها كثيرا، بل إنّهم أنهكوا قواهم في حروب لا نهاية لها بنواحي المغرب الأوسط والمغرب الأقصى. ولقد ابتزّت خيرات المدينة - وكانت لا تزال مزدهرة في أوّل عهد الصنهاجيّين - إرضاء لرغبات خليفة القاهرة. وبعد أن مرّت بضعة عقود من السنين عرفت القيروان سنة 395هـ/1004 - 1005م القحط والمجاعة وأصيب أهلها بوباء مهول احتفظ لنا ابن عذاري (البيان،1، ص ص256 - 257 )، فيما نقله عن ابن الرقيق، بوصف له. وخلت المدينة من السكّان وفرّ الناس في وجوه البلاد، ووصل الهاربون نجاة بأنفسهم حتّى صقليّة.

وكان طول سورها المتّصل بمدينة صبرة بمجاز أو معبر خاصّ وكان قد سارع بإقامته سنة 444هـ/1052 - 1053م الأمير المعزّ بن باديس عندما كان مهدّدا يبحث عن أسباب النجاة، لم يتجاوز 22.000 ذراع، أي ما يقارب 5,10 كلم. (البكري، المسالك، ص 25). وهكذا فقد عادت المدينة تقريبا إلى حجم النواة الأصليّة التي أقرّ حدودها عقبة بن نافع. وإذا ما كانت المعطيات المرقّمة الواردة في مراجعنا صحيحة - وهذا أغلب الظنّ - فينبغي التسليم بأنّ المدينة قد تراجعت رقعتها إلى ثلث حجم المساحة التي كانت بلغتها في أوج ازدهارها. وقد واصل عدد من العلماء والمفكّرين مسيرتهم على آثار من سبقهم فكان منهم من فقهاء المالكية سحنون بن سعيد التنوخي (توفّي سنة 240هـ/854م) وابن أبي زيد القيرواني (المتوفّى سنة 386هـ/966م) والقابسي (المتوفّى سنة 403هـ/1012م)، ومن الأطبّاء ابن الجزّار (المتوفى سنة 395هـ/1004 - 1005م)، ومن المؤرّخين الرقيق المتوفى بعد سنة 418هـ/1028م) ومن المنجّمين ابن أبي الرجال (المتوفّى حوالي سنة 426هـ/1034 - 1035م) - وقد ترجم مؤلّفه "كتاب البارع في أحكام النجوم" إلى عدّة لغات ومن الشعراء ابن رشيق (المتوفّى سنة 456هـ/1064م) وابن شرف (المتوفّى سنة 460هـ/1067م). وبعد مرور عشر سنوات على زحف بني هلال، تمّت إقامة سور أحاط بالجامع الكبير وببقايا أحياء المنطقة الغربية. وهذا السور الذي يكاد يحاذي رسمه السّور الحاليّ للمدينة، كان يمتدّ على مسافة تفوق بقليل الثلاثة كيلومترات. ويذكر الادريسي أنّ القيروان لم تعد في العهد الذي كان يكتب فيه أي في أواسط القرن السادس هـ/الثاني عشر م، قبيل قدوم الموحّدين بقليل سوى "أطلال دارسة وآثار طامسة"، وأنّ ما بقي منها محاط بأسوار غير كاملة من تراب وطين، وأنّها أصبحت في يد العرب البدو الذين يأخذون الجزية والجبايات من سكّانها القلائل المعدمين. أمّا رقادة وصبرة فقد اندثرتا تماما.

وفي عهد دولة الموحّدين، ثمّ في عهد الدولة الحفصيّة على وجه الخصوص، استقرت الأوضاع في البلاد من جديد نسبيّا، فأمكن للقيروان أنّ تنهض جزئيا من تحت الأنقاض. وفي القرن السابع هـ/الثالث عشر م. تمّت إحاطة المدينة بأسوار أكثر حصانة بفضل جهود الأهالي. وبانطلاق حركة الطرق الصوفيّة وازدهارها أخذت المدينة تمتلئ بمقامات الأولياء الصالحين (ابن ناجي، المعالم، ج 6، ص 227). وفي الحقيقة بدأت في القيروان حياة جديدة في مستوى أشدّ تواضعا وأكثر بساطة. وذلك أنّها استطاعت في خضمّ ذلك السياق العامّ من التدهور المستمرّ، أنّ تحتفظ بمكانة محدّدة بفضل قدرتها على التكيّف مع وظيفتها الاقتصادية الجديدة. وقد وصفها الحسن بن محمد الوزّان بعد أن زارها سنة 1516، أي في نهاية الدولة الحفصية، فقال عنها: "لا يرى بها اليوم سوى بعض الحرفيّين المساكين أغلبهم من المشتغلين بدباغة جلود الضأن والماعز، وهم يبيعون ما يصنعونه بجلودهم من ملابس في المدن النوميديّة التي لا توجد بها أقمشة مصنوعة ببلاد النصارى". وبعد ذلك، ولا سيّما في أوائل عهد الدولة الحسينيّة، أصبحت تحتلّ المرتبة الثانية بين مدن البلاد. وقد تحدّث عنها في أوائل القرن الثامن عشر الوزير السرّاج (المتوفّى سنة 1149هـ/1736 - 1737م). فقال: "لا تعرف في هذا الزمان، بعد تونس، مدينة أكبر من القيروان في كامل إفريقية. وإنّك لتجد