بيت الحكمة الافريقي بالقيروان

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

ظن بعض من وقف على ترجمة حياة أبي اليسر الشيباني أن " بيت الحكمة" إنّما كان يحلّ مكانا بين معاهد القيروان، إذ كان من منشآت الأمراء الأغالبة، ولم ينتبه إلى أن أفراد هذه الأسرة لم يكن مقامهم في عاصمة إفريقية الكبرى، وإنما كان في العبّاسية من أول ولاية إبراهيم الأوّل (سنة 184هـ/800 م) ثم سكنوا بعدها رقّادة منذ أن انتقل إليها إبراهيم الأصغر واتّخذها مقرّ الإمارة (سنة 264هـ/877 - 878 م) وذلك قبل سقوط الدولة باثنين وثلاثين عاما.

وكان هذا الأمير هو الذي أسس "بيت الحكمة" ولم يكن موجودا قبل تسلّمه مقاليد الحكم، كما كان مولعا أيّما ولع بالعلوم الرياضيّة والحكمة، ومهتما بالفلسفة وما يتبعها من الفنون. وهو ما حمله على إنشاء هذه الدار. وجلب العلماء المتخصّصين والكتّاب الماهرين والأطبّاء والمهندسين إليها من الممالك الشرقيّة أي من العراق والشام ومصر. امتدّت أيّام إبراهيم الثاني في الحكم أكثر من ربع قرن، فكان هذا العصر - أواخر القرن الثالث - هو العصر الذي نضجت فيه العلوم واتخذت طابعا عربيّا خالصا وتلوّنت بصبغته في أرجاء العالم العربي المتمدّن، كما نهضت فيه العلوم بأنواعها إلى الأوج العالي الذي ميّزها به الطابع العربي عن غيرها من الحضارات. ومثل هذه المنشآت العلميّة لم تكن لتظهر وتزدهر إلاّ في حاشية الملوك والأمراء ذوي الشأن وتحت حمايتهم وبعنايتهم المباشرة، أو في قصور كبار رجال الدولة الأثرياء ليتسنّى لها أن تعيش وتدوم وتقوم بالرسالة التي انشئت من شأنها، وذلك في سائر الأصقاع الاسلاميّة. لهذه الأسباب كلّها لم يكن إنشاء " بيت الحكمة" إلا في دائرة الملك وتحت رعايته وصيانته، أي في مدينة رقّادة، منزل الأمراء من بني الأغلب وبجوار منازلهم ودواوين دولتهم. ثم إنا لم نعثر على ذكر بيت الحكمة الافريقي التونسيّ إلا في مدّة إبراهيم الأصغر ومن جاء بعده من الأمراء. أمّا قبل ذلك فلا خبر له على الاطلاق، وقاعدة الملك كانت وقتئذ في رقّادة إلى آخر أيّام الأغالبة ومستهلّ الدولة الفاطميّة.

وكان " بيت الحكمة" يحلّ مكانا بأحد القصرين: إما "الصّحن" أو "الفتح"، وهما من محدثات الأمير إبراهيم الثاني. وقد يكون من الصّعب أيضا الجزم بما اشتملت عليه هذه الدّار من النظم وأقسام ومحتويات، والظنّ الغالب أنها كانت تشابه سميّتها العباسية التي كانت وقتئذ في بغداد مع احترام النسبة بين الخلافة والإمارة، وغير خفيّ أن المؤسّسة الافريقية أقيمت على غرارها في وضعها وتقاليدها. والمتوقّع أنّ مؤسّسة رقّادة كانت تتركّب من مجالس فسيحة، يقدر عددها بأربعة أو خمسة متصل بعضها ببعض، وفي أحدها مكتبة منضّدة في خزائن من خشب، كل خزانة منها تحتوي على عدد من الكتب المختارة المنسوخة على الرقّ أو الكاغذ، مع الاشارة هنا إلى قلّة استعمال ورق الكاغذ آنذاك لحداثة ظهوره بإفريقية في العصر الذي نتكلّم عليه من جهة، وإلى ارتفاع ثمنه من جهة أخرى.

أمّا موضوعات هذه المجلّدات وما تشمل من العلوم، فقد كانت تتعلّق بسائر العلوم الدينيّة الاسلاميّة وغير الدينيّة ككتب الجدل والخلاف، ممّا كان له رواج ملحوظ في ذلك الوقت شرقًا وغربَا، كما تشتمل على المصنّفات المترجمة من اللّغات الأعجميّة كاليونانية والسريانية والفارسية والهندية (السنسكريتية) ممّا ترجم في الشام وفي العراق وفي الحيرة في آخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي، لا سيما أيّام هارون الرشيد والمأمون والمعتصم والمتوكّل، ممّا له مساس بالفلسفة والمنطق والجغرافية والفلك والتنجيم والطب والنبات والحساب والهندسة وما إلى ذلك.

