محمد بن سحنون

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[202 - 256هـ/817 - 870م]

محمد بن سحنون بن سعيد بن حبيب التنّوخي الذي تتّفق كتب التّراجم على أنّ أباه هو الإمام عبد السّلام سحنون (160 - 240هـ/776 - 854م). ولد بالقيروان سنة 202هـ/817م، ونشأ بين يدي أبيه سحنون، وعليه أخذ العلم. نقل لنا، عن أبي العرب، المؤرّخ القيرواني عبد اللّه بن محمّد بن عبد اللّه المالكي الرّواية التّالية: قال: "كان (أي محمّد بن سحنون) إماما ثقة عالما بالمذهب (مذهب أهل المدينة) عالما بالآثار، لم يكن في عصره أحد أجمع لفنون العلم منه، فيما علمت، ألّف في جميع العلوم وفي المغازي والتّاريخ. وكان والده قد تفرّس فيه الإمامة، إذ يقول: "ما أشبّهه إلاّ بأشهب"، وكان والده يقول لمعلّمه: "لا تؤدّبه إلاّ بالمدح ولطيف الكلام، ليس هو ممّن يؤدّب بالضّرب والتّعنيف، فإنّي أرجو أن يكون نسيج وحده، وفريد أهل زمانه، وأتركه على نحلتي، وأخاف أن يكون عمره قصيرا". فكان كما قال أبو سحنون! فكلّ من ترجم له، لا يختلف في تربيته، ولا في تعليمه في كنف والده الذي بوّأه مكانة خاصة لأنّه توسّم فيه، منذ الصغر، استعدادا واضحا، وذكاء مبكّرا. وبعد أن حفظ القرآن والعلوم الضروريّة، انتقل، بعد ذلك، إلى الدّراسة العالية فسمع من أبيه وتفقّه على يديه، وكان يناظره في شتّى المسائل العلميّة. قال القاضي أبو الفضل عياض راويا عن يحيى بن عمر: "كان ابن سحنون من أكثر النّاس حجّة وأثبتهم لها. وكان يناظر أباه. وكان يسمع بعض كتب أبيه في حياته، يأخذها النّاس عنه قبل خروج أبيه، فإذا خرج أبوه قعد مع النّاس يسمع معهم من أبيه".

[انظر: المدارك - تراجم أغلبية مستخرجة من المدارك للقاضي عياض - تحقيق محمد الطالبي، ص 171. وقد أخذ العلم وسمع عن موسى بن معاوية الصمادحي، و عبد العزيز بن يحيى المدني، وسعداللّه بن أبي حسّان اليحصبي (تلميذ مالك) وغيرهم كثير حتّى أصبح النّاس "يحلّقون عليه بعد حلقة أبيه. وكان يؤلّف في حياة والده الذي كان يقول له: يا محمّد، احذر أهل العراق فإنّ لهم ألسنة حدادا، وإيّاك أن يغلط قلمك فتعتذر فلا يقبل عذرك" [الدبّاغ: معالم الايمان، ج 2، ص 80. وفي سنة 235هـ/849، رحل إلى المشرق لأداء فريضة الحجّ وطلب العلم، كعادة رجال التّعليم والشّريعة المغاربة في ذلك الزّمان. وقبل سفره، نصحه والده قائلا: "إنّك تقدم على بلدان سمّاها إلى أن تقدم إلى مكّة فاجتهد جهدك، فإن وجدت عند أحد من أهل هذه البلدان مسألة خرجت من دماغ مالك بن أنس وليس هي عند شيخك - يعني نفسه - فاعلم أنّ شيخك كان مفرطا". وعندما نزل محمّد بن سحنون بمصر، استقبله أعلام الفقهاء والعلماء، ومنهم أبو رجاء أشهب الذي ترجّاه أن ينزل عنده ضيفا ففعل. ولمّا جلس من الغد بجامع عمرو في الفسطاط (عاصمة مصر آنذاك) ، أتاه علماء مصر يسلّمون عليه وقد حلّقوا عليه وسألوه، نذكر منهم المزني صاحب الامام الشّافعي الذي أطال الجلوس معه، "فلمّا خرج المزني قدّمت إليه دابته ليركب، فقيل له: "كيف رأيته؟ قال: لم أرَ - واللّه - أعلم منه ولا أحدّ ذهنًا". وأضاف الدبّاغ وعياض: وعلى حداثة سنّه وكان إذ ذاك ابن خمس وثلاثين سنة. ومن الذين أخذ عنهم محمّد بن سحنون في مصر، عبد الرّحمان بن القاسم خاصة، وابن ذهب، وأشهب، وابن عبد الحكم، وشعيب بن اللّيث، ويوسف بن عمر... ولقي في المدينة رواة الحديث وأصحاب مالك، زيادة عن مصعب الزّهري، وسلمة بن شبيب النّيسابوري، ويعقوب بن حميد بن كاسب، كما أخذ عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن نافع، وأنس بن عياض، وابن الماجوش وغيرهم.

