يوسف خوجة - صاحب الطابع

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1763 - 1815م]

ولد في أوائل النصف الثاني من القرن الثامن عشر في منطقة البغدان، وهي مقاطعة من مقاطعات الامبراطورية العثمانية تقع في منطقة القوقاز وتعرف اليوم باسم ملدافيا. فاختطفه ذات يوم بعض قطّاع الطرق وهربوا به إلى إستانبول حيث باعوه لأحد التجّار الأتراك الذي سهر على تربيته. وفي أوائل سنة 1781 وجّه القايد بكّار الجلّولي عامل صفاقس مبعوثا إلى الاستانة لشراء بعض المماليك قصد إهدائهم إلى الأمير حمّودة باشا الحسيني. فاشترى المبعوث الصفاقسي عددا من المماليك، منهم الشابّ يوسف الذي استرعى منذ وصوله إلى صفاقس انتباه سيّده بما كان يتميّز به من ذكاء وحنكة ووقار. فأبقاه القايد الجلّولي عنده مدّة من الزمن لتلقينه لغة البلاد وتدريبه على عاداتها. وإثر ذلك نقل الفتى إلى قصر باردو وألحق بسلك المماليك العاملين في خدمة الأمير حمّودة باشا الذي اعتلى العرش في سنة 1782. ولم تمض مدّة طويلة حتى كلّفه الباي بمهمّة وضع خاتمه على الأوامر والمعاريض التي يقدّمها إليه وزيره حمّودة بن عبد العزيز. فأصبح منذ ذلك الحين يسمّى بصاحب الطابع.

وسرعان ما أحرز يوسف صاحب الطابع ثقة مخدومه الذي عهد إليه بإعادة تنظيم الادارة الجهويّة ومراقبة إدارة العمّال في مناطقهم. فعكف على الاضطلاع بتلك المهمّة بكفاية وإخلاص، وتمكّن في مدّة وجيزة من إعادة تنظيم المصالح الجهوية على أسس سليمة وفرض السلطة المركزية على العمّال الذين كانوا قبل ذلك يتمتّعون بنفوذ مطلق.

