الجمعيات الموسيقية التّونسية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

اقترن إحداث أهم الجمعيات الموسيقية في الجزائر بانتهاء الحرب العالميّة الأولى، فكانت جمعيّات ذات صبغة اجتماعيّة - ثقافيّة، استغلّت الامكانات المتاحة في النّصوص التّشريعيّة الخاصة بقانون جويلية 1901 لتعمل جاهدة على تثبيت الشّخصية الثقافيّة والرّوحية للجزائر متحدية بذلك ضراوة المستعمر وبطشه، ومتصدية لمحاولات الطمس والتشويه و مستعملة في ذلك مختلف السبل المتاحةتعليم اللغة العربية، التعاليم الدينيّة، الموسيقى، المسرح، الرياضة... كل ذلك في إطار تربية سياسية ضمنية، تهدف أساسا إلى إثبات الخصوصية الجزائرية وتميزها وسط نظام استعماري تعسفي بغيض. أمّا في تونس فلا شك في أن هذا الصنف المنظم من الجمعيات لم يعرف - بالنسبة إلى الموسيقى الوترية - إلاّ في نطاق الجمعية الرشيدية كما سنبيّنه... وفي ما عدا ذلك، وجدت مناشط مماثلة في نطاق الزوايا الصوفية، كما فتحت نواد خاصة بالموسيقى الشرقية - المصرية من أبرزها: نادي "الخلوية" الذي كان مقره مقصورة دكان عبد العزيز جميل صانع الأعواد وعازف الكمنجة بنهج سيدي مفرج قرب بطحاء رمضان باي وكان دكانه مقصدا لأبرز الموسيقيين، نذكر من أعضائه: مصطفى بوشوشة (عود) ومريدخ سلامة (أول عازف قانون بتونس) و تبعه ابنه يوسف سلامة، ومصطفى كاهية (عود) ومحمد عبد العزيز العقربي (رق) اشتهر بحفظ أغلب ما جلب إلى تونس من إسطوانات مع حذقه للموشحات والأدوار الشرقية وهو من خيرة من تتلمذوا للشيخ سلامة حجازي رائد المسرح الغنائي العربي الذي زار تونس مع فرقته سنة 1914. ولقد تعزز هذا النادي بقدوم عدد من الفنانين المصريين أمثال: أحمد فاروز الذي علم الموشحات وتخرج على يديه كل من ضابط الايقاع الطاهر بدرة ومحمد التريكي وكذلك زكي مراد المطرب الشهير في العشرينات وقد رافقه عبده صالح عازف القانون الذي كان آنذاك في عنفوان شبابه. فكان من نتائج ظهور هذا النوع من النوادي انتشار الموسيقى الشرقية - المصرية على حساب الموسيقى التونسيّة. وقد عوضت حفلات المالوف بحفلات الموشحات والأدوار الشرقيّة والمصريّة على وجه الخصوص وأصبح الفنانون التونسيون يلبسون البدلة الافرنجية والطرابيش أسوة بالفرق المصرية، بل منهم من صار يتكلم باللهجة المصرية خاصة عند حضوره على الركح.

هذا إلى جانب الموسيقيين الزائرين أمثال طائرة وفرقتها (1908) وعبد القادر المغربي (1911) وكامل الخلعي (1914) وسامي شوا (1920) وكذلك سليمان القرداحي مؤسس المسرح الغنائي، هذا في الوقت الذي كانت أسماء تونسيّة تسافر في اتجاه المشرق العربي من ذلك زيارة خيلو الصغير وصيون بيسانه الاسكندرية سنة 1902. وقد تعزّز هذا الاتجاه باستقرار بعض المطربين المصريين بتونس، من أمثال سيد شطا الذي أشرف على تخريج فتحية خيري للوسط الفني والشيخ أمين حسنين وأخيه ياسين وحسن بنان وزوجته علياء وهو الذي أصبح معروفا لدى سكان ضاحية أريانة، وقد تضاعف عدد الاسطوانات الشرقية التي دخلت البيوت التونسيّة وخاصة المقاهي التي كان يؤمها الشباب والشيوخ لتناول "التكروري" على أنغام الشيخ المنيلاوي والشيخ الصفتي وصالح عبد الحي وعبد الحي حلمي وغيرهم. ومن هذه المقاهي نذكر مقهى شمنططو بباب الجديد، البرقي بالمركاض، السوق الجديد بالحلفاوين، مقهى بلم، مقهى الغرابة، مقهى الندى بالحلفاوين/باب سويقة، مقهى الجليز لحسان بوجدرة والد الأديب رشيد بوجدرة، كما نشير هنا إلى المقاهي التالية:

