المكتبات الخاصة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

كانت تونس منذ فجر تاريخها الاسلامي تعنى بتأسيس المكتبات وجمع المؤلفات فيها حتى يستفيد الناس منها ويرتووا من معينها. وكان الواعز الديني والدافع الانساني الأخلاقي يحثّ أهل الخير والعلم على إنشاء هذه المكتبات وحفظ المجلدات بها، تقريبا للمعرفة وتعبيدا لطرق الوصول إليها وسهولة الاستفادة من المصادر والمراجع. وكانت القيروان سبّاقة ورائدة، وكانت بها مكتبة عموميّة، فيها من نفائس الكتب ما لا يقدّر بمال، وأغلبها منسوخ على رقّ الغزال، ومنها المصاحف الجليلة المزركشة والمزوّقة بالذهب الوهّاج، منها مصحف فاطمة حاضنة باديس. و قد نقلت هذه الكتب سنة 1967 إلى دار الكتب الوطنيّة ثمّ إلى المعهد الاسلامي برقادة بالقيروان. وكانت تونس وجامعها الأعظم، جامع الزيتونة، عاصمة العلم والثقافة ومعالم المعرفة ومصدرها، ومراجع كلّ ذلك وأسانيدها في مؤلفاتها وكتبها ومكتباتها. ويحدّثنا عن مكتبة جامع الزيتونة المكتبة الأحمدية والمكتبة العبدلية الصادقية، المؤرّخ ابن أبي الضياف والمؤرّخ محمد بن الخوجة ويذكران أنّ المشير الأوّل أحمد باشا باي الحسيني جدّد هذه المكتبة الزيتونيّة سنة 1256هـ/1840م وخاطب في شأنها إمام الجامع العلامة إبراهيم الرياحي، ثمّ أضيفت إليها إضافات أخرى من بعض ذوي الفضل، وقد كانت خزائنها داخل بيت الصلاة على يمين المحراب وشماله. وهناك فهرس مطبوع سنة 1318هـ/1900م للمكتبتين الأحمدية والعبدليّة شارك في وضعه محمد بن الخوجة. وقد كان محمد بن الحاج عثمان الحشائشي الشريف المتوفّى سنة 1330هـ/1912م ناظرا متفقّدا لخزائن الجامع، وتولّى ترتيبها وأعدّ فهارسها. والحشائشي تولّى الكتابة الخاصة لمصطفى إبن اسماعيل، وله عدّة مؤلفات. ترجم له الجيلاني بن الحاج يحيىفي مقدمة كتاب الحشائشي تاريخ جامع الزيتونة كما ترجم له أحمد الطويلي في مقدمة كتاب الحشائشي:الدرّ الثمين في التعريف بأبي الحسن الشاذلي. وكانت الحاجة الملحّة تدفع بالناس إلى نسخ الكتب وبيعها والتمعّش من ذلك، زيادة على اكتساب الزّاد المعرفي العلمي. فكان الغني المتطلّع إلى العلم يبذل المال في سبيل التزوّد بالمؤلّفات وكسبها وضمّها إلى مكتبته. وكان الفقير يسعى إلى ذلك أيضا بالطرق الأخرى بالنسخ والاطلاع والبيع والاتّجار فيما ينسخ. وهكذا تكوّنت بالبلاد التونسية المكتبات الخاصّة وانتشرت في سائر أرجائها، وتحدّث بأمرها الناس. وجمع الكتب واقتناؤها هواية عند بعض الناس يبذلون في شأنها كلّ ما يملكون، حتى إنّ العالم الشيخ إبراهيم الجمني توفّي في سنة 1134هـ/1722م وقد غرقت السفينة بكتبه، ونجا هو من الغرق، وكان عائدا من مصر، فرجع وجلب غيرها مضحّيا بأعوام من عمره في سبيل ذلك. ونحن نذكر هنا بعض ما عرف واشتهر من هذه المكتبات المنتشرة في كلّ البلاد.