من بين أهلها أفضل العلماء وأبرع الناس وأحذق التجّار". ويؤكد هذا الرأي ما كتبه ج. أ. بيصونال (J.A.Peysonnel) إذ قال: "القيروان مدينة من أعظم مدن هذه المملكة. وهي تقع بسهل سبخ الأرض ودائرتها نصف فرسخ. وهي تعجّ بالسكّان وتجارتها نشيطة. وقد تمّ تخريبها مرارا ثم أصلحت على أحسن وجه في عهد الباي حسين بن علي... وبها تصنع بكثرة أنسجة الصوف والبرانيس والسفساري وغير ذلك من الأصناف الخاصة بالبلاد..." (رحلة على سواحل بلاد البربر، بإذن من الملك في سنة 1724 و1725 نشر ديرو دي لامال Dureau de la Malle باريس، 1838، ج 1، ص 113). أمّا ف. غيران V.Guérin الذي قضّى بها ثلاثة أيام من 18 إلى 20 أوت 1861، فهو يعتبر أيضا أنّها بسكّانها البالغ عددهم الاثني عشر ألفا "من أكثر مدن الإيالة سكّانا بعد تونس" (رحلة أثريّة في الايالة التونسية، ط. باريس، 1862، ج 2، ص 334). وكانت مرتبتها قبل صفاقس التي لا يزيد عدد سكّانها على 10.000 ساكن، وقبل سوسة والمنستير والمهديّة التي لم يكن عدد سكّان كل منها يزيد على 5000 إلى 8000 نسمة. ومع ذلك فإنّها أصبحت تقوم في ذلك العهد "وسط صحراء حقيقيّة لا تكاد تجد فيها شجرا كبيرا ولا صغيرا" (ف. غيران، المصدر السابق، ج 2، ص 326). وبعبارة موجزة فإنّ مدينة عقبة بن نافع، بالرغم عن تدهور أحوال منطقتها الخلفيّة من الأراضي، قد برهنت على كلّ وحتىّ زمن انتصاب الحماية، عن قابليّة للحياة والاستمرار. ومن الثابت المؤكّد أنّ قدرتها على البقاء والدوام متّصلة بما لها من إشعاع روحي وديني. فقد كانت "بما يناهز الخمسين "زاوية" والعشرين "مسجدا" (كما يقول ف. غيران في المصدر السابق، ج2،ص 328)، العاصمة الروحية للبلاد بلا منازع في منتصف القرن التاسع عشر. وكانت تعتبر إذ ذاك مدينة مقدّسة يحجّر دخولها مبدئيا على غير المسلمين. أمّا اليوم فقد أصبحت معالمها الدينية مفتوحة. وقد أصبحت مدينة عقبة تأتي في المرتبة الخامسة بالبلاد من حيث عدد السكّان.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • تال ديالو أحمادو،الصناعة بالقيروان من خلال مدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد القيرواني، منشورات وحدة بحث تاريخ القيروان بجامعة الزيتونة، تونس،2007.
  • الجنحاني الحبيب، القيروان عبر عصور ازدهار الحضارة الإسلامية في المغرب العربي،الدار التونسية للنشر، 1968.
  • ابن حمدة عبد المجيد، ثقافة المجتمع القيرواني في القرن الثالث الهجري، شركة فنون الرسم والنشر والصحافة،تونس، 1977.
  • ابن الدباغ عبد الرحمان، معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، تكميل أبي القاسم بن ناجي، تحقيق إبراهيم شبوح (ج1) ومحمد الأحمدي أبو النور ومحمد ماضور(ج2) ومحمد المجدوب وعبد العزيز مجدوب، المكتبة العتيقة،تونس،ط2، 1993.
  • الفهري نافع، مسالك القيروان في العصر الوسيط المتقدم، دكتورا، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، 2010.
  • المالكي أبو عبد الله محمد، رياض النفوس في طبقات علماء القيروان وإفريقية وزهادهم ونساكهم وسير من أخبارهم وفضائلهم، تحقيق البشير البكوش، داتر الغرب الإسلامي، بيروت، 1981.
  • محفوظ فوزي،"المنشآت الماتئية بإفريقية في العصر الوسيط"، مجلة مدار، العدد 1،تونس،1993، ص ص15-41.
  • "قصر الماء،العباسية، القصر القديم: تعددت الأسماء والموضع واحد"، إفريقية، عدد19، 2002، ص119-144.
  • Monchicourt Louis-Charles,Etudes Kairouanaises:Kairouan et les Chabbia,Tunis,1939
  • Roy Bernard,Poinssot Claude, Inscription arabes de Kairouan,Paris ,Libraire C Klincksieck,vol2,fascl1,1958,
  • Solignac M,Recherches sur installation hydrauliques de Kairouan et des steppes Tunsiennes du VIIé au XIé S,AIEO,1952,TX,Alger
  • Talbi M,"Al-Qayrawan",EI2,2è édit,Leyde,t4,pp859-860