صالح القرمادي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

القرمادي (1354 - 1402 هـ‍) (1933 - 1982 م).

صالح بن الهادي القرمادي (بالقاف المعقدة المفتوحة والراء المهملة الساكنة) الباحث الممتاز والعالم بالألسنية، والأديب والأستاذ بالجامعة التونسية كلية الآداب والعلوم الإنسانية.

ولد بتونس في 12 أفريل سنة 1933.

ويبدو أن دراسته الابتدائية لم تخل من تقلبات عديدة بدأها في المدرسة العمومية بساحة الحلفاوين ثم واصلها بعد فترة قصيرة في مدرسة من مدارس حي باب الجزيرة قبل أن ينتقل إلى مدرسة أبي عثمان القيطوني القرآنية الكائنة بنهج القنطرة القريبة من منزله، وقرأ فيها على السيد الباهي الأدغم الذي أظهر منذ البداية اهتماما خاصا بهذا التلميذ ذي الموهبة الخاصة، وقد ظل المترجم طول حياته يكن لهذا المعلم احتراما جليلا لأنه قاد خطواته الأولى على درب المعرفة.

وإلى جانب دراسته فقد أودع - حسب التقاليد التربوية في ذلك العهد - عند أحد نجاري الحي ليتدرب على تعلم صناعة، ثم أودع لدى أحد باعة الفخار بنهج سيدي محرز. وفي أوقات فراغه كان يعيش حياة كل أطفال الحي، فكان يلهو مع أترابه معاكسا المارة، وكان كذلك يقوم بدور المؤذن أو المقرئ في الجامع الصغير المجاور، وهو ما يفسر حبه الذي لازمه للتراتيل القرآنية ومدائح السلامية.

ويمكن القول بأنه سواء تعلق الأمر بمحيطه العائلي أو بمحيطه الاجتماعي الذي نشأ فيه فإنه قد تربى حسب التقاليد الشعبية التي ظل وفيا لها حتى النهاية وإن أصبح - فيما بعد - أحد المثقفين الكبار، ذلك العالم مادة لحكايته المعروفة «سعيد أو بذرة الحلفاوين» ولما كتب الشعر غنى مرابع صباه وخاصة في قصيدته «شارعنا».

وفي سنة 1946 نجح في مناظرة الدخول للمدرسة الصادقية، وبعد سبع سنوات تخرج منها محرزا على شهادة البكالوريا، واختار قسم الآداب الكلاسيكية شعبة (أ) فأصبح من التونسيين القلائل الذين درسوا اليونانية واللاتينية، علاوة عن لغته الوطنية والفرنسية والإنكليزية. ولعل معرفته المبكرة لهذه اللغات كلها هيئته فيما بعد للتخصص في الألسنية، ومن بين أساتذة العربية بالمعهد الصادقي الذين تركوا فيه أثرا كان يحب ذكر أحمد الغربي، وعبد الوهاب باكير، والشاذلي بو يحيى.

وعند ما كان طالبا بالمدرسة الصادقية لم يكن تلميذا نابها فقط بل شارك في الإضرابات العديدة التي نظمت احتجاجا على سياسة المستعمر، وطرد لأيام عديدة من المدرسة مع جماعة ممن كانوا يدرسون معه، وفي خضم المعركة الوطنية من أجل الاستقلال اكتشف الماركسية، فكان ذلك بمثابة العلامة الكبيرة على مسار التحولات الفكرية والميول السياسية له إذ حاول منذ ذلك التاريخ أن يوفق في سلوكه السياسي وطريقته في التفكير بين المكاسب الكونية للنظرية الجدلية، وبين الإرث الغني الذي أفرزته الحركة الوطنية التونسية.

وفي سنة 1954 عمل قيما بمدرسة خزندار فرع المدرسة الصادقية، وفي نفس المدة أعد بنجاح الدراسة التمهيدية لشهادة الإجازة بجامعة بوردو الفرنسية، ثم التحق بهذه المدينة حيث تحصل في ما بين سنتي 1955 و 1957 على ست شهادات عليا في العربية والإنكليزية، وإلى جانب هذه الحصيلة الهامة تحصل أيضا سنة 1957 على شهادات دراسات عليا حول ابن رشد، وعلى شهادة مماثلة في تاريخ الفلسفة العربية والاثنتان أعدهما تحت إشراف روجي أرنلديز ويبدو أنه في نفس السنة قام بتربص لغوي في الإنكليزية في مدينة كارديف من بلاد الغال، وخلال إقامته ببوردو نمى شغفه بالألسنية إذ إلى جانب الحظوة التي كان يلقاها هذا العلم عند البعض من رفاقه مثل خير الدين بن عثمان، فقد ساعده على طرق أبواب هذا التخصص دراسته لعلم الأصوات في اللغتين العربية والإنكليزية.

