محمود المسعدي

من الموسوعة التونسية
نسخة 08:38، 7 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
محمود المسعدي

[1911 - 2004م]

تمهيد[عدّل]

يمثل أدب محمود المسعدي فتحا جديدا في الثقافة العربية لأنه ينطوي على شحنات فكرية بعيدة الأغوار وفنون من القول متفرّدة، تأنّق فيها المبدع تأنّق الفحول، فصاغ من اللفظ عقودا أسّسها على فصاحة العرب في أزهى عصورها، وتجاوزها إلى ابتداع صور نحتها تجنيح الخيال، وألهمها مضمون فكري ووجداني فيه من صدق المعاناة ألوان وألوان...

وقد أقرّ له بمثل هذه الخصال كل من تسنّى له الاطلاع على مؤلفاته وكتب عنها، مثل سهيل إدريس في أطروحته عن الرواية العربية الحديثة (1952)، والشاذلي القليبي ومحجوب بن ميلاد في مقدمتيهما لكتاب "السد" (1955), وطه حسين في نقده المتجدّد له (1957)، وعبد الحميد يونس بمناسبة حفل تكريم الكاتب بالقاهرة (1957)، ومحمد فريد غازي وعيسى الناعوري (1966) ومحمد اليعلاوي (1975) وتوفيق بكّار في مقدّماته لروايات المسعدي (1981 و1992 و2002) وجمال الغيطاني وصلاح فضل وعز الدين إسماعيل وجاك بارك وليوبولد سنغور وغيرهم ممّن لا يزالون يصدرون الكتب والمقالات عن هذا الأدب المتميّز حسب عبارة المسعدي بطرافة "جدّة القدم"، يضاف إلى كل هؤلاء المجلاّت التي استجوبت الكاتب نذكر منها بالخصوص"الآداب" اللبنانية و"القبس" الكويتية، و"الفكر" التونسية و"الأقلام" العراقية، وغيرها (وقد أحصينا ما يفوق المائة وسبعين مرجعا في لغات مختلفة منها واحد وثلاثون كتابا ورسالة جامعية. وهو ما جعله يُعدّ"ظاهرة" في الثقافة العالمية (2002) (محمود طرشونة، مقدّمة الأعمال الكاملة).

وإن سرّ كل هذا الاهتمام من نقّاد وأدباء يعتبرون من أعلام النّقد والبحث في عصرنا الحديث يعود إلى أصالة هذا الأديب الرافضة للتبعيّة الثقافية ومعالجته لقضايا الانسان العربي في فترة دقيقة من حياته، وقضايا الانسان عامة وما يواجه من إشكالية الحرية وقيود الزمان والمكان، والحياة والموت، والايمان والشكّ، والحبّ والذات، وغير ذلك من التساؤلات المحيّرة لذوي العقل والوعي الكامل. ولذلك ينطوي أدب هذا المبدع الفذّ على صور تعبّر عمّا يضطرم في النفس من أشواق وتوق إلى المطلق والبناء ومعرفة الذات، وهو ما جعل محمود طرشونة يكتب عنه منذ عهد الطّلب ثلاثة فصول متتالية سنة 1962 ثم نشر عنه أول كتاب يخصّص له سنة 1978 بعنوان الأدب المريد في مؤلفات المسعدي تلته كتب أخرى بأقلام أخرى أدركت ما فيه من خصب وابتكار. وقد ركز ذلك الكتاب الاهتمام على محور واحد اعتبرته مستقطبا لأهم القضايا وعنصرا قارا في كامل مؤلفات المسعدي، وهو الارادة، إرادة الخلق، وإرادة الخلود وإرادة المطلق. لذلك سمّى طرشونة هذا الابداع بالأدب المريد وعرّفه بأنه "الأدب الذي يكشف لك أغوار ذاتك ويعلّمك طريقك إليك، ويفجّر في نفسك كوامن المعرفة والامكانات الدفينة، ويحوّل الموجود بالقوّة إلى موجود بالفعل، فيدفعك إلى الفعل دفعا، ويوحي إليك بتجاوز الامكان إلى المستحيل وكسر الحواجز، ومقاربة المطلق". (ص33).

