قصر زروق - بيت الحكمة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
قصر زروق بيت الحكمة حاليا

هذا القصر الذي يقترن اسمه منذ ما يقرب عن ثلاثة عقود بالمجمع التونسي للعلوم والاداب والفنون "بيت الحكمة"، هو أحد القصور التي شيّدها عدد من البايات الحسينيين ووزرائهم في ساحل شبه جزيرة قرطاج على امتداد النّصف الثاني من القرن 19. ولئن أقيمت هذه القصور لغرض الراحة الصيفيّة، فإنّ وضعياتها ما لبثت أن تباينت شيئا فشيئا إلى حدّ أن اندثر بعضها وارتقى بعضها الآخر إلى مرتبة المعلم التاريخي وينضوي قصر زرّوق في الصّنف الثّاني.

ترجع النّواة الأولى لهذا القصر حسب ما أورده أحمد بن أبي الضيّاف إلى فترة حكم محمد باي (1855 - 1859) عندما منح هذا أحمد زروق، قايد الكاف، آنذاك أرضا لكي يقيم بها برجا. وقد أثبت لنا ذلك فيما بعد دي سانت ماري (De St Marie) في أثناء الحفريات الأثرية التي أنجزها في موقع قرطاج ابتداء من سنة 1874 إذ عاين برجين على ذمّة أحمد زروق ومصطفى بن إسماعيل بالتحديد بين ربوة "بيرصا" والبحر ويطلق على هذا المكان سهل درمش البحري، حتّى إنّه في بداية القرن العشرين لقّب البرجان بقصري درمش. والمتداول اليوم أنّ المكان الذي يقع فيه قصر بن إسماعيل قديما والمعهد العالي للطفولة حديثا هو درمش على حين احتفظت قرطاج الحديثة بنصيب مهمّ من معالم قرطاج في العهد التركي بما فيها قصر أحمد زروق.

وإن لم يعد اسم أحمد زروق يعني شيئا لزائري القصر اليوم، إلاّ أنّ التذكير ببعض ما يتعلّق بهذه الشخصية، يفيد في فهم تاريخ هذا المبنى الذي كان أقرب إلى البرج منه إلى القصر - وربّما على هذا الأساس أطلق عليه برج في فترة من الفترات - وهو ما يوحي بالخطّة المناطة بعهدة هذه الشخصيّة (أحمد زرّوق) في أثناء فترة حكم الصّادق باي (1859 - 1882) وهي في الأوّل خطّة القايد لمناطق سوسة والمنستير مرورا بالأعراض، ومنها إلى مرتبة وزير البحرية والحرب. وبوفاة الصادق باي عزل أحمد زرّوق من منصبه لكنّه لم يتخلّ عن نمط الحياة الذي اعتاده، فتراكمت عليه الديون ولم يبق من حلّ أمامه للخروج من الأزمة سوى رهن القصر لواحد من أفراد عائلة بسيس (Bessis) مقابل قسط من المال على سبيل الاقتراض. وعند وفاة أحمد زرّوق لم يتمكّن وارثوه من تسديد هذا القرض مقابل استرجاع القصر فتملّكته عائلة بسيس وهي من أكبر العائلات المالكة للعقّارات آنذاك في منطقة قرطاج.

ونظرا إلى قرار البايات جعل قصر بن إسماعيل القريب من قصر زرّوق على ذمة محمد الهادي باي الذي تولّى الحكم (1902 - 1906) ولأسباب أخرى فضّل الحبيب باي في بداية حكمه (1922 - 1929) التخلّي عن دار التاج بالمرسى واكتراء قصر بسيس في قرطاج للاستقرار به نهائيّا، وحرص في الأثناء على تملّك الدولة لهذا القصر حتى يصير حُبُسًا عليه وعلى ذريّته. وفعلا صار القصر عائليّا إلى حدّ صعود ابن الحبيب نفسه "الأمين" للحكم (1943 - 1957) الذي حرص في بداية فترة حكمه على تحبيس القصر على نفسه وعلى ذرّيته. لكنّه خرج عن العادة المألوفة التي بمقتضاها يتّخذ الباي مقرّا للحكم ومقرّا للإقامة وقرّر توظيفه لهذين الغرضين وعلى هذا الأساس أدخلت بعض التحسينات أهمّها على واجهة القصر الرئيسة ومدخله اللذين أصبحا يوحيان بأنّ المبنى أقرب إلى البرج أو إلى الثكنة العسكرية.

محمد الأمين باي يستقبل منديس فرانس في قصر زروق سنة 1954

فقد أصبحت الواجهة عالية تذكّرنا بعدّة واجهات لقصور البايات ومنها قصر السعيد، وتوسّطتها نافذة من نوع (Moucharabieh) وفق النمط المعماري الأندلسي يعلوها شعار البايات أمّا فيما يخصّ الواجهة التي تفتح على البحر، فقد مدّد فضاء القصر إلى داخل الماء بتركيز منتزه دائري الشكل حتى توظّف الواجهة لمزيد الاستمتاع بالمشاهدة، وعلاوة على التحسين قد حوّلت الحدائق المحيطة بالقصر إلى بناءات سكنى لأسرته وحرسه الشخصي. وكأنّ هذه التحسينات هيّأت الإطار الذي سيقع فيه الإعلان التاريخي عن الجمهورية وهو الاعلان الذي طالما انتظرته الأجيال. وفي يوم من أيام جويلية 1954 وبين جدران هذا القصر الملكي "العامر" كما عبّرت الصحافة آنذاك أعلن منداس فرانس رئيس الحكومة الفرنسية وقتئذ اعتراف فرنسا لتونس بحقّها في التمتع بحكمها الذاتي، وألقى رسالة الحكومة على الباي بالمناسبة. وفي 8 أوت 1954 وسّم الباي أعضاء الوزارة التونسية التفاوضية بالمكان ذاته. وفي 4 سبتمبر 1954 انعقدت الجلسة الافتتاحية للمفاوضات في القصر نفسه باشراف الباي.

وعندما أعلنت الجمهورية وألغيت الملكيّة غادر الأمين باي القصر وانتهت بذلك حقبة من حقبات تاريخ تونس العثمانية التركيّة، وانتهى الدّور السياسي لهذا القصر، ليقوم بعد الاستقلال بدور علمي وثقافي بارز، حين أصبح مقرّا للديوان الوطني للصناعات التقليدية ثم للمعهد الوطني للتراث فمقرا للمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" منذ سنة 1983.