«أحمد الدرعي»: الفرق بين المراجعتين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
 
(مراجعة متوسطة واحدة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة)
سطر 1: سطر 1:
 
[1902 - 1965م]
 
[1902 - 1965م]
  
ولد النقابي [[أحمد الدرعي]] ب[[تونس]] في 25 نوفمبر 1902. وهو من رجال التحديث الاجتماعي الذين واكبوا حركة [[محمد علي الحامي]] النقابية وساندوها وأيّدوا مُجمل الأفكار التحرّرية التي صدع بها رفيقه [[الطاهر الحداد|الطاهر الحدّاد]] في كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع. زاول دراسته الابتدائية في الكتّاب ثم التحق ب[[جامع الزيتونة]] حيث أحرز درجة "التطويع" سنة 1922. وأدرك مُبكّرا ضرورة إصلاح التعليم التقليدي، فأقبل على تعلّم اللغة الفرنسية والتحق بالمدرسة العلوية فنال شهادة الديبلوم العربي. وكلّل دراسته العالية بشهادة الحقوق، هذا بالاضافة إلى إتقانه الترجمة.
+
ولد [[أحمد الدرعي]] بتونس العاصمة في 25 نوفمبر 1902 بباب الجديد، ونشأ في عائلة برجوازية اعتنت بالتعليم حيث كان والده [[عبد الرحمان الدرعي]] مدرسا بجامع الزيتونة كما كان جدّه من جهة الأم [[إسماعيل الصفايحي]] مدرسا زيتونيا ثم تولى الفتيا في تركيا حين انتقاله إليها.
 +
حاز تعليما تقليديا، إذ التحق بدءا بالكتّاب لحفظ القرآن ثم ب[[جامع الزيتونة]] ليحصل منه على درجة التطويع سنة 1922، لكنه أدرك أن التعليم التقليدي قاصر عن فتح مزيد من الآفاق أمامه فلم يكتف بما نال منه فتعلم اللغة الفرنسية والتحق ب[[المدرسة العلوية]] ليحصل منها على شهادة "الديبلوم العربي" وكلّل دراسته العليا بشهادة الحقوق ثم عيّن وكيلا في المحاكم الشرعية التونسية.
 +
عرف في حياته العائلية اليتم والترمّل المبكرين إذ توفيت والدته وهو صغير السن وتزوج سنة 1942 لكن زوجته توفيت سنة 1948 وقد رزق منها بولدين وبنت فآثر عدم تكرار تجربة الزواج واعتنى بتربية أبنائه  رفقة جدتهم للأم.
 +
كان أحمد الدرعي من الدعاة إلى التحديث الاجتماعي والديني، فناصر كلاّ من الشيخ [[عبد العزيز الثعالبي]] و[[محمد علي الحامي]] و[[الطاهر الحداد]] داعيا إلى الإصلاح والاجتهاد وتجديد فهم النصوص الدينية التشريعية حتى اتهم بالكفر ولم يُسْتَسَغْ زواجه سنة 1942 فعاتب البعض والد زوجته محمد الدزيري على تزويج ابنته من كافر.  
 +
أسس أحمد الدرعي مع رفيقه [[زين العابدين السنوسي]] في مطلع العشرينات جمعية "ا[[لجامعة الزيتونية]]" التي كانت لبنة هامة في التيار الإصلاحي الزيتوني  الذي نشأ مع المشائخ محمد السنوسي ومحمد النخلي وعبد العزيز الثعالبي.
 +
لم يكن أحمد الدرعي بمنأى عن الحياة السياسية في تونس آنذاك فهو من أوائل المنخرطين في [[الحزب الحر الدستوري]]  سنة1920 وأسس نادي المركاض للحزب الحر الدستوري في مسقط رأسه، خاض الدرعي معركة شرسة ضد قانون التجنيس الذي صدر في 20 ديسمبر1923 متنقلا بين عدة مدن تونسية منددا بهذا القانون ووجّه صحبة السيد [[الطيب العمري]] إثر اجتماع بمدينة السرس برقية احتجاج إلى [[محمد الحبيب باي]] مطلعها:
 +
إنّ أوامر التجنيس تجعل ملككم
 +
"ألقاب سلطنة في غير موضعها
 +
كالهرّ يحكي انتفاحا صولة الأسد"
  
