محمد العابد مزالي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
محمد العابد مزالي

[1906 - 1997م]

يعتبر محمد العابد مزالي الذي توفي يوم 12 نوفمبر 1997 واحدا من نبغاء قدماء تلامذة المدرسة الصادقيّة، وعلما بارزا من أعلام التربية والتعليم والفكر والأدب في بلادنا. ولد سنة 1906 بالمنستير حيث زاول دراسته الابتدائيّة ثم التحق بالمدرسة الصادقيّة بتونس في أكتوبر 1919 ليتابع بها دراسته الثانويّة. فاسترعى انتباه أساتذته وأقرانه بجديّته وحسن سلوكه وإقباله على الدراسة وقدرته على الاستيعاب. فكان بذلك محلّ إعجاب من مدرّسي جميع الموادّ الذين توقّعوا له مستقبلا زاهرا. ومن أشهر زملائه في الدراسة بالمدرسة الصادقية: سليمان بن سليمان والصادق مازيغ وجلولي فارس والصادق بوصفّارة.

وبعد حصوله على شهادة ختم الدراسة بالصادقية بامتياز في دورة جوان 1925، واصل دراسته الثانوية بمعهد كارنو إلى أن أحرز الجزء الثاني من شهادة الباكالوريا في دورة جوان 1927، وإثر ذلك تحوّل إلى باريس لمزاولة دراسته العليا بكلية الآداب، فأحرز الإجازة في اللّغة والآداب العربيّة. ثم تعلّقت همّته بالمشاركة في مناظرة التبريز في التخصّص نفسه، فنجح فيها بامتياز في دورة جوان 1936، وكان المبرّز التونسي الثاني في اللغة والآداب العربية بعد محمد عطية. وعندئذ عاد محمد العابد مزالي إلى أرض الوطن، فعيّنته إدارة العلوم والمعارف أستاذ اللغة والآداب العربية بالمدرسة الصادقيّة التي تخرّج فيها قبل ذلك بعشر سنوات، وقد عرف في أثناء مباشرته للتدريس بالجدّ والاستقامة والانضباط والمثابرة على العمل. وبعد مدّة قليلة نقل إلى معهد كارنو بتونس، حيث تولّى تدريس اللغة والآداب العربيّة إلى أواخر السنة الدراسيّة 1943 - 1944.

وفي هذه الفترة بالذات، أي قبل انتهاء الحرب العالميّة الثانية، عيّنت حكومة الحماية العابد مزالي مديرا عاما مساعدا بإدارة التعليم العمومي تطبيقا لسياسة إشراك التونسيّين في إدارة شؤون بلادهم. وفي الوقت نفسه عيّن محمد عطيّة مديرا للمدرسة الصادقيّة. لكنّ العابد مزالي لم يقبل المهمّة المقترحة عليه إلاّ بعد استشارة أصدقائه من قادة الحركة الوطنيّة الذين لم يروا مانعا في ذلك، مادام تعيينه في هذه الخطّة يخدم المصلحة الوطنيّة. فشمّر عن ساعد الجدّ، باذلا قصارى جهده في دعم تدريس اللغة العربيّة والعلوم الاسلاميّة بالمدارس الابتدائيّة والمعاهد الثانويّة التي يؤمّها التلامذة التونسيّون. فأنشأ في ثلاثة معاهد ثانويّة بكلّ من تونس العاصمة وسوسة وصفاقس شعبا جديدة سمّيت في أوّل الأمر "الأقسام التونسيّة" ثمّ أصبحت تدعى "الأقسام الصادقيّة". ولمّا نجحت هذه التجربة وأقبل على "الأقسام الصادقية" عدد أكبر فأكبر من التلامذة التونسيّين، عُمّمت في كلّ المدارس والمعاهد الثانويّة، بما في ذلك معهد كارنو الذي كان قبل ذلك قلعة من قلاع الاستعمار.