ثم بعد أن انتقل من بوردو إلى باريس قبل بنجاح في مناظرة التبريز للغة العربية في جوان 1958 وكان له نشاط سياسي في صلب المنظمات الطلابية المغربية، واتصال بالحركات التقدمية الفرنسية المتركزة أولا على الدفاع عن القضية التونسية، وقد كان هذا النشاط متجها في بدايته نحو الدفاع عن القضية التونسية لينتقل بعد عام 1956 نحو العمل على دعم التضامن مع الشعب الجزائري في نضاله من أجل الانعتاق والحرية.

ورجع إلى تونس في صائفة 1958 بصحبة زوجته جوليات وابنه فوزي الذي ما يزال رضيعا وهو يحمل في جرابه العديد من الشهائد ومزود بتجربة ثرية.

كان أحد العناصر البارزة التي تحملت عبء إقامة النواة الأولى للدراسات الأدبية واللغوية بالجامعة التونسية، وهو مثال الأستاذ الواسع الاطّلاع، وخاصة في الميدان اللغوي بما كان يتمتع به من تضلع في لغة الضاد، وإتقان للغات أجنبية متعددة.

وهو أستاذ محاضر في الألسنية بكلية الآداب وباحث بمركز الدراسات والبحوث الاقتصادية، وساهم في بعث مركز الدراسات والأبحاث الاجتماعية، ومؤسس قسم الألسنية به.

اختفى عن الوجود لعدة أيام وفي يوم الخميس 29 جمادى الأولى 1402/ 25 مارس 1982 وقع العثور على جثته في منطقة تاكلسة بالوطن القبلي بمكان يعرف برأس الفرطاس على مقربة من ثكنة قديمة مبنية تحت الأرض في شكل دهاليز يصل عمق بعضها إلى خمسة وأربعين مترا، وقد تحولت مع مرور الزمن إلى منتزه، ولعله نزل في أحد هذه الدهاليز وسقط وأصابته رضوض فخرج منه متعبا منهوكا مرضوضا فأصابه أجله، وكان لموته لوعة وأسى في أوساط زملائه بالجامعة ولدى تلامذته الكثيرين، وقد كان فقده - وهو في أوج عطائه - خسارة على التدريس والبحث المبتكر، فقد كان أستاذا ملتزما بالعلم والأدب الخلاق، وله بحوث وفيرة بالعربية والفرنسية نشرتها المجلات، وهي تتسم بالابتكار والتقصي، والروح العلمية الجادة الملتزمة.

مؤلفاته

1 - علم أصوات العربية لجان كانتينو نقله إلى العربية، وذيله بمعجم صوتي فرنسي عربي نشرته الجامعة التونسية، تونس 1966، 224 ص.

2 - اللحمة الحية، ديوان شعر على الطريقة الحديثة، نشر دار سيراس، تونس، الطبعة الأولى في 1970 والطبعة الثانية 1982 في 68 ص وفي آخره شعر بالفرنسية في 28 ص كتب له مقدمة زميل المترجم وصديقه الأستاذ توفيق بكار، جاء فيها ص 8 «شعر القرمادي عديم الوزن قليل القافية وهو مع ذلك شعر، والشعر ما إذا أزلت عنه دربكة الأوزان وتصفيق القوافي ظل شعرا لأن الشعر الجوهر والروح، وليست الأوزان والقوافي سوى وسائل محلية تزيد الشعر الحسن حسنا ... وتغطي عيوب الآخر».

ومناقشة الأستاذ بكار تطول نجتزئ منها بما يلي: «إن الشعر كسائر الفنون له شكليات لا بد من مراعاتها وهي هنا الوزن ولو على الطريقة الحديثة من وحدة التفعيلة، ودعواه أن الشعر الجوهر والروح غير صحيح على إطلاقه فهل أن النثر الذي فيه خيال وبعض الفقر الموزونة المقفاة يعد شعرا؟ لا يعد شعرا وإن كان فيه بعض عناصر الشعر، ثم إنه يستدرك أن الأوزان والقوافي تزيد الشعر الحسن حسنا وتغطي عيوب الآخر وفي هذا اعتراف بفضل الوزن والقافية على الشعر وأنهما تزيدان الحسن حسنا، أما دعواه أن القافية والوزن يغطيان عيوب الشعر غير الحسن فغير صحيح فإن الشعر الضعيف والذي فيه حشو يبقى بادي السوأة للعيان لا تستره القوافي والأوزان، ثم إن للشعر لغة خاصة تميل إلى التركيز، وعدم الإفراط في ذكر التفاصيل، وعدم التكرار الممل والبعد عن الإسفاف، وتناول المعاني الصغيرة والأشياء التافهة بحجة الاستمساك بالواقعية».