فكانت مسيرته التعليمية مثالا في المثابرة والارتقاء. باشر [[المحاماة في تونس|المحاماة]] وترك ثلاثة كُتُب مخطوطة أشرف على تحقيقها محمد أنور بوسنينة صدر منها كتابان: "حياة [[الطاهر الحداد|الطاهر الحدّاد]]"، الدار العربية للكتاب، تونس، 1975 و"دفاعا عن الحدّاد"، [[تونس]]، مؤسسات عبد الكريم بن عبد الله، 1976. ومازال الثالث غير منشور وهو بعنوان: الزوايا والمجتمع التونسي في النصف الأول من القرن العشرين.
+
أوقف بعدها وحوكم بتهمة التطاول على الحضرة العلية وصدر ضده حكم بستة أشهر مع تأجيل التنفيذ. وانتقد مع رفيقه الطاهر الحداد الحزب الحر الدستوري وطرق عمله المهلهلة في السياسة إذ انحصر نشاطه في الاحتجاج التلغرافي دون أن يخوض غمار الكفاح والمقاومة، فرفض مع الحداد الانضمام إلى اللجنة التنفيذية التي كانت في نظرهم غير ذات جدوى تكرّس الصورة الصورية للحزب.  
  
تشبّع [[أحمد الدرعي]] بروح التحديث الاجتماعي والديني وكان من دعاة الاجتهاد وإعمال الفكر لاقتلاع ما رسخ في عقول أهل البلاد من فهم خاطئ لعدد من العقائد الدينية والنصوص الشرعية. فهو ينتمي إلى التيّار الاصلاحي الزيتوني الذي بشّر به المشايخ [[محمد السنوسي]] و [[محمد النخلي]] و [[عبد العزيز الثعالبي]].
+
لم يثن جمود الحزب الدستوري وانقطاعه عنه أحمد الدرعي عن النضال السياسي فواصل ترويج أفكاره التقدمية التحررية فآل الأمر إلى أن أدرجته سلطات الاستعمار الفرنسي آنذاك في القائمة السوداء إثر ورود برقيات تكشف ضلوعه في التخطيط لمحاولة بث البلبلة لمنع الاحتفال بخمسينية معاهدة الحماية سنة 1931، وكان من نتائج ذلك أن حجّرت عليه ممارسة القضاء.
  
ولعلّ تأسيسه لجمعية "الجامعة الزيتونية" في مطلع العشرينات بالاشتراك مع رفيقه [[زين العابدين السنوسي]] خير شاهد على ما كان يختلج في صدر هذا المصلح من حماسة وإقدام.
+
وفي خضم التحوّلات الاجتماعية والفكرية التي عرفتها تونس عقب الحرب العالمية الأولى اتجه أحمد الدرعي صحبة الطاهر الحداد إلى العمل النقابي مع بداية تجربة محمد علي وتأسيس جامعة العملة التونسيين ووجد فيه صدى للمنحى المعارض للحزب الحر الدستوري ولأفكاره التقدمية، فكان من المساهمين الأوائل في الأعمال الأولى لتأسيس جمعية التعاون الاقتصادي التونسي (29 جوان 1924)، وانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية الوقتية لجامعة عموم العملة مكلفا بالمراقبة(03 ديسمبر1924). وقد رأى [[محيي الدين القليبي]] وأنصار الحزب القديم في ذلك خيانة لهم  فضمّ اسمه إلى قائمة الخونة.
ففي 20 ديسمبر 1923، صدر قانون التجنيس المتعلق بإجراءات إسناد الجنسية الفرنسية إلى المتساكنين في الإيالة التونسية. فهبّت الصحافة الوطنية لمقاومة هذا القانون، وتزعّم الحزب الحرّ الدستوري التونسي الحملة الشعواء على التونسيين المتجنّسين بالجنسية الفرنسية. وقد أسهم الشابّ [[أحمد الدرعي]] في هذه الحملة، فوجّه برقية احتجاج إلى أمير البلاد [[محمد الحبيب|محمّد الحبيب باي]] جاء في مطلعها ما يلي:(بسيط):
 