وقد تحدّث العابد مزالي عن هذه التجربة الرائدة في حديث خصّ به مجلّة "المباحث" التي نشرت نصّه في عددها الصادر في أكتوبر 1944, وقد جاء فيه بالخصوص ما يلي:"شرعت إدارة العلوم والمعارف في النظر في مؤسّسات التعليم لجعلها مطابقة لتطوّر البلاد. من ذلك أنّها أحدثت أقساما تونسيّة في كلّ من المدرسة العلويّة والمعهد الثانوي بسوسة والمعهد الثانوي بصفاقس، يكون التعليم فيها مشابها للتعليم بالمدرسة الصادقيّة بحيث إنّ التلامذة الذين تمكّنهم معارفهم العربية من مزاولة الدروس بهذه الأقسام، يدرسون اللّغة الفرنسيّة والموادّ الأخرى مثل غيرهم من تلامذة المعاهد الثانويّة، ويمتازون عليهم بما يتلقّونه من تعلّم اللغة العربيّة وحذقها، إذ جعلت الادارة لتعليم اللغة العربية وآدابها سبع ساعات في الأسبوع، مع إضافة ساعتين للتاريخ الإسلامي والفقه والتوحيد". واعتنى العابد مزالي فضلا عن ذلك اعتناء بالغا بتعليم البنت المسلمة في مختلف درجات التعليم. وقد قال في هذا الموضوع ضمن حديث نشرته مجلّة "المباحث" ما يلي: "كان تعليم البنت المسلمة خاضعا لأحكام القرار الصادر في سنة 1911، وقد مضى عليه الآن ثلث قرن. وكان هذا التعليم يكتسي صبغة صناعيّة أكثر منها تهذيبيّة أو تثقيفيّة. بل هناك من التلميذات من يتعلّمن صناعة الزربيّة وغيرها، مع حذق مبادئ اللغة الفرنسيّة، وهنّ باقيات على جهلهنّ للغتهنّ ودينهنّ. وبهذا التغيير الذي أدخل على برامج التعليم أصبحت البنت المسلمة تتعلّم، إلى جانب اللّغة الفرنسيّة والموادّ العلميّة، اللغة العربيّة والتربية الاسلاميّة، ممّا يؤهّلها للحصول على الشهادة الابتدائيّة ومزاولة دراستها في سلك التعليم الثانوي بمدرسة نهج الباشا. وأنشئت أيضا في مدرسة ترشيح المعلّمات بتونس أقسام خاصّة لتخريج المعلّمات التونسيّات القادرات على تدريس اللغة العربيّة".

نشاطه في المجال الثقافي[عدّل]

وإلى جانب مهامّه التربويّة والإداريّة، قام العابد مزالي بدور مهم، منذ أواخر الثلاثينات، في تنشيط الحياة الثقافيّة بتونس، من خلال أحاديثه الأدبيّة بالإذاعة التونسيّة، ومحاضرات قيّمة على منابر الجمعيات الأدبيّة والثقافيّة، وبحوثه ودراساته المنشورة في الصحف والمجلاّت. فقد ألقى قبيل الحرب العالميّة الثانية سلسلة من المحاضرات على أمواج الإذاعة التونسيّة التي أحدثتها الحكومة سنة 1938 بإدارة عثمان الكعّاك. ومن المواضيع التي طرقها: "ابن خلدون وعصره" و"ابن المقفّع وعصره"، و"أمثال العرب". ثمّ توقّف عن إلقاء المحاضرات أثناء الحرب. ثم استأنف نشاطه في صائفة سنة 1943. فكانت مواضيع السلسلة الثانية من محاضراته تدور حول الثقافة العربيّة الاسلاميّة وعناصر تكوّنها، والنواميس الطبيعيّة الخاضعة لها، من حيث قيامها بالتوحيد بين المشرق والمغرب، وامتزاجها بمختلف ثقافات حوض البحر الأبيض المتوسط.

ومن ناحية أخرى، أعدّ محمد العابد مزالي دراسات كثيرة عن الأدب القديم، ونشر كتابه الذي يحمل عنوان: "الفكر العربي في مفترق السبل". وانتهى إلى درس المشاكلّ الثقافيّة في الوقت الحاضر من خلال المحاضرة التي ألقاها بعنوان: "طه حسين بين الشرق والغرب". كما ساهم في الاحتفال بألفيّة أبي العلاء المعرّي في تونس. وألقى محاضرة بعنوان: "المعرّي ومنزلته في الاداب العالميّة". وقد نشرت نصّها مجلّة "الثّريا" في العدد الخاصّ بألفيّة المعرّي، الصادر بتونس في أفريل 1943. واسترعى انتباه رجال الفكر والأدب بالدراسة التي نشرها في مجلّة "المباحث" (العدد 25 - أفريل 1946) حول قضيّة كتابة اللغة العربيّة. وقد ردّ فيها بلهجة حادّة على الدكتور عبد العزيز فهمي، عضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الذي دعا إلى تعويض الحروف العربيّة في الكتابة بالحروف اللاّتينيّة، كما فعلت تركيا في عهد مصطفى كمال.

