محمد البشروش
[1911 - 1944م]
ولد محمّد بن محمّد بن حمدة بن محمّد البشروش يوم الجمعة 21 أفريل سنة 1911 ببلدة دار شعبان من الوطن القبلي بالايالة التونسيّة آنذاك. زاول دراسته بالكتّاب ثمّ بالمدرسة الفرنكوعربيّة بمسقط رأسه، وحصل على الشّهادة الابتدائيّة سنة 1925 والتحق بجامع الزّيتونة بتونس. ولم يبق برحابه إلاّ سنتين ليدخل سنة 1927 مدرسة ترشيح المعلّمين.تخرّج فيها سنة 1930 وانضمّ إلى سلك التّعليم الابتدائي متنقّلا من بلدة إلى أخرى إلى أن بلغ به المطاف مدينة حمّام الأنف حيث تغلّب عليه المرض، فنقل إلى مسقط رأسه وتوفّي يوم الاثنين 20 نوفمبر 1944. يظهر أنّ البشروش لم يكن تلميذا ممتازا أو متفوّقا في حياته المدرسيّة وكان ينعت تفكيره حسب ملاحظات المسؤولين عن مدرسة ترشيح المعلّمين بالتفكير الضّبابيّ والسّطحي. (عبد الحميد سلامة: "محمد البشروش - حياته وآثاره"، الدار التونسية للنشر، 1978). وفي هذه المدرسة "عرف عنه منذ هذا الطّور ميله للشّعر والأدب ولا سيّما أدب المهجر الأمريكي. ومن الطّبيعي أن لا يعطي محمّد البشروش كامل طاقاته في نظام تعليميّ لا يجد فيه صدى لميوله وحساسيّته المفرطة تجاه قضايا شعبه". كان عفويّا "عصبيّ المزاج" قويّ الحدس، وكانت "حياته خصبة النّواحي، متعدّدة الجوانب، وكان صاحب حركة دائبة لا تهدأ ونشاطٍ عارمٍ لا يستقرّ"، وعرضة للأخطاء والعطب. وهي خصال كثيرا ما اتّصف بها الأفذاذ من الرّجال السّاعين إلى التّأثير في مجتمعهم. هو، كما قال، يؤمن "بأنّ للأديب وظيفته العلويّة في حياة الأمم والجماعات يؤكّد فيها الحياة التي تجري في عروقها وتسمو بها إلى دنيا أقلّ حيوانيّة وأطهر أفقا". ولا يمكن فهم شخصيّة البشروش ونشاطه إلاّ إذا وضعا في سياق المضامين الوطنيّة المتعدّدة، المختلفة المشارب التي سيطرت في الثّلاثينات وما بعدها على جلّ طبقات الشّعب التّونسي وأغلبيّة المثقّفين بالذّات مهما كانت اتّجاهاتهم المتغايرة. فهذه المضامين الوطنيّة هي التي كانت تحرّك أقلام الأدباء والشّعراء والصّحفيّين المفتونين بالسّياسة أو المتباعدين عنها بالمواقف والاراء والمعارك القلميّة في مختلف القضايا السّياسيّة والأدبيّة والفكريّة والاجتماعيّة. "ومهما كانت الاتّجاهات المذهبيّة وصيغها فإنّ الذي يجمع بينها هو رصيد أيديولوجي مشترك يحوم حول مضامين أساسّية أربعة هي: موضوع السّيادة وما يقتضي ذلك من تمسّك بالهويّة ومقاومة الاستلاب، وتوحيد الصّفوف وحافزه الشّعور بالانتماء إلى أمّة، والايمان بالماضي التّاريخي المشترك، والطّموح إلى الكونيّة". ولئن لم يناضل محمّد البشروش في صفوف الحزب الدّستوري القديم والجديد، فإنّه مثل غيره من المثقّفين في تلك الفترة، كتب ونشط بمقتضى الوطنيّة. وكلّ من اطّلع على آثاره يجد أصداء هذه الرّوح الوطنيّة مبثوثة في كتاباته المتنوّعة في عدّة أجناس أدبيّة من قصّة وشعر ونقد وتأريخ للأدب التّونسي القديم والحديث وتراجم للأعلام التّونسيّين قبل الفتح الاسلامي وبعده، وتعريف بالكتّاب الأجانب من العالم، وترجمة من اللّغة الفرنسيّة إلى العربيّة. وكلّها لم تعرف النّشر إلاّ على صفحات الجرائد والمجلاّت، ما عدا الرّسائل التي نشرت بعد وفاته بزمن طويل. إنّ المحاولات الابداعيّة القليلة التي نشرت تارة باسم مستعار (هو محمّد عبد الخالق أو القرويّ) تدلّ على أنّ هذا المبدع هو "صاحب هواية لم تترك له ظروف عيشه ولا دواعي وظيفته التّعليميّة الوقت الكافي للتفرّغ لها ولاستكمال أداته البيانيّة فيها". وعلى كلّ فهذه الابداعات تدلّ على تمسّك بالنزعة الرّومانسيّة والثّورة العاطفيّة الجبرانيّة والتمرّد على أساليب الكتابة القديمة. وهي إلى ذلك تتموقع في إطار الوعي بالهويّة تجاه الاستعمار وتحاول مقاومة الاستلاب الذي لم تنج منه. وعلى قلةّ ما كتب البشروش قاصاًّ أو دارسًا لهذا الفنّ، فقد "أسهم في تطويره" إذ نصحه صديقه محمّد الحليوي "بأن يتّخذ القصّة سبيلا له في حياته الأدبيّة لأنّه يجسّدها". وتجلّت هذه النزعة الوطنيّة التّجديديّة أكثر فأكثر في كتابات البشروش المتعلّقة بالأدب التّونسي. فقد تحمّس للدّعوة التي توجّه بها كتّاب مصريّون في خصوص الأدب القومي ويقصدون به الأدب المحلّي المصري. فانبرى البشروش يدعو التونسيّين إلى الاقتداء بزملائهم المصريّين لابراز أدب تونسي له خصائصه ومميّزاته باعتباره رافدًا من روافد نهر الأدب العربي الكبير. ودعا إلى تكوين أسلوب تونسي لأنّ الأسلوب في اعتقاده "خاصّة من خواصّ التّفكير. فكلّ أمّة لها أساليبها الخاصّة بها في الكتابة والنّظم لأنّ لها طرقا في تناولها للمسائل وعرضها على الفكر". وفي سياق اهتمامه بالأدب التّونسي اعتنى بالأدب العامّي معتبرا أنّ الفصحى والعاميّة "عنصران للأدب القومي [يعني التّونسيّ، لكلّ منهما مداه ولكلّ منهما وظيفته المستقلّة استقلالا منشؤه الخصائص والحاجات، ولكنّهما ينسجمان في المصدر وفي قرارة أفقيهما". وكان يدعو إلى تقريب المسافة بين الأدب العامّيّ والأدب الفصيح. كانت تتبع كلّ هذه الدّعوات مساجلات ومعارك أدبيّة عنيفة في كثير من الأحيان يتبارى فيها رموز الأدب في تلك الفترة من أمثال أبي القاسم الشّابّي ومحمّد الحليوي ومصطفى خريّف وغيرهم. وقس على ذلك المساجلات التي دارت بينه وبين الأدباء حول السّرقات الأدبيّة وحول الاستفتاء الذي نظّمته مجلّة "العالم الأدبي" لاختيار أحسن الشّعراء التونسيّين والدّعوة إلى العناية بالموسيقى التونسيّة. وتنضوي تحت هذه المضمونيّة الوطنيّة التجديديّة جهوده في خدمة الأدب التونسي ووجوب العناية به، إذ يرى "أنّه ليس أشقّ على الأديب التونسي من درس الأدب التونسي. إنّ أحدنا ليعلم عن الأدب الفرنسي والأدب الانجليزي والأندلسي" والمصري أضعاف ما يعرف عن أدب البلاد التي يدين لها بروحه ودمه. ولطالما لاحظنا ذلك بعين الكدر وشعرنا بهذا النقص شعورا يمازجه الألم وإحساسا يخالطه الاستياء، فلا نعلم نقصا ولا عارا بعد هذا النقص وهذا العار. وإن من مصائب هذه البلاد المذكورة ورزاياها أن يكون أدبها مجهولا وأن يكون أجهل الأشياء عند التونسيّين هو الأدب التونسي". ويمضي، تبعا لهذه النزعة الوطنيّة، إلى اعتبار الأدب القرطاجي المكتوب باللاتينيّة الذي ظهر بهذه الربوع قبل الفتح الاسلامي أدبا تونسيا يجب العناية به وبتاريخه، مثلما تبنىّ ذلك قبله جماعة الشباب التونسي على طريقتهم. ولم تقتصر دعوته إلى العناية بالأدب التونسي بوجه عام على الكتابة باللغة العربيّة بل كتب باللغة الفرنسيّة في مجلة "إفريقيا الأدبية" الصادرة بالفرنسيّة في فيفري 4491 مقالا عن الأدب التونسي الحديث.
