قسطيلية

من الموسوعة التونسية
(بالتحويل من قَسْطيليّة)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

قسطيلية أو قصطيليّة أو قسطيلَة اسم لموقع بالبلاد التونسيّة، أطلق في العصر الوسيط تارة على مدينة (وهي تَوْزر أو تُوزر)، أو في الأغلب على كامل المقاطعة التي كانت هذه المدينة قاعدتها ومركزها، وهي بلاد الجريد الحالية التي تطابق اليوم ولاية توزر، والتي تشمل منطقة الشطوط ويبلغ عدد سكانها 700 97 نسمة طبقا لإحصاء سنة 2004. والثروة الرئيسة لمنطقة الجريد لا تزال كما كانت في الماضي تتجسّد في أشجار النّخيل المثمرة، وعددها مليون شجرة تقريبا، منها نسبة 31% من صنف نخيل "الدّقلة" التي يتهافت الناس على طلبها، (استطلاع سنة 1962). وتوفّر السياحة الصحراوية - المدعومة بتجهيزات فندقية من الصنف الممتاز جدا أحيانا - موارد تكميلية ذات قيمة بالنسبة إلى هذه الجهة التي تعتبر اليوم من المناطق المحرومة.

شط الجريد

التاريخ[عدّل]

إنّ قسطيلية التي سبق إخضاعها مرةّ أولى على يد عقبة بن نافع فيما يظهر، قد فتحت نهائيا للإسلام صلحا ودون قتال على يد حسّان بن النعمان. وهذا ما يفسّر ما كان يلقاه سكّان هذه المنطقة المسيحيّون، نسبيا، من حسن معاملة وطيب عيش. ومنذ ذلك العهد لم يبق تاريخ هذه المنطقة، بطبيعة الحال، بمعزل عن الاضطرابات والفتن التي هزّت سائر أنحاء إفريقية ولاسيّما تلك التي انجرّت عن ثورات الخوارج في أواسط القرن الثاني الهجري/الثامن الميلادي، وعن تمرّد الجند في عهد الدولة الأغلبية والحرب ضدّ داعي الفاطميّين وثورة أبي يزيد النكّاري. ووجد المذهب الإباضي في خضمّ هذه الفتن فرصة لكسب الكثير من الأتباع بالمنطقة، كما لقي المذهب الشيعي بعض النجاح لا سيّما بنفطة. وقد ساعدت زحفة بني هلال في منتصف القرن الخامس هـ/الحادي عشر م، هي الأخرى، على ظهور مملكة صغيرة بالمنطقة، سرعان ما احتوتها مملكة بني الرّنْد بڨفصة. وقد نازع الموحّدين بعد ذلك على قسطيلية أحد المغامرين، يدعى قراقوش، ثم أمراء بني غانية. وفي عهد الدولة الحفصية، في أوائل القرن الثامنه/الرابع عشر م، قامت بالمنطقة مملكة صغيرة أخرى يحكمها بنو يملول بمساعدة "مشيخة" أو مجلس أعيان. وعاشت هذه المملكة حياة شديدة الاضطراب حتى قضي عليها مع الدويلات المحلية الأخرى على يد الأمير أبي فارس (سنة 802هـ/1400م).

وفي آخر الأمر تفاقم البؤس إلى حدّ خطر في أثناء فترة الفوضى التي عمّت البلاد في القرن التاسع عشر وأصبحت المنطقة عمليّا بلا حماية ووقعت تحت ضربات البدو النّاهبين المبتزين من جهة، وتحت وطأة الجبايات والضرائب المرهقة التي كانت تفرضها السلطة المركزية من جهة أخرى.

الجغرافية التاريخية[عدّل]

إنّ لفظ قسطيليّة لا يطلق على موقع من مواقع البلاد التّونسيّة فحسب. فهذا ياقوت (ج. 6، ص 347 - 348) يذكّر قسطلّة بالأندلس، وقسطيلية بجهة البيرة. وهو يشير أيضا إلى القسطل، اسم موضع بين حلب ودمشق. وقد كانت قلعة ميزارفلتا العتيقة بين تبنة وبسكرة سُمّيت أيضا بقسطيليّة. وممّا لا شكّ فيه أنّ هذا الاسم من أصل لاتيني، وهو مشتقّ من "كاستلاّ" جمع "كاستلّوم" (Castella : Castellum,Pl) بمعنى القلعة. وقد أطلقه الفاتحون العرب أوّل الأمر على توزر (Thusuros) أهمّ قلاع المنطقة الحدودية المستندة إلى الواحات، ثمّ عمّموا هذا الاسم على كامل المنطقة الراجعة إليها بالنظر. ويقول اليعقوبي (المتوفى حوالي سنة 282 - 292هـ/895 - 905م) إنّ هذه المنطقة تشمل أربع واحات "أولاها وأهمّها تسمّى توزر، وبها مقرّ الولاة، والثانية هي الحامّة، والثالثة تقيوس، والرابعة نفطة" (معجم البلدان، ص 212). وقد زالت منها اليوم تقيوس (Thiges) التي حلّت محلّها دقاش. وهذا التحديد نفسه للمنطقة يرد أيضا عند معظم الجغرافيّين العرب اللاّحقين، ولا سيّما عند البكري وياقوت. أمّا ابن حوقل والمقدسي والإدريسي فإنهّم يوردون وصفا للمدينة فقط دون ذكر لحدود المنطقة. لكنّنا نجد أحيانا بعض المؤلّفين المتأخرين يتوسّعون كثيرا في ضبط حدود قسطيلية التي أصبحت تدعى بلاد الجريد ويجعلونها تشمل قفصة شمالا وبلاد نفزاوة في جنوب الشطوط (ابن خلدون، كتاب العبر، ج 199، ص6), بل ويقحمون فيها حتّى بسكرة وقابس وجزيرة جربة (الحسن بن محمد الوزّان، وصف إفريقيا، ج. 2، ص ص 442 - 443). أمّا تسمية "بلاد الجريد" أو "الجريد" بعبارة أوجز، فقد ظهرت لأوّل مرّة في منتصف القرن الثامنه/الرّابع عشر م، في كتابات ابن خلدون الذي كان يستعملها بقدر ما يستعمل كلمة قسطيليّة أو أكثر للدّلالة على المنطقة نفسها. ثمّ زال اسم قسطيلية القديم شيئا فشيئا حتّى نسي اليوم تماما فلم يعد يعرفه أحد سوى بعض أهل التخصّص، حتّى إنّ التجاني (706هـ/1306م)، وابن أبي دينار (حوالي 1110هـ/1698م) والوزير السّراج (1149هـ/1736 - 1737م) لم يستعملوا الاسم القديم إلاّ حين ينقلون عن مؤلفين سابقين. أمّا الحسن بن محمد الوزّان الذي زار البلاد التّونسيّة في سنة 1517م، فإنّه يجهل هذه التّسمية تماما.