وكانت هذه العلوم الوضعيّة الحديثة الظهور في العالم العربي لا ينظر إليها بعين الرضا من الفقهاء والمحدّثين، عدا ما له اتّصال مباشر بالموضوعات الشرعيّة كالحساب والهندسة. فكان علماء السّنة أصحاب المدرسة القيروانية ينظرون إليها بتأفّف، وشيء من الاشمئزاز، ولذا لم نرها تدرس في مساجد القيروان، وإنما استأثر "بيت الحكمة" في رقّادة بالعناية بها وبدراستها ونشرها بين الراغبين فيها وهم كثيرون، ومن هنا نشأ شيء من التنافر والتباعد بين مدينتي القيروان ورقّادة، وهو ما حمل الكثير من أصحاب الطبقات ومؤلفي التراجم من القيروانيين على إهمال أنباء "بيت الحكمة" والتعريف بمن كان يجلس به ويتردّد عليه من نبغاء معاصريهم.

وكان بيت الأمير إبراهيم الثاني يرسل في كل عام وأحيانا مرّتين في السنة سفارة إلى بغداد لتجديد ولائه للخلافة العباسيّة، فكان يكلّف هذه البعثة بمهمّة أخرى وهي اقتناء نفائس ما يوجد في بغداد ممّا لا نظير له في أنحاء المغرب. ولهذا الغرض كان يزوّد رئيس سفارته بالمال الوافر لاستجلاب علماء متخصّصين في سائر العلوم من العراق ومن مصر، يتّفق معهم بما يرضيهم، وكذا لشراء نسخ الكتب العلميّة، لا سيما مؤلّفات الحكمة من فلك وتنجيم لولوع الأمير بها خاصّة. وليس من السهل أن نعرف الان أسماء الكتب التي اشتمل عليها "بيت الحكمة" وعددها، ولا يتيسّر تقديرها ولو على سبيل التقريب، وغاية ما نعلمه أن هذه المكتبة كانت من الأهميّة بمكان، وهي التي ورثها الفاطميّون عند استيلائهم على إفريقية الأغلبية (سنة 296هـ/909 م).

وقد أضاف الفاطميّون إليها فيما بعد الشيء الكثير ممّا استنسخوه أو ممّا أُهْدي إليهم، وفي نهاية الأمر نقلوها جملة إلى القاهرة المعزّية حين امتلكوا البلاد المصريّة (سنة 362هـ 973 م). أمّا مقاعد "بيت الحكمة" فالظاهر أنّ قاعاته كانت مفروشة بأنواع من الحصر واللّبود الجميلة من الصنع المحلّي، تتخلّلها طنافس (زرابي) مخصّصة لجلوس وجوه المطالعين وكبار الباحثين كالمدرّسين ورجال الدولة. ولا يخفى أنّ إفريقيّة التونسيّة كانت آنذاك مشهورة بنسيج الزرابي الوفيرة حتى إنه كان يرفع منها جانب عظيم إلى الخلفاء العباسيّين من جملة الخراج السنوي، وإذا ما حضر الأمير مجلسا من مجالس الدروس والمناظرة نصب له سرير (كرسي) يتربّع عليه لينصت إلى المناقشات الدائرة، حسبما يأتي ذكره بعد. وبجانب خزائن الكتب كان يوجد في أركان بعض القاعات دولاب أو دواليب تحفظ فيها الآلات الفلكيّة لحساب سير الكواكب ورصدها: كالأسطرلابات والمقنطرات والجيوب وما يشبهها من أدوات البحث وتحقيق الأوفاق، وضبط الأطوال والعروض، ممّا يستعمل في علمي الفلك والتنجيم. ولا خفاء أن التنجيم أي الرغبة في استكشاف المغيّبات كان مما استهوى قديما ميول الرؤساء والكبراء، واستحوذ على شهوة ملوك المسلمين وغير المسلمين بالسواء .كان "بيت الحكمة" في آن واحد مجلسا للدراسة والمطالعة، ومحلاّ لنسخ الكتب ومقابلتها بالأصول المعتمدة، وكان مرخّصا للنّساخ أن يحلّوا في أماكن معدّة لهم سواء كانوا ينسخون لأنفسهم أو لغيرهم بالأجرة، كما سُمح للمطالعين بمراجعة المؤلّفات النادرة في أوقات معينة، وكذلك استعمال الالات الفلكية التي لا توجد إلاّ هناك. ولا شكّ في أنّ هواة المخطوطات كانوا يأتون من القيروان ومن غيرها لمطالعة الأصول الصحيحة المحفوظة في رقّادة ومراجعتها، ويقيمون الأيّام الطويلة في سبيل نسخها وتحقيقها. حكى ابن الوكيل المؤرّخ القيرواني،قال: "أبطأ أبو القاسم الوزّان عن شيخه عبد اللّه المكفوف النحوي أيّاما كثيرة ثم أتاه، فلامه على تخلّفه عنه تلك المدّة، وقال له: يا أبا القاسم، نحن كنّا سبب ما أنت فيه من العلم، وقد علمت كيف كنت أخصّك وأوثرك على غيرك، فلما صرت إلى هذه الحال قطعتنا؟ فقال له: أصلحك اللّه ! اعذر، فقد كنت في شغل. قال: وما هو؟ قال الوزّان: لي اليوم أكثر من شهر أختلف إلى رقّادة إلى قصر الأمير زيادة اللّه الأخير أشكل له كتبا وأصلحها. فقال المكفوف: سررتني واللّه. قال: بماذا سررتك؟ قال: بما يكون من برّه ومكافأته على اختلافك إليه وتصحيحك لكتبه".