  
"إنّ أوامر التجنيس تجعل ملككم
+
التزم أحمد الدرعي بالعمل النقابي فكانت له إسهامات هامة فيه وأدّى دورا هاما باعتباره مفاوضا بين قادة الحزب الدستوري والزعيم النقابي محمد على الحامي وعمل مراسلا لبعض الصحف الناطقة بالفرنسية منها " تونس الاشتراكية" و"المستقبل الاجتماعي". واهتم باعتباره نقابيا بمشاكل العملة والدفاع عن حقوقهم فناضل من أجل أن ينال عمال وكالة التبغ حقوقهم وأسس لهم ضمن جامعة عموم العملة تعاضدية النجاح للمساكن.
 +
ويعبر [[الطاهر الحداد]] عن أهمية الدور النقابي لأحمد الدرعي في كتابه العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية قائلا" وهو من خيرة الشباب الساعين لخير بلادهم، شعور حي وفكرة صحيحة وعميقة، يؤمن بأولوية الحركة الاجتماعية، ويراها منبع القوّة الشعبية وسبيل الفوز في الحياة. أعطى كل وقته للعمل في الحركة النقابية، ولم يكن له عمل غيرها، وكان في ذلك ساعيا مجدّا ونشيطا بحضر الاجتماعات العمومية والطائفية للعمال، ويسافر لتفقّد النقابات التي تأسست آنذاك في الخط الشمالي ويعطي التعليمات والإرشادات العمومية مباشرة. واختص في إدارة الجامعة بعمل الترجمة للصحافة الفرنسية في كل ما يهم الجامعة وتتبع منشوراتها."1 
 +
 
 +
جمعته علاقة وثيقة  بال[[طاهر الحداد]] إذ تشاركا في الرؤية الاصلاحية التحديثية ذاتها فالتطور لا يتحقق في نظر الدرعي إلا" بالنهوض بالمرأة  وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للعمال". وقد ساند رفيقه الحداد في الحملة الشرسة التي شنّت ضده إثر صدور كتابه  امرأتنا في الشريعة والمجتمع فشارك في حفل تكريم  صاحب الكتاب الذي أقيم في كازينو البلفدير في تونس العاصمة يوم 17 أكتوبر 1930 بكلمة بيّن فيها  منطلقات الحداد الإصلاحية وأبعادها وسخّر قلمه للدفاع عن الحداد سواء في الصحف التونسية آنذاك أو في كتابيه حياة الطاهر الحداد و دفاعا عن الحداد  وظلّ الحداد ملازما له في أغلب كتاباته التي لم تنشر بعد وخاصة في عمله المجتمع التونسي في النصف الأول من القرن العشرين الذي ينشر اليوم ضمن الإعمال الكاملة التي يصدرها المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون- بيت الحكمة.
 +
وباعتبار تكوينه الحقوقي وعمله وكيلا ثم تسميته قاضيا بعد الاستقلال، وهي الخطة التي حرم منها  قبلا بسبب مواقفه السياسية والنقابية، بادر أحمد الدرعي إلى نقد مجلة المرافعات الشرعية فنشر سلسلة من المقالات على أعمدة جريدة الصباح أثارت جدلا بينه وبين شيخ الإسلام آنذاك عبد العزيز جعيط  وآل الأمر في النهاية إلى إلغاء تلك المجلة.
 +
أصيب أحمد الدرعي في حادث مرور أدى إلى إصابته بسقوط نسبي في يده اليمنى دعاه على إثره الحبيب بورقيبة وطلب منه أن يكتب كتابا عن الحزب الحر الدستوري القديم فطلب آنذاك من وزير العدل الهادي خفشة  تفرغا بسنة واحدة ولم يلق طلبه ذلك القبول لكنه تمكّن من كتابة نص يجمع الأدب بالتاريخ ويسلط الضوء على فترة هامة من تاريخ تونس الحديث في نصه الموسوم بالمجتمع التونسي خلال النصف الأوّل من القرن العشرين. 
  