وهكذا يمكن القول، إنّ هذه الرّحلة المشرقيّة كان لها أثر بالغ في حياة محمّد بن سحنون، الدّينية والعلميّة، فرجع بعدها إلى القيروان مزوّدا بتجربة ثريّة وعلم غزير، ليشعّ بهما لا في إفريقية فحسب بل في المغرب كلّه والأندلس أيضا. قال ابن الحارث: كان محمّد بن سحنون "من الحفّاظ المتقدّمين المتصرّفين. وكان كثير الكتب، غزير التّأليف، له نحو مائتي كتاب في فنون العلم. ولما تصفّح محمّد بن عبد اللّه بن عبد الحكم كتابه "المجموع" في الفقه المالكي وكتاب ابن عبدوس "المجموع" قال في كتاب ابن عبدوس: هذا كتاب رجل أتى بعلم مالك على وجهه" وقال في كتاب ابن سحنون: "هذا رجل سبح في العلم سبحا". وذكر للقاضي إسماعيل بن إسحاق، مرّة، ما ألّفه العراقيّون من الكتب فقال: "عندنا من ألّف في الجهاد عشرين جزءا، وهو محمّد بن سحنون، يفخر بذلك على أهل العراق" [المدارك لعياض، ص 171. وعلى الرّغم من اطّلاع المالكيّة في المشرق، وفي العراق بالذّات، على مؤلّفات محمّد ابن سحنون، فإنّ كتبه انتشرت أكثر في المغرب والأندلس. وقد تداولها طلاّب العلم ورواته في هذه الأمصار. ويكفي أن نذكر أنّ ابن حزم (توفّي سنة 456هـ/1063م) أشار في رسالته "فضل الأندلس" إلى اطّلاعه على كتاب ابن سحنون.

كتابه "آداب المعلّمين"[عدّل]

يعتبر "كتاب آداب المعلّمين" مما دوّن محمّد بن سحنون عن أبيه من أقدم الكتب في التّربية والتّعليم في الاسلام، ومن أمتع الكتب التّربويّة. فقد ألّفت رسائل وكتب عدّة في التّربية الاسلاميّة، وهي على أهمّيتها، متأخّرة عنه، وكان له فضل السّبق عليها. ولأهمّيته هذه، حظي بالنّشر مرّات عدّة. والنّسخة الخطيّة التي اعتمدت أصلا في تحقيق "كتاب آداب المعلّمين"، قد جاءت في مجموع خطّي كان محفوظا بمكتبة الشيخ بلحسن النّجار، مفتي الديار التّونسيّة سابقا، ثمّ انتقلت إلى المكتبة العبدليّة التّابعة لجامع الزّيتونة الأعظم وحفظت تحت رقم 5 / 10040 - وهي خامس قطعة ضمن مجموعة تبدأ من الورقة 112 وتنتهي بالورقة 118. ولمّا قرّرت كتابة الدّولة للشؤون الثّقافية سنة 1968, نقل مخطوطات العبدليّة والصّادقيّة والمكتبات الأخرى إلى دار الكتب الوطنيّة، حفظا للتّراث، نقل "كتاب آداب المعلّمين" معها وحفظ تحت رقم 5 / 8787.