نشاطه بعد الاستقلال[عدّل]

إثر دخول اتّفاقيات الاستقلال الداخلي حيّز التطبيق في سبتمبر 1955، اضطلع العابد مزالي بمهامّ كاتب عام وزارة المعارف التي عيّن على رأسها جلّولي فارس. وقد ساهم مساهمة فعّالة في إعادة تنظيم هذه الوزارة الجديدة التي حلّت محلّ إدارة العلوم والمعارف. وكان قد عيّن قبل ذلك خبيرا في شؤون التربية والتعليم لدى الوفد الوزاري التونسي المكلّف بإجراء مفاوضات مع الحكومة الفرنسية في باريس حول اتفاقيات الحكم الذّاتي المشار إليها أعلاه، التي أبرمت يوم 3 جوان 1955. ولمّا عيّن الأمين الشابي وزيرا للتربية القوميّة في وزارة الاستقلال الأولى التي شكّلها الرئيس الحبيب بورقيبة في أفريل 1956، حافظ العابد مزالي على منصب الكاتب العام للوزارة، وكان من أعضاد الوزير الجديد، الذين ساهموا في وضع اللّمسات الأولى لاصلاح نظام التعليم. وفي مطلع الستّينات قرّر محمد العابد مزالي من تلقاء نفسه التخلّي، آخر سنة 1959، عن مهامّه في وزارة التربيّة القوميّة التي عيّن على رأسها محمود المسعدي في سنة 1958. وبعد مدّة قليلة عيّنته منظّمة اليونسكو خبيرا دوليا مختصّا في شؤون التربية والتعليم،وبعد انتهاء مهمته لدى هذه المنظمة الدوليّةاستقر سنة 1963 بسويسرا حيث مكث 23 سنة تمكن خلالها من التفرغ للمطالعة والبحث والتأليف . وأهمّ ما أنتجه في هذه الفترة الأخيرة من حياته المليئة بجليل الأعمال:

1) تحقيق "كتاب العلم" الذي ألّفه الحارث بن أسد المحاسبي (المتوفّى سنة 243هـ/857م). وقد أصدرت النصّ المحقّق الدار التونسية للنشر سنة 1975.

2) تأليف رواية صدرت في سنة 1978 بعنوان "على مرقص الأشباح".

وقد قال في شأنها الناقد جان فونتان ما يلي:

"هذه الرواية تتميّز أوّلا بصفاء اللغة والأسلوب : فالنّص ينساب من منبعه في تواتر ثنائي وثلاثي يذكّرنا بكتابة طه حسين النثريّة." أمّا الخاصيّة الثانية اللاّفتة للنظر فهي التقنية الروائيّة، إذ أنّ منهج الكاتب واضح، ونشعر أنّه متمرّس بهذا الفنّ" (الأدب التونسي المعاصر، ص 63).

3) تأليف رواية ثانية "كانوا ستة على مفترق الطريق" نشرت سنة 1988 4) أودع مؤلفا رابعا باللغة الفرنسية (Les lauriers sont coupés ) لدى دار سيراس للنشر سنة 1992. لم ينشر بعد. وهي مذكراته في فترة تولية مهامه في إدارة التربية من سنة 19436 إلى ستة 1959.

وعاد إلى تونس سنة 1987 حيث وضع اليد الأخيرة في كتاب "المدخل إلى تاريخ التصوف وماهيته" وهو مخطوط في 15 جزء ورواية ثالثة عنونها "أريكا" ، كتها مخطوطة لم يقع نشرها.

وقبل وفاة العابد مزالي أسندت إليه وزارة التربية وسام الاستحقاق التربوي تقديرا لجهوده المبذولة في ميدان التربية والتعليم، كما كرّمته جمعيّة قدماء الصادقيّة في الحفل البهيج الذي أقامته بناديها يوم 29 جوان 1996، اعترافا له بالجميل، لما أدّاه من جليل الخدمات إلى المدرسة الصادقيّة بوجه خاصّ، وإلى التعليم التونسي بوجه عامّ.