  • مقهى تحت السور الكائن بباب سويقة وكان يعرف بمقهى الآفاقيّين ويتردّد عليه علي الدوعاجي ومصطفى خريف والهادي العبيدي وغيرهم...
  • مقهى باب منارة أو البانكه العريانة وكان يعرف بمقهى البلديّة، وهو ناد أدبي فني ترأسه محمد العربي الكبادي (1881 - 1962) مقهى أحمد الغربي، مؤسس صالة الفتح وبجانبه مقهى الأنس وفرقة الأنس الموسيقيّة بنهج حمام الرميمي.
  • مقهى الهناء بباب المنارة للهادي الجويني وزوجته وداد، وكانت والدتها اليهودية تشارك بالرقص باسم July la Marseillaise.
  • مقهى العباسية، في قلب باب سويقة ومؤسسه طاهر بوعبسة وهو قبالة مقهى تحت السور وكان ملتقى للفنانين على غرار لافيات اليوم.

ونُذكّر هنا بأهمية انبعاث الفضاءات الخاصة:

المسرح البلدي

المسرح البلدي (20 نوفمبر 1902)، مسرح روسيني بالاص (1913)، تياترو علي بن كاملة بالبسّاج... وخاصة الإذاعة التونسيّة (سنة 1938) وقد أسندت إدارة القسم العربي فيها إلى الأستاذ عثمان الكعاك الذي فرض على المغنين والمغنيات إيجاد برامج تونسية نظما وتلحينا. وإلى جانب ذلك وجدت فرق وترية كثيرة كانت تعرف "بالعوادة" ويسمّى أفرادها بأسماء الآلات: "عواد، طرار، جرايني، درابكي، كرنيطي، بيانوجي، طبال وزكار"... وتعززت هذه الظاهرة بقدوم ثلة من الفنانين الطرابلسيين وإقامتهم بتونس بعد احتلال القطر الليبي سنة 1911 وأغلبهم من اليهود منهم: براميلو بردعة عازف العود والقانون وأخوه رحمين بردعة عازف الكمنجة بالطريقة الشرقية، موني/ميمون الجبالي عازف عود وقد تدرّبت على يده عدة مطربات مثل حبيبة مسيكة وفضيلة ختمي وأخوه ديدو الجبالي عازف قانون، وهو والد موريس ميمون.

فإذا ما استثنينا الموسيقى في الصالونات والقصور حيث كانت تقام الحفلات الأسبوعيّة ويشارك فيها الموسيقيون من عازفين ومغنين، لدى بعض الأسر المترفة، وكذلك في الحفلات الخاصة وفي مناسبات الزواج والختان وما إلى ذلك، فإن أماكن وجود الموسيقى تتراوح بين محلات غناء ورقص وهي عبارة عن حانات، كما يشير الصادق الرزقي في كتابه "الأغاني التونيسّة"، خالية من الأنس واللطف لا يطرقها إلا المنهمكون في الفساد من العامة، وبين مقاه راقية تستخدم جوقات طرب خالية من النسوة وأفرادها منتخبون من ذوي الشهرة في هذا الفن يباشرون ذلك في الصيف أو في بعض المواسم وفي رمضان، فتنصب الأخبية على الساحات المجاورة لبعض هذه المقاهي لإقامة الحفلات الموسيقيّة، كانت تعرف "بالفصل" جمع "فصلات". ومن آخر هذه العروض ما كان يقوم به الشيخ خميس الترنان بمقهى المرابط بسوق الترك صباح كل يوم جمعة واستمرّ ذلك إلى حوالي سنة 1935. يضاف إلى ذلك دخول صناعة الاسطوانات تونس، خاصة مع شركة بيضفون الألمانيّة للإخوة اللبنانيين بطرس إميل، وأنتون بيضا التي كان ينوبها البشير الرصايصي بتونس، وكذلك جرامفون.

وفي هذا السياق لا بدّ من الاشارة إلى وجود أماكن اختصت بتكوين الموسيقيين منها: العمومية ومن أبرزها زاوية سيدي علي عزوز وبعض زوايا العيساوية مثل سيدي الحاري، وسيدي الشالي، وسيدي بوقميزة. ومن أبرز الشيوخ الذين برزوا في هذا المضمار الصادق الفرجاني، وحسونة بن عمار و علالة الباجي ومحمد بن الشاذلي... ووجدت أيضا مدارس خاصة اشتهر منها الكثير، فعلاوة على شيخ الموسيقيين، أحمد الوافي (ت. 1921) الذي أخذ عنه عدّة موسيقيين، برع منهم محمد الأصرم و الطاهر المهيري و محمد بن مصطفى و رشيد بن جعفر ومحمد غانم وعلي بانواس و محمد الدرويش ومحمد بن سليمان و خميس الترنان و الهادي القمام وغيرهم... وتجدر الإشارة إلى أن أولى الجمعيات النظامية في هذا المجال كانت في الموسيقى النحاسية وهي: الجمعية الهلالية التي أسسها سنة 1904 الهادي بن حميدة ضابط الطاقم الموسيقى للباي وقد أشرف على تدريبها محمد الحداد وأحمد البجاوي ثم تلتها جمعية الحسينيّة سنة 1905 وقد أشرف على تدريبها محمد الشعبوني. ثم ظهرت الناصريّة نسبة إلى الناصر باي نتيجة اندغام الجمعيتين السابقتين على يد البشير صفر. وكان من مهامها تعليم الترقيم الموسيقي والعزف على الآلات النحاسيّة. وقد أدخلت ضمن برامجها المقطوعات والسلامات التركية وكذلك البشارف وموسيقى الموشحات وصارت تعمل في المناسبات والأفراح ودعي كل من أحمد البجاوي ومحمد الحداد والحبيب التميمي للتدريس فيها وأغلبهم من ضباط الطاقم الموسيقى للباي. كما أسس حسين بو حاجب الجمعية الإسلامية سنة 1914 وقد تولى الشاذلي مفتاح (1906 - 1974) إدارتها الفنية. أمّا الجمعية العصرية التي تأسّست سنة 1920 فقد أشرف عليها الهادي الشنوفي (1968 - 1893)، ولا ننسى الساحلية بسوسة التي ترأسها الهادي بن حميدة، ثم الجمعية النحاسية بنابل التي أشرف عليها الطاهر بن غزالة. وهكذا توسع وجود مثل هذه الجمعيات وانتشر في أغلب المدن التونسية وكان من أبرز مؤسّسيها : أحمد دوكاز وحسونة الشافعي والشاذلي مفتاح، وهذه الظاهرة تعود في الأصل إلى أيام العائلة الحسينية عندما أسس المشير أحمد باي المتوفى سنة 1855م المدرسة العسكريّة بباردو. وقد كان من مهامها تدوين جانب كبير من التراث الآلي والغنائي بالترقيم الموسيقى الغربي. وقد حفظ ذلك ضمن مخطوط يوجد بالمعهد الرشيدي بعنوان: "غاية اليسر والمنى الجامع لدقائق رقائق الموسيقى والغناء" وقد وضعها ضباط الموسيقى العسكرية الحاج أحمد القريتلي خليل وعمار بن أحمد الغربي وعلي بن عبد الله شلبي والطاهر بن الطيب غيلب...

ولقد تأسست في إطار هذه المدرسة أول فرقة عسكريّة بعد أن جلب لها مختصون من أوروبا أمثال: ليناربيقال والفرزيدي يوزبي. وقد كان لمصاهرة البايات لبعض الأسر الايطاليّة والعلجيات اللاتي كنّ يجلبن من عاصمة الخلافة العثمانية ومقاطعاتها أكبر الأثر في اختيار مثل هذا الاتجاه. ويقال إن أحمد باي تأثر في إنجازه هذا بهيئة الطاقم العسكري في الامبراطورية النمساوية نذكر هنا أنّ دخول أصل البيانو - الأرغن - إلى تونس كان سنة 1696 وقد أتى به من مدينة فيرانزا الايطالية مسقط رأس أم رمضان باي المرادي.

لقد تمّ تأسيس هذه الفرق النحاسية على نطاق واسع وتعزّزت بعد استقلال البلاد (1956) فشجعت الهيئات الحكومية من بلديات ولجان ثقافية، على تكوين مثلها فتجاوز عددها اليوم سبعين فرقة موزعة على كامل تراب الجمهورية، أغلبها يوجد بولايات الساحل والوطن القبلي والعاصمة. ومن هذه الجمعيات بالجنوب التونسي: الجمعية العصريّة للموسيقى النحاسية بصفاقس 1920; جمعية حشاد للموسيقى النحاسيّة بصفاقس 1949; النجم الرياضي القابسي للموسيقى النحاسية 1933; الكوكب الموسيقي للموسيقى النحاسية 1936; النجم الموسيقي القفصي للموسيقى النحاسية 1954; جمعية الواحة بتوزر للموسيقى النحاسية 1962; الموسيقى النحاسية بقبلي 1960; الفرقة النحاسيّة بحومة السوق بجربة 1987. وعموما كانت للحياة الثقافية والفكرية انطلاقة مثمرة فقد تعامل التونسيون مع عدة ألوان جديدة كالرسم والتمثيل والتأليف المسرحي بالاضافة إلى الاقتباس والترجمة وظهور الصحف والمجلات ذات الطابع الأدبي والنقدي الفكاهي، كما كان للمجالس الأدبية، التي كانت تعقد في باب منارة وباب سويقة والحلفاوين، الأثر الطيب في الحياة الفكرية والأدبية والفنية فتطورت تطورا محسوسا.

وتحوّلت الجمعيّة الرشيديّة إلى مركز إشعاع للعمل الموسيقي، رغم ظهور عدة مؤسسات ثقافيّة تقاسمت، بما لها من طابع موسيقي، مع الرشيدية أهدافها وغاياتها. فالرشيدية التي أسّست سنة 1934 وحصلت على تأشيرتها في 20 فيفري 1935 جمعية أدبية موسيقية عملت على خلق تقاليد جديدة وإحداث أنماط فنية صارت عماد العمل الموسيقي التقليدي والمتجدد في إطاره البارز الأصيل من حيث اللحن والكلمة والأداء الآلي والصوتي. وقد ظهرت على غرار مثيلاتها بالجزائر والمغرب الأقصى في ظروف سياسيّة صعبة إذ اقترن تاريخ إحداثها بتاريخ تأسيس الحزب الحر الدستوري الجديد وهي كذلك الفترة التي تصاعد فيها العمل النضالي على مختلف الجبهات. لذلك، لم يكن انبعاث الرشيديّة مصادفة، بل هو حدث سياسي في إطار ثقافي - فني غايته المحافظة على الشخصيّة التونسيّة من المسخ والذوبان، والتصدي لمؤامرات الاستعمار وأغراضه الرامية إلى اجتثاث تونس من أرومتها العربيّة - الاسلامية بطمس تراثها الموسيقي وهو الجزء الذي لا يتجزأ من شخصيتها وثقافتها. ولقد حفّت بتأسيس جمعيّة الرشيديّة عوامل سياسيّة عدة ووضعيات اجتماعيّة خاصة، نذكر منها: انعقاد المؤتمر الأفخارستي بتونس في ماي 1930 الذي كان من توصياته استئصال شخصية الشعب التونسي وذلك بحرمانه من اللغة العربيّة الضامنة لعروبته ودينه وحضارته. إن مثل هذا المخطط الصليبي جعل التونسي يقظا لكل المؤامرات الرامية إلى إبعاده عن ينابيع أصالته ومحو مقوّماته الثقافيّة، ومن ذلك التراث الموسيقي أحد أهم العناصر المميزة للشخصيّة الوطنيّة. فهذا التهميش الذي سلط على الموسيقى التونسيّة دفع أحد النواب المسلمين في المجلس الكبير، هو السيد عمر البكوش، إلى انتقاد إدارة المعارف والفنون المستظرفة عند مناقشة ميزانيتها سنة 1929 لانشائها مدرسة الموسيقى الغربية وتخصيص ميزانيّة لشراء إسطوانات للموسيقى الكلاسيكيّة الغربيّة تسمع في المعاهد الثّانويّة في حين لم تخصص شيئا للموسيقى العربية.

وقد كان من ردود الفعل على ذلك تنظيم دروس للشيخ علي الدرويش الحلبي في الموسيقى العربيّة بمكتبة العطارين على حساب الادارة المذكورة. وفي سنة 1933 استعمل مدير المعارف السيد قو هذا الاعتماد وقدره 000 25 فرنك في إنجاز إسطوانات للموسيقى التونسيّة وكانت تجربة سلبية بالرغم من المستوى الجيد للفرقة بسبب فساد صوت المغنية زمردة العلجية وهو الاسم المستعار لزوجة الدكتور خياط وصديقة مدير المعارف المذكور. في مثل هذه الأوضاع الخطرة بدأ التفكير في إحداث جمعية تهتم بإحياء التراث الموسيقي التونسي وحفظه من الاندثار والاضمحلال مع تطعيمه بالجديد المرتكز على دعائم الموسيقى التونسية العربيّة الأصيلة.

أما العوامل التي أسهمت في إحداث هذه الجمعية، فهي كثيرة، منها ما أشرنا إليه، مثل انتشار الأغاني السخيفة والسطحية وطغيان الانتاج المشرقي - المصري بتوافد المطربين وانتشار الاسطوانات التي اكتسحت البيوت والمقاهي بالاضافة إلى عودة الوفد التونسي بعد مشاركته في المؤتمر الأول للموسيقى العربية المنعقد بالقاهرة من 14 مارس إلى 30 أفريل 1932 وهي مشاركة مشرفة للغاية استرعت اهتمام النقاد والباحثين في المجال الموسيقي وأسهمت بقدر كبير في إعادة الثقة إلى الفن والفنانين التونسيين. كذلك التجربة التي عاشها مصطفى صفر رئيس القسم الأول للوزارة الكبرى عند مشاركته في مؤتمر الحرمين الشريفين بمدينة قسنطينة سنة 1931 وقد أعجب بما لمسه هناك من نهضة فنية. وعند عودته صادف الحديث في النوادي الثقافية عن إحداث جمعية تعنى بالموسيقى الوترية فانضم إلى هذه النخبة التي كان من أفرادها جمال الدين بوسنينة وأحمد الضحاك، وبعد عدة اجتماعات تمهيديّة وضعت في أثنائها الخطوط الرئيسة لهذه الجمعية، تمّ الاعلان في شهر نوفمبر 1934 إثر الاجتماع التأسيسي بالخلدونيّة عن بعث جمعية "تعنى بالمحافظة على الموسيقى التونسيّة الأصيلة وترويجها بين الأجيال الصاعدة". وقد حضر هذا الاجتماع التّأسيسي جمع غفير من المهتمين بالموسيقى بلغ عددهم نيفا وسبعين عضوا ينتمون إلى مختلف المشارب السياسية والدينيّة والمراتب الاجتماعية والمهنية، من فنانين وأدباء وإداريين ومحامين وأطباء ورجال أعمال وتجار، وهو ما يدل على مدى اهتمام التونسيين بالتراث الموسيقي. لقد اقترحت عدة تسميات لهذه الجمعية منها: الفارابية والزريابية والأحمدية قبل أن يستقر الرأي على الرشيدية نسبة إلى محمد الرشيد باي ثالث ملوك العائلة الحسينيّة (1122 - 1173هـ/1710 - 1759م) الذي اعتنى بالموسيقى والغناء وإليه يعود بالتعاون مع وزيره الأصرم الفضل في ترتيب النوبة التونسيّة وتأليف مجموعة من القطع كالبشارف والفواصل وهو الذي بعث مدرسة للموسيقى بالقصر استمر الملوك على رعايتها من بعده وكانوا يتتبعون نشاطها في حفلة تقدم مساء كل يوم ثلاثاء تواصلت حتى عهد أحمد باي الثاني الذي توفي سنة 1942.

نظرت الجلسة التأسيسيّة للرشيديّة في وضعية الأغنية وما سقط فيه الفن الموسيقي من إسفاف مخجل. وأبدى جميع الحاضرين تخوفهم على التراث الموسيقي من التلاشي والاندثار. وعقدوا العزم على أن تهتم هذه الجمعية اهتماما خاصا بحفظ الأغاني التونسية، والحرص على الرفع من مستواها بتنقيتها مما علق بها من شوائب. وبعد الخوض في كل ما يتعلق بالحالة التي عليها الوسط الموسيقي، قرروا تأسيس هذه الجمعية على دعائم ثابتة وأن تسهر على تسيير عملها ثلاث لجان: 1. اللجنة الأدبية: ترأسها محمد العربي الكبادي، تعنى بالنظر في التراث الموسيقي من الناحية الأدبية وانتقاء الأغاني الراقية. 2. اللجنة الموسيقيّة: برئاسة محمد الأصرم، تعنى بجمع التراث الموسيقي ووضع الألحان الحديثة ويتفرع عن هذه اللجنة التخت الموسيقي للجمعية بقيادة محمد التريكي. 3. لجنة الدعاية: ترأسها محمد الضحاك، تعنى بالتعريف بهذه المؤسسة وأعمالها ونشر إنجازاتها على الصحف. ونظروا أيضا في إمكان تدريس الموسيقى وتعليم النوطة الموسيقية. ثم حصل الاتفاق على تسمية هذه الجمعية باسم "جمعية الرشيدية للموسيقى التونسية " وقد تبرع السيد بلحسن الأصرم بتخصيص جزء من منزله الكائن بنهج الباشا عدد 36 مكرر قرب بطحاء رمضان باي ليكون المقر الرسمي للرشيديّة. وتكوّن المجلس الاداري للرشيديّة من اثني عشر عضوا حدّدت مهامّهم على النحو التالي : الرئيس (مصطفى صفر) وأربعة مساعدين له (مصطفى الكعاك، الحاج الطاهر المهيري، بلحسن الأصرم، الدكتور خياط) والكاتب العام (منصف العقبي) وأمين الصندوق (أحمد بن عمار) وثلاثة مساعدين للكاتب العام (عبد العزيز بن عثمان، جمال الدين بوسنينة، عبد القادر بلخوجة) ومستشاران (الطاهر الزاوش وحمده عبد الله).

ومنذ ذلك الحين، ظلّت الرشيديّة تعمل بحزم وثبات واندفاع وإيمان في المنهاج المذكور وحقّقت الكثير من الانجازات في مجالات التكوين وجمع التراث وتدوينه مع إغنائه بالابداعات الجديدة وإظهار ذلك للجمهور بتنظيم حفلات تقدم في المسرح البلدي والاذاعة. وقد كانت أول نوبة من المالوف ظهرت بها هي نوبة الأصفهان وأول مطربة لها هي السيدة شافية رشدي. وواصلت الرشيدية عملها إلى سنة 1938 حين تحوّلت إلى معهد فني يعنى بالتكوين. ولقد تغيرت تسمية الرشيديّة مرتين: الأولى: بعد الحرب العالمية الثانية حين أصبحت تعرف "بالمعهد الرشيدي للموسيقى التونسيّة" والثانية ابتداء من 1965 حين أطلق عليها اسم "المعهد الرشيدي للموسيقى العربية". ثم عادت إلى تسميتها الأصلية "الموسيقى التونسيّة"، كما تجدر الإشارة إلى حدوث انشقاقين طَبَعَا الرشيدية طوال مسيرتها الفنية منذ انبعاثها:

كان من بين المجموعة الصوتيّة محمد المقراني ومطرب الفرقة الطاهر غرسة... وقد اشتهرت باسم "فرقة قرطاج للموسيقى التونسيّة الأصيلة".

وتميزت بما اصطلح على تسميته "العاطش" أي النادر من الفونداوات والنفيس من الموشحات المطرزة. وقد تعاقبت ثماني هيئات إدارية على تسيير الرشيديّة منذ انبعاثها إلى اليوم، وتعددت الانجازات والأعمال نذكر منها:

  • تنظيم دروس في الأصول الموسيقيّة وتعليم الناي عهدت بها إلى الموسيقار الحلبي الشيخ علي الدرويش.
  • تأسيس قسم لتعليم السيدات والأوانس عهدت به إلى الفنان محمد غانم.
  • المشاركة في مهرجان أبي سعيد الذي انتظم في سبتمبر 1963.
  • تنظيم حفلات داخل البلاد وخارجها من ذلك حفلة شاي على شرف "فرقة ببا المصرية" لتعريفها بالفن التونسي الأصيل وتقديم حفلات في الاذاعة.
  • إلقاء مسامرات منها: حياة مولانا محمد الرشيد باي وأطوار الموسيقى العربية والأغاني الحديثة والموسيقى التونسية للهادي العبيدي وتاريخ الموسيقى العربية لعلي الدرويش.
  • تأليف الأغاني التونسيّة وإحياء ما تقادم منها بعد تهذيبه وتنقيحه.
  • تدوين النوبات التونسية الأصيلة بعناية الأستاذ محمد التريكي.
  • الاسهام في تنشيط النقد الفني في الصحافة التونسيّة.
  • جمع التراث.
  • القيام بحفلات لفائدة المشروعات الخيرية والاجتماعيّة.
  • تكريم صاحب "الجزيرة" الصحفي الأستاذ محمد تيسير ظبيان (ماي 1937) وفرانسوا أنطونيني الكاتب العام لمحطة تونس القوميّة.
  • استقبال الضيوف من ذلك زيارة المستشرق م. مونتاي مدير المتوظفين بباريس والأستاذ عبد العالي الأخضري من الجزائر (نوفمير 1941).
  • تأبين فقيد الأدب مصطفى صفر مؤسس الجمعية (13 / 4/1941) ومحمد الشاذلي خزنه دار (فيفري 1954) والمغنّية صليحة (جانفي 1959).
  • تكوين مكتبة ومتحف فني.
  • الاحتفال بألفية ابن هانئ.

إلى غير ذلك من المشاركات والأعمال الفنية والعلمية.

ويلاحظ أن نشاط هذه الجمعية تقلّص على نحو ملحوظ خاصة بعد أن توقفت الدروس بها منذ سنة 1972، فأهملت الدور الموكول إليها أساسا وصار عملها يقتصر على نشاط فرقتها الموسيقية. ولا يزال الأمل معقودا على أن تستعيد الرشيدية سالف مجدها ونشاطها بضبط مخطط يمكن من إرجاع الدروس وفتح حلقات للبحث والتدريس يستفيد منها الهواة والمحترفون.

وقد انبعثت إلى جانب الرشيديّة عدة جمعيات أخرى وهي على التوالي:

  • جمعية نادي الأصيل بصفاقس - جمعية خميس ترنان ببنزرت - الجامعة التونسيّة للشبيبة الموسيقية - جمعية مهرجان تستور للمالوف - اتحاد الموسيقيين التونسيين - جمعية التخت العربي للموسيقى بتونس - جمعية حشاد للموسيقى بصفاقس - الجمعية التونسيّة للتربية الموسيقية - جمعية المؤلفين والملحنين التونسيين - جمعية النادي العصري للموسيقى والتمثيل بصفاقس... هذا علاوة على عدد من الفرق والنوادي.

وجدير بالملاحظة أنّه دخلت على أهداف العمل الجمعياتي تغييرات عدّة تمشيا مع التطور الاجتماعيّ والسياسيّ. فقد كان العمل الثقافي للجمعية إبّان الاستعمار مجرد واجهة يختفي وراءها نضال متعدد الأشكال لاسيّما ترسيخ الهوية والقيم الحضاريّة للشعب. وقد اضطلعت فيه أهداف التوعية الدور الأساس حتى عند ممارسة الهدف الظاهر. فكان عمل الجمعيّة متعدد الأهداف وكانت تضم عناصر وطنيّة تتقد حماسا وغيرة وثورة على البائد والمتخلف والانحراف وغيرها من قيم التهميش والموت. أمّا بعد الاستقلال فقد توضحت الأهداف وقنّنت وأصبحت تعمل وفق تخصصات تسهم كلها في البناء ودعم مسار التقدم والرقي للوطن. لكن اللافت في كل ذلك أن العمل الجمعياتي في المجال الموسيقي لم يهتم كثيرا بحماية التراث. فكانت هذه المهمة موكولة كل متطوع. وهو ما جعله مسرحا لعدّة إنتهاكات وتأويلات خاطئة.