وجدّ في سنة 1792 حادث مفاجئ زاد صاحب الطابع حظوة لدى حمّودة باشا، ذلك أنّ أحد المغامرين المدعوّ علي برغل استولى على الحكم في طرابلس وطرد منها أمير البلاد علي قرمانلي وأبناءه، وتمكّن بعد ذلك من احتلال جزيرة جربة التابعة للإيالة التونسية. فعهد حمّودة باشا إلى وزيره الأكبر مصطفى خوجة بمهمّة استرداد الجزيرة وإرجاع الأمير المخلوع إلى عرشه في طرابلس. وتمّت هذه العملية وفق المراد دون إراقة دماء، إلاّ أنها أثارت غضب الخليفة العثماني سليم الثالث الذي استنكر تدخّل الأمير التونسي في شؤون الإيالة الطرابلسية التابعة مباشرة للدولة العثمانية. فكلّف حمّودة باشا يوسف صاحب الطابع بالتوجّه إلى إستانبول لتهدئة خواطر السلطان وإرجاع الأمور إلى نصابها. وتمكّن المبعوث التونسي من القيام بمهمّته على أحسن وجه، بفضل ما كان يتحلّى به من حنكة وحصافة رأي وقدرة على الاقناع. ولم تكتف الحكومة التركيّة بتزكية موقف حكومة باردو، بل أوفدت مبعوثا خاصّا إلى تونس لتقديم هدايا ثمينة إلى حمّودة باشا وإبلاغه تحيّات السلطان والرجاء له بالسعادة والهناء ولمملكته بالتقدّم والازدهار. ومن الطبيعي أن يرفع هذا النجاح من شأن يوسف صاحب الطابع لدى الباي الذي عهد إليه بعد ذلك ببضع سنوات بالوزارة الكبرى، إثر وفاة الوزير مصطفى خوجة، فما لبث أن أظهر كل ّ ما هو قادر عليه من حزم وكفاية في تسيير شؤون الدولة. وإلى جانب اضطلاعه بمهامّه السامية، أولى الوزير الأكبر الجديد أعمال البرّ والاحسان عناية فائقة. فأنفق من ماله الخاصّ على إنشاء الكتاتيب ومدارس سكنى الطلبة وإقامة المساجد وترميمها والاعتناء بالمستشفيات وإعانة الفقراء والمساكين والقيام بشؤون اليتامى والأرامل وإغاثة المنكوبين ومواساة البؤساء. وبفضل كل ّ هذه الأعمال الخيريةّ خلُع عليه لقب أصبح معروفا به لدى الخاصّ والعامّ وهو "أبو المحاسن" أو "صاحب الخيرات". ومن مآثره في هذا الميدان بناء الجامع الكبير الذي شيّده في بطحاء الحلفاوين بالحاضرة، وقد أقيمت فيه أوّل صلاة جمعة يوم المولد النبوي الشريف الموافق ليوم 12 ربيع الأوّل 1229/4 مارس 1814، وذلك بحضور أمير البلاد حمّودة باشا والوزراء ورجال الشرع وكبار رجال الدولة. وقد حبّس يوسف صاحب الطابع على هذا الجامع والمنشآت الملحقة به عدّة أوقاف، اطّلع على قائمتها الجنرال محمّد ابن الخوجة صاحب تاريخ معالم التوحيد، فلاحظ أنها "تستغرق أكثر من خمسين صفحة". ومن الجدير بالملاحظة في هذا الصدد أنّ صاحب جميع هذه المآثر قد أثرى، لا من مداخيل وظيفته الحكوميّة، بل من التجارة الخارجيّة، إذ كانت له سفن عدّة مخصّصة لهذه التجارة التي كادت تكون حكرا عليه، لأن أهل المملكة، كما أكّد ابن أبي الضياف، "لا عناية لهم بالمتجر خارج بلدانهم، وهمّهم يومئذ الزراعة وشغل الأرض". فكان صاحب الطابع يصدّر موارد الإيالة التونسية، من زيت وحبوب، ويستورد ما تحتاج إليه البلاد من مواد أساسية كالنسيج والحديد والخشب وغيرها... وقد كان ذلك سببا في تكوين ثروته الطائلة التي كانت "توازي جباية الدولة"، حسب شهادة بن أبي الضياف.

على أنّ هذه الأعمال، لئن جلبت لصاحب الطابع عددا لا يحصى من الأنصار، من مختلف الفئات الاجتماعية، ومكّنته من نيل استحسان العلماء والمثقفين ورجال الدين، علاوة على رضى أمير البلاد. فقد أثارت الحقد والبغضاء في نفوس رجال الحاشية الملكية والبلاط، الذين حاكوا ضدّه مكيدة للفتك به، إثر وفاة حمّودة باشا يوم 15 سبتمبر 1814 ومقتل أخيه عثمان باي الذي لم تتجاوز مدّته ثلاثة أشهر. فما إن اعتلى الأمير الجديد محمود باي العرش حتى عمد عدد كبير من حاشيته إلى تدبير مؤامرة ضدّ يوسف صاحب الطابع الذي كان الجالس على العرش قد أقرّه في منصبه وزيرا أكبر. وكان الوزير العربي زروق المحرّك الأوّل لتلك المؤامرة والمحرّض عليها. وتمكّن المتآمرون من قتل يوسف صاحب الطابع غدرا يوم 23 جانفي 1815، وعبث السفهاء بجثّته "وجرّوها مثل جيف البهائم" على حدّ تعبير ابن أبي الضياف.

ولم يتجرّأ أحد من التونسيّين على استنكار تلك الجريمة الشنعاء، لا من العلماء ولا من العامّة، ما عدا الشيخ إبراهيم الرياحي، الذي لم يكن يخشى في الحقّ لومة لائم. فقد رفع عقيرته بالتنديد بتلك الفعلة النكراء وبمرتكبيها، والاشادة بالقتيل.