وكان يشرف على نظام الدار قيّمون مرتّبون، مهمتهم السهر على حراسة ما فيها، ومناولة المطالعين ما يحتاجون إليه من الكتب المطلوبة، ويرأس هؤلاء القيمين ناظر يطلق عليه اسم صاحب "بيت الحكمة". وأول من تولى هذه الخطة أيام إبراهيم الثاني أبو اليسر إبراهيم الشيباني المشهور بالرياضي.

وتتبادر إلى الذهن جملة من الأسئلة: هل اعتنى آخر أمراء الأغالبة ومن كان يعيش في كنفهم من العلماء الرياضيين بترجمة بعض المؤلّفات الأجنبية إلى العربية، كما حصل في بغداد في عصر الرشيد وأبنائه من بعده حينما اهتمّوا بنقل مصنّفات الاغريق وغيرهم في مختلف العلوم؟ وإذا وقع ذلك بإفريقية في الزمان الذي نتكلّم عليه فعن أي لغة نقلوا؟ وما هي أنواع الفنون التي نقلوها إلى لغتهم؟ ومن هم المترجمون الذين باشروا هذه المهمّة، وما كان جنسهم؟ قد يكون من الصعب الجواب عن هذه الأسئلة، إذ أن المراجع التاريخية لم تزوّدنا بشيء من المعلومات عن هذه الناحية، أضف إلى ذلك ضياع جلّ المصادر المحلّية القديمة لأخبار إفريقية التي يتوقّع أن تكشف لنا الغطاء عن بعض المشكلات العارضة ومن جملتها معرفة مآثر المتقدّمين. تثبت المصادر التّاريخية التي بين أيدينا أنّ الأمراء الثلاثة من بني الأغلب: (إبراهيم الأصغر، وابنه عبد اللّه الثاني، وزيادة اللّه الأخير) كانوا يحسنون اللسان اللاّتيني المؤخّر (La langue romane) الدّارج في ذلك العصر في الممالك الافرنجيّة الغربيّة، والرائج استعماله أيضا بين جانب من سكّان إفريقية التونسيّة الذين تمسّكوا منذ الفتح العربي بمعتقدهم المسيحي. وقد حذق أولئك الأمراء الثلاثة هذا اللسان حينما كانوا مباشرين ولاية صقلّية، وما منهم إلاّ وقد أقام مدّة طويلة بتلك الجزيرة ومارس فيها لغة الشعب. فلا يستغرب - والحال تلك - من اهتمامهم بالمصنّفات المؤلفة باللّغة اللاتينيّة، ولا يستبع، بل المتوقّع، أن إبراهيم الأصغر - وهو من هو، علمًا وذكاءً - قد تعلّقت همّته بترجمة بعض المؤلّفات اللاتينية المناسبة لذوقه وميوله، لا سيما أنه كان يوجد في حاشيته جماعة وافرة العدد من الموالي الصقلّيين المعروفين بالدراية والحنكة، مثل الفتى سوادة النصراني والفتى بلاّغ ناظر دار ضرب المسكوكات، وشُكر وغيرهم، فإنّهم كانوا في صغرهم مسيحيّين، وجلبوا من جزيرة صقليّة، ثم أسلموا وكلّفوا ببعض شؤون الحكومة ما عدا الوظائف الحربيّة التي لا يتولاّها إلاّ من ينتسب إلى البيت الأغلبي، جريًا على القاعدة التي سنّتها دولة بني أميّة العربيّة ودأبت على اتّباعها مدة خلافتها. والظنّ الغالب أنّ الأمير إبراهيم الثاني تخيّر بعض المصنّفات اللاتينيّة في العلوم الرياضيّة التي اطّلع عليها، وكلّف بترجمتها بعض الرهبان الصقليين العارفين باللغة العربية، وألحق بهم بعض علماء اللغة من الافريقيين، وعهد إليهم بمهمّة تنقيح عباراتهم وسبكها في قالب عربي صحيح، رغبة منه في تعميم فائدتها ونشرها بين الناس.

وممّا يؤيّد هذا الظنّ ما ذكره حسن الوزان (Léon l'Africain) في رحلته المشهورة من أنه رأى في بلاد إفريقية (تونس) ترجمة كتاب بلينوس (Plinus) الروماني في علم النبات باللغة العربيّة، ونعلم يقينا أن هذا الكتاب المفيد جدّا قَدْ نقل عنه العشّابون المغاربة كثيرا فيما بعد، لم يُترجم بالأندلس في مدّة عبد الرحمان الثالث ولا في أيام ابنه الحكم الثاني كما يتبادر إلى الذهن أوّل وهلة. إنّ ما ترجم من أمّهات الكتب الأعجميّة في ممالك الشرق الاسلامي إنما نقل عن اللغات التي كان لها رواج بالمشرق في زمن الفتوح العربيّة: كاليوناني والسرياني والفارسي والهندي، ولم نقف البتة على اسم كتاب واحد ترجم من اللسان اللاتيني إذ لم يكن منتشرا وقتئذ هناك.أما بلاد المغرب، من الأندلس إلى آخر برقة، فإن اللّغة السائدة فيها سواء في الشؤون الرسميّة أو في رسوم الديانة هي اللاتينية خاصّة، ولذا اضطرّ كثير من العرب الأفارقة إلى تعلّمها وإتقانها تكلّما وكتابة، لما يفرضه عليهم امتزاجهم بالعناصر المحليّة ومجاورتهم المستمرّة لبقايا الرومان والمسيحيّين المقيمين في بلادهم، سواء كانوا في الشمال الافريقي أو في الأندلس أو في صقلّية. ولهذا السبب نفسه نُقل كلّ ما ترجم من المؤلفات الأعجمية في الأصقاع المغربية عن اللاتيني لا غير، فلا غرابة - والحال تلك - أن يهتمّ مؤسّس "بيت الحكمة" الافريقي وخلفاؤه بنقل ما كان سهل التناول لديهم مع الاستعانة في التحقيق ببعض القساوسة الصقلّيين الخاضعين لسلطانهم، ولا ننسى أنّ الثقافة عند الافرنج في تلك العهود كانت مقصورة على الرهبان دون سواهم. وفي المكتبة العتيقة المحفوظة في جامع عقبة بالقيروان توجد نسخة من ترجمة عربية لكتاب "تاريخ الأمم القديمة" نسب وضعه إلى القديس المسيحي يرونيم الروماني (Saint Gérome) المتوفّى سنة 420 م. ولا ثانية لهذه النسخة فيما علمنا، وقد رسم على هوامشها بعض كلمات بالحروف اللاتينية منها تسمية المؤلّف (أي يرونيم).