وحتّى أواخر القرن الثالثه/التّاسع م. لم يكن العنصر العربي بعد موجودا ببلاد قسطيلية، أو لم يكن على الأقلّ موجودا على نحو محسوس. وفعلا فقد كتب اليعقوبي يقول: "... السكّان من غير العرب ينحدرون من الرّوم القدامى ومن البربر والأفارقة" (البلدان، ص 212 )، أي البربر الذين غلبت عليهم اللّغة اللاّتينيّة والدين المسيحي. ويشير ابن خلدون من جهته، في معرض الحديث عن وقائع سنة 224هـ/839م، إلى وجود بربر من قبائل زواغة ولواتة ومكناسة بتلك المنطقة (كتاب العبر، ج 6، ص 428). ولا نعتقد أنّ خريطة السكّان هناك قد تغيّرت كثيرا حتّى منتصف القرن الخامس هـ/الحادي عشر م، أي إلى زمن زحفة بني هلال التي أدخلت إلى الجهة عناصر من قبائل بني سليم وخاصّة منهم بطن كعوب. وقد تغيّرت ملامح المنطقة دون شكّ تغيّرا عميقا منذ ذلك الحين، وأخذت العقيدة المسيحيّة التي ثبتت حتّى ذلك الوقت تزول شيئا فشيئا.

ويجمع المؤلّفون العرب في العصر الوسيط على اعتبار قسطيليّة بلادا ذات ثراء وازدهار. ويقول البكري إنّ مجموع خراجها كان يبلغ في منتصف القرن الخامسه/الحادي عشر م، 200.000 دينار مقابل 50.000 دينار فقط بالنّسبة إلى قفصة. أمّا ابن خلدون فكان لا يخفي دهشته وإعجابه في القرن الثامن هـ/الرابع عشر م، أمام كثافة السكّان لهذه البلاد "المستبحرة العمران" (كتاب العبر، ج 4، ص 199). وقد كانت هذه البلاد، التي بهر نظام توزيع مياه الريّ بها كلّ الملاحظين تنتج كميات وفيرة من التمور. وفي القرن الثالثه/التاسع م، يشير اليعقوبي إلى وجود حقول زيتون مهمّة بها، لم يبق منها بعد ذلك أيّ أثر. أمّا قصب السّكّر الذي كان من أهمّ ثروات المنطقة في القرن الرابع هـ/العاشر م، حسب قول ابن حوقل، فقد أصبح مردوده هزيلا في القرن الخامس هـ/الحادي عشر م، فيما يذكره البكري، وكذلك الموز الذي كانت غروسه تجد صعوبة في الثبات والنموّ هناك. وبخلاف ذلك فإنّ الحوامض التي تنتج بالجهة وخاصة منها الأترجّ لم يكن لها مثيل. وكلّ أهل المنطقة يتعاطون أيضا زراعة الكتّان والحنّاء والكمّون والكرويّاء، ويصطادون بها الفنك الذي كان النّاس يتهافتون على اقتناء فروته.

وكانت قسطيليّة أيضا في القرن الرابع هـ/العاشر م، حسب ما يؤكده ابن حوقل، ملتقى مهمّا للطّرق التجاريّة يزدحم فيه التجّار القادمون من كلّ بلاد. وكانت المنطقة تورّد على وجه الخصوص القموح التي كانت أثمانها مرتفعة في العادة، وتصدّر التّمور (بثمن يساوي درهمين مقابل حمل جمل كامل كما يدقّقه لنا المقدسي)، وكذلك الصوف (وهذا يقتضي وجود ماشية كثيرّة من الأغنام)، والمصنوعات الصوفيّة. وقد كانت التجارة عبر الصحراء مع بلاد السودان، دون شكّ سببا من أسباب ازدهار الجهة طوال العصور الوسيطة. ونحن نعلم أنّ والد أبي يزيد النكاري، الذي كان أصيل تقْيُوس أو توزر، كان من المشتغلين بتعاطي هذه التجارة (ابن خلدون، كتاب العبر، ج 6، ص 84).