وفي مقالاته المتعددة عالج محمّد البشروش أزمة الكتاب والصّحافة في تونس وحلّل أسبابها وهي انعدام الدّعم الحكومي، وضعف التعليم العربي، وقلّة القرّاء، وأزمة الطّبع والنّشر مؤكّدا أنّه من الواجب "أن تكون ثقافتنا عربيّة وأن يكون التعليم عندنا عربيا قبل كل شيء". وأسهم محمّد البشروش في النقد الأدبي بمقالاته الكثيرة التي عرّف فيها بأعلام الأدب والفكر التونسيّين منهم والأجانب. فكان حاضرا حضورا مميّزا إيمانا منه بوجوب العناية بالأدب في هذه الديار. دعما لهذا السعي انضمّ إلى الاذاعة التونسيّة يبث على أمواج الأثير أحاديث متنوّعة تناولت تاريخ الأدب التونسي قبل الفتح الاسلامي، كما شارك في برنامج "آخر ما كتبت". ولا بدّ من الاشارة إلى لغة محمّد البشروش. "فأسلوبه يمتاز بسهولة العبارة والاقتباس من العاميّة مع جودة التعبير حينا وتعثّره حينا آخر".ويظهر أنّ الايمان بالتجديد والثورة على القديم جعلا محمّد البشروش يتبنّى الكتابة باللّغة العربيّة الحديثة التي أثّرت فيها الصّحافة، فخرجت بها من لغة النّخبة إلى لغة الجمهور العريض ومن اللّغة القديمة المستعصية على الفهم، المشتملة على مضامين بعيدة عن شواغل النّاس وحياتهم اليوميّة إلى لغة الثّورة على القديم، أسوة بما قام به أساطين الحداثة في مصر من أمثال طه حسين وأدباء المهجر كجبران ونعيمة. وأهمّ عمل تميّز به لتطبيق دعواته الثّقافيّة المتنوّعة التي يمكن أن تعدّ خطوطا عامّة لمشروع ثقافي يندرج في صلب النزعة الوطنيّة التّجديديّة هو بعث مجلّة "المباحث" إلى الوجود عندما عجز عن تأسيس دار للنّشر. فكانت محاولته الأولى في بعث مجلّة "المباحث" سنة 1938. وأصدر العدد الأوّل في جانفي 1938 والعدد الثاّني المخصّص لابن رشيق في مارس من السّنة نفسها معوّلا فيهما على نفسه. ولكنّ الضّائقة الماليّة ألزمته إيقاف التّجربة. وربّما الأجواء القمعيّة المنجرّة عن أحداث 9 أفريل 1938 والقوانين المجحفة ضدّ الصّحافة هي التي كانت مثبّطا من المثبّطات. وعندما تبدّلت الظّروف الخاصّة به وبالجوّ العام في البلاد عاود الكرّة وأصدر سلسلة جديدة ظهر عددها الأوّل في 10 أفريل 1944 في حجم الجرائد. والملاحظ أنّ مجلّة "المباحث" التي دامت ما يقارب الثّلاث سنوات واجهت صعابا عدّة وملابسات حفّت بتجربتها كانت بعد ذلك بسنوات مثارا لجدل طويل حول تأسيسها وسيرورتها. "وفعلا فقد أصدرها [البشروشّ من جديد في شكل الجرائد بعد أن كانت في حجم المجلاّت وخرج العدد الأوّل... في ظروف صعبة من جرّاء مخلّفات الحرب العالميّة وندرة الورق. ولكنّ هذه السلسلة الجديدة كانت انتصارا له وأيّ انتصار". وامتازت بظاهرة جديدة لم تعهد من قبل، وهي مشاركة