ألقاب سلطنة في غير موضعها
+
واصل الدرعي العمل الاجتماعي الذي بدأه قبل الاستقلال، فبعد تأسيسه لجمعية الزيتونة الرياضية سنة 1927 التي رأى فيها شيخ جامع الزيتونة آنذاك لهوا ينافي الأخلاق الحميدة أسس إثر الاستقلال  جمعية المكفوفين التونسيين سنة1956 وأصدر مجلة المكفوف التي تهتم بقضايا المكفوفين ومشاغلهم.  
+
توفي أحمد الدرعي في ذات البيت الذي نشأ وقضى حياته فيه يوم 7 جانفي من سنة  1965  تاركا رصيدا فكريا ثريا نشر منه كتابان  تولى تحقيقهما محمد أنور بوسنينة وهما حياة الطاهر الحداد ودفاعا عن الحداد، وظلت بقية أعماله مخطوطة توزعت بين الأعمال الأدبية والمقالات الفكرية التي تناولت قضايا فكرية دينية واجتماعية وقانونية، وهي الآثار التي عمل بيت الحكمة على نشرها في هذا الكتاب.  
كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسَد "
 
 
 
فأُحيل صاحب البرقية على المحكمة الجنائية ب[[تونس]] بتهمة التطاول على مقام "الحضرة العلية". فصدر عليه الحكم بستة أشهر سجنا مع تأجيل التنفيذ.
 
وفي خضمّ التحوّلات الاجتماعية والثقافية التي حدثت ب[[تونس]] إثر الحرب العالمية الاولى، وعلى وجه التحديد في سنة 1923، كان [[الطاهر الحداد]] صحبة رفيقه [[أحمد الدرعي]] "يصدع في النوادي بانتقاد طرق العمل المهلهلة في السياسة التي سلكها قادة الحزب الدستوري". واقترن هذا التوجّه المعارض ببداية تجربة [[محمد علي الحامي|محمد علي الحامّي]] الرائدة في الحقل الاجتماعي. فكان [[أحمد الدرعي]] من المسهمين في الأعمال الأولى لتأسيس جمعية التعاون الاقتصادي التونسي (29 جوان 1924). وانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية الوقتية لجامعة عموم العملة التونسية، وكُلّف بالمراقبة (3 ديسمبر 1924). وقد وصف [[الطاهر الحداد|الطاهر الحدّاد]] رفيقه [[أحمد الدرعي]] في كتابه العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية (طبعة1972، ص 158) كما يلي:
 
"وهو من خيرة الشباب الساعين لخير بلادهم، شعور حيّ وفكرة صحيحة وعميقة، يؤمن بأوّلية الحركة الاجتماعية، ويراها منبع القوّة الشعبية وسبيل الفوز في الحياة. أعطى كلّ وقته للعمل في الحركة النقابية، ولم يكن له عمل غيرها، وكان في ذلك ساعيا مجدّا ونشيطا يحضر الاجتماعات العمومية والطائفية للعمّال، ويسافر لتفقّد النقابات التي تأسست إذ ذاك في الخطّ الشمالي ويعطي التعليمات والارشادات العمومية مباشرة. واختصّ في إدارة الجامعة بعمل الترجمة للصحافة الفرنسية في كلّ ما يهمّ الجامعة وتتبّع منشوراتها من أجل ذلك...".
 
 
 
وممّا يؤكّد هذه الشهادة ما قام به [[أحمد الدرعي]] من دور، باعتباره مفاوضًا بين قادة الحزب الدستوري وبين الزعيم النقابي محمد علي، ومراسلاً للصحف الناطقة باللغة الفرنسية مثل "تونس الاشتراكية" و"المستقبل الاجتماعي". ومن ناحية أخرى، فقد حمّل [[أحمد الدرعي]] أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري مسؤولية ابتعاد العماّل عن الحزب، وطالب بعقد مؤتمر موسّع للبحث في هذه القضية.
 