مكتبة الشيخ محمد المكي بن مصطفى بن عزوز[عدّل]

كان من علماء تونس الأبرار الأخيار، عرف بكثرة ما ألّف وما جمع من كتب. قال عنه الشيخ الفاضل بن عاشور في كتابه تراجم الأعلام: كان علما من أعلام العلم والأدب والمعرفة الواسعة وفذّا من الأفذاذ في معرفة الكتب والحرص على اقتنائها وجمعها. ومكتبته من أندر ما عرف التاريخ الحديث من الخزائن الخاصة وأعزّها وأنفسها في العالم الاسلامي. وترجم له محمد محفوظ في كتابه تراجم المؤلفين (ج 3، ص 382) ترجمة طويلة جامعة، عدّد فيها مؤلفاته وأحصاها، وبيّن المصادر التي استقى منها، وقال عنه: "كان مغرما باقتناء نفائس الكتب التي أغنى بها خزانته الموروثة عن أبيه وجدّه. وكان مغرما بنفائس الكتب التي تصله من الجزائر والجنوب التونسي، لا يستنكر البذل فيها حتى جمع مكتبة زاخرة بالنفائس والنوادر. ونقل معه إلى إستانبول خزانة كتبه، متكلّفا في ذلك المشاق وهناك تمكّن من توسيع مكتبته وإستانبول مقرّ لنفائس الكتب الواردة إليها من المشرق والمغرب. فهو مغرم دائما باقتناء الكتب أينما حلّ وارتحل".

مكتبة علي النوري[عدّل]

هو من العلماء الكبار، وهو في الوقت نفسه رجل من رجال الأعمال ورجال الاصلاح الساعين إلى الخير والإفادة. ولمّا أصبح له مال وثراء وتجارة وأملاك، اهتمّ بخزائن الكتب وأحدث مكتبته العامرة. قال عنه الوزير السرّاج في الحلل السّندسيّة: "وجمع كتبا عدّة لم يجمع أحد مثلها وأطلق يد شركائه في رحلاتهم أنّ يشتروا الكتب مهما كان الثمن". وقد ضمّت مكتبته إلى المكتبة الوطنية سنة 1389هـ/1969م. ترجم له محمد محفوظ في كتابه تراجم المؤلفين التونسيين (ج 5 ص 49 - 62) وأحصى مؤلفاته، وذكر أنّه توفّي في 12 ربيع الأنور 1118

  • 25 جوان 1706 حسبما حقّقه غالب المؤرّخين خلافا لما ذكره مقديش صاحب نزهة الأنظار.

مكتبة ابن الجزار[عدّل]

مكتبة لا تعدّ مجلداتها بالأرقام بل بالوزن والأطنان. كان الطبيب أحمد بن إبراهيم ابن الجزار القيرواني حكيما أديبا فيلسوفا مؤلّفا، ولد بالقيروان سنة 285هـ/859م حسبما ذكره الحكيم أحمد بن ميلاد الذي ترجم له وعدّد مؤلّفاته ووصفها، وذلك في كتابه الطب العربي. وكان ابن الجزار ثريّا، فكوّن مكتبة زاخرة بالمؤلّفات في سائر العلوم، كالنحو والتاريخ.ولمّا مات أحصوا ما خلّفه، فكان خمسة وعشرين قنطارا من الكتب، مع ملاحظة أنّ الكتب وقتها من الرق لا الورق، والقنطار في ذلك العصر خمسون رطلا.

مكتبة القاضي الجودي بالقيروان[عدّل]

ولد القاضي محمد الجودي بالقيروان سنة 1278هـ/1861م، وتخرّج في الزيتونة وتولّى التدريس بالقيروان، ثم تولّى خطة الافتاء ورئاسة الفتوى بها، له كتاب مخطوط عنوانه تاريخ قضاة القيروان من الفتح الاسلامي إلى حدود سنة 1352هـ/1933م. طبعته لاحقا مؤسسة "بيت الحكمة" بتونس. وفي غضون الحرب العالمية الأولى شارك في رحلة نظمتها الحكومة الفرنسية سنة 1337هـ/1917م على باخرة تحرسها خافرات حربيّة فرنسيّة، وكان الوفد متركّبا من الشاذلي العقبي شيخ المدينة والطبيب البشير الدنقزلي والصحفي الحاج علي المورالي والشيخ فرحات الجلاصي. وكان مغرما بالتراجم وله اطلاع واسع على كتب السير. وكانت له مكتبة كبيرة، جمع فيها النادر من المؤلفات، ولا يسمح بإعارة كتاب منها. طلب منه ابن أخته الشاعر الحبيب جاء وحده إعارته كتابا، فضنّ به عليه، فقال جاء وحده (طويل) :

فجد لي به وإلا فإنني

أناديك منذ اليوم يا خاليَ الجود

وقد أوقف مكتبته على جامع عقبة بن نافع بالقيروان. توفّي في سنة 1362هـ/1943م.