حظي "كتاب آداب المعلّمين" بالنّشر، نظرا إلى أهميّته القصوى وريادته فكان العلاّمة حسن حسني عبد الوهاب أوّل من نشره [ط/تونس - مطبعة العرب، 1350هـ/1931مّ. وعن هذه النّشرة، ترجمه إلى الفرنسيّة ج. لوكنت Gérard Lecomte ونشر في "مجلة الدّراسات الاسلاميّة" [مجلّد 21، 1953 - ص: 77 - 105. وقد اعتمد حسن حسني عبد الوهاب على النّسخة التّونسية فقط لأنّه "لم يصل إلى علمه - بعد البحث الحثيث - أنّ هناك نسخة ثانية في البلاد الافريقية ولا في غيرها". لكنّنا وقفنا على نسخة ثانية بالاضافة إلى النّسخة التّونسية (رقم 5 / 8787) محفوظة في الخزانة العامة بالرّباط تحت رقم (85/ق). وبعد المقارنة، ثبت لدينا ثبوتا قطعيّا، أنّ النّسخة الثّانية لا يعتدّ بها لأنّها مليئة بالتّحريف، والتّصحيف، وفيها من المحو والبياض الكثير. ونظرا إلى أنّ طبعة حسن حسني عبد الوهاب قد نفدت، منذ حوالي نصف قرن، فقد عمدنا إلى إعادة نشرها حسب طرائق التّحقيق العلمي الجاري به اليوم. (طبعة الشركة الوطنيّة للنّشر والتّوزيع، الجزائر).

ولا بدّ من التّذكير بأنّ "كتاب آداب المعلّمين" يختصّ بالبحث في شؤون التّعليم المتعلّقة بالصّبيان فقط فيذكر المؤلّف المكان الذي يتلقّون فيه العلم وهو الكتّاب (ج. كتاتيب). إذن، يمكن أن نعتبر كتاب ابن سحنون الأساس الذي يعتمد في تعليم الصّبيان منذ فجر الاسلام حتّى أواسط القرن الثالث الهجري (القرن التّاسع الميلادي) وهو أيضا مرآة للعصر الذي عاش فيه المؤلّف، لكنّنا لا نستطيع أن نعرف بالضّبط السّنة اللّتي ألّف فيها الكتاب المذكور. أمّا إذا نظرنا إلى قائمة المراجع التي ذكرتها التّراجم، فيمكن التّخمين أنّه من أوائل الكتب الّتي ألّفها محمّد بن سحنون. ومن المفيد عرض ما ورد في "كتاب آداب المعلّمين" من المسائل والقواعد الّتي تحكم المعلّمين بالمتعلّمين والعكس، أي تقديم محتوى الكتاب من خلال عرض المسائل الأساسيّة الّتي يتضمّنها وهي:

  • ما جاء في تعليم القرآن الكريم،
  • ما جاء في العدل بين الصبيان،
  • باب ما يكره محوه من ذكر اللّه تعالى وما ينبغي أن يفعل من ذلك،
  • ما جاء في الأدب وما يجوز من ذلك وما لا يجوز،
  • ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلّم،
  • ما جاء في القضاء بعطيّة العيد،
  • ما ينبغي للمعلّم أن يخلّي الصّبيان فيه،
  • ما يجب على المعلّم من لزوم الصبيان،
  • (ما جاء في إجازة المعلّم ومتى تجب) ، وهذا العنوان هو من ح. ح. عبد الوهاب، ولم يلاحظ عليه في تعليق.
  • (ما جاء في إجازة المصحف وكتب الفقه وما شابهها) ، وهذا العنوان غير وارد في الأصل وقد وقع إقحامه إقحاما في الطبعة الأولى، ص 06، دون أيّة إشارة.

