منور صمادح

من الموسوعة التونسية
نسخة 09:26، 21 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
منور صمادح

[1931 - 1998م]

هو منوّر بن إبراهيم صمادح بن عثمان المصعبي، ولد أبوه بنفطة سنة 1885، وكان على ما يبدو من سلالة أندلسية، إذ كان المعتصم بن صمادح أميرا بالميرية بالأندلس. وقد هاجرت الأسرة إلى البلاد التونسية ومازال بعض أفرادها يقطنون في باجة. وقد عُرفت مدينة نفطة بالجوّ العلمي الثقافي السائد فيها وبالحلقات العلمية التي تُعقد بعد الصلاة بالمساجد، وكان الطلبة يفدون إليها من كلّ الجهات. واشتهرت بعض أحيائها مثل حي علقمة وحيّ الشرفاء وحيّ المواعدة بالتنافس على تشجيع العلم وجلب العلماء. وقد كثرت المكتبات بهذه المدينة فساعد ذلك على نشر المعرفة.

درس الشيخ إبراهيم صمادح بنفطة ثم بجامع الزيتونة بتونس والتحق بعد ذلك بجامعة الأزهر بالقاهرة واختصّ في الفقه والتوحيد. وكان ينزع نزعة صوفية وينتمي إلى فرقة سيدي أبي علي السنّي. ومن زواج ثان أنجب بنتا وثلاثة أبناء أوسطهم منوّر الذي وُلد في 17 سبتمبر 1931 وزاول دراسته بالكتّاب فحفظ القرآن. ولمّا توفّي الشيخ إبراهيم صمادح سنة 1941 كان عمر منوّر عشر سنوات، ولم يلتحق بالدراسة لأنّ العائلة لم تكن قادرة على الانفاق على كلّ الأطفال، واضطُرّ إلى العمل بائعا متجوّلا، كما اضطُرّت الأسرة إلى بيع جلّ المكتبة الضخمة التي خلّفها الأب.

وفي سنة 1944، قصد الشابّ خاله محمد الناصر الحشّاني الذي كان يشتغل خبّازا بسيدي عمر بوحجلة قرب القيروان وتعاطى معه صناعة الخبز ليكسب قوته. وكان خاله ميّالا إلى المرح ومجالسة "أدباء" القرية. فتردّد منوّر على هذه المجالس وشارك في الأحاديث الأدبية والسياسيّة. وفي سنة 1946، أصبح العمل لا يدرّ على منوّر وخاله إلاّ قليلا من المال لا يكفي لسدّ رمقهما فاضطرّا إلى الانتقال إلى قرية سيدي علي بن نصر الله ثمّ إلى حاجب العيون. ولكنّ ذلك لم يجعلهما في مأمن من الفقر والبؤس فقصدا مدينة مكثر حيث تحسّنت حالهما.

وفي هذه الفترة أولع منوّر بالشعر ومطالعة الصحف وانخرط في المنظّمة الكشفية فساعده ذلك على حفظ الأناشيد وأيقظ فيه الإحساس الوطني. وفي هذه الفترة أيضا نظم أوّل قصيدة بتشجيع من خاله وعنوانها "ابتسم يا شعب"، وقد نشرت بجريدة "الحرية". وفي سنة، ألقى قصيدة "نار القول" أمام الزعيم الحبيب بورقيبة إثر عودته من الشرق (مجزوء الرمل):

أيها القوم اسمعوني ها أنا فيكم أنادي
تُضرم النيران قلبي في الورى مثل الزناد
وحّدوا الجهد ولبّوا من دعا للاتحاد

وكان يلبس عند إلقائه القصيدة زيّ الخبّازين فأعجب به الزعيم بورقيبة وأوصى بتشجيعه على الدراسة بجامع الزيتونة. ويبدو أنّ منوّر اتّصل بمكتب الحزب الدستوري لكنّه لم يجد العناية والاهتمام اللذين كان يرجوهما فخاب أمله وعاد إلى مكثر للعمل. ثمّ رجع مرّة أخرى إلى تونس فالتقى فيها بالأديب والصحافي زين العابدين السنوسي صاحب "مطبعة العرب"، فشجّعه ونشر له بعض القصائد في صحيفة "تونس" وشغّله معه وكلّفه بجمع عائدات الصحف في مناطق الشمال الغربي وبمراسلة الصحيفة في الوقت نفسه. وتردّد منوّر في تلك الفترة على المعهد الرشيدي والحلقات الأدبيّة التي تعرّف فيها على عبد الرزّاق كرباكة ومصطفى خريّف ومحمد العربي الكبادي. وكان يقيم بنزل العياشي ولما انتقل زين العابدين السنوسي إلى حلق الوادي انتقل معه الشاعر وطالع في مكتبته الثريّة الكثير من مؤلّفات أبي القاسم الشابي والطاهر الحدّاد وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وجبران خليل جبران وأحمد شوقي وغيرهم. لكنّه لم يلبث أنّ رجع إلى العمل مع خاله الذي استقرّ بالبقالطة فطائريّا. وكانت أسرته قد انتقلت إلى لمطة فالتحق بها منوّر ونظم هناك قصيدة مطوّلة بعنوان "الفردوس المغتصب" أهداها إلى الزعيم الحبيب بورقيبة. ثمّ تحوّل إلى قابس وتعاطى بها مهنة الخياطة ثمّ رجع إلى تونس وعمل في صحف مختلفة منها "الأخبار" و"الزيتونة" و"البلاغ" و"الأسبوع" وأخذ ينشر قصائده على صفحات "النهضة" و"الزهرة".