ويبرز إيمانه بالاصلاح الاجتماعي في ما أبداه من وفاء وجرأة للدفاع عن رفيقه [[الطاهر الحداد|الطاهر الحدّاد]] عند صدور كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع في سنة 1930، وما أثاره من ضجّة في الأوساط الدينية والثقافية.
 
وقد ظهر ذلك في مناسبتين مهمّتين: أولاهُما الاسهام في حفل التكريم الذي أُقيم في كازينو البلفيدير بالعاصمة يوم 17 أكتوبر 1930، وذلك بإلقاء كلمة مطوّلة حول منطلقات الحدّاد الاصلاحية وأبعادها. والأخرى بالردّ على خصوم الحدّاد في الصحافة، مؤكّدا بالخصوص "أن الذين يثيرون هذه الحملة يعلمون أن الدهر سيسخر من حمقهم، وأن الأجيال المقبلة ستُكبر العمل الذي يصخبون حوله الان، فينفثون مستترين ما في صدورهم من غلّ اتّقاءً للفضيحة التي يتحقّقونها..." وقد واصل [[أحمد الدرعي]] نضاله في الحقل الاجتماعي في فترة [[استقلال تونس|الاستقلال]]، فأسهم في الجدل الذي دار حول إصلاح القضاء التونسي وتوحيده. فانتدب قاضيا في سنة 1957، وكان إسهامه في تأسيس الاتحاد القومي للمكفوفين أروع شاهد على ما كان يختلج في نفسه من مشاعر إنسانية وجّهت حياته وأفكاره. وتوفّي يوم 25 جانفي 1965.
 
  
 +
'''الهوامش:'''
 +
1-الطاهر الحداد، العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية، طبعة 1927، ص158.
 
[[تصنيف:الموسوعة التونسية]]
 
[[تصنيف:الموسوعة التونسية]]
 
[[تصنيف:الحركة النقابية]]
 
[[تصنيف:الحركة النقابية]]
 
[[تصنيف:الاصلاح]]
 
[[تصنيف:الاصلاح]]

المراجعة الحالية بتاريخ 08:36، 11 مارس 2019

[1902 - 1965م]

ولد أحمد الدرعي بتونس العاصمة في 25 نوفمبر 1902 بباب الجديد، ونشأ في عائلة برجوازية اعتنت بالتعليم حيث كان والده عبد الرحمان الدرعي مدرسا بجامع الزيتونة كما كان جدّه من جهة الأم إسماعيل الصفايحي مدرسا زيتونيا ثم تولى الفتيا في تركيا حين انتقاله إليها. حاز تعليما تقليديا، إذ التحق بدءا بالكتّاب لحفظ القرآن ثم بجامع الزيتونة ليحصل منه على درجة التطويع سنة 1922، لكنه أدرك أن التعليم التقليدي قاصر عن فتح مزيد من الآفاق أمامه فلم يكتف بما نال منه فتعلم اللغة الفرنسية والتحق بالمدرسة العلوية ليحصل منها على شهادة "الديبلوم العربي" وكلّل دراسته العليا بشهادة الحقوق ثم عيّن وكيلا في المحاكم الشرعية التونسية. عرف في حياته العائلية اليتم والترمّل المبكرين إذ توفيت والدته وهو صغير السن وتزوج سنة 1942 لكن زوجته توفيت سنة 1948 وقد رزق منها بولدين وبنت فآثر عدم تكرار تجربة الزواج واعتنى بتربية أبنائه رفقة جدتهم للأم. كان أحمد الدرعي من الدعاة إلى التحديث الاجتماعي والديني، فناصر كلاّ من الشيخ عبد العزيز الثعالبي ومحمد علي الحامي والطاهر الحداد داعيا إلى الإصلاح والاجتهاد وتجديد فهم النصوص الدينية التشريعية حتى اتهم بالكفر ولم يُسْتَسَغْ زواجه سنة 1942 فعاتب البعض والد زوجته محمد الدزيري على تزويج ابنته من كافر. أسس أحمد الدرعي مع رفيقه زين العابدين السنوسي في مطلع العشرينات جمعية "الجامعة الزيتونية" التي كانت لبنة هامة في التيار الإصلاحي الزيتوني الذي نشأ مع المشائخ محمد السنوسي ومحمد النخلي وعبد العزيز الثعالبي. لم يكن أحمد الدرعي بمنأى عن الحياة السياسية في تونس آنذاك فهو من أوائل المنخرطين في الحزب الحر الدستوري سنة1920 وأسس نادي المركاض للحزب الحر الدستوري في مسقط رأسه، خاض الدرعي معركة شرسة ضد قانون التجنيس الذي صدر في 20 ديسمبر1923 متنقلا بين عدة مدن تونسية منددا بهذا القانون ووجّه صحبة السيد الطيب العمري إثر اجتماع بمدينة السرس برقية احتجاج إلى محمد الحبيب باي مطلعها: إنّ أوامر التجنيس تجعل ملككم "ألقاب سلطنة في غير موضعها كالهرّ يحكي انتفاحا صولة الأسد"