ومن الثّابت تاريخيّا أنّ "كتاب آداب المعلّمين" اللطيف الحجم، الطريف الموضوع، قد عرفه عدد من مشاهير العلماء والباحثين، قدماء ومحدثين، ونقلوا عنه واستفادوا منه، من بين هؤلاء:

  • أبو إسحاق الجبنياني (توفّي عام 369هـ/979م) - كما أورده مترجمه أبو القاسم اللّبيدي، وكما ذكره عياض في المدارك، وأبو بكر بن خير الأندلسي في: فهرست مرويّاته.
  • أبو الحسن القابسي (توفّي سنة 403هـ/1012م) نقل عن "كتاب آداب المعلّمين" نقلا يكاد يكون حرفيّا في بعض المواضع، وباختلاف يسير في مواضع أخرى، كحذف السنّد عن رأي أو رواية فقيه أو تغيير في العبارة دون إخلال بالمعنى. ولكن القابسي "لم يكتف بما أخذه عن "كتاب آداب المعلمين" بل نقل عن الفقهاء الذين أخذ عنهم سحنون وابنه كابن القاسم وابن وهب وغيرهما"، هذا ما أكّده أحمد فؤاد الأهواني مضيفا إلى ذلك قوله: "فإذا كان لابن سحنون فضل الصّدارة في تحرير كتاب خاص في تعليم الصبيان فللقابسي مزيّة التوسّع في هذا الموضوع، والاضافة في أبوابه المختلفة، والتّرتيب الذي يدلّ على استقرار فكرة التّعليم في الذّهن، والعمل على بيان السبل المختلفة المؤدّية إلى تحقيق الغاية المنشودة منه".
  • أمّا ابن خلدون (توفّي في 26 رمضان سنة 808 / 16 مارس 1406) فقد نقل في مقدّمته عن "كتاب آداب المعلّمين" عندما قال - في باب أنّ الشدّة على المتعلّمين مضرّة بهم : "وقد قال محمّد - كما أورده ابن خلدون، بدل عبد اللّه، كما زعم حسن حسني عبد الوهاب، ابن أبي زيد في كتابه الذي ألّفه في حكم المعلّمين والمتعلّمين: "لا ينبغي لمؤدّب الصبيان أن يزيد في ضربهم على ثلاثة أسواط شيئا". ويبدو أنّ ابن خلدون قد اشتبه عليه اسم المؤلّف ولكنّه لم ينسب "كتاب آداب المعلّمين" إلى العالم القيرواني عبد اللّه ابن أبي زيد القيرواني صاحب "الرسالة". ومن المحتمل أن يكون ابن خلدون قد أخذ عن كتاب أبي الحسن علي بن محمّد بن خلف القابسي (توفّي سنة 403هـ/1012م) :

"الرّسالة المفصّلة لأحوال المعلّمين وأحكام المتعلّمين" غير أنّ ابن خلدون ذكر تقريبيا عنوان الكتاب الذي أخذ عنه. وهو ما يجعلنا نعتقد أنّه كتاب أبي الحسن القابسي. وليس مستحيلا أن يكون ابن خلدون قد استفاد من "كتاب آداب المعلّمين"، إلى جانب نقله عن كتاب القابسي. وهذا على أهميّته المحدودة يحتاج إلى بحث خاص. ومن المحدثين الذين استفادوا من "كتاب آداب المعلّمين"، إثر نشره من حسن حسني عبد الوهاب، نذكر أحمد فؤاد الأهواني ومحمد أسعد طلس وعبد الرحمان عثمان حجازي. وخلاصة القول أنّ "كتاب آداب المعلّمين" لمحمّد بن سحنون يعتبر أقدم كتاب في التّربية والتّعليم في الاسلام. ولعلّه أوسع ما أثّر في الخزانة العربيّة من كتب التربية والتّعليم لأنّه يحتوي على عدّة نصوص تبيّن لنا كثيرا من الأوضاع والأحوال الّتي نجهلها عن تربية الطفل، وتأديبه، وتعليمه، وتهذيبه في فجر الاسلام، وعصر بني أميّة وأوائل العصر العبّاسي. والكتاب قد أزاح الستار عن معلومات كان لا بدّ من أن تكون موجودة لدى المسلمين، ولكنّنا كنّا نجهل تفصيلها فإذا بمحمّد بن سحنون يرويها لنا عن أبيه عن شيخه مالك بن أنس، إمام المدينة، وعن غيره من الأئمّة الأعلام والشيوخ الذين عرفوا، عن كثب، طرائق التّربية الاسلاميّة.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • ابن سحنون محمد، آداب المتعلمين، تحقيق حسن حسني عبد الوهاب، تونس،1931. ومحمود عبد المولى، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1981.