المكتبة البيرمية[عدّل]

من المحقّق أنّ أفراد عائلة بيرم كانت لهم عناية بانتقاء الكتب وجمعها وتأسيس المكتبات الخاصة حتى تكون بين أيديهم مرجعا. وهم رجال علم وتدريس وتأليف، وهم أساتذة بجامع الزيتونة، ورجال حقوق، ومشايخ إسلام.وأحسب أنّه من أهمّ هذه المكتبات الخاصة البيرمية، مكتبة شيخ الاسلام محمد بيرم الرابع التي ورثها عنه نجله محمد بيرم السلامي، ولا نعلم شيئا عن مصير هذه المكتبة. وكذلك مكتبة الشيخ محمد بيرم الخامس (1840 - 1881) صاحب كتاب صفوة الاعتبار والمصلح الكبير والوطني الذي كان عضدا للوزير خير الدين باشا. وهذه المكتبة ورثها عنه ابنه مصطفى بيرم المهاجر إلى القاهرة الذي كان يشغل خطّة سامية هناك في الميدان القضائي (مدير المحاكم الشرعية بالقاهرة). وقد أهدى مكتبته إلى جمعيّة قدماء المدرسة الصادقيّة، فأرسل إليه رئيسها حينها خير اللّه بن مصطفى رسالة شكر. وتولّى عمر بوحاجب نجل الشيخ سالم بوحاجب تسليم الكتب الهديّة إلى جمعية تونس بتكليف من مصطفى بيرم. وقد ضمّت هذه المكتبة البيرمية إلى المكتبة الوطنية مع بقية كتب جمعية القدماء لما تعطّل نشاطها بعد الاستقلال. وقائمة الكتب المهداة وعناوينها وهي حوالي تسعمائة كتاب مازالت محفوظة بخزائن الأرشيف الوطني في ملفّ جمعيّة قدماء تلاميذ المدرسة الصادقيّة. وهكذا كانت هذه المكتبة الخاصة مثالا لاستفادة المكتبات العموميّة بما يجمعه الأفراد.

مكتبة القروي[عدّل]

تعدّ هذه المكتبة من أغنى المكتبات الفرديّة موضوعا وعددا. كان له ولع شديد باقتناء الكتب، ومن عادته أنّ يطالع ما يجمع من المنشورات، ثم يعلّق بالطّرة بما يعنّ له من الملاحظات، حتى صارت ملاحظاته وتعليقاته هذه مرجعا يستند إليه الباحثون. كان يقطن بنهج المستيري الموصل من حوانيت عاشور إلى باب سويقة. وتوجد بمنزله حديقة جميلة، وهو أمر نادر في ديار تونس المدينة. وكانت خزائن كتبه في بيت متّسع جدا، يفتح على الحديقة. وكان يُرى أمام داره، جالسا بالحديقة على كرسيّ طويل في استرخاء، يطالع كتابا. ولما مات انتقلت مكتبته إلى المكتبة الوطنية.

مكتبة محمد التركي[عدّل]