أوقف بعدها وحوكم بتهمة التطاول على الحضرة العلية وصدر ضده حكم بستة أشهر مع تأجيل التنفيذ. وانتقد مع رفيقه الطاهر الحداد الحزب الحر الدستوري وطرق عمله المهلهلة في السياسة إذ انحصر نشاطه في الاحتجاج التلغرافي دون أن يخوض غمار الكفاح والمقاومة، فرفض مع الحداد الانضمام إلى اللجنة التنفيذية التي كانت في نظرهم غير ذات جدوى تكرّس الصورة الصورية للحزب.

لم يثن جمود الحزب الدستوري وانقطاعه عنه أحمد الدرعي عن النضال السياسي فواصل ترويج أفكاره التقدمية التحررية فآل الأمر إلى أن أدرجته سلطات الاستعمار الفرنسي آنذاك في القائمة السوداء إثر ورود برقيات تكشف ضلوعه في التخطيط لمحاولة بث البلبلة لمنع الاحتفال بخمسينية معاهدة الحماية سنة 1931، وكان من نتائج ذلك أن حجّرت عليه ممارسة القضاء.

وفي خضم التحوّلات الاجتماعية والفكرية التي عرفتها تونس عقب الحرب العالمية الأولى اتجه أحمد الدرعي صحبة الطاهر الحداد إلى العمل النقابي مع بداية تجربة محمد علي وتأسيس جامعة العملة التونسيين ووجد فيه صدى للمنحى المعارض للحزب الحر الدستوري ولأفكاره التقدمية، فكان من المساهمين الأوائل في الأعمال الأولى لتأسيس جمعية التعاون الاقتصادي التونسي (29 جوان 1924)، وانتخب عضوا في اللجنة التنفيذية الوقتية لجامعة عموم العملة مكلفا بالمراقبة(03 ديسمبر1924). وقد رأى محيي الدين القليبي وأنصار الحزب القديم في ذلك خيانة لهم فضمّ اسمه إلى قائمة الخونة.

التزم أحمد الدرعي بالعمل النقابي فكانت له إسهامات هامة فيه وأدّى دورا هاما باعتباره مفاوضا بين قادة الحزب الدستوري والزعيم النقابي محمد على الحامي وعمل مراسلا لبعض الصحف الناطقة بالفرنسية منها " تونس الاشتراكية" و"المستقبل الاجتماعي". واهتم باعتباره نقابيا بمشاكل العملة والدفاع عن حقوقهم فناضل من أجل أن ينال عمال وكالة التبغ حقوقهم وأسس لهم ضمن جامعة عموم العملة تعاضدية النجاح للمساكن. ويعبر الطاهر الحداد عن أهمية الدور النقابي لأحمد الدرعي في كتابه العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية قائلا" وهو من خيرة الشباب الساعين لخير بلادهم، شعور حي وفكرة صحيحة وعميقة، يؤمن بأولوية الحركة الاجتماعية، ويراها منبع القوّة الشعبية وسبيل الفوز في الحياة. أعطى كل وقته للعمل في الحركة النقابية، ولم يكن له عمل غيرها، وكان في ذلك ساعيا مجدّا ونشيطا بحضر الاجتماعات العمومية والطائفية للعمال، ويسافر لتفقّد النقابات التي تأسست آنذاك في الخط الشمالي ويعطي التعليمات والإرشادات العمومية مباشرة. واختص في إدارة الجامعة بعمل الترجمة للصحافة الفرنسية في كل ما يهم الجامعة وتتبع منشوراتها."1