وقال في ص 6: «وهذا عذاب القبر يجرده من هوله فإذا هو (موربريزبارتي) وعشاق تحت اللحود وبين الحشرات وهذه طقوس الموت لا يبيح منها إلاّ أن يبول القط على ضريحه».وهو يشير إلى قصيدته التي هي بعنوان: «نصائح إلى أهلي بعد موتي» ص 20 ولا تمنعوا القطط من البول على ضريحي، فقد اعتادت أن تبول على جدار بيتي، أهذا شعر؟ إنه أشبه بالكلام العادي الذي لا رواء فيه ولا جمال ولا خيال زيادة عن تفاهة المعنى، فما يهم القارئ أن تبول القطط أو غيرها على ضريحه، ثم لاحظ ما في لفظة البول من ذوق وبعد عن الشاعرية.

وقال الأستاذ بكار في ص 8: لقد لوى عنكوش (1) البلاغة بيدين خشنتين فهو يحدثك بلغة يعرب ولغة الحلفاوين معا ويقطع «المألوف (2) بالعروبي» وأن عباراته العامية لتنفلق في الكلام الفصيح «كالتقريعة» بين المتأدبين «تضر تقريعة» الصحة والعافية.

صحيح أنه أكثر من استعمال الكلمات العامية، وحاول لأستاذ بكار أن يبررها ولكنه كلام غير مقنع لأن هذه الألفاظ التي أوردها يمكن تعويضها بالفصيح، ولاستعمال الألفاظ العامية مجال في غير الشعر الفصيح، ولأن هذه الألفاظ التي أوردها لا شحنة معنوية أو نفسية لها حتى يقال إن تفصيحها يفسد مذاقها، وفي قصيدة الأمل ص 27:

عام الفيل وعام الفيل … فيل عام وعام

ليال وأيام … ثم أمل

عام الفيل وعام الفيل وعام الفيل … فيل عام وعام

ليال وأيام … ثم أمل

عام الفيل وعام الفيل وعام الفيل … ثلاثة أعوام وفيل

تململ وجرح … عام الفيل وعام الفيل وعام الفيل وعام الفيل

قتل وألف وأربعمائة وواحد وستون يوما … قلق وضجر ثم هل

إلخ

هل في هذا التكرار الممل نفحة من نفحات الشعر؟ ونكتفي بإيراد هذا القدر من الديوان وبه يتبين للقارئ أنه ليس بشعر أو الأحرى أن يسمى خواطر منثورة.

إني لست خصما للشعر العصري الحديث، لكن المجيدين في هذا الشعر قليلون في العالم العربي كله، فمنهم من له مواهب شعرية تأسر بألفاظها ومعانيها، وعلى شعرهم رواء وجمال، ومنهم من يرصف الألفاظ كيفما اتفق ولو كانت متنافرة لا تلاؤم بينها، وليست له مواهب شعرية، وكلامهم ليس فيه رونق وجمال وسمو فكرة مع ميل إلى الإغراب والخروج عن المعتاد المألوف من تقاليد وآداب بدعوى الواقعية، ويا لها من واقعية تنحدر بالشعر إلى الدركات، إنهم علقوا لافتة الشعر الحديث لجلب الأنظار والسكوت عن قعقعاتهم الفارغة لأن لألفاظ الحداثة والتجديد وما اشتق منهما سحر الاستهواء للنفوس.

3 - سأهبك غزالة لمالك حداد الكاتب الجزائري ترجمه عن الفرنسية الدار التونسية للنشر تونس 1968، 181 ص. أشكر الأخ الأستاذ سعد غراب فقد وجه لي من تونس نشرتين خاصتين بالمترجم لم تصلا إلى صفاقس، بارك الله فيه وأثابه.

المصدر:

محمد محفوظ، تراجم المؤلفين التونسيين، دار الغرب الإسلامي، بيروت، الطبعة الأولى، 1982،ج4، ص ص69-75.