عهد الأمان وقانون 1861

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
موكب إعلان عهد الأمان من قبل محمّد باي يوم 10 سبتمبر 1857

لم تكن البلاد التونسية في القرن التاسع عشر بمعزل عمّا يحدث من تحوّلات مؤشّرة على تداعي البنى التقليدية في العالم العربي والإسلامي الواقع تحت آثار الصدمة الحضارية الناجمة عن سيطرة الانڨليز على الجزء الهندي المسلم وغزوة نابليون الفرنسي لمصر وما ولّدته من شعور حادّ باتساع الهوّة بين تقدّم المجتمعات الأوروبية وتخلّف المجتمعات العربية الاسلامية.

وفي محاولة من السلاطين العثمانيين تجسير هذه الفجوة، وتحقّقت منذ أواخر النصف الأول من القرن التاسع عشر بعض الاصلاحات السياسيّة أبرزها خطّ كلخانة (1839) وخطّ همايون (1856)، وقد استهدفت هذه القوانين التي كان لضغط الدول الأروبية أثر واضح في إصدارها، تحديث الإدارة وفرض سلطة المركز على الولايات ووضعها تحت النظر المباشر للسلطة المركزية، وتكوين مجتمع يتساوى فيه المسلمون وغيرهم، إلى جانب العمل على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وتحديث المؤسسات التعليمية.

وعلى غرار ما حصل في الاستانة، وتحت ضغط الدول الأروبية وقناصلها المقيمين بتونس اضطر محمد باي الذي تولّى من 1855 - 1859 أمر البلاد إلى منح "عهد الأمان" المستوحى من قوانين التنظيمات العثمانية والدساتير الأوروبية مع مراعاة الخصوصية التونسية (1857). سوّى عهد الأمان بين التونسيين في الحقوق والضمانات واتّجه إلى صيانة حريّة الأفراد والممتلكات دون اعتبار للديانة أو المكانة الاجتماعية أو السياسية إذ جاء فيه "تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكّان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان، في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة". أعطى عهد الأمان للرّعايا الأجانب امتيازات كبرى كحقّ شراء الأراضي والاستقرار النهائي بالبلاد التونسية، وفتحت الفقرة الأخيرة منه الباب لتسرّب الاقتصاد الأروبي إلى البلاد التونسية، إذ نصّت على "أنّ الوافدين على إيالتنا لهم أن يحترفوا سائر الصنائع مثل أهل البلاد لا فضل لأحدهم على الآخر".

شجّع صدور "عهد الأمان" المصلحين وعلى رأسهم الوزير خير الدين باشا على دفع الباي للقيام بإصلاحات أخرى تطول مختلف المؤسسات السياسية، وأدّى ذلك إلى الضغط على محمد الصادق باي الذي تولّى من 1859 - 1882 إصدار دستور هو الأوّل من نوعه في المجتمعات العربية الإسلامية، وذلك بتاريخ 29 جانفي 1861. وكان يصدر تباعا في أول جريدة عربية تونسية هي "الرائد التونسي". أعلن عن هذا القانون في جوّ احتفالي كبير في قصر باردو ترأّسه الباي ووزراؤه بحضور أعضاء المجلس الشرعي والمجلس البلدي لتونس وكبار موّظفي الدولة وضباط الجيش ورجال الدين المسلمين والمسيحيين واليهود، وقناصل الدول الأوروبية إلى جانب وفود جاءت من داخل البلاد. اشتمل هذا الدستور الذي أقسم الباي وحاشيته وأعوانه وضباط الجيش أمام الملإ على العمل به، على ثلاثة عشر بابا و114 فصلا حدّدت حقوق الحكّام والمحكومين وواجباتهم، كما ضبطت نظام السلطة، وتضمّنت الفصل بين السلطات الثلاث :

  • التنفيذية (الباي ووزراؤه)
  • التشريعية (المجلس الأكبر الذي يشتمل على 60 عضوا يعيّنهم الباي ويُغيرون كل 5 سنوات)
  • القضائية (القضاة ويعيّنهم الباي) سوّى دستورعهد الأمان بين التونسيين أمام القانون "فلا فضل لأحد على آخر بوجه من الوجوه. من غير نظر لمقام ولا لرياسة في الحكم".

وفيما يتعلق بالجاليات الأجنبية، ثبّت دستور 1861 ما جاء في عهد الأمان 1857 من "التسوية بين المسلم وغيره من سكان الايالة في استحقاق الانصاف" وأعطاه طابع الاستمرار والتوسع، وهو دستور لائكي.

وأشار أحمد بن أبي الضياف أحد أعضاد الباي وعضو المجلس الأكبر ومن محرّري نصّ الدستور في كتابه "إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان" إلى :

  • غياب تمثيل الأهالي في المجالس الثلاثة والاعتماد على التونسيين ذوي الأصول التركية والشركسية وغيرها.
  • غياب تمثيل العلماء في المجلس الأكبر.
  • تقديم أهل الوجاهة الدنيوية في هذه المجالس على غيرهم.

وليس غريبا في ضوء هذه الهنات أن يقابل الأهالي هذا الدستور بعدم الاكتراث، لأنّه لم يعدّل من أوضاعهم الحقيقية شيئا يذكر، "لذلك لم يظهر على جوامع المسلمين ما ظهر على غيرهم من السّرج ومظاهر الزينة. واقتصر الاحتفال على أعيان التّجار من اليهود والأروبيين إضافة إلى الأعيان"، كما أورد ابن أبي الضياف.

ولم يلبث التونسيون أن عبّروا عن عدم رضاهم عن الأوضاع البائسة والحالة المتردّية الرّاجعة إلى ارتفاع ضريبة المجبى ارتفاعا مجحفا، في انتفاضة عارمة (سنة 1864) تزعّمها علي بن غذاهم وشملت مناطق عديدة من الإيالة، واتّخذ الباي ذلك ذريعة لتعليق الاصلاحات وإيقاف العمل بالدستور. وإذا أمكن من الناحية التاريخية اعتبار إصدار التنظيمات في تونس (عهد الأمان والدستور والمحاكم العصريّة) مؤشرا على بداية وعي الطبقة السياسية بضرورة الانخراط في التحديث السياسي المستلهم من التراث السياسي الأوروبي الحديث، إلاّ أنّ سرعة تداعيه (أقل من 4 سنوات) تقيم الدّليل على أنّ الطبقة السياسية والفئة الاصلاحية في البلاد التونسية كما في البلدان العربية الاسلامية لم تتمثّلا بعمق الحقيقة التاريخية التي تفيد أن التحوّلات الصّحيحة - وهي التي تتراكم فيها المكاسب ولا تتراجع - تأتي نتيجة تغيّرات هيكليّة تمسّ البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في جوهرها لا في شكلها، كما تمسّ الذهنية والتصوّر والوعي سواء بسواء. أمّا الاصلاحات السياسية في تونس القرن التاسع عشر سواء في عهد الأمان (1857) أو في دستور (1861) فإنّها تكاد تكون فوقية لم تتجاوز المستوى الاجرائي.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • ابن أبي الضياف أحمد، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، الدار التونسية للنشر،1990، جزءان.