جمعته علاقة وثيقة بالطاهر الحداد إذ تشاركا في الرؤية الاصلاحية التحديثية ذاتها فالتطور لا يتحقق في نظر الدرعي إلا" بالنهوض بالمرأة وتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية للعمال". وقد ساند رفيقه الحداد في الحملة الشرسة التي شنّت ضده إثر صدور كتابه امرأتنا في الشريعة والمجتمع فشارك في حفل تكريم صاحب الكتاب الذي أقيم في كازينو البلفدير في تونس العاصمة يوم 17 أكتوبر 1930 بكلمة بيّن فيها منطلقات الحداد الإصلاحية وأبعادها وسخّر قلمه للدفاع عن الحداد سواء في الصحف التونسية آنذاك أو في كتابيه حياة الطاهر الحداد و دفاعا عن الحداد وظلّ الحداد ملازما له في أغلب كتاباته التي لم تنشر بعد وخاصة في عمله المجتمع التونسي في النصف الأول من القرن العشرين الذي ينشر اليوم ضمن الإعمال الكاملة التي يصدرها المجمع التونسي للآداب والعلوم والفنون- بيت الحكمة. وباعتبار تكوينه الحقوقي وعمله وكيلا ثم تسميته قاضيا بعد الاستقلال، وهي الخطة التي حرم منها قبلا بسبب مواقفه السياسية والنقابية، بادر أحمد الدرعي إلى نقد مجلة المرافعات الشرعية فنشر سلسلة من المقالات على أعمدة جريدة الصباح أثارت جدلا بينه وبين شيخ الإسلام آنذاك عبد العزيز جعيط وآل الأمر في النهاية إلى إلغاء تلك المجلة. أصيب أحمد الدرعي في حادث مرور أدى إلى إصابته بسقوط نسبي في يده اليمنى دعاه على إثره الحبيب بورقيبة وطلب منه أن يكتب كتابا عن الحزب الحر الدستوري القديم فطلب آنذاك من وزير العدل الهادي خفشة تفرغا بسنة واحدة ولم يلق طلبه ذلك القبول لكنه تمكّن من كتابة نص يجمع الأدب بالتاريخ ويسلط الضوء على فترة هامة من تاريخ تونس الحديث في نصه الموسوم بالمجتمع التونسي خلال النصف الأوّل من القرن العشرين.

واصل الدرعي العمل الاجتماعي الذي بدأه قبل الاستقلال، فبعد تأسيسه لجمعية الزيتونة الرياضية سنة 1927 التي رأى فيها شيخ جامع الزيتونة آنذاك لهوا ينافي الأخلاق الحميدة أسس إثر الاستقلال جمعية المكفوفين التونسيين سنة1956 وأصدر مجلة المكفوف التي تهتم بقضايا المكفوفين ومشاغلهم. توفي أحمد الدرعي في ذات البيت الذي نشأ وقضى حياته فيه يوم 7 جانفي من سنة 1965 تاركا رصيدا فكريا ثريا نشر منه كتابان تولى تحقيقهما محمد أنور بوسنينة وهما حياة الطاهر الحداد ودفاعا عن الحداد، وظلت بقية أعماله مخطوطة توزعت بين الأعمال الأدبية والمقالات الفكرية التي تناولت قضايا فكرية دينية واجتماعية وقانونية، وهي الآثار التي عمل بيت الحكمة على نشرها في هذا الكتاب.

الهوامش: 1-الطاهر الحداد، العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية، طبعة 1927، ص158.