كثير من الأساتذة المجازين أو المبرّزين في العربيّة من الجامعات الفرنسيّة لأوّل مرّة في الحياة الأدبيّة في حين كانت المجلاّت التي ظهرت من قبل تقوم على كاهل أهل الهوايات الأدبيّة وأصحاب الثّقافة العربيّة الصّرف. "وامتازت بإشراف نابغ من أساتذة اللّغة العربيّة المتخرّجين في الجامعة الفرنسيّة هو الأستاذ محمود المسعدي" ويمكن القول إنّ هذه المجلة خضعت في أعدادها الثمانية الأولى لاتّجاهين : روح وطنيّة تجديديّة سبق بيان خطوطها العامّة ومضمونيّة وطنيّة كلاسيكية ذات اتجاه استشراقي. "فلا يمكن إلا أن نلاحظ الأسلوب الجديد الذي طبع المجلّة سواء في الافتتاحيات أو الاتجاه العام للمجلّة بعد وفاة البشروش"، إذ نلمس تغييرا في معالجة قضايا الأدب الكبرى، "ممّا يفسّر اللهجة الحازمة التي عولجت بها هذه المشكلات من جهة وهيمنة الكلاسيكي على الحديث". والملاحظ "أنّ إسهام المجلة في التاريخ الحديث قليل وخصوصا فيما يتعلّق بالأعلام التونسيين. فهل أكاديميّة المسؤولين عن المجلّة قد تغلّبت على اتّجاه التفتّح وخاصة في هذا الميدان؟". ورغم ميول مجلة "المباحث" الحداثية [بحكم الطابع الذي طبعها به مؤسسها محمّد البشروشّ فهي لا تعطي الاعتبار إلاّ إلى جزء ضئيل من الأدب التونسي الحديث والمعاصر. فهل السبب في ذلك هو تلك القدرة المعروفة التي طالما قاومها القوم وهي المعاصرة، أم هل هو التكوين الجامعي المفرط في الكلاسيكيّة التي اتّصف بها المسهمون في المجلّة وأغلبهم مبرّزون؟ وهكذا وبعد وفاة البشروش "نجح محمود المسعدي بما له من ثقافة متينة وما يحرّكه من نضال متأجّج في أن يجمع حوله ثلّة من الأساتذة الشباّن ذوي الاختصاص المتنوّع وأن يجعل من المجلّة منبرا للمثقّف الملتزم". وامتازت هذه المجلة "بدراسات مهمّة في الأدب والتاريخ من أقلام بقيّة أسرة المجلة ومنها مقالات كثيرة تكتب بالفرنسيّة ثم تعرّب". وامتازت أيضا "بمنهج كتابة الأستاذ محمود المسعدي التي سارت على طريقة من النثر الفني هي طريقة القصّة الفلسفيّة" . ولئن كان محمّد البشروش بتأسيسه لمجلّة "المباحث" أراد أن يطبّق عمليّا مشروعه الثّقافي المواصل لاتّجاه التّجديد الذي ساد الأدب التونسي في الثلاثينات وبداية الأربعينات حسب الأهداف الوطنيّة التجديديّة التي بيّنت، فإنّ هذه السّلسلة الجديدة من المجلّة، بتركيبتها المغايرة لما ساد في السّاحة الأدبيّة في ذلك الأوان، كانت في الواقع منعرجا أبرز اتّجاها ذا مضمونيّة وطنيّة، لا محالة، ولكنّها مختلفة اختلافا شديدا، لأنّ أسسها الكلاسيكيّة والأكاديميّة لم تعرفها تونس من قبل. وسيكون لهذا الاتّجاه تأثيره العميق في مستقبل التّعليم والثّقافة بتونس ما بعد الاستقلال.