وجملة القول: أنّ مساعي أمراء الأغالبة في توثيق العلاقات بين الشرق والغرب، وفي ميدان الثقافة ونشر العرفان في ممتلكاتهم بالخصوص، كان مجهودا عظيم الشأن، قويّ الأساس والبنيان، قلّما تأتّى مثله لغيرهم من الأسر المغربيّة في عصرهم. ومن دواعي الأسف الشديد أن يجتهد الفاطميّون، خلفاؤهم في الملك، في طمس معالمهم، وإخفاء أخبارهم ومزاياهم، آملين من جرّاء ذلك ألاّ يبقى إلا صيت الفاطميين، وألاّ يكون الفضل إلا لهم. وقد بلغ بهم الاسراف أن أزالوا أسماء بني الأغلب المنقوشة على المعالم والرسوم وعوّضوها بألقابهم ونسبوها إلى أنفسهم.

ولولا الجهود الجبّارة والمساعي المتتابعة التي بذلتها الأسرة الأغلبية طوال مدّتها، بعزيمة صادقة وإخلاص نادر، لتكوّن دولة عربية شامخة ذات شوكة قويّة ونظم إداريّة متينة في أصولها وفروعها، ولا سيما تفرّدها بأسطول عتيد لم ير العالم الاسلامي مثيله في البحر المتوسط، لما تسنّى لعبيد اللّه المهدي وأبنائه الفاطميين من بعده إنشاء إمبراطوريّة ضخمة امتدّ سلطانها من الغرب إلى الشرق في مدّة وجيزة جدا، وما ظهر من السؤدد والهيمنة لتلك الامبراطورية إنما كان نتيجة لما ورثته من مؤسسات سالفيها الأغالبة وفتوحاتهم.انقرضت دولة بني الأغلب التميميّين وامتلك عبيد الله المهدي إفريقية، وحلّ هو ورجاله في قصور رقّادة ودورها، وقد اتّخذ داعيه الكبير أبو عبد اللّه الصنعاني "بيت الحكمة" محلاّ لمجالس الدعوة الاسماعليّة ومناظرة علماء السّنة القيروانيّين. ومن حسن الحظّ أن نقل إلينا الاخباريّون صورة واقعيّة لمجالس الجدل الدائرة بين الطرفين، وهي نحو الأربعين مجلسا تقع مرّة في كلّ أسبوع، يستدعى لها مشاهير المتكلّمين من أهل القيروان ويدور جدالها حول مفهوم بعض النصوص الدينية في العقائد، وخصوصا في مسألة الامامة والتفضيل، يعارض كل فريق بما أوتي من بيان وحجة. وكان لشيخ السنّة المتكلّم القيرواني المشهور أبي عثمان سعيد بن الحدّاد الظهور الكامل في الردّ على مفهوم الاسماعيليّة في تفسير آيات معيّنة من القرآن وبعض الأحاديث النبويّة وفي سيرة الرسول وعمل أصحابه. ثمّ تعطّلت هذه المناقشات وتوقّفت المناظرات بعد قتل الداعي الصنعاني ولم تعد تجتمع إلى حين انتقل عبيد اللّه إلى سكنى مدينة المهدية التي أنشأها (سنة 308هـ/920م) وهو آخر عهد لازدهار رقّادة ومعالمها، ومنها " بيت الحكمة".

