مصاحف الرق القيروانية

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

إنّ البارشمان أو الرقّ كما يسمى في الاستعمال العربي هو أحد المواد الرئيسة التاريخية للكتابة. وهو جلد الشياه الصغيرة أو الجداء أو الغزلان - وهو نادر - تستعمل في إعداده وسائل الدباغة التقليدية القائمة على النقع في الماء والملح مدة بعد إزالة الشعر العالق به، ثم ينقع ثانية في سائل ممزوج بالمواد المجفّفة للدهنيات، وأهمّها العفص وقشر الرمان. وبعد أن يأخذ الدباغ فعله في الجلد، يبدأ في ترقيقه بضغطه على خشبة خاصّة ثمّ يُجرد حتى يرقّ إلى أقصى حدّ ممكن، ثمّ تضاف اليه مواد مبيضة أو ملوّنة، ويشد للتجفيف في الظلّ ثمّ تقطع منه الصحائف حسب المواصفات المطلوبة. فالمصاحف يختار لها أواسط الجلود لاستخراجها دون عيب حسبما يلاحظ على المجموعات المتبقّية، على حين تستعمل الأطراف والقطع المثقوبة التي أتلفها سكّين الدبّاغ أو بها بقايا جذور الشعر لتكتب عليها النصوص الفقهية. ونماذج ذلك متوفّرة في مجموعة القيروان.

ويشترط الفقهاء لاستعمال الرقّ أنّ يكون المصدر مذبوحا ذبحا شرعيا، وليس جلد جيفة أو مخنوقة، حتّى يكون طاهرا مهيأ لايداع الحرف العربي المقدس وخاصة لكتابة النص القرآني. وقد عرف الرقّ قبل الإسلام واستعمل في المراسلات وتسجيل الوثائق وكتابة النصوص الدينية. وقد أشار إليه النص القرآني في سورة الطور (الاية 3) وأشارت كتب السيرة النبوية إلى استعماله في المراسلات التي وجّهها النّبي إلى رؤساء عصره يدعوهم فيها إلى الإسلام. وظلّ في أكثر أقاليم العالم الإسلامي المادة الأساسية للكتابة إلى أواسط القرن الخامس للهجرة/11م فيما عدا مصر التي والت متابعة تقاليدها التاريخية في استعمال البردي. وقد استمرت صناعته وكتبت عليه الرسوم والمراسلات ونصوص الفقه والمصاحف أيضا.

إنّ مجموعة الرقوق القيروانية تعتبر من أشهر وأكبر المجموعات المتبقّية التي حافظ عليها مسجدها الجامع المعروف، وهي تتكوّن من ثلاثة أقسام متكاملة، هي قسم الوثائق والرسوم، وقسم الكتب والأصول الفقهية المالكية التي يرجع تاريخ أقدمها إلى سنة 231هـ/845م ثمّ قسم المصاحف الباذخة الأنيقة، وهي صفحات من مصاحف تشتمل على كامل النص القرآني، مجزأة إلى أجزاء تقسيمية، ومجلّدة تجليدا معاصرا لكتابتها. وهي الآن متناثرة ومنقوصة مفكّكة لا يكاد يوجد مصحف واحد متكامل.

يرجع أقدم مصحف مؤرّخ بمجموعة القيروان إلى سنة 295هـ/907م حيث كتبت فضل مولاة أبي أيوب محمد نسخة كاملة من القرآن في حجم لطيف، بقيت مئات الصفحات منها.

من مصحف قرآن كتبه وزوّقه علي بن أحمد الورّاق لحاضنة الأمير المعز بن باديس سنة 410هـ حبسته على جامع عقبة بالقيروان

ولعلّ أهمّ بقايا هذه المجموعة وأكثرها دلالة على الصناعات الفنية وعلاقتها بالموضع، هو ذلك المصحف الكبير الحجم الذي أعدّ باسم سيدة رسمية في البلاط الصنهاجي وذات أصول مسيحية، هي فاطمة حاضنة الأمير أبي مناد باديس بن المنصور، وأشرفت على تمويله ومتابعة العمل فيه كاتبتها درةّ وتولىّ صناعته أحمد بن علي الوراق. وإذا كنّا نعرف أنّ صناعة الكتاب تقوم على جملة من الاختصاصات والاختصاصيين كالمذهب والمزوّق والخطّاط والمجلّد الذي يعمل كلّ منهم في حدود معرفته ويستكمل الثاني مهمته في الكتاب نفسه، فإن هذا الوراق القيرواني الذي أنجز عمله الكبير سنة 410هـ/ديسمبر 1021م قد شكّل النّص ورسمه وذهّبه وجلّده وهو عمل جدّ مهم على المستوى الفني، خاصة أنّه استعمل خطّا مولّدا من الخط الكوفي عرفنا اسمه لأوّل مرّة محددا ضمن السّجلّ القديم الذي أشرنا اليه، وخاصّية هذا الخطّ أنّه مكتوب بقلم عريض القطة، يوضع في هيئة ثابتة بحيث تتحرك اليد لترسم هيئة الحرف دون أنّ تتغيّر زاوية القلم، وبذلك تصبح أجزاء الحرف الواقعة فوق السطر غلخة هندسية الهيئة، وما تحته دقيقا، دون أنّ يُخلّ ذلك بالجمالية والتناسب.