محمد التركي مثقف متخرج في المدرسة الصادقية، يحسن اللّغتين العربية والفرنسيّة. تقلّب في الوظائف المخزنية الادارية حتى ارتقى إلى خطّة مدير التشريفات لعددٍ من البايات. عرف بحبّه الشديد لجمع الكتب واقتناء النادر منها حتى تكوّنت مكتبته بمحلّه قرب دار الباشا بتونس. وكانت مكتبته عامرة بمختلف المؤلّفات قديمها وحديثها في سائر أصناف العلم، خاصة التاريخ والأدب. وكان يُعنى بترتيبها وتبويبها ووضعها على رفوفها ويعيش حياته بين خزائنها. ولم يكن له نشاط ثقافي أو مشاركات علمية إلا الوظيفة والمكتبة، وإن شارك فهو يعرّف بالكتب. كان يحضر الجلسات العلميّة الأدبيّة ببيت الشيخ أحمد الجريدي، ويستمع إلى صديقه الشيخ العربي الكبادي، ويلبّي الدعوة لحضور الاجتماعات وسماع المحاضرات. عاش حتى الاستقلال، وأحسب أنّ مكتبته آلت إلى دار الكتب الوطنية. وكان محمد التركي يعدّ من أكبر العارفين بالكتب، فهو خبير بها، مطّلع على المترادف منها، شأنه في ذلك شأن حسن حسني عبد الوهاب والشاذلي النيفر. ولذلك خصّص بحوثه لبعض المؤلفات. انتدبته الحكومة التونسيّة ليمثّلها في مؤتمر الآداب والفنون العربية المنعقد بتونس في ديسمبر سنة 1931, فقدّم لهذا المؤتمر دراسة معمّقة عن كتاب في الجغرافيا للعالم الشيخ علي بن أحمد الصفاقسي، ويرجع تاريخ الكتاب إلى سنة 958هـ/1551م. ويقول المؤرّخ محمد محفوظ: "علي الشرفي العالم الجغرافي لا أعلم شيئا عن تاريخ حياته سوى أنّه ولد وعاش بصفاقس، وأنّه كان حيّا بعد سنة 958هـ/1551م، وله مجموعة من الخرائط على شكل أطلس على ثماني خرائط جغرافيّة". لكن نعثر في الرزنامة التونسية التي حرّرها سنة 1357هـ/1938م جماعة من الناشرين على صورة محمد التركي تحت عنوان: مدير التشريفات والمترجم السامي للحضرة العلية. ثمّ موجز صغير لحياته، وأنّه قدم دراسة طيّبة عن كتاب في علم الجغرافيا للعالم علي بن أحمد الشرفي وذلك في مؤتمر الآداب والفنون سنة 1931. ويظهر أنّ صاحب الترجمة هو الذي أمدّ أصحاب التقويم بالمعلومات، وأنّ الكتاب المعرّف به كان موجودا بمكتبته حينئذ. وفي هذه اللمحة إشارة إلى أنّه شارك أيضا في مؤتمر المستشرقين الثامن عشر، تحدّث فيه عمّا يتعلّق بالخطوط العربية، وقدّم كتابا نفيسا في خطّ ابن مقلة.

وشارك في المؤتمر الثامن بكلية العلوم العليا بالسلطنة المغربية الشريفة، وذلك سنة 1933، وفي هذا المؤتمر قدّم كتابا ذا بال في العلاقة الرسمية الدولية لملوك المغرب في القرون الوسطى. هذا وقد كانت البلاد تعجّ بالمكتبات الخاصة المنتشرة في سائر المدن، وهي مكتبات فرديّة لكنّها أصبحت عامّة: فهذه مكتبة المؤرّخ الكبير حسن حسني عبد الوهاب الذي قضّى عمره في جمعها من مختلف المدن والأقطار، تأخذ الان مكانها في جناح خاص بها من المكتبة الوطنيّة. وهذه المكتبة العاشورية تفتح أبوابها لكل طالب علم، وهي مكتبة جليلة الشأن اختار مؤلفاتها أعلام كبار، لهم تاريخ مجيد في القضاء والتشريع والفتوى. وهذه المكتبة النيفرية جمعت كلّ ما اقتناه الشيخ محمد الصادق النيفر وابناه أحمد المهدي والشاذلي، وهي تفتح أبوابها في وجه كلّ راغب متطلّع إلى المعرفة. وهذه مكتبة الشيخ أحمد الجريدي تأخذ مكانها في الميدان الثقافي بصفاقس، يستفيد من مدخراتها المطالعون والباحثون. وقد أفادنا الحبيب السلامي أنها تحتوي على كثير من أمهات الكتب ونفائسها. وقد جاءت السنّة الحميدة التي عمّ أمرها، وهي أن يهدي صاحب المكتبة على رفوفها وما بخزائنها إلى مؤسّسة عامّة ثقافيّة حتى يستفيد منها طلاب العلم بالجهة.

فهذه السيدة أرملة إبراهيم عبد الباقي تهدي مكتبة كلية الحقوق بتونس كلّ ما خلّفه زوجها من كتب عانى الأمرّين في جمعها واقتنائها واصطفائها. وهذا الأديب الكبير العروسي المطوي يهدي مكتبته إلى دار الثقافة بالمطوية. وهذا الجيلاني بن الحاج يحيى يهدي مكتبته إلى دار الثقافة بميدون جربة. وهذا الأديب أبو القاسم كرو يهدي حصاد عمره وما جناه من كتبه واقتناه من أثمن المؤلّفات إلى مكتبة كلية الاداب بمنوبة.وهذه السّنة الحميدة التي تفشت بين أصحاب المكتبات الفردية تدخل في باب الصّدقة الجارية والمنفعة العامة الدائمة، فلا ينقطع عمل صاحبها ولا ينسى ذكره خاصة وهو يبثّ العلم في الصدور.