ولا شكّ في أنّ المناقشات التي كانت دائرة في "بيت الحكمة" التونسي بين دعاة الاسماعيلية وعلماء السنّة تحوّلت بعد فتح مصر إلى القاهرة المعزيّة أيّام المعزّ لدين اللّه الفاطمي وخلفائه، ولا سيما في مدّة ابنه العزيز باللّه وحفيده الحاكم بأمر اللّه، حيث أنشؤوا "دار العلم" للغرض المتقدّم، أي لبثّ الدعوة ونشر أصولها في صفوف النخب بالمصرية بوساطة دعاتهم المدرّبين. ولم يكن تأسيس هذه الدار الجديدة إلا لهذا الغرض وليس لتنشيط العلوم ونشر الثقافة، كما هو المقصود الأول من بيت الحكمة البغدادي وسميّه التونسي. ويؤيّد ما ذهبنا إليه أن صلاح الدين الأيّوبي لمّا افتكّ ملك مصر من الفاطميّين وعزم على تعطيل المذهب الاسماعيلي أمر بهدم "دار العلوم" الفاطميّة وأنشأ مكانها مدرسة للشّافعية أي لعلوم السّنة خاصّة، وقد أطال المقريزي في بسط الكلام في ذلك في "خططه". إنّ "دار العلم" المصرية غير خزانة العزيز باللّه للكتب، ولا هي خزانة المخطوطات التي كانت توجد داخل القصور كما توهّمه بعض المؤرّخين، بل إن "دار العلم" كانت تحلّ مكانا خاصّا يقع بجوار القصر الغربي من قصور الفاطميّين بالقاهرة المعزية، نبّهنا على ذلك لئلا يحصل التباس لمن يبحث عن هذه المؤسّسات.

صناعة الكاغذ[عدّل]

"الكاغذ" كلمة صينية تسرّبت إلى اللغة العربيّة حينما أخذ العرب صناعة الورق عن سكان الصين في أواسط القرن الثاني للهجرة وقلّدوا عمله عنهم في خبر طويل ليس هذا محلّه، وقد حافظ أهل المغرب عموما على التسمية الصينية، أما في الممالك الاسلامية الشرقية فصار ينعت باسم الورق. ولا ريب في أنّ ورق الكاغذ كان يصنع في القيروان وفي رقّادة، نقلت إليهما طريقة عمله من بغداد ومن مدينة الفسطاط في القرن الثالث، ومن القيروان تحوّلت إلى بلّرمة (Palermo) عاصمة صقلية الأغلبية، ثم تسرّبت صناعته إلى جنوبي بلاد إيطاليا مثل مدينة ساليرنو (Salerno) وخصوصا فابريانو (Fabricano) ومنها إلى إمارات جرمانيا في قلب أوروبا. وهو ما ساعد على اختراع فنّ الطباعة في ألمانيا بعد حين. ومن المسلّم به أنّه لولا وجود ورق الكاغذ لما تيسّر السبيل لهذا الاختراع الذي كان سببا أصليّا في نهضة الممالك الأوروبية. لقد ظهر الكاغذ العربي في صقلية وفي جنوب إيطاليا قبل أن يجتاز جبال البرانس (البرينات) ويدخل فرنسا عن طريق المغرب الأقصى (مدينة سبته) ومن الأندلس (مدينة شاطبة Xativa) بمائة عام على أقلّ تقدير. وفي المكتبة العتيقة بجامع القيروان نماذج قيّمة من هذا الكاغذ القديم. وهو ما يسمح بالجزم بأنّه صُنع في القرن الثالث للهجرة في القيروان أو في رقّادة أو في المهديّة، أشرنا إلى هذا من باب الاستطراد وإتماما للفائدة.

وقد اشتهر غير واحد من التونسيّين في صناعة ورق الكاغذ طيلة ثلاثة قرون - الثالث والرابع والخامسه - ونسب إليها جماعة كبيرة كانوا ينعتون بالورّاقين، منهم إبراهيم بن سالم ويعرف بالورّاق الافريقي فإنه وُلد بمدينة تونس ودرس في القيروان، وأتقن صناعة الوراقة حتى تلقّب بها، وباشر مهنته للأمراء الأغالبة في رقّادة، وبعد سقوط دولتهم تحوّل إلى الأندلس واستقرّ بقرطبة واتّصل بالخليفة الحكم الثاني المستنصر باللّه، فألحقه بحاشيته ورتّب له جراية مناسبة، وكان الورّاق شيخا صالحا ذا همّة عالية وفيه شمم معروف، قيل إنّ الأمير الحكم أراد امتحانه فهدّده بقطع جرايته، فكتب إليه إبراهيم برقعة تحمل بيتين (طويل) :


على الاقلال نفسي نزاهة

وتأنس بالبلوى وتقوى مع الفقر

فمن كان يخشى صرف دهر فإنني

أمنت بفضل اللّه من نوب الدهر

فاسترضاه الحكم وزاد في جرايته.

وتوفي الوراق عن سن عالية في القرن الرابع.

ومنهم محمد بن يوسف المشهور بالورّاق الذي تحوّل بعد إتقانه للعلوم والفنون في إفريقية إلى بلاط الأندلس، وانخرط في سلك العلماء المؤلفين لحاشية الحكم الثاني بقرطبة، وإليه ألّف جملة كتب في جغرافية بلاد المغرب، مع اشتغاله بالوراقة الرفيعة. وممّا تقدّم يتضح أن "بيت الحكمة" الافريقي إنما أنشأه أمراء بني الأغلب بنية نشر الثقافة في غير المادة الدينية التي كانت دراستها موقوفة على جامع عقبة وعلى كثير من مساجد القيروان وغير القيروان وفي دور الفقهاء والمحدّثين.

نهاية "بيت الحكمة" الأغلبي[عدّل]

وبمجرّد سقوط دولة الأغالبة سكنت حركة "بيت الحكمة" في رقّادة، وخفي صوته وتعطّلت رسالته الثقافية وذلك بسبب محاولة بني عبيد الفاطميّين حمل السكّان على اتّباع نحلتهم الاسماعيليّة. فبعد أن عقدت المجالس الجدليّة التي دارت في أرجائه عقب حلول عبيد اللّه المهدي، كما أسلفنا، نفر سكّان القيروان المتمسّكون أشدّ التمسّك بمذاهب السنّة وخاصّة بآراء أهل المدينة أي مذهب مالك بن أنس وأصحابه، نفروا من الاختلاط برجال الدولة الجديدة، وهجروا رقّادة، وقاطعوا كلّ من يقصدها ويلجأ إليها إعلانا منهم على تعقّلهم بأذيال السّنة وتمسّكهم الشديد بها ورفض ما سواها من النحل والنزعات. ومن ذلك الحين تعطّلت المهمّة التي أنشئ من أجلها "بيت الحكمة" نعني تثقيف نخبة صالحة من الباحثين في العلوم الفلسفيّة والرياضيّات، ومن المؤسف أن لم يعوّض فيما بعد بغيره. وقد عفى عبيد اللّه حينما حوّل مقرّ دولته إلى مدينة المهدية، التي بناها على ساحل البحر، عن معالم رقّادة ومعاهدها، ومن ضمنها " بيت الحكمة" فصار أثرا بعد عين، ولم يبق سوى رنين صداه. وهكذا تنتهي رسالة "بيت الحكمة" التونسي بعد أربعين عاما من تأسيسه، غير أن مأثرته الثقافية لم تندثر بعد، بل إن الكثير من روّاده وخرّيجيه تفرّقوا في أطراف البلاد وحملوا شعلته إلى الافاق المغربية البعيدة مثل مدينة فاس وخصوصا مدينة قرطبة بالأندلس حيث زها شعاعه في حاشية الأمويّين، فأشرق أيّما إشراق في دولة عبد الرحمان الناصر وابنه الحكم، مصداقا لقول اللّه تعالى:"فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاَءً، وَ أَمّا مَا يَنْفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ في الأَرْض(الرعد:71).

مزايا "بيت الحكمة"[عدّل]

من المزايا الكبرى ل" بيت الحكمة|بيت الحكمة" الأغلبي أنّه أوجد النواة الأساسيّة للمدرسة الطبّية التي عرفت في تاريخ العلوم "بالمدرسة القيروانيّة" التي انتشر تأثيرها مدّة ثلاثة قرون متوالية، ومنها انبثقت حركة التعليم والتأليف في المادّة الطبّية في عموم بلاد المغرب، ثم انتقلت كتبها ونتائج أبحاثها إلى جنوب إيطاليا حيث أنشأ الملوك النرمنديّون دير منتي كاسّينو: (Mont Cassino). وكان أوّل مشرف على إدارته وسيره قسّيس مسيحي يُسَمّى قسطنطين الإفريقي: (Constantino Africano) وقد وُلد بقرطاجنّة تونس سنة 604هـ (1015م) وقرأ بالقيروان في زمن المعزّ بن باديس الصنهاجي. وأتقن اللغة العربية وتتلمذ لمشاهير الأطبّاء، واطّلع على جانب وافر من مؤلّفات الطّب، ثم سافر إلى مصر على عهد الفاطمّيين وأكمل معرفته في العلوم الرياضيّة، ثم تحوّل إلى صقلّية حيث احتضنه ملكها النرمندي وأوكل إليه رئاسة رهبان الدير المذكور، فتصدّى قسطنطين لدراسة كتب الطّب الافريقية وترجمتها إلى اللسان اللاتيني واعتمد عليها هو ورفقاؤه لنشر علم الطّب ومناهجه في جامعة ساليرنو (Salerno) ومن هناك تسرّبت تلك التعاليم وترجمات كتب الافريقيين وغيرهم إلى جامعات نابولي (Napoli) وبولونيا (Bologna) وبادوفا (Padova) ثم أخذت طريقها إلى غيرها من المعاهد العلميّة ومدارسها في شمال إيطاليا وإمارات جرمانيا. فكان ذلك من أقوى الأسباب لانطلاق النهضة العلميّة في قلب ممالك أوروبا وظهور نشاطها في القرون الوسطى. وقد ترجم القسيس قسطنطين الافريقي المتوفّى سنة 480هـ (1087م) جملة من كتب الطب الافريقية، نخصّ بالذكر منها: كتاب المالنخوليا: (Melancolia) للطبيب إسحاق بن عمران في وصف أمراض الوسواس، ويعرف أيضا بالمرض السوداوي، وطريقة معالجته، نقله قسطنطين إلى اللاتينية في ترجمة ضعيفة جدّا. وكتاب الحمّيات (Liber de febribus)، وكتاب البول (Liber de urinus) وكتاب العناصر (Liber de elementis) وكتاب الحدود والرسوم (Liber de definitionibus) ومعها سبع مقالات أخرى من وضع الطبيب إسحاق بن سليمان الاسرائيلي القيرواني، وطبعت الترجمة اللاتينية في مدينة ليون سنة 1515م بعنوان (Opera Isaci). وكتاب "زاد المسافر وقوت الحاضر" للطبيب أحمد بن الجزّار القيرواني، وهو من أشهر تآليفه الكثيرة، وأسمى قسطنطين ترجمته (Peregrinantis Viaticum).

كما ترجم أيضا مصنّفات إفريقية أخرى في غير الطّب، مثل كتاب "البارع" في الفلك والنجوم من وضع الكاتب علي ابن أبي الرجال الوزير الافريقي، وغير ذلك مما يطول تعداده. وهذا المقدار شاهد على ما كان من الأثر العميق للمدرسة الطبية القيروانية، وليدة "بيت الحكمة" الأغلبي، على البعث الظاهر في النهضة الثقافية في بلاد الافرنج في القرون الوسطى وبعدها.

مجالس المناظرة[عدّل]

يذكر مؤلّفو التراجم من الافريقيين أن الأغالبة كانوا يعقدون مجالس علمية للمناظرة بطريقة الجدل والكلام، يلتئم الاجتماع في قصور رقّادة وقد يستدعي الأمير إلى حضورها مشاهير العلماء من القيروان، من فقهاء السّنة المقلّدين لاراء أهل المدينة، مذهب مالك، ومن المتمسكين بآراء أهل العراق، مذهب أبي حنيفة، ومن المعتزلين المعدودين وغيرهم. وقد نقل صاحب "رياض النفوس" صورة مجلس مناظرة عقده الأمير إبراهيم الثاني، للخوض في مسألة "خلق القرآن". ولا يخفى أن هذه المسألة - أو المحنة كما يسمّونها - كانت أثيرت بادئ بدء ببغداد في خلافة المأمون ابن الرشيد، وصارت الشغل الشاغل لدى علماء الاسلام مدّة غير قصيرة إذ امتدّت إلى أيّام المعتصم والواثق باللّه، كما هو مبسوط في التاريخ. ومن بغداد انتقلت إلى الآفاق الاسلامية فمن الشام إلى مصر وأثارت من الخلاف والنزاع بين المتكلّمين ما هو معروف مدوّن، ثم ظهرت في المغرب وتلقّفها الفقهاء والمتكلّمون والمعتزلة كل حسب نزعته، وتدخّل في لجاجها الأمراء والكبراء، وتفشّى النقاش فيها إلى أن نزل إلى الأوساط الشّعبيّة وذهبت فيها أفكار "العامة" كل مذهب، ولم ينطفئ لهيبها إلا في خلافة المتوكل على اللّه العباسي. ولعلّ أحسن أنموذج لتلك المناقشات ما رواه أبو بكر المالكي عند التعريف بأبي عثمان سعيد الحدّاد، كبير "المناضلين" عن السنّة، قال المالكي: "وكانت له مجالس كثيرة مع أهل العراق (يعني الأحناف) القائلين بخلق القرآن من أهل القيروان". وأنا أذكر منها مجلسا واحدا ليستبين الناظر في هذا الفصل موضع سعيد بن الحداد من العلم وقيامه بالحجّة لأهل الحق (يعني أهل السنة) ، فمن ذلك مجلسه مع الأمير إبراهيم (الثاني). قال سعيد - رحمه اللّه - : دخلت على إبراهيم وكان حاضرا للمجلس عبد اللّه بن هارون ابن الكوفي، وهو قاضيه يومئذ، وعبد اللّه ابن الأشج، وجماعة كبيرة، فلما دخلت إليه أومأ إليّ، ولم أقبّل له يدا ولا لغيره قط، وأدناني حتى لصقت إلى سريره، ثم دار الحديث عن "النافية" وهم القائلون بخلق القرآن، فقال: أيها الأمير، كثر التشبيه وفشا بالقيروان، وقال قائلون كذا، وقال آخرون كذا. فقال أبو عثمان سعيد الحداد: صرّح باسم النافي، وكنّيت أنا - إجلالا للهّ عزّ وجل - عن تشنيع أهل التعطيل على أن أولي السنّة، وعلمت أنه إنما أراد أن يحرّك بذلك الأمير إلى أمر يتّصل به السبيل إلى كيد السنة وإماتتها، فقلت له: أيها الأمير! إن ما استفاض من الخبر وانتشر دخل على البكر في خدرها، والبدوي في بدوه، فكيف بمن حضر، فليشر - أيها الأمير - إلى رجل. فقال: ذلك من جميع البرايا، فإن لم يفعل فاعلم مقامه. فقال له الأمير: اذكر واحدا. قال ابن الأشج: سوف أطلب ذلك. قال أبو عثمان فقلت له:" طلبناك بذكر ما سلف إلى أن ضرب بطلبه في التوقيف. قال الأمير: مناديا ينادي أن لا يتكلم أحد في الكلام. قال سعيد: فقلت: "أيها الأمير: الناس هادون، ساكنون، فمتى ناديت حركت ساكنا" قال: ثمّ جرى ذكر تكلّم اللّه تعالى لموسى عليه السلام، فقلت: ممّن سمع موسى الكلام؟ قال ابن الأشج: من الشجرة، قلت: من ورقها أو من لحائها؟ قال أبو عثمان: وواللّه ما درى أحد من أهل المجلس مرادي فيما ظهر لي، إلاّ الأمير، فبدر فقال لابن الأشج: اُسكت ويلك! - خوفا أن يجيب فيجب عليه الكفر - قيل لأبي عثمان:وما أردت - أصلحك اللّه - بهذا الكلام؟ فقال: لأنه كل من صرح فقال بأنه من الشجرة على الحقيقة كفر، وزعم أن اللّه لم يكلم موسى وأنه لم يفضله بكلامه. قال أبو عثمان: ثم حوّل إليّ الأمير وجهه وقال لي: أقول لك كما قلت لابن طالب، لا أقول مخلوقا ولا غير مخلوق. قال أبو عثمان فقلت له: لم؟ قال: لأن اللّه تعالى قال كلامي، ولم يقل مخلوقا ولا غير مخلوق. فقلت له: فإن قال غيرك مثلما قلت في علم اللهّ؟ فقال: إن اللّه لم يقل مخلوقا ولا غير مخلوق، وسلك في العلم مسلكك في الكلام. قال أبو عثمان: ولم؟ قال الأمير: لأنه لو كان مخلوقا قبل أي يخلق العلم لكان جاهلا، لأن ضد العلم الجهل. فقلت له: فكذلك لا يقال في الكلام مخلوق لأنه لو كان مخلوقا لكان موصوفا قبل خلقه بضده وهو الخرس، وما لزم في العلم لزم مثله في الكلام. ودليل آخر: إن العلم لا يعدو إحدى منزلتين، إما أن يكون صفة فعل كان من اللّه عز وجلّ، فمن شك في خلق ذلك فهو كافر، ومن شك فلم يدر ذلك مخلوق أو غير مخلوق فهو كافر، والكلام لا يعدو هاتين المنزلتين، فالواقف شاهد على نفسه بأنه تارك للقول بالحق حتما. قال أبو عثمان: فتبسم الأمير وبين لي أنه فهم ما كلمته به، وابن الأشج يكرّر القول ويبديه، يريد القول بالوقوف. فأقبل علّي الأمير إبراهيم وقال لي: أقول لك ما كنت أقول لابن طالب: أنت لا تضطرني إلى مذهبك، وأنا أضطرك إلى مذهبي. قال أبو عثمان: ثم أخذ ابن الأشج في مدح أهل العراق (أي الأحناف) ويفضّلهم على أهل الحجاز (أي المالكية) فقال: لقد قال أسد بن الفرات: سألت مالكا فأجابني، وسألته عن أخرى فأجابني، ثم سألته عن مسألة أخرى فأجابني، فقال لي رجل كان واقفا على رأس مالك، رضي اللّه عنه: "إن أردت التشقيق فعليك بالعراق!" فقلت: أيها الأمير هذا (يعني ابن الأشج) وأصحابه يزعمون أن أبا بكر الصديق - رضوان اللّه عليه - إذا انفرد بخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم لم تقم به حجة، وأن عمر إذا انفرد بخبر لم تقم به حجة، وأن عثمان وعليا كذلك إذا انفردا بخبر، وهاهو ذا يريد أن يقيم الحجة في تفضيل أهل العراق على أهل المدينة بخبر رجل لا يعرف من هو من جميع البرايا. "قال أبو عثمان: فما نطق ابن الأشج ولا أصحابه بكلمة غير قوله: ويحك! كأنه يريد دون هذا، على تعظيم الأمير". أي لجلالة مقام الأمير.

وممّا تقدم يتبيّن ما كان يظهره الأمراء من بني الأغلب من الحرّية الكاملة في المناظرات والمناقشات مثلما اتّصف به الخلفاء العباسيون في مجالسهم العلمية. هذا النصّ ينهض دليلا على سرعة انتقال المجادلات الكلامية والخلافات المذهبية من دار الخلافة ببغداد إلى النوادي التونسية على بعد ما بينهما من المسافة. ويؤيد ذلك حقّا ما أثبته الخشني في "طبقاته" عندما ترجم لأحد متكلمي القيروان المعاصرين له، وقد مرّ اسمه في الخبر السالف، قال الخشني: "وعبد اللّه بن الأشج كانت له رحلة ودخل العراق، وكان من أهل المناظرة والجدل، سمعت من يذكر عنه أنه لما قدم من بغداد دخل عليه أحداث القيروان للسلام فقال لهم: ما الذي يتكلّم فيه أهل القيروان اليوم؟ فقيل له: في الأسماء والصفات، فقال: إنما تركت الناس بالعراق يتواقفون في مسألتين: مسألة القدر، ومسألة الوعد والوعيد". وفي ترجمة أبي إسحاق إبراهيم المعروف بالعمشاء وهو من المتكلمين المعدودين أيضا ممن قرأ في العراق كصاحبه المتقدم يقول الخشني: "ومن أعلام رجال الكلام في القيروان: أبو إسحاق ويعرف بالعمشاء، يذهب إلى خلق القرآن ويناظر فيه المناظرة الشديدة، وله في ذلك داعية، وله لمّة وأصحاب وأحزاب في ذلك، يجالسونه ويختلفون إليه، صحب ابن عبدون القاضي وغيره من الرجال العراقيين، وهو اليوم على هذه الحال" (سنة 310هـ 922م). إنّ هذين الخبرين يدلاّن على انتشار طريقة المجادلات الكلامية في الوسط الافريقي، في رقّادة والقيروان، مثلما كان جاريا وقتئذ في العراق وفي سواه من الأقطار العربيّة الشرقيّة، إذ أن الثقافة الشائعة فيها جميعا إنما كانت ثقافة واحدة، مستمدّة من أصل واحد في تعاليمها ومظاهرها وتقاليدها.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • العبيدي محمد المختار، الحياة الأدبية بالقيروان في العصر الأغلبي، دار سحنون للنشر ومركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، تونس،1994.