إنّ الجانب المادي أو الخارجي لمجموعة مصاحف القيروان، تتكوّن من صحائف الرق ومن الجلود الجامعة لها وما يتّصل بها من فنون وصناعة، ثمّ من أشكال الكتابة وأساليبها ومن الأحبار المستعملة المتعددة الألوان. ويتراوح عمر المجموعة بين القرن 3هـ/9م والقرن 6هـ/21م، وقد ساعدت الظروف المناخية المعتدلة لمدينة القيروان على الإبقاء عليها في حالة جيّدة لانعدام الرطوبة، ومن الصدف الحسنة أنّ عثرنا على فهرس وصفي دقيق لمجموعة هذه المصاحف كتب في القرن السادس هجري/21م ثمّ قوبل بعد ذلك وهو يشتمل على تفصيل البيانات عن كلّ المجموعة وأسماء خطوطها ووصف ألوانها وجلودها والربعات الخشبية المركنة والمبطنة بالجلد أو بالحرير التي كانت مهيأة لحفظ النسخ القرآنية المجزأة.

إنّنا لا نستطيع أن نجزم بأنّ كلّ مجموعة مصاحف القيروان قد كتبت بها، فرغم أنّنا نعلم جيدا أنّ القيروان كانت مركزا ثقافيا ممتازا، فإنّ خطوطها وأساليبها وأكثر زخارفها متحد ولا أقول متشابهًا مع الكتب ممّا يوجد حاليا باليمن وبمصر أو بإستانبول من الفترة نفسها. وربما أدّى بنا ضياع الأوراق الأخيرة لهذه المصاحف التي تحتفظ عادة باسم الناسخ، إلى هذا التردّد. وتجدر الملاحظة أنّ الأساليب الكبرى للخط والتذهيب والزخرفة كانت شبه موحّدة وأشبه بالطراز الامبراطوري الذي كان سائدا في أكثر رقاع الأقاليم الاسلامية. وقد أشرنا إلى مادّة الرقّ ومصادرها بإيجاز، وقد تولّى الأستاذان جورج مارساي ولوي بوانسو نشر مجموعة جلود القيروان ودراستها وتسجيل ظواهرها الفنية المختلفة. بقي أن نذكر عن هذه المجموعة أنّ أكثرها يعد بحيث يكون وضعها الأفقي أطول من ارتفاعها الرأسي وأنّ صحائف المصحف الواحد تسطّر تسطيرا موحّدا تحدّد بداياته ونهاياته، وذلك بواسطة المسطرة المكونة من لوح خشبي مسطح تمدّ عليه الخطوط بحسب مساحة الصحائف وتثبّت بالغراء. وعلى هذا القالب الثابت توضع الصحيفة ويمدد عليها قماش لخهر أثر الخيوط على الرقّ، ويبدأ الخطاط عمله بعد هذا.

وخطوط المصاحف الموجودة تصنّف عادة على أنّها خط كوفي، ولكنها أصناف مختلفة يشترك أكثرها في شيوع الزوايا القائمة، ولو أنّ بعض الخطّاطين تجاوزوا هذه الثّوابت وقرّروا خطوطهم بطريقة تخفّف من حدّة الكوفي ويبوسته. ورغم تطوّر الكتابة العربية ودقّة ضبطها، فقد ظلّت المصاحف عامة تكتب على الطريقة القديمة ولم تستثمر جهود الاصلاح التي بُذلت في أواخر القرن الأوّل الهجري وفي أثناء القرن الثاني، فلم يفرق فيها بين الحروف المتشابهة ولم تستعمل الحركات التي تتّصل بالنحو وتظهر على أواخر الكلمات وإنّما استخدم الشكل القديم الممثّل في نقط دالة، وهي طريقة تعود إلى القرن الأوّل الهجري، ولم تتحرر كتابة المصحف من استعمالها رسميا إلا أواخر القرن الخامس للهجرة/11م. ونلاحظ أنّ العناصر الزخرفية المنتشرة داخل الكثير من المصاحف لا تتّصل بحروف النص القرآني مباشرة مثلما نعرف في النماذج الخطّية الزخرفية والكتابات التذكارية التي نراها على مقصورة جامع القيروان، وفي بعض شواهد القبور التي يتحوّل الحرف فيها إلى عنصر فنّي مستقلّ. وإنّما تكون الزخارف في المصحف منفصلة تصنع أرضية أو حاشية أو فاصلا بين سورتين أو علامة وقف أو تجزئة.