كان الشاعر وطنيا مخلصا لبلاده وكانت قصائده الحماسية توزّع على الشعب كما توزّع المناشير السرية. وناضل بحماسة في صفوف الحزب الدستوري قبل الاستقلال وبعده لكنّه عزف عن المشاركة في العكاظيات. وزار روسيا مع سليمان بن سليمان وكذلك سمرقند وبخارى وضريح الشاعر الفيلسوف الفردوسي. وتعاطف مع الحركات التحريرية في العالم لا سيّما الثورة الفلسطينية، وتغنّى بالثورة الفياتنامية وببطلها هو شي منه وبحركة لوثر كنغ زعيم السود بأمريكا، كما تغنّى بالثورة الليبية في قصيدة "ثورة الرمال" وبالثورة الأريترية. وفي الجملة فقد أيّد الشاعر جميع الحركات الثورية في العالم وناهض القمع وجمع قصائده التي نظمها حول الثورة في ديوان نسر ونصر.

وفي سنة 1952، تأسّست "رابطة القلم الجديد" وكانت تجمع أدباء شبّانا يعملون على إغناء الحركة الأدبية والوطنية بالمغرب العربي. وكان منوّر صمادح من مؤسسيها، وقد عُيّن كاتبا عامّا لها، كما عُيّن إلى جانب الأعضاء التونسيين أعضاء من الجزائر الشقيقة منهم الجنيدي خليفة الذي كتب فيما بعد مقدّمة لديوان منوّر صمادح سلام على الجزائر، ومنهم أيضا الأديب الأخضر السائحي. ولم يكن للرابطة ناد قبل الاستقلال، فكان أعضاؤها يجتمعون بحديقة البلفيدير. وتوّج منوّر صمادح نشاطه في "رابطة القلم الجديد" بإصدار ديوان فجر الحياة الذي منعت السلطات الاستعمارية نشره بأمر من الجنرال دي لاتور وأوقفت صاحبه لفترة وجيزة إيقافا تحفّظيا، إلاّ أنّ ذلك لم يفلّ من عزم الشاعر الذي أصدر في السنة نفسها (1955) عملا نثريا شعريّا بعنوان حرب على الجوع، كتب مقدّمته أحمد بن صالح الكاتب العام للاتحاد العامّ التونسي للشغل، وتضمّن عددا من المقالات الاجتماعية السياسية القصيرة وقصيدة بعنوان الثورة كان قد تلاه بدار الاتحاد العام التونسي للشغل يوم الاحتفال بتدشينها، وقصيدين آخرين اجتماعيين تلوح فيهما أيضا النزعة الوطنية الاشتراكية (رمل) :

غيّروا الوضع وفكّوا القيد إنّ كنتم أباة
أيّ عدل؟ يُقتل الشعبُ لكي يرضى الطغاة
بعضكم يُتخم والبعض أمّانيه الفُتات
فئة ترفل في الخزّ وآلاف عراة

وفي السنة الموالية نشر منوّر صمادح مجموعة جديدة بعنوان الشهداء، خلّد فيها عددا من المواقف الوطنية كحوادث الزلاّج و9 أفريل 1938 واستشهاد الزعيميْن فرحات حشّاد والهادي شاكر ومحنة الباي الوطني المنصف، ذلك الذي خلعه المستعمر ونفاه إلى الصحراء الجزائرية، وندّد بهجوم جيش الاحتلال الوحشيّ على بلدة تازركة. وفي السنة نفسها (1956) أصدر الشاعر مجموعة أخرى بعنوان صراع أهداها إلى مل ك المغرب محمّد الخامس وتوجّه بمعظم قصائدها إلى الزعيم الحبيب بورقيبة، وفيها يؤكد مرّة أخرى توجّهه الاشتراكي (كامل) :

باسم الجماهير التي في عزمها
تدوي الحياة فتخلق الأبطالا
وتشيع في الناس العدالة والاخا
وتعلّم التاريخ والأجيالا
لا باسم أفراد تمايز بعضهم
فغدا يعيش على البلاد وبالا

وبعد الاستقلال دُعي منوّر صمادح للعمل بالإذاعة وعُيّن مع حسين الجزيري ضمن اللّجنة المكلّفة بمراقبة البرامج من الوجهة الأدبية. وقد أعدّ مجموعة من البرامج منها "محكمة الأغاني" الذي تناول فيه بالنقد الفنّ والموسيقى، ولم يكن غريبا عن هذا الميدان لأنه كان ملحّنا يُحسن العزف على بعض الآلات. وفي هذه الفترة أقبل على مجالس اللهو وتعاطى اللذات وعاقر الخمر وعاش بعض المغامرات العاطفية. لكنّ هذه الحياة اللاّهية كان لها أسوأ التأثير في صحّته فبدأت مظاهر الانهيار العصبي تبدو عليه وأصبح يتصوّر أنّه مُراقب ومُلاحق فأخذ يرتاب من الناس حتى من أهله وانقطع عن الأكل وغلب عليه الهزال فعملت عائلته على إدخاله مستشفى الأمراض العقلية بمنّوبة رغم امتناعه. وبعد المعالجة وفي صيف 1968 سافر إلى الجزائر مع أفراد فرقة موسيقية وبقي يعمل بالإذاعة الجزائرية صحبة عبد الله شريط وعبد الحميد بن هدوقة اللذين عملا من قبل بالإذاعة التونسية. وكان الشاعر يعدّ برنامج "أدب وطرب" كما كان يكتب في جريدة "الشعب". ولمّا عاد إلى تونس تحسّنت حالته الصحية لما تجنّب شرب الخمر وساءت لمّا عاد إليه. فقاطع الناس وتجنّب الأدب ولكنّه بقي يدخّن قليلا ويعيش عيشة هادئة هدوءا غير طبيعيّ يُذكّر بحالة الزهّاد والمتصوّفين إلى أنّ توفي في 28 ديسمبر 1998. هكذا تقضّت حياة الشاعر "شاقّة وشيّقة"، وتجلّت في دواوينه التي "أنشئت في ظروف نفسيّة واجتماعية وسياسية متأزّمة، اتّبع صاحبها فيها، عن وعي أو عن غير وعي، مسار الترجمة الذاتية".

فعلى مستوى إنتاجه الشعري آمن منوّر صمادح بأنّ "الشاعر هو باعث الروح الثورية الانشائية في الشعب، وبأنّ الوطن لا يرجو من الشاعر أغاني الميوعة والانحلال ولكنّه يرجو أناشيد القوّة التي تبعث الحماس في نفوس العاملين على إتمام خلاصه وتطهيره من كلّ معتد أثيم" لأنّ "الأكواخ القصديرية لا ترجو من الشاعر غزلا وتشبيبا ولكنّها تنتظر منه صرخة إنسانية توقظ النائمين" (صراع). وفعلا، فإن القضيّة التي شغلت الشاعر في أكثر قصائده هي قضية التحرّر الوطني. يقول بأسلوبه الفذّ المُتّسم "بالانسياب والسيولة" (كامل) :

أجملْ بتونس روضة قد وُشّحت
للشاعر المفتون والفتّان
في كلّ شبر فتنة جذّابة
يهفو القصيّ لسحرها والداني
وطن به للحرب قَدْح إنّ عثت
أيدي العدا فالكل في هيجان
أبناؤه للحقّ يدفعهم صدى
في سكرة من خمرة الايمان
غاياتهم في العيش إمّا عزّة
أو ميتة والمجد درب قاني

وكثيرا ما يقرن مفهوم التحرّر الوطني بالصراع الطبقيّ، لا سيّما في قصيد "ثائرون" حيث يجعل من صوته لسان حال البؤساء والمعدمين والعاطلين:

ألا إنّنا ههنا صارخون ليسمع أصواتنا النائمون
ودافعنا رغبة لا تعي وحقّ تجاهله الحاكمون
فهاتوا لنا عملا أو فلا تلوموا إذا شنّها العاطلون

أمّا في إنتاجه النثري فقد خاض أهمّ قضايا عصره بالروح النضالية والثورية نفسها التي غلبت على شعره. لذا كان شعره ونثره في تناغم وتكامل واضحيْن وكانا، على حدّ قول شقيقه الأستاذ عبد الرحيم صمادح، أداتي "نضال اجتماعي وسياسي قبل كل ّ شيء، مادامت حريةّ الانسان مكبّلة ومادام الانسان يعاني ثلاثيّة الفقر والمرض والجهل". وقد يفاجأ المطّلع على نثر منوّر صمادح عندما يكتشف، في عدّة مقالات وفصول إبداعية، قدرته على تحليل القضايا وإرجاعها إلى أسبابها الرئيسة وهي: "الغزو الفكري الموازي للاستعمار السياسي ووضعية المرأة المزرية في مجتمعاتنا وتشتّت العرب مغربا ومشرقا إزاء ما يواجهونه من أخطار وما يعانونه من آفات". فتصوّر منوّر صمادح النضاليّ لمفهوم الأدب كان يدفعه إلى استعمال كلّ وسائل التعبير، لأنّ "القصيدة وحدها ليست كافية "للحرب" الأدبية، فيجب أنّ يساندها النثر في جبهة المقاومة، وأحسن مثال على ذلك ديوان "حرب على الجوع" الذي جمع فيه صاحبه فصولا نثرية إبداعية وقصائد جيّدة تصوّر آلام الانسان التونسي".