ولد محمود المسعدي بتازركة (من ولاية نابل) في 28 جانفي1911، وحرص والده الذي كان يشتغل عدلا على تلقينه القرآن منذ الصغر فأرسله إلى "كتّاب" القرية فحفظ نصيبا وافرا منه قبل أن يزاول دراسته الابتدائيّة بالفرع الصادقي بالعاصمة من سنة 1921 إلى 1926. ولا يخفى ما للقرآن من أثر عميق في أسلوب المسعدي وتصوّراته الذهنية والعقديّة التي زادتها آثار الأدباء العرب القدامى وكتب المفكرين المسلمين تعميقا. وقد تعرّف إليهم في المعهد الصادقي الذي زاول تعلّمه الثانوي به من سنة 1926 إلى 1932 وأحرز فيه على شهادة انتهاء الدروس والجزء الأول من البكالوريا، ثم التحق بمعهد كارنو بتونس (معهد بورقيبة راهنا) ودفعه التعطش إلى المعرفة والسعي إلى تعميق اطلاعه على التراث العربي والثقافة الغربية إلى السفر إلى باريس والانخراط منذ سنة 1933 في سلك طلبة كلية الاداب بجامعة الصربون، فتخرج فيها في اختصاص اللغة والآداب العربية بشهادات الاجازة (1936) والدراسات العليا (1939) والتبريز (1947). وسجل موضوع دكتورا دولة يتركّب من أطروحة رئيسة حول "مدرسة أبي نواس الشعرية"، وأطروحة تكميلية حول "الايقاع في السجع العربي" نشرها بالفرنسية سنة 1982 بتونس ثم بالعربية سنة 1996.

واضطرته ظروف الحرب العالمية الثانية إلى البقاء في تونس منذ حصوله على الاجازة في الأدب العربي، فدرّس بمعهد كارنو من سنة 1936 إلى 1938 ثمّ بالمعهد الصادقي من سنة 1938 إلى 1946 أستاذا مجازا، ومن 1947 إلى 1948 أستاذا مبرزا. وانتدبه مركز الدراسات الإسلامية بجامعة باريس للتعليم العالي منذ نجاحه في مناظرة التبريز إلى سنة 1952، لكن دون أن ينقطع عن التدريس في تونس، وبالتحديد في معهد الدراسات العليا الذي كلّف أيضا بإدارة قسم الأدب العربي به من 1948 إلى 1955. وهذا النشاط المكثّف في ميدان التعليم العالي في تلك الفترة التي كانت أخصب فترات إنتاجه الأدبي لم يمنعه من الاهتمام بشؤون وطنه الذي كان يرزح تحت الاستعمار. فقد ناضل في صفوف "الحزب الحر الدستوري التونسي" منذ سنة 1933 وكلّف في نطاق حركة التحرير الوطني بشؤون التعليم فانضم إلى الحركة النقابية وانتخب رئيسا للجامعة القومية لنقابات التعليم وأمينا عاما مساعدا "للاتحاد العام التونسي للشغل" منذ تأسيسه سنة 1948 إلى سنة 1954، وكذلك عضوا باللجنة التنفيذية للأمانة المهنية العالمية للتّعليم (1951 - 1955). وأبعدته السلط الاستعمارية بسبب نشاطه السياسي والنقابي إلى الجنوب التونسي يوم 6 ديسمبر 1952، غداة اغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد، وبقي في المنفى إلى ماي 1953 ثم شارك سنة 1954 في المفاوضات التونسية الفرنسية التي أفضت إلى الاستقلال الداخلي. وتجدر الإشارة في مجال الحديث عن نشاطه السياسي إلى مشاركته بعد الاستقلال في الوفد التونسي لدى "الأمم المتحدة" في دورتي 1956 و1957، وإلى انتخابه عضوا ب"مجلس الأمة" (البرلمان التونسي) منذ سنة 1959 إلى أن انتخب رئيسا له من نوفمبر 1981 إلى نوفمبر 1986.

وقد حافظ محمود المسعدي بعد الاستقلال على اهتمامه بشؤون التعليم والتربية فعيّن مديرا للتعليم الثانوي بوزارة المعارف من سنة 1955 إلى سنة 1958 وعيّن إثرها متفقدا عاما للتعليم الثانوي، فعرف عن كثب مشكلات التعليم بتونس وواكب تطوّره وعمل على تونسته. وذلك ما أهّله إلى تحمل مسؤولية إصلاحه والتخطيط لتعميمه بصفته وزيرا للتربية القومية فشغل هذا المنصب طيلة عشرية كاملة (1958 - 1968) أعدّ فيها مشروع "الاصلاح التربوي لسنة 1958" وسهر على تنفيذه. ويعتبر هذا الاصلاح أول تنظيم تربوي وطني بتونس المستقلة، كما أعدّ" التخطيط العشري للتدريس "الذي كانت غايته تحقيق تعميم التعليم الابتدائي في عشر سنوات (1959 - 1969) والتنمية المتناسقة للتعليم الثانوي والعالي. وكان هذا التخطيط فيما بعد أحد أسس "المخطط القومي التونسي للتنمية الاقتصادية والاجتماعية (1961 - 1962)" وتجدر الإشارة إلى أن الأستاذ محمود المسعدي أنشأ في الفترة التي قضاها وزيرا للتربية القومية نواة الجامعة التونسية منذ سنة 1960 وأصدر قانونها الأساسي وأحدث كلياتها ومعاهدها العليا المختصة ومراكز البحوث التابعة لها.

وتحول اهتمامه إثر ذلك إلى النشاط الثقافي إثر توليه وزارة الشؤون الثقافية من 1973 إلى 1976 بعد مرحلة انتقالية قضاها وزير دولة (1970 - 1969)، ومن أهم ما أنجزه في تلك الفترة تأسيسه لمجلّة "الحياة الثقافية" التي تصدرها الوزارة منذ 1975. ورغم اختلاف الظروف فكأنّ الأستاذ المسعدي أراد بها بعثا جديدا لمجلة "المباحث" التي ترأس تحريرها من 1944 إلى 1948. والواقع أنه لم يكن حين توليه وزارة الشؤون الثقافية غريبا عن دنيا الثقافة إذ كان له نشاط مكثف في منظمتي "اليونسكو" الدولية و"الألكسو" العربية منذ سنة 1958، فقد تولّى رئاسة اللجنة الوطنية التونسية لليونسكو ورئاسة الوفد التونسي للمؤتمر العام لهذه المنظمة من 1958 إلى 1968 ثم من 1973 إلى 1976. وبرز في صلب المنظمة بآرائه الداعية إلى تصوّر ثقافة عالمية تستفيد منها الدول المتقدمة ودول العالم الثالث على حد سواء، فتوّج نشاطه بانتخابه عضوا بالمجلس التنفيذي للفترة الممتدة بين 1977 و1978 ثمّ جدّد انتخابه للفترة الممتدة بين 1980 و1985.

وفي هذا النطاق عيّن عضوا استشاريا بالمعهد الدولي لتخطيط التربية التابع لمنظمة اليونسكو لمدة أربع سنوات وعضوا بلجنة الصياغة ومديرا لأحد أجزاء كتاب حول "مختلف مظاهر الحضارة الاسلامية" الذي كلّف مؤتمر اليونسكو المدير العام بإعداده. وقد تجسم نشاطه الدولي الثقافي في دراسة حررها بصفته إحدى الشخصيات العالمية السبع الذين طلب المدير العام لليونسكو رأيهم في موضوع "إلى أين تسير التربية؟" ليستعمل وثيقة أساسية قدمت للجنة العالمية لتنمية التربية في دراسة ضافية بعنوان "التربية اليوم وغدا" استعملت في الكتابين اللذين أعدّتهما اللجنة بعنوان "تعلّم كيف تكون" و"التربية في تحوّل". وفي النطاق الثقافي الدولي نفسه ألف دراسة مطوّلة بعنوان "التنمية الثقافية في المنطقة الثقافية للدول العربية" وهي فصل من كتاب لليونسكو عن المناطق الثقافية الستّ في العالم. ولتلك الدراسة علاقة بالمهمّة التي كلفته بها المنظمة بصفته خبيرا لدى عدّة دول عربية تتعلّق بحالة تطوّرها الثقافي (فيفري* مارس 1979) وقد مكّنته خبرته من المشاركة في عضويّة الكثير من اللجان التابعة لليونسكو... أمّا في المجال العربي فقد شارك في عضوية لجنة الحكماء للثقافة العربية في نطاق "المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم" منذ سنة 1979 وعضوية لجنة صياغة "الموسوعة العربية الكبرى" منذ سنة 1978. ومن جهة أخرى انتخب عضوا بمجمع اللغة العربية بالأردن سنة 1980. ولعلنا لهذا النشاط المكثف في ميادين السياسة الوطنية والثقافية الدولية نفهم أسباب اقتصار المسعدي على عدد محدود من المؤلفات القصصية.

فقد لاحظ العديد من النقّاد أن الآثار القصصية الأربعة التي اشتهر بها ألّفت جميعها بين 1939 و1944، وأن المسعدي لم ينتج منذ ذلك التاريخ آثارا إبداعية في مستوى تلك الكتب من الناحية الفنية. وفعلا، فقد ألف كتاب "السد" وكتاب حدّث أبو هريرة قال... في الفترة نفسها تقريبا، أي من سبتمبر 1939 إلى جوان 1940. لكن الأول لم ينشر إلا سنة 1955 على حين لم يطبع الثاني كاملا إلاّ سنة 1973 بعد أن نشرت بعض أحاديثه سنة 1944 وسنة 1956. ونشر مولد النّسيان تباعا في مجلة "المباحث" من أفريل إلى جويلية 1945, وكاملا سنة 1974. لكن يرجّح أن تأليفه يعود إلى فترة الكتابين السابقين نفسها أو بعيدها. وقد جمع له محمود طرشونة فصول كتاب رابع وحقّقها ونشرها سنة 2002 بعنوان من أيام عمران وتأملات أخرى.

ولقد اقتصر المؤلف على بعض الأقاصيص نشرها في "المباحث" مثل "السندباد والطهارة" (أكتوبر 1947), أو في "الندوة" و"الفكر" (مثل "يوم القحط" و"حديث الضحية" وهي من "أيام عمران"). ونشرت اليونسكو الترجمة الفرنسية لكتاب "السد" سنة 1981, قام بها عز الدين قلّوز سفير تونس باليونسكو في تلك الفترة. ثم ترجم "مولد النسيان" إلى الفرنسية توفيق بكار ونشره في "بيت الحكمة" سنة 1993 كما ترجم "حدث أبو هريرة قال..." إلى الاسبانية و"مولد النسيان" إلى الهولندية و"السد" إلى الصينيّة... أما كتاب "تأصيلا لكيان" الذي نشر سنة 1979 فهو يضمّ مقالات عامة في الأدب والثقافة والفكر. وبذلك فقد شغله هذا النشاط المكثف المتنوّع عن التفرّغ للأدب الابداعي، وابتكار آثار فنية تحتاج إلى كثير من التروّي والتجويد، ففضّل الانسياق إلى تيّار الأحداث للتأثير فيها تأثيرا مباشرا وبالممارسة الفعليّة عوض الاقتصار على التصوّر والتنظير.

فالمتأمل في الناشط المذكور يلاحظ أن كل عمل ينجزه يفضي إلى آخر مع شيء من التصعيد، فقد قضى في مباشرة التعليم ما يقارب العشرين سنة (من 1936 إلى 1955) تحوّل إثرها إلى إدارته، ثم إلى التفكير في إصلاحه والتخطيط لتعميمه (من 1955 إلى 1968). لكنه في المرحلة الأولى واكب حركة التحرير الوطني بنشاط سياسي ونقابي على حين صار في الثانية مسؤولا حكوميا. وفي هذه المرحلة الثانية نفسها اهتