فرحات حشاد

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1914 - 1952م]

فرحات حشاد

ولد النقابي فرحات بن محمّد حشاد يوم 2 فيفري سنة 1914 بقرية العبّاسيّة بجزيرة قرقنة. ينحدر من أسرة متواضعة الحال امتهنت الصّيد البحري إذ كان والده يكدح ليوفّر القوت لعائلة كثيرة العدد. فنشأ على الكفاف والصّبر والجلد. ولمّا بلغ سنّ التّعليم التحق بالمدرسة العربيّة الفرنسيّة الابتدائيّة بقرية "الكلاّبين" الواقعة على مسافة كيلومترين من مسقط رأسه "العبّاسيّة" .وكان طيلة فترة دراسته محلّ إعجاب معلّميه لما أظهر من فطنة وجدّية في دراسته. وتعرّض إلى مرض تمكّن بفضل رعاية عائلته ومربيّه من الشفاء منه والترشّح إلى اجتياز امتحان الشهادة الابتدائية التي نالها بتفوّق سنة 1928. وبالرغم من شدّة رغبته في مواصلة الدراسة بإحدى المدارس الثانويّة فإنّه لم يجد بدًّا من الوقوف عند رغبة والديْه الملحّة في أن يطلبا له عملا ما يرتزق منه. فعمل في بعض دور التّجارة بمدينة صفاقس. ثمّ اتّجه إلى مدينة سوسة حيث استقرّ أخواله منذ العشرينات في حيّ جمع أصيلي قرقنة يعرف بحيّ "وادي الخرّوب" ولم يبلغ بعد السّنة السّادسة عشرة من عمره فاستقرّ بمنزل خاله حسن بن رمضان وطفق يبحث عن العمل حتّى تمّ له ذلك في الشّركة التّونسيّة للنّقل بالسيّارات في السّاحل (S.T.T.A.S) التي استأجرته قابضا على سيّارات في جهة صفاقس ثمّ عيّنته كاتبا محاسبا في قسم حساباتها. وقد كسب فرحات حشاد ثقة إدارته لما أظهره من تفان ورغبة في تحسين مردوده المهني إذ تعلّم الرقن على الآلة الكاتبة وارتقى إلى رتبة كاتب إداري وهي الوظيفة التي فتحت له باب الاطّلاع على دواليب الشّركة من جهة ومكّنته من الظّفر بصداقة زملائه سواء من الإداريين أو السوّاق أو من العملة على وجه الخصوص. فهذه الصّداقة أهّلت فرحات حشاد إلى أن ينغمس كلياًّ في الحياة النقابيةّ حين انخرط في النّقابة الأساسيّة للشّركة التّابعة للكنفداراليّة العامّة للشّغل بداية من جويلية 1936. ويمكن تحقيب مسيرة حشّاد النّقابيّة في ثلاثة أطوار كبرى:

  • الفترة الأولى: 1936 - 1944: الكنفدراليّة العامّة للشّغل ذات التوجّه الاشتراكي الديمقراطي ترعى تكوين حشّاد النقابي.
  • الفترة الثّانية: 1944 - 1948: استقلالية العمل النّقابي التّونسي بين اتّهامات اليسار (تقسيم الطبقة الشغيلة وتوخّي التعصّب الديني والقومي) ومتطلّبات الحرب الباردة.
  • الفترة الثالثة: 1948 - 1952: التّوافق الاستراتيجي بين الاتّحاد العام التّونسي للشّغل والحركة الوطنيّة يثير ارتباك والسّلطة الاستعمارية وهلعها.

الكنفدرالية العامة للشغل ذات التوجّه الاشتراكي الديمقراطي ترعى تكوين حشّادالنّقابي (1936 - 1944)[عدّل]

لا يمكن رصد خصوصيّة هذه الفترة وتلمّس حيثياتها وفهم خلفياتها وما ترتب عليها من مواقف دون الرّجوع إلى مجموعة من الأحداث المهمّة التي كان لها أثر بالغ في بدايات نضال حشاد النّقابي منها : لقاؤه مع ألبار بوزنكيA.Bouzanquet (1971 - 1897) الكاتب العام لاتّحاد النقابات الاقليمي التابع للكنفدرالية العامّة للشغل (1936 - 1944) وانعكاسات الصراع الدّاخلي في صلب قيادة اتّحاد النّقابات بين الشّيوعيين والاشتراكيين الذي طفا مرّة أخرى على السّطح إثر إمضاء معاهدة عدم الاعتداء الألمانيّة الرّوسيّة (أوت 1939) من جهة، ومواكبة حشّاد للتّحولات الاجتماعيّة والسّياسيّة والعسكريّة التي هزّت الYيالة التّونسيّة منذ انتصار الجبهة الشّعبيّة بفرنسا في ماي 1936 إلى جلاء قوات المحور في ماي 1943، مرورا بأحداث 9 أفريل 1938، وانهزام فرنسا في جوان 1940 وارتقاء المنصف باي العرش الحسيني في 19 جوان 1942، من جهة أخرى.

تؤكّد مجمل المصادر حقيقة العلاقة الوطيدة التي كانت تربط فرحات حشّاد بألبار بوزنكي دون تبيان تفاصيلها. فلقاء فرحات حشّاد الذي انتدب بالشّركة التّونسيّة للنقل بالسيّارات في السّاحل (S.T.T.A.S) وهو لم يتجاوز الثّانية والعشرين من العمر سنة 1936 ببوزنكي الذي شارك في الحرب العالميّة الأولى ثمّ عمل بالإدارة العسكريّة الفرنسيّة سنة 1921 وهو الاشتراكي النّزعة منذ 1926 والنّقابي المعروف بالايالة التّونسيّة منذ 1930 اقترن بظرف تاريخي مميّز في العمل النقابي على المستويين الفرنسي وعلى المستوى التّونسي. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ فرحات حشّاد تمكّن في وقت قصير من الاضطلاع بمهامّ كاتب ثمّ كاتب عام لنقابة موظفي الشّركة التّونسيّة للنّقل بالسيّارات بالسّاحل ثمّ كاتبا مساعد للاتحاد المحلّي بسوسة التّابع للكنفدرالية العامّة للشّغل (C.G.T.). وتتجلّى بما لا يدعو إلى الشكّ قدرات الشّاب حشاد على الاقناع والتأطير والاشعاع بين عمّال وموظّفي الشّركة المذكورة، وهو ما لاحظه الكاتب العامّ ذو النّزعة الاشتراكيّة ألبار بوزنكي، فقد كان حشاد محلّ ثقة القاعدة النّقابيّة التي انتخبته وتكفّل بالدّفاع عن حقوقها. وتبيّن المقالات التي أصدرها فرحات حشاد بجريدة Tunis socialiste (النّاطقة باسم الفيدرالية الاشتراكيّة SFIO بتونس) في سنتي 1938 و1939 مدى إخلاصه وتفانيه في الدّفاع عن حقوق الشغّالين وثباته على تثبيت مبدإ الحقّ النّقابي وفضح تجاوزات الأعراف الفرنسيين. ومن المعلوم أنه في الثلاثة أشهر الأولى من سنة 1938 صعّد المستعمر قمعه إذ حلّ الحزب الدّستوري الجديد إثر أحداث 9 أفريل 1938 وأعلن حالة الحصار، وهو ما ساعد العناصر الرّجعية والأشدّ عنصرية في الادارة الفرنسيّة على استرجاع قوّة نفوذها وشنّ حملة اعتقالات ومحاكمات واسعة ضدّ الوطنيّين التّونسيّين.

على أنّ هذا المناخ السياسي والاجتماعي المتوتر طيلة سنة 1938 قد سبقته أحداث ومؤشرات في سنتيْ 1936 و1937 جعلت مسألة الاستقلاليّة النقابيّة إزاء الأحزاب السياسيّة من جهة (الطرح الاشتراكي الديمقراطي، ميثاق آميان Amiens 1906) وضرورة ارتباط العمل النقابي بالقضيّة الوطنيّة في البلدان المُستعمَرة من جهة أخرى (الطرح الوطني: الحزب الحرّ الدستوري الجديد) محلّ جدل بين الزعيم الحبيب بورقيبة والنقابي ألبار بوزنكي. فقد أبدى بوزنكي بعد أن ناهض حركة محمد علي الحامي النقابيّة سنة 1924، معارضته المتجدّدة لتأسيس جامعة عموم العملة التّونسية سنة 1937 متذرّعا بالحفاظ على وحدة صفّ الطبقة الشغيلة ومقتديا بميثاق "أميان" Amiens الدّاعي إلى استقلاليّة العمل النقابي عن الأحزاب السياسيّة. في حين ركّز الزعيم الحبيب بورقيبة كلامه على شرعية تأسيس نقابة تونسيّة مستقلّة باعتبار "أنّ القوميّة التّونسيّة هي في الواقع وحسب القانون تختلف عن القومية الفرنسيّة". وإذا أمعنّا النظر في جَوْهَر ميثاق "أميان" نلاحظ أنّه لم يدع قط إلى استقلاليّة العمل النقابي إزاء القضايا السياسيّة. فالنقابي حرّ في أفكاره السياسيّة بشرط أن لايوظّفها داخل النقابة. وقد لمس فرحات حشاد ذلك في تصرّف صديقه ألبار بوزنكي الذي انخرط في صف مقاومة الاحتلال النازي بفرنسا إثر انهزامها في جوان 1940 وفي الايالة التّونسيّة عند الاحتلال الألماني - الايطالي (نوفمبر 1942-ماي 1943). ففي الفترة من جويلية 1940 إلى نوفمبر 1944، أقدم ألبار بوزنكي بصفته الكاتب العام لاتحاد النقابات بتونس على إنجاز عدّة مبادرات وأعمال سرّية (تكوين خليّة للتجسّس لفائدة الحلفاء، تحرير تقارير حول الحالة العامة للسكّان الأهالي والأوروبيين بتونس وإرسالها إلى الجنرال دي غول المستقرّ بلندن، القيام بعمليات تخريب وراء الخطوط الأماميّة للجيش الألماني والايطالي على طول الظهر التّونسي...).

وعلى أيّ حال فإنّ انخراط فرحات حشاد في العمل النقابي سابق لجامعة عموم العملة التّونسيّة (C.G.T.T.) التي لم تعمّر طويلا إذ اعترضتها صعوبات داخليّة (النزاع بين بلقاسم القناوي وأنصاره والديوان السياسي للحزب الحرّ الدستوري التونسيّ) وخارجية (معارضة الكنفدرالية العامّة للشّغل إثر مؤتمر إعادة التوحيد: تولوز 1936).

فرحات حشاد في احتفالات1 ماي

أثّرت كلّ هذه العوامل في اتساع رقعة العمل النقابي إثر تكوين حكومة الجبهة الشعبيّة. فقد أقبل التّونسيّون سواء كانوا عملة أو موظفين على الانخراط في مختلف النقابات: الكنفدريالية العامة للشغل، الجامعة العامة للموظفين التّونسيين، جامعة عموم العملة التّونسية. وارتفع عدد العملة التونسيين في تركيبة إدارة الاتحادات المحليّة للكنفدرالية العامة للشغل حيث بلغ سنة 1938 37.3%. ولعلّ المزاحمة التي احتدّت بين الكنفدرالية العامة للشغل وجامعة عموم العملة التونسيّة من جهة والشيوعيّين من جهة أخرى تفسّر انفتاح الكنفدرالية العامة للشغل واعتمادها على المناضلين التّونسيين. فقد انتخب فرحات حشاد في الهيئة الادارية لاتحاد النقابات سنة 1939 في إطار التصدّي للزحف الشيوعي وأصبح سنة 1940 عضوا باللجنة التنفيذيّة. واعتبارا لما سبقت إليه الاشارة حول مقاصد ميثاق "أميان" فإن بقاء فرحات حشّاد في الكنفدرالية العامة للشغل ورفض الانسلاخ عنها سنة 1937 والانخراط في جامعة عموم العملة التّونسيّة لا يعنيان البتّة إهماله للقضيّة الوطنيّة وعدم اكتراثه بالمسائل السياسيّة. ولكنّه ارتأى أنّ الوقت لم يحن بعد لتأطير العملة التونسيّين في كنف نقابة مستقلة انطلاقا من معاينة للواقع السياسي والاجتماعي للايالة التونسيّة سنة 1938وبالاضافة إلى نشاطه النقابي، برز حشاد في هيئة الهلال الأحمر التّونسيّ بصفاقس في أثناء الحرب العالميّة الثّانية.

يمكن القول في خاتمة هذا الطور الأوّل من مسيرة حشاد النقابيّة إنّ الظرف السياسيّ والاجتماعيّ الذي كان سائدا في الايالة طوال هذه الفترة مكّن حشاد من التعرف جيّدا إلى الواقع اليومي للطبقة الشغيلة بانخراطه في اتحاد النقابات الاقليمي التابع للكنفدرالية العامة للشغل واضطلاعه تدريجيا بمسؤوليات تسييرية على المستوى المحلي ثم الجهوي ثم الوطني. ومكّنته صداقته مع ألبار بوزنكي من عدم الفصل بين العمل النقابي والمسائل السياسية ومعارضته للتمشي الشيوعي في استقطاب الحركة النقابيّة، كما مكّنته فترة الاحتلال الألماني - الإيطالي للإيالة التّونسيّة من متابعة انتعاشة الحركة الوطنيّة بجميع مكوّناتها (الحزب الدستوري الجديد والحركة الزيتونيّة واللجنة التنفيذيّة) في فترة حكم المنصف باي (19 جوان 1942 - 13 ماي 1943) علما بأنّ المقيم العام الأميرال (Esteva) بادر منذ نوفمبر 1940 بحلّ كلّ النقابات بالإيالة التّونسيّة تطبيقا لسياسة حكومة "فيشي" Vichy. فكيف سيؤول الأمر بعد جلاء قوّات المحور في ماي 1943 وحلول الحلفاء وسيطرة الإدارة الاستعماريّة من جديد على دواليب الحكم بالإيالة التّونسيّة؟

استقلالية العمل النقابي التّونسي بين اتهامات اليسار ومتطلبات الحرب الباردة(1944 - 1948)[عدّل]

إثر قرار المقيم العام القاضي بحلّ النقابات (نوفمبر 1940)، عاد فرحات حشّاد إلى مسقط رأسه قرقنة حيث اجتاز بنجاح مناظرة الدخول إلى إدارة الأشغال العموميّة وانتدب عون مكتب بفرعها بصفاقس. ورُسّم في خطته في جانفي 1943. وتعدّ هذه الفترة التي قضاها حشاد بين قرقنة وصفاقس طوال الحرب العالميّة الثانية من 1940 إلى 1945 حاسمة في تطوّر مسيرته النقابيّة إذ تعرف إلى رفاق الدرب الذين سيكون لهم دور رئيس في عمليّة تأسيس اتحاد النقابات المستقلّة بالجنوب (نوفمبر 1944). فحالما غادرت قوات المحور الإيالة التّونسيّة (ماي 1943)، رجع حشّاد إلى نشاطه النقابي وشارك في إعادة تركيز النقابات الأساسيّة للاتحاد المحلي بصفاقس التابع للكنفدرالية العامة للشغل صحبة رفيقيْه الحبيب عاشور وعبد العزيز بوراوي. وأجمع الاتحاد المحلي بصفاقس على ترشيح فرحات حشاد لعضوية الهيئة الاداريّة لاتحاد النقابات بمناسبة انعقاد مؤتمره الثامن عشر بتونس يومي 18 و19 مارس 1944. وبلغ عدد نوّابه للمؤتمر 18، ونسّق حشاد جهوده مع صديقه ألبار بوزنكي، لكنّها باءت بالفشل أمام الأغلبيّة الشيوعيّة التي أحرزت على 17 عضوا بالهيئة الاداريّة من مجموع 21. ويفسّر عدم انتخاب فرحات حشاد بالهيئة الاداريّة بما صدر عنه في أثناء أشغال المؤتمر من نقد للسّلوك غير الديمقراطي الذي أبداه الشيوعيون إزاء الاشتراكي بوزنكي. وقرّر فرحات حشّاد صحبة الحبيب عاشور وعبد العزيز بوراوي الاستقالة من اتحاد النقابات، وشرع في تنظيم حملة دعائية ضدّ الهيمنة الشيوعيّة أدّت إلى عدّة استقالات في صفوف مناضلي الاتحاد المحلي. على أنّ ما يجب تأكيده في هذه المسألة هو اقتناع حشاد ورفاقه بعدم الجدوى لمواصلة النضال في اتحاد النقابات الذي أولى كلّ اهتمامه لدعم مجهود الحرب إلى جانب الحلفاء وأهمل المطالب الملحّة للشغّالين التّونسيّين مثل المساواة في الأجور وتحسين ظروف عملهم وعيشهم. ويذكر النقابي محمّد بن رمضان الذي استضاف حشاد وعاشور في غرفته بالمدرسة المراديّة يومي انعقاد المؤتمر حالة الغضب التي بدت على محياهما إثر فوز الشيوعيين: "كان الخيار بالنسبة إلينا بين الوطنيّة الفرنسيّة والوطنيّة الروسيّة، فآثرنا الانسحاب، وبقدر ما كان عاشور متحمّسا للاستقالة كان حشاد متريّثا يحبّذ مقاومة الاكتساح الشيوعي من الداخل". في تلك الظروف، لم تبد الفيدرالية الاشتراكيّة (SFIO) بتونس معارضة لقرار استقالة حشاد ورفاقه من اتحاد النقابات بل ساندته. وتطوّرت الأوضاع النقابيّة بسرعة سنة 1944 إذ تمكّن فرحات ورفاقه بعد جهود مضنية من خلق أرضيّة ملائمة لتأسيس اتحاد النقابات المستقلّة بالجنوب (19 نوفمبر 1944) الذي جمعت تشكيلته الإداريّة عناصر دستوريّة مثل الحبيب عاشور ورشيد القلال وعبد العزيز بوراوي ومحمد الحلواني. وارتفع عدد المنخرطين في هذه النقابة الفتية على نحو ملحوظ حتّى ناهز 8000 في بداية سنة 1945 واتّسعت دائرة تأثيرها حتّى شملت 22 نقابة أساسيّة. وبقدر ما ترَيّثَت الفيدرالية الاشتراكيّة في تحديد موقفها من هذه التحوّلات التي حدثت في الساحة النقابيّة بالجنوب (صفاقس، قفصة، قابس)، سارعت الهيئة المديرة الجديدة لاتحاد النقابات التابعة للكنفدرالية العامّة للشّغل بتوجيه اللّوم إلى فرحات حشاد ورفاقه واصفة مبادرتهم بالمرتجلة وداعية إيّاهم إلى التفاوض. وقد بالغ حسن السعداوي الكاتب العام المساعد لاتحاد النقابات في تهجّمه على حشاد ورفاقه متهما "اتحاد النقابات المستقلّة بالتواطؤ مع شركة صفاقس - قفصة". واختارت الفيدرالية الاشتراكيّة منهج المساعي الحميدة لاقناع حشاد ورفاقه لوضع حدّ لتجربة اتحاد النقابات المستقلة والانخراط من جديد في اتحاد النقابات. وتكفّل بهذه المهمّة كاتبها العام أندري بيدي A.Bidet لكن مساعيه فشلت. وتجلّت تدريجيّا إستراتيجيّة حشاد الذي كثف من اتصالاته بالأوساط النقابيّة الوطنيّة بالعاصمة حيث عقدت الجامعة العامة للموظّفين التّونسيّين مؤتمرها الأوّل بعد الحرب في غرّة أفريل 1945 بالخلدونيّة وانتخبت هيئة مديرة جديدة عبّرت عن استعدادها للاسهام في بعث نقابة وطنيّة تجمع اتحاد النقابات المستقلة بالجنوب والجامعة العامة للموظفين التّونسيّين واتحاد النقابات المستقلّة بالشمال الذي تأسّس يوم 6 ماي 1945 والذي جمعت هيئته الادارية المؤقتة عناصر دستورية مثل الهاشمي بلقاضي وكيلاني الشريف وبشير بلاغة. واتضح للعيان أن مبادرة حشاد في الاستقالة من الكنفدرالية العامة للشغل وتأسيسه اتحاد النقابات المستقلّة بالجنوب حظيت بمساندة فعلية من كلّ القوى الوطنيّة (الحزب الحرّ الدستوري الجديد، اللجنة التنفيذيّة، الحركة الزيتونيّة). وتأكّد التوافق بين إستراتيجيّة حشاد التوحيدية وتوجّهات القوى الوطنيّة لبعث نقابة مستقلّة. وكانت التظاهرة الاستعراضيّة لانتصار الحلفاء بصفاقس يوم 9 ماي 1945 المناسبة الأولى الدالة على حقيقة التنسيق بين الحزب الحرّ الدستوري الجديد واتحاد النقابات المستقلّة بالجنوب.

وبدأت السلطة الاستعماريّة تسلك منهج الاحتياط من النجاح الذي حققه اتحاد النقابات المستقلة ودعم القوى الوطنيّة لمسيرته، وعبّر حشاد بمرارة عن موقف الادارة الاستعمارية السلبي من طلبات الاتحاد الشرعيّة في خصوص رفض تمثيله باللجنة الجهوية المكلفة بمراجعة الأجور ومسائل أخرى لها علاقة بالطبقة الشغيلة. وآلت جهود حشاد ورفاقه إلى تحقيق الرغبة التي عبّر عنها الشغالون وكلّ القوى الوطنيّة ألا وهي تأسيس نقابة وطنية مستقلة يوم 20 جانفي 1946 حملت اسم الاتحاد العام التونسي للشغل انتخب حشاد كاتبا عاما لها وقبل محمد الفاضل ابن عاشور عرض المؤتمرين اختياره رئيسا شرفيا للاتحاد. وأمام هذه الأحداث، سارعت الفيدراليّة الاشتراكيّة بالتذكير بموقفها من مسألة الوحدة النقابيّة متهمة "الأحزاب السياسيّة بالتدخل في الشؤون النّقابيّة". ففي البداية، ركّزت نقدها على التوجّه الشيوعي الذي طغى على اتحاد النقابات، ثمّ أبدت عداءها لمشروع حشاد الرامي إلى بعث نقابة وطنيّة مستقلة، في حين ساندت دون تحفظ تيّار الأقليّة غير الشيوعيّة بالهيئة الاداريّة لاتحاد النقابات. هذا التيّار عارض قرار توْنسة اتحاد النقابات الذي صادقت عليه الأغلبيّة الشيوعيّة بهدف تسهيل مفاوضات التوحيد مع الاتحاد العام التونسي للشغل. وأفضت هذه المفاوضات التي انعقدت جلساتها طوال صائفة 1946 واختتمت يوم 16 أوت بإمضاء اتفاقيّة "تنصّ على مبدإ قبول الوفدين تقديم اقتراح يوم 14 سبتمبر 1946 لهيآتهم الاداريّة موعدا لانعقاد مؤتمر التوحيد بين النقابتين واختيار اسم الاتحاد الوطني للشغل للنقابة الموحّدة التي ستقدّم طلبا في الانخراط بالجامعة النقابيّة العالميّة (F.S.M).

ولئن لم يُكتب النجاح لهذا الاتفاق المبدئي نظرا إلى الشروط الثلاثة التي قدّمها الاتحاد العام التّونسيّ للشغل: الجنسيّة التّونسيّة لكافة أعضاء المكتب المدير للنقابة الجديدة واختيار اللغة العربية لغة رسميّة لها والمصادقة على إطلاق اسم الاتحاد العام التونسيّ للشغل على النقابة الجديدة، فإنّه أحدث رجّة في أوساط الأقليّة النقابيّة غير الشيوعيّة التي كانت تحظى بمساندة الاشتراكيين في صلب اتحاد النقابات.وعبّرت عن قلقها بنشر مجموعة مهمّة من المقالات بجريدة "تونس الاشتراكية". فقد نادت بتحقيق مبدإ التوحيد النقابي في صلب اتحاد النقابات، لا كما نصّ عليه الاتفاق المؤرّخ في 16 أوت 1946 مذكرة بالانجازات التّاريخيّة التي حققتها الكنفدرالية العامة للشغل بتونس. والحقيقة أنّ حشاد لم يترقّب موعد بدء المفاوضات المتفق عليها مع اتحاد النقابات لتبيين موقفه من مسألة تحرير البلاد من ربقة الاستعمار بل جهر بها في اجتماع نقابي انعقد يوم 8 أفريل 1946: "لا يمكن أن نبقى بصفة أزليّة في جرّة الأجانب. إنّ الوقت قد حان كي نستعدّ ليوم المعركة الكبير إذ لدينا واجب مؤكّد لتحقيق رقي بلدنا واستقلاله". واتضح للسلطة الاستعماريّة موقف فرحات حشاد الثابت لنصرة القضيّة الوطنيّة في التصريحات التي أدلى بها إثر انعقاد مؤتمر ليلة القدر (23 أوت 1946)، هذا المؤتمر الذي جمع كلّ ممثلي الأحزاب الوطنيّة والمنظمات القومية وبعض الشخصيات المستقلة، فقد بادر حشاد - وكان قد أفلت من قبضة البوليس الذي داهم مقرّ اجتماع المؤتمرين

  • بالمشاركة في الاجتماع السرّي الذي عقدته جمعيّة حقوق الانسان يوم 29 رمضان 1365(30 أوت 1946) إذ أكد أنّ "مؤتمر ليلة القدر" عمل مشروع، لم يتجاوز فيه التّونسيّون حدود ما كان ينبغي لهم أن يقفوا عنده، فمن حقّهم كبشر أن يطالبوا بالحريّة، ويهتفوا بالاستقلال، لأنّ هذا أوّل ما يجب أن يعترف به من "حقوق الانسان" للتّونسيّين ولغير التّونسيّين، فكيف يصبح جناية تستحق المقاومة؟...".

وفي سياق المفاوضات التي جَرَت في صائفة 1946 لتوحيد الصف النقابي، لم يتردّد اتحاد النقابات في شن إضراب عام تضامني مع الاتحاد العام التّونسي للشغل يوم 30 أوت 1946 دفاعا عن الحرّيات العامة إثر الحملة القمعيّة التي سلّطها المقيم العام الجنرال ماست ضدّ الوطنيّين يوم 24أوت وهو ما أثار تحفظ الفيدرالية الاشتراكيّة التي حمّلت الهيئة الإداريّة لاتحاد النقابات "مسؤوليّة ارتباك الطبقة العمّاليّة وإضعافها أمام السلطة العموميّة، أمام الرأسماليّين الفرنسيّين، وأمام الرّأسماليين التّونسيّين". لكن تعثر المفاوضات بين الاتحاد العام التّونسي للشغل واتحاد النقابات استوجب تدخل الجامعة النقابيّة العالميّة (FSM) التي أوفدت لجنة تحقيق برئاسة ماك وينّي Mac Whinnie والتي فشلت هي أيضا في تقريب وجهات النظر بين الطرفين، إذ أكّد الاتحاد العام التونسيّ للشغل من جديد شروطه المذكورة سابقا للانصهار في نقابة موحّدة. وقبيل انعقاد مؤتمر اتحاد النقابات يوميْ 26 و27 أكتوبر 1946، جدّد تيّار الأقليّة المناهضة لاتفاق 16 سبتمبر 1946 نداءه من أجل الاتحاد في صلب الكنفدرالية العامة للشغل. لكن المؤتمر أقرّ ب338 صوتا ضدّ 80 صوتا مع إمساك 9 أصوات تحوّل اتحاد النقابات إلى الاتحاد النقابي لعملة القطر التّونسيّ (U.S.T.T.) الذي انضوى يوم 13ديسمبر 1946 تحت راية الجامعة النقابيّة العالميّة (FSM)، في حين لم يحظ ترشح الاتحاد العام التونسي للشغل بالقبول.

وتوتر الوضع في صلب الاتحاد النقابي لعملة القطر التّونسي بين الأغلبيّة التي صادقت على قرار المؤتمر والأقليّة الرافضة التي تزعمها بوزنكي وساندها ليون جوهو (Léon Jouhaux). وآل الأمر إثر فوز لائحة "تولي" Tollet الممثلة لرأي تيّار الأغلبيّة إلى انسحاب شق الأقليّة الذي أسّس يوم 23 فيفري 1947 كتلة النقابات المتحدة بتونس (Cartel des syndicats de Tunisie). وهكذا اقترن حلول سنة 1947 باتساع الشرخ النقابي الذي كان محلّ جدل في الأوساط الشيوعيّة والاشتراكيّة والنقابيّة. وفي هذا الاطار، توالت مقالات الاشتراكيين اندري دران إنقليفيال وإيلي كوهن حضرية محمّلة الأحزاب الوطنيّة والحزب الشيوعي مسؤوليّة تفرقة الصفّ النقابي و"تَعَاطُف" الاتحاد العام التّونسيّ للشغل مع هذه الأحزاب. وأمام خطر هذه الاتهامات، بادر فرحات حشاد بالردّ على هذه المزاعم مبيّنا بالخصوص "أنّ الطبقة الشغيلة في كلّ بلدان العالم منظمة في إطار حركات نقابيّة قوميّة. وأنّ الحركة النقابيّة بتونس لم تأخذ هذه الخاصيّة القوميّة إلا مع جامعة عموم العملة التّونسيّة في 1924 - 1926 وفي 1936 - 1938 ومنذ سنة 1944 مع النقابات المستقلّة والاتحاد العام التّونسيّ للشغل (...). وإذا كنّا نمتنع من الدخول في الحسابات والألاعيب السياسيّة فإنّنا كمواطنين أو منظمة لايمكن أن لا نكترث بمصير بلدنا وهو ما يحصل في سائر بلدان العالم، فالوطني ليس بشرطه رجل سياسة (.)".

ونتبيّن من مسيرة حشاد النّقابيّة طوال سنتيْ 1946 و1947 وعيه بخصوصيّة الكفاح الاجتماعي في المستعمرات حيث يؤدّي الميز العنصري بين السكّان الأصليين ومختلف الجاليات الأوروبيّة إلى تناقضات في مستوى الأجور وظروف العمل. أمّا معارضة الفيدرالية الاشتراكيّة لمشروع حشاد الرّامي إلى تركيز نقابة مستقلة بمساندة القوى الوطنيّة فإنّها تفسّر بعوامل سياسية مرتبطة بتركيبة المنخرطين والناخبين، إذ بيّنت التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة التي حدثت في الإيالة إثر الحرب العالميّة الثّانية تراجعا واضحا للفيدرالية التي فقدت الجانب الأوفر من منخرطيها وخاصّة الموظفين منهم نتيجة تعاطفهم مع الحزب الاستعماري. وليس من باب الصّدفة أن يختار حشاد ذكرى إمضاء معاهدة باردو (12 ماي 1881) التي أقرّت انتصاب الحماية بتونس ليذكّر مرّة أخرى بجدليّة الكفاح الاجتماعي والقضيّة الوطنيّة وارتباطهما الوثيق:"(...) فكفاح الشغالين لتحسين حالتهم الأدبيّة والماديّة مرتبط أمتن ارتباط بمصالح البلاد العليا لأنّ ذلك التحسين يستوجب انقلابا اجتماعيّا لا يمكن التحصيل عليه مادامت البلاد ترزح تحت النظام الاستعماري". ثمّ يدحض حشاد مقولة عدم الفصل بين العمل النقابي والشواغل السياسيّة مستشهدا بما قامت به الكنفدراليّة العامة للشغل من مقاومة وطنيّة أثناء فترة الاحتلال الألماني: "ولنا أدلّة كثيرة من التاريخ النقابي تؤيّد ذلك وليكفينا موقف الكنفدرالية العامّة للشغل بفرنسا من مقاومة الألمان زمن احتلالهم لفرنسا ثم معارضتها للجنرال دي غول حينما أراد أن يحجّر عليها إعطاء رأيها في النظام الدستوري الجديد وفي أسلوب الانتخابات (...)".

ويمكن القول إن سنة 1947 كانت بمثابة سنة النضال من أجل الاثبات الشرعي والأممي لحقيقة تمثيليّة الاتحاد العام التّونسيّ للشغل على المستوى النقابي إذ كان عرضة لكلّ العراقيل، ومن أبرزها مماطلة الجامعة النقابيّة العالميّة ذات التوجّه الشيوعي لقبول مطلب انخراطه والقمع الذي تعرّض له إثر الاضراب العام يوم 5 أوت 1947 بصفاقس، وكذلك اتساع القطيعة بين الاتحاد العام التّونسيّ للشغل وكتلة النقابات المتحدة التابع للكنفدرالية العامة للشغل ذات التوجّه الاشتراكي. ولعلّ هذه الجبهة المناهضة لنشاط الاتحاد والمتألّفة من أطراف مختلفة وفي بعض الأحيان من أضداد تشمل الإدارة الاستعماريّة الفرنسيّة والاتحاد النقابي لعملة القطر التّونسي ذا التوجّه الشيوعي وكتلة النقابات المتحدة التابعة للكنفدرالية العامة للشغل ذات التوجّه الاشتراكي هي التي ستقوّي اللحمة بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحركة الوطنيّة لمقاومة الاستعمار.

التوافق الاستراتيجي بين الاتحاد العام التّونسي للشغل والحركة الوطنيّة لمقاومة الاستعمار يثير ارتباك الاشتراكيّة الديمقراطية الفرنسيّة (1948 - 1952)[عدّل]

لم يلبث تطوّر الوضع العالميّ سنة 1948 (تصعيد التوتر بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي في إطار الحرب الباردة وانقسام الحركة النقابيّة العالميّة) أن انعكس على توجّهات العمل النقابي إذ أجبر الاشتراكيون الفرنسيّون على الخروج عن حيادهم الشكلي في شأن الفصل بين العمل السياسي والنشاط النقابي وذلك بإعلان مساندتهم لنقابة "القوّة العمّاليّة" Force ouvrière. ففي 29 ديسمبر 1947، قدّم ليون جوهو ورفاقه باسم تيّار الأقليّة المنشط لحركة "القوّة العمّاليّة" استقالتهم من المكتب الفيدرالي الموحّد للكنفدرالية العامة للشغل، ثمّ بادرت هذه المجموعة بتأسيس الكنفدرالية العامة للشغل - القوّة العمّاليّة (G.G.T/F.O) يوم 13 أفريل 1948. وأصبحت كتلة النقابات الموحّدة بتونس فرعا لها.

وتوطّدت الصّلة بين الفيدرالية الاشتراكيّة (SFIO) بتونس وحركة (G.G.T/F.O) حيث نشط عدد كثير من قياديي الفيدرالية ومناضليها، أبرزهم Appaix عضو المكتب الفيدرالي الذي أصبح عضوا بالهيئة المديرة لنقابة "القوّة العمّاليّة"F.O. ويفسّر هذا التقارب بما أحدثته الحرب الباردة من تفاعلات في الوضع النقابي العالمي في سنتي 1949 - 1950 (تصدّع الحركة النقابيّة العالمية). فبعد ترقّب استمرّ ثلاث سنوات، قُبل مطلب الاتحاد العام التّونسيّ للشغل للانخراط في الجامعة النقابيّة العالميّةF.S.M (28 جانفي 1949). وتزامن هذا الحدث مع تأسيس الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرّة (C.I.S.L.). ثمّ انسلخ الاتحاد العام التونسي للشغل من الجامعة النقابيّة العالميّة (FSM) في جويلية 1950 وانخرط في الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرّة (مارس 1951). ونتيجة لذلك، تعزّز التوافق الاستراتيجي بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحرّ الدستوري الجديد الذي تركّزت أسسه القاعديّة طوال سنة 1948.

حشاد وبورقيبة : التحام الحركة الوطنية والحركة النقابية

لمسنا ممّا سبق في شأن الظرف الذي تأسس فيه الاتحاد العام التّونسيّ للشغل تضافر الجهود بين قرار فرحات حشاد صحبة رفاقه تأسيس اتحاد النقابات المستقلّة والدعم الذي وجده لدى القوى الوطنيّة، إذ تبيّن لحشاد إثر تأسيسه الاتحاد العام التّونسيّ للشغل الموقف الاستعماري المناهض لمنظمته وما سعى إليه الاشتراكيون والشيوعيون من محاولات لاضعاف نشاطها وعرقلتها. هذه الجبهة المناهضة لنشاط الاتحاد العام التّونسيّ للشغل جعلت حشاد يصدع برأيه ويحدّد موقفه في الصحف الوطنيّة وأبرزها صحيفتا (Mission) و"الحريّة". فقد نشر حشاد بجريدة الحزب الحرّ الدستوري الجديد الأسبوعيّة الناطقة بالفرنسيّة)Mission((1952 - 1948) عدّة مقالات خصّص الجانب الأوفر منها للدّفاع عن مصالح الطبقة الشغيلة التونسيّة وما كانت تقاسيه من استغلال رأسمالي استعماري، مندّدا بالميز العنصري المهيمن على عقليّة العامل الأوروبي وموقفه وخاصّة الفرنسي ومركّزا اهتمامه على جدليّة الارتباط بين الكفاح النقابي ونصرة القضية الوطنيّة.

وتوالت مبادرات حشاد لنصرة القضيّة الوطنيّة لا على المستوى المحلي فحسب بل على المستوى العالمي، وذلك بإثارته مسألة حق الشعوب في تقرير مصيرها والقضاء على الاستعمار. فالكفاح النقابي عند فرحات حشاد أداة لتحرير الشعب وتخليصه من الاستعمار والاستثمار في تونس وبقيّة أنحاء العالم محذرا العامل الأوروبي من مغبّة الانسياق وراء دعاية الحزب الاستعماري: "هؤلاء السّادة غالطوك عندما أوهموك بأن تونس ليست ملكا للتونسيين بل للغزاة الفرنسيّين وللتفوق الفرنسي (...) وإذا أردت أن تُصغي إليهم وتختار طريق الحقد فاعلم أيّها الرفيق أنّه ليس في أي نقطة من العالم قانون يُلزم بالضيافة الاجباريّة وأنّك ستتخلّى تحت الضغط على اعتبار تونس وطنا ثانيا لك لأنّ ليس في الامكان أن يحتضنك وطن وفي نفس الوقت تعلن الحرب ضدّ شعبه".

هذا النداء جعل الفيدرالية الاشتراكيّة تردّ عليه بصرامة متهمة حشاد بأنّه تجاوز حدود العمل النقابي وأصبح من دعاة التعصّب القومي: "إنّي لم أيأس بعد، فإذا أردت أن تلقن درسا لمستشار الجمهوريّة (الموظّف أنطوان كولونا، رئيس الحزب الاستعماري) وأن تبيّن أن لمواجهة قوميّة الأعراف المتطرّفة، يمكن توظيف قومية التونسي، فإذا أردت ذلك فأنت على صواب، لكن الآن وقد تحصّلت على مبتغاك يجب التصرّف دون أن تُخجل النقابيين، بلباقة تتماشى مع عبقريّتك، تتماشى مع الزمن الذي لم يعد زمن العربة ولكن المحرّك النفاث. لا يمكن لك أن تطالب بغلق أبواب الادارة للأجراء الفرنسيين خصوصا إذا كانوا من مواليد الأرض التّونسيّة، يجب عليك قبولهم بصفتهم أعضاء من نفس العائلة (.)". والحقيقة أنّ الاضراب الذي شنّه الموظفون الفرنسيون في بداية أفريل 1948 والذي حظي بمساندة الفيدرالية الاشتراكية وساندته جميع النقابات (الاتحاد النقابي لعملة القطر التونسي، الكنفدرالية العامة للشغل، القوة العماليّة، والنقابات المسيحيّة) إلاّ الاتحاد العام التونسي للشغل بيّن بجلاء تباين المصالح والمواقف بين الوطنيين من جهة ودعاة الاستعمار من جهة أخرى. وممّا زاد في حنق الاشتراكيين نجاح سعي الاتحاد العام التونسي للشغل إلى الحصول على مساندة الكنفدرالية العالمية للنقابات الحرّة (CISL) التي أبدت اهتماما متزايدا بالحركات النقابيّة في البلدان المستعمرة. وأصبح فرحات حشاد مصدر قلق للسّلطة الاستعماريّة بشمال إفريقيا عندما شرع في إنجاز مشروعه الرّامي إلى توحيد الحركات النقابيّة التّونسيّة والجزائريّة والمغربيّة في إطار فيدرالية نقابيّة مغاربيّة. ولا تخفي هذه المبادرة ما سينجرّ عنها من تعديل لموازين القوى بين المعسكر الشرقي (الاتحاد السوفياتي) والمعسكر الغربي (الولايات المتحدة الأمريكية) من جهة، ومن احتداد للتناقضات بين الدولة الاستعماريّة الفرنسيّة وسياسة الولايات المتحدة الأمريكية واتحاد النقابات الأمريكيّة، من جهة أخرى.

وكانت لمشاركات حشاد سواء في أشغال المؤتمر الثاني للجامعة النقابية العالمية (29 جوان - 12 جويلية 1949 بميلانو) أو اجتماعات المكتب التنفيذي للكنفدرالية العالمية للنقابات الحرّة ببروكسال (ديسمبر 1951) وأشغال مؤتمر اتحاد النقابات الأمريكيّة AFL (سبتمبر 1951) الدوي الهائل في جهاز الدولة الاستعمارية. وفي هذا الاطار، عرّج حشاد في مقال صدر بجريدة (Mission) على طبيعة العمل النقابي الذي تنتهجه "القوّة العمّاليّة" ذات التوجّه الاشتراكي ذاكرا بالخصوص ما يلي: "إنّ نقابة "القوّة العمّاليّة" لا زالت ماضية عبر تهجّماتها الاذاعيّة الأسبوعيّة وبلاغاتها النادرة في التنديد بالعمل النقابي المسيّس وفي المطالبة بإبعاد الحركة النقابيّة عن كلّ عمل سياسي. إنّ مجلسها الفيدرالي القومي سقط كجثة هامدة في براثن السّياسة...الاستعماريّة! إن نقابةF.O. لم تفعل إلا نقل صيغ الاستعمار البالية في خصوص دعايته المنافقة وأدبياته المغشوشة إلى الحقل النقابي. فهي تطرح نفس موضوع الانفصال، وتحبّر نفس التعليمات ضدّ "الاقطاعيّة القروسطية" وتؤكّد أنّه لا يمكن القيام بأيّ مبادرة في الحقل الاجتماعي دون الدولة الحامية... وتختم بالصيغة المعتادة، تلك التي تحتم العيش معا مع تعويض "اتحاد لا تنفصم عراه" ب"اتحاد وثيق العرى". "إنّ جوهو قد ناهض سابقا جامعة عموم العملة التّونسية وتحمّل جانبا من المسؤوليّة في عمليّة قمع حركة محمّد علي ورفاقه. (.) إنّ منظمته اليوم أي (F.O.) باقية على نفس شعور التفوق الذي كان يلازمها منذ 22 سنة. نحن لا نريد أن نخوض جدالا مع نقابةF.O التي لا تمثل في تونس سوى صفر صغير. وبالرغم من الجهود الرّسميّة وشبه الرسميّة المبذولة لتنميتها، يبقى نشاطها غير ملموس (.). "إنّ الحماية التي تريدها (للعمّال في المستعمرات) تتمثّل في الاستحواذ على حركتهم على نفس المنوال الذي انتهجته فرنسا لادارة هذه البلدان وحكمها هي تناهض الاصلاحات التي تضمن استقلالية أكثر للشعوب المستعمرة على نفس المنوال الذي يرتضيه التجمّع الفرنسي. هي لا تريد أن تقدّم أي تنازل في مسألة الانتداب في الوظيفة العموميّة حتّى لا تنقص من صلاحيات الحضور الفرنسي وسرمديّة حقوق الفرنسيين في أيّ ميدان من الحياة العموميّة والأنشطة الخاصّة، هي تتحدّث عن "الهيبة الفرنسيّة" حتّى تكوّن قاعدة صلبة لانتداب العناصر الأكثر رجعيّة. وهي تناهض قيمة أي منظمة نقابيّة أخرى وصلوحيّتها إذا لم تشاطرها الرّأي في هذه النقطة الأساسيّة (.). "(.) إنّ الحركة النقابيّة هي حركة تحرير لايمكن لها أن تقبل مثل هذه العقليّة، عقليّة التفوّق، التي تسيّر شركات الهيمنة الامبرياليّة، ومن واجب كلّ حركة نقابيّة حرّة أن تقاومها. إنّ السّبب الذي جعل الاتحاد العام التّونسيّ للشغل يسحب انخراطه من الجامعة النقابية العالمية راجع إلى كون هذه المنظمة أصبحت أداة دعاية فاعلة لا تولي أي عناية بالمصلحة العليا لعالم العمل. وبما أنّها ابتعدت عن هدفها الحقيقي، أصبح من الحتمي أن تندثر. "والاتحاد العام التّونسي للشغل لا يرضى أن يحاول هؤلاء، "متخلّفو التفوّق النقابي"، أن يضعوا تحت هيمنتهم الشعوب التي كان من المفروض مساعدتها على التحرّر. إنّ الاتحاد العام التّونسي للشغل واثق من الاتجاه الثّوري الذي يحرّك نقابيي العالم الحرّ، والذين يدركون واجباتهم ومسؤوليتهم إزاء الحركات النقابيّة القوميّة في البلدان المستعمرة (.)". أصبحت القطيعة كليّة بين الزعيم النقابي الوطني فرحات حشاد ودعاة العمل النقابي "على النمط الاستعماري"ومن ضمنهم صديقه القديم ألبار بوزنكي الذي تولى إدارة صحيفة "القوّة العمّاليّة" (Force ouvrière) إلى حدود سنة 1950. فقد بادر الاتحاد العام التّونسي للشغل بالتشاور مع الحزب الحرّ الدستوري الجديد بتأسيس "لجنة العمل من أجل الضمانات الدستوريّة والتمثيل الشعبي" يوم 13 ماي 1951 وقد ضمّت بالاضافة إلى الاتحاد العام التّونسيّ للشغل (فرحات حشاد والنوري البودالي ومحمود المسعدي وعبد اللّه فرحات والطّاهر بن عبد اللّه) والحزب الحرّ الدستوري الجديد (المنجي سليم والهادي نويرة وعلي البلهوان) ممثلي الاتحاد التونسي للفلاحة (إبراهيم عبد اللّه ومحمود بن الحاج) والاتحاد التّونسيّ للصناعة والتجارة (فرجاني بلحاج عمّار وعبد السّلام عاشور) وشخصيّات ممثّلة لكلّ تيارات الرّأي العام التّونسيّ (جمعيّة الشبّان المسلمين، الصحافة التونسيّة، الصيادلة التّونسيّون قدماء المحاربين التّونسيّين). وتكوّن مكتب تنفيذي لهذه اللجنة يتألّف من الهادي نويرة، فرحات حشاد، فرجاني بلحاج عمّار، إبراهيم عبد اللّه، الشيخ محمد صالح النيفر، وطالب بتأسيس مجلس تشريعي منتخب وإقرار نظام بلدي تمثيلي تونسي في القرى والمدن.

وكانت سنة 1952 نهاية المطاف لتجربة حشاد النقابيّة بعد أن تحمّل مسؤوليّة الدفاع لا عن حقوق الشغالين فحسب بل كلّ التّونسيّين جاعلا قضيّة تحريرهم من ربقة الاستعمار في المقام الأوّل من أولويّاته. فبقدر ما كانت الكنفدرالية العامة للشغل تنادي بحصر النضال في تحسين ظروف العمل للعامل الأوروبي والحفاظ على امتيازاته في إطار الحماية (أي قبول النظام الاستعماري)، كان حشاد يناضل من أجل الاطاحة بنظام الحماية، وهو عنده الشرط الأساس لتحسين ظروف العامل التّونسيّ. ولقد وطّد التوافق الاستراتيجي بين الاتحاد العام التّونسيّ للشغل والحزب الحرّ الدستوري التّونسي فيما يخصّ معارضة الشيوعية والسّعي للحصول على مساندة الولايات المتحدة الأمريكيّة، والتحالف بين الرّأي العام الفرنسي بالyيالة والyدارة الاستعماريّة فأخذ منحى عدائيا ضدّ حشاد. ولقد تمكّن بفضل العمل الدعائي الذي حققه طوال زيارته للولايات المتحدة الأمريكية (4 - 30 أفريل 1952) من كسب نصرة العالم الحرّ للقضيّة الوطنيّة. وإثر اعتقال الزعماء الوطنيّين في 18 جانفي 1952 تحمّل فرحات حشّاد بشجاعة وإخلاص مسؤولية تنسيق المقاومة الوطنيّة مع رفاقه في الديوان السياسي السرّي للحزب الحرّ الدستوري الجديد. وأصبح رمز الصمود الوطني ضدّ سياسة القمع والارهاب التي شنّها المقيم العام جان دي هوتكلوك حال وصوله إلى الايالة التّونسيّة يوم 13 جانفي 1952. واشتدّ حقد غلاة الاستعمار على فرحات حشاد وبعثوا بالتعاون مع الادارة الاستعماريّة منظّمة إرهابيّة لتصفية الوطنيّين تدعى "اليد الحمراء" (La Main rouge) فأقدمت على اغتيال الزعيم فرحات حشّاد يوم 5 ديسمبر 1952 وهو في طريقه إلى نادي الاتحاد العام التّونسي للشغل. وقد أثار اغتياله موجة استياء عارمة في العالم كله وخاصة في المغرب الأقصى (مظاهرات داميّة) ويمكن الجزم بأنّ ملابسات اقتراف هذه الجريمة تتحمّلها كلّيا الادارة الاستعماريّة وبصفة أدق حكومة الجمهوريّة الرّابعة. فقد تواترت الشهادات لتأكيد ذلك من ضمنها على وجه الخصوص: مذكّرات المقيم العام جان دي هوتكلوك وشهادة الوزير الفرنسيّ الاشتراكي آلان سافاري.