نسيم شمامة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1805 - 1873م]

ولد نسيم في بداية القرن التّاسع عشر بصفاقس وتحديدا سنة 1805، في أسرة يهوديّة تونسيّة. وثبت أنه كان تاجرا بسيطا للأقمشة قبل التحاقه بخدمة واحد من أفراد عائلة ابن عيّاد. وإذا كان فعلا تاجرا بسيطا من الناحية المالية أو من جهة الاستثمار في الحقل التجاري، فإنّه لم يكن كذلك على مستوى الفطنة والنّباهة وبناء العلاقات المثمرة. ويكفي أن ينتدبه تاجر من أثرى تجّار الإيالة ويلحقه بأتباعه حتّى نتحقّق من مقدرة الرّجل في الميدان. ويبدو أنّ العمل في السّمسرة ووكالة الأعمال لدى محمود بن عيّاد قد أبرز المواهب التّجارية لنسيم. فحظي بثقة مؤجّره الذّي عهد إليه بمسك كلّ حساباته الخاصّة. وإلى جانب عمله أجيرا، دخل سنة 1845 الميدان التّجاري بتمويل ذاتي، إذ تكشف بعض الوثائق أنّ له علاقات تجارية مع مورّدين فرنسيّين.

لم يكسبه العمل في دائرة محمود بن عيّاد الخبرة في إدارة الأموال والأعمال فحسب. بل أطلعه على مزايا خدمة أصحاب النّفوذ وما يمكن أن يجنيه من ورائهم، كما حفّز لديه هذا العمل طموح الارتقاء متأثّرا بشخصيّة مؤجّره وثرائه ونفوذه. وفعلا بدأت تتحقّق لنسيم رفعة الشّأن والحظوة بتعيينه سنة1849 م قابض أموال الدّولة، خلافا لما ذهبت إليه عدّة دراسات من أنّ تعيينه في هذا المنصب كان سنة1859 م. بل إنّ هذه السّنة هي تاريخ تعيينه رئيسا على القباضة ومديرا للماليّة برتبة أمير لواء، بعد أن نُصّب رئيسا على سائر اليهود في جميع ما يخصّهم. وكانت الانطلاقة الفعليّة لنسيم في عالم المال وتوطيد علاقته بأصحاب السّلطة والنّفوذ بعد تقلّده لهذا المنصب الذّي استطاع أن يجمع بينه وبين خدمته لابن عيّاد من جهة ويتابع مناشطه التّجارية الخاصّة من جهة أخرى. وهي أعمال ذات مسؤوليّات جسام، تتطلّب منه قدرة ذهنيّة وبدنيّة عالية حتّى يتمكّن من إنجازها والتّوفيق فيها بما يرضي رؤساءه. أمكن لنسيم تبعا لهذه المكانة التّي نزّلته مرتبة عليا، أن يمتّع بعض أفراد عائلته بحظوة خدمة الدّولة. فبعد تعيين ناتان شمامة قابضا لمجابي منطقة الأعراض كما سبق أن أشرنا، نصّب ابنه شلومو (قائد الفضّة) ليشرف على مداخيل هذه المؤسّسة الحديثة التّي أطلق عليها اسم دار الفضّة. ويتابع ما تستلزمه متطلّبات الدّولة من هذه المادّة لصنع الأوسمة والنّياشين وتحلية الأزياء الرّسمية للباي والوزراء وآل البيت وأعوان المخزن. وكما هو بيّن من هذه الخدمات، اختصّ أفراد عائلة شمامة بالاشراف على أهمّ الوظائف الماليّة للمخزن، لكن دون أن يكون لهذا الاشراف تأثير في مناشطهم الخاصّة في الحقلين التّجاري والمالي. بل إنّ حظوظهم قويت واستثماراتهم توسّعت بإشراف إسرائيل بن شلومو رغم حداثة سنّه على مصاريف القصر، مع عمّه يوسف بن ناتان. وهو ميدان صعب ودقيق لارتباطه مباشرة بالغذاء اليومي للباي وآل بيته وحاشيته لا يقدر على التكفّل به إلاّ مَنْ توفّرت لديه سيولة نقديّة مهمّة لمجابهة كثرة الطّلبات وارتفاع أثمانها. ويبدو أنّ النّجاح الذّي حققه نسيم من مسكه للحسابات الماليّة قد أغرى مصطفى خزندار بأن يتّخذه عونا من أعوانه ويقرّبه إليه. وهنا اقترنت المصالح الذّاتية لهذين الشخصين لتفرز علاقة قامت في بدايتها على ولاء المرؤوس لرئيسه، ثمّ أسّست لتحالف متين بينهما.

انبنى هذا التّحالف على انهيار مكانة محمود بن عيّاد. فوجّهت كلّ التّهم إليه. وحُمّل وحده مسؤوليّة انتهاك أموال الدّولة. وتبعا لهذا تسنّى لخزندار إبعاد الشّبهات عنه بإعانة نسيم شمامة الذّي سخّر خبرته وطاعته لقضاء مآرب سيّده الجديد. وتسنّى له هو أيضا أن "يرث" جزءا من وظائف ابن عيّاد التّجارية. وهو ما تكشف عنه بعض الوثائق.

وسواء "ورّث" بعض الموارد المخزنيّة من مؤجّره القديم، أو أحيلت إليه، فلا يعدّ هذا إشكالا في حدّ ذاته، ما دام نسيم هو المؤهّل الوحيد لمتابعة هذه الموارد بحكم إشرافه عليها سابقا. لكن الاشكال يكمن في كيفيّة الاحتفاظ بها لسنوات عدّة إلى حدّ احتكارها. فهل تأتّى هذا الاحتكار من فراغ السّاحة التّجارية للايالة من مموّلين كبار؟ أم هل هو نتيجة لنفوذ نسيم وسلطته في هذا الوسط؟. في الحقيقة تجتمع كلّ هذه الأسباب مع علاقته بأصحاب القرار النّهائي في الميدان لتركّز سطوته على هذه الموارد وهيمنته عليها. وإذا تمعّنا في نوعيّة هذه الموارد لاحظنا أنّ نشاطها يرتبط بقطاع التّجارة الخارجيّة إلى جانب ارتباطه ببضائع استهلاكية. وفي هذا التوجّه اختيار حدّدته خبرته في الميدان. وإلاّ لما عزف عن توجيه استثماراته صوب اللّزم الريفيّة الكثيرة التّي خلّفها محمود بن عيّاد.

وقد تماشت سلطة الاشراف مع اختياره هذا. وقبلته بتجديدها لعقود التزاماته المرّة تلو المرّة، حتّى اصبح محتكر جباية مكوسها على وجه شرعي. فلزمة الخشب والحديد والدّهن والأدوية التّي افتتح بها نشاطه سنة 1846، منحت له مرّة أولى ثمّ جدّدت له بعد ذلك لمدّة عامين ومرّة ثانية لمدّة أربع سنوات ثمّ مرّة ثالثة لمدّة عشر سنوات بالسّعر نفسه الذّي انطلقت منه في السّنة الأولى من التزامها والمحدّد بمبلغ 50.000 ريال عن العام الواحد. وقد ضمن في أداء هذا المبلغ مؤجّره محمود بن عيّاد آنذاك.

قادته هذه الخبرة إلى أن يضيف لزمة الخشب وتوابعها إلى مواد أوليّة أخرى من النّوعيّة نفسها تتماشى معها. وهي الاشراف على لزمة الجير والياجور. فأصبح تبعا لهذا النّشاط أوّل مزوّد للدّولة ولمقاولي البناء بهذه البضائع التّي لها من الرّواج السّهل ما يسهم في إعادة طلبها من جديد. فسوقها في أوج ازدهاره خاصّة أنّ وجهتها معيّنة. ولم يخرج إطار استعمالها عن مشروعات أحمد باشا باي. كما توصّل إلى متابعة مكوس التّجارة الخارجيّة بأكبر موانئ الايالة، بتمكّنه من لزمة قمرق السّلعة وتوابعه، أي تحصيل الأداءات على البضائع العابرة لمينائي حلق الوادي والبحيرة تصديرا وتوريدا، لمدّة تسع عشرة سنة على التّوالي. وللمدّة نفسها عُهدت له المهمّة ذاتها في ميناء صفاقس، ولمدّة سبع عشرة سنة بميناء وسوسة.

أتاح له هذا الاشراف الطويل على الموانئ حريّة النّشاط داخلها وتكثيف استثماراته بها دون أدنى مراقبة، ما دام المأمور الأوّل عليها ومن حقّه أن يحظى بامتيازات هذا القطاع حتّى ولو كانت بطرق لم تجر بها العادة. فمسؤولياته ومركزه لدى السّلطة كانا يسمحان له بأن يشرّع لنفسه ما لا يشرّعه لغيره من التجّار. فقد توصّل في غضون بعض الأشهر من سنة 1271هـ إلى تصدير كلّ كميّات الزّيت التّي أعدّت للغرض، وفق ستّة أوامر سراح تضمّنت 321 ألف مطر من الزّيت تجاوزت قيمتها المليون ريال (1.056.000 ريال). وتبعا لهذه الكميّة المرتفعة ومبالغها الضّخمة عدّ المصدّر الأوّل بالسّاحة التّجارية للإيالة. وحصل نسيم في التّاريخ نفسه على لزم الخلّ والمسكرات والشّريحة بأهمّ حواضر البلاد (الحاضرة، وسوسة، والمنستير) لمدّة لم تقلّ عن خمس عشرة سنة، محافظا على الأسعار نفسها التّي اقتناها بها أوّل مرّة. ولم تقتصر مرافق استثماراته على هذه المناشط فحسب. بل أضاف إليها سلعا استهلاكية أخرى لها قيمتها في أسواق الايالة مثل الملح والفحم والصّابون الطري بالحاضرة. وسواء كانت كلّ هذه الاستثمارات له أو لخزندار أو للاثنين معا، فإنّ حجمها ومدّة العمل بها يوحيان بأنّ لنسيم سلطة ونفوذا مارسهما في هذه الحقول التّجارية وغنم منها واستطاع في سنوات قليلة تجميع ثروة طائلة أقرض منها الدّولة 19 مليون ريال لمجابهة عجزها المالي وهو ما زاد في علوّ مرتبته لدى السّلطة.

دار نسيم شمامة تونس العاصمة

سمحت له كثرة أمواله كذلك من اقتناء الكثير من الدّور الفخمة ذات المساحات الشاسعة خاصّة بعد قرار السّماح لليهود والأجانب بكسب أملاك عقاريّة، وظّف بعضها للكراء وبعضها الاخر استغلّه لاقامته واستجمامه. وقد بلغ عدد هذه العقارات 65 عقارا، توزّعت بين الحاضرة وحلق الوادي والمرسى وأريانة ومنوبة والمحمّدية. لم يتمتّع نسيم طويلا بالمجد الذّي بلغه والعزّ الذّي حقّقه. فقد ساوره خوف مرعب على شخصه وماله بانتفاضة علي بن غذاهم التّي أدّت إلى إفشال التجربة الاصلاحية وتعليق العمل بالقوانين الدستورية سنة 1864. وقد طالب المنتفضون بعزل الوزير مصطفى خزندار لتسبّبه في الاضطرابات الماليّة والانحطاط الذّي آلت إليه البلاد من جرّاء سرقاته وسطوته على الموارد المخزنيّة، كما أشير بأصابع الاتهام إلى تورّط نسيم في إفلاس الخزينة وتحريضه للباي على مضاعفة مبلغ مال الإعانة من 36 إلى 72 ريالا. وهو السّبب المباشر لاندلاع فتيل الانتفاضة. سافر نسيم إلى فرنسا حاملا معه كلّ أمواله وأمتعته ما عدا ما لا ينقل. واستقرّ بباريس في حيّ من أحيائها الفخمة، مستقدما معه عشرة من أقربائه، وقد احتضنهم جميعا بمقرّ إقامته.

رأت الدّولة في مدّة غياب نسيم أنّ من مصلحتها إسناد منصب رئيس القبّاض ومدير الماليّة إلى شلومو بدلا عن عمّه. لكن فشلت في اختيارها هذا. ذلك أنّ شلومو لم ير بدّا من استغلال منصبه وعلاقته بالسّلطة وبأعوان عمّه ووكلائه ليحوّل لحسابه الخاصّ بين 1864 و1866 مبلغا ماليا قدّر بأكثر من عشرة ملايين ريال من أموال الدّولة ثم فرّ إلى جزيرة كورفو حيث استقرّ نهائيّا. لم يعرف عن نسيم على امتداد فترة إقامته بباريس التّي تواصلت إلى سنة 1870 استثمار في المجال التّجاري أو المالي ويبدو أنّه عزف عن العمل وخيّر التّقاعد محافظا على ثروته وأملاكه هناك. وقد حفّزه هذا العزوف عن المناشط التّجارية إلى نسج علاقات على مستوى مغاير، فقد ركّز أعماله التطوّعية في نشر الكتب العبرية ودعمها بأمواله الخاصّة، كما تمكّن من إقامة علاقات مع رجال الدّين اليهود بباريس وبالقدس.

حرّر وصيته في 22 سبتمبر 1868، بخطّ يده، مركّزا اهتمامه فيها على أنّه في أتمّ مداركه العقليّة، وقد تضمّنت تقسيمه لثروته إلى ثلاثة أجزاء أوصى بها إلى من جمعه بهم حبّ شديد:

  • الجزء الأول لعزيزة حفيدة ناتان شمامة وابنها نسيم بدرجة أولى، إذ عاد لهما النّصيب الأوفر من الارث.
  • والجزء الثّاني من ثروته مَنّ به على أقربائه وبعض مساعديه ونخبة من رجال الدّين اليهود بتونس وباريس والقدس.
  • أمّا الجزء الأخير فقد أوصى به لإقامة مشروعات خيريّة. ووزّعه على مدن احتفظت بذاكرة الشّتات اليهودي وهي القدس والخليل وصفد وطبرية. وكأنّه أراد بعلاقاته ووصيّته أن يبلغ العالميّة.

حصل على الجنسيّة الإيطالية بعد استقراره بليفورنو حيث توفيّ في 24 جانفي 1873 عن سنّ ناهزت 68 عاما. ونقش على قبره عبارات تمجّد رفعته ومكانته وتشيد بكرمه وسخائه وأعماله الخيريّة. وكشفت وصيّته عن الحجم الحقيقي لثروته التّي أغرت أصحاب السّلطة بالإيالة. فرفعت قضيّة للمطالبة باسترداد الأموال التّي كان قد اختلسها. وفي الحقيقة ليست قضيّة في هذا الغرض، بقدر ما هي قضيّة للحصول على نصيب من الميراث. ورغم كثرة المصاريف التّي أنفقها الوكلاء في القضيّة وعلى رأسهم الفريق حسين ورغم المحاولات المتكرّرة من السّلطة لايجاد صيغ من التّفاهم والحلول المشتركة مع الورثة للتنازل عن حقّهم في الميراث، فإنّ القضيّة قد طالت ولم تحسم نهائيّا إلاّ بعد انتصاب الحماية، حين وجد حلّ توفيقيّ على يد القضاء الفرنسي استفاد منه خاصّة الورثة الشّرعيّون. ولم تحطّ هذه القضيّة من شخصيّة نسيم شمامة بل دعمتها وأصبحت مسيرته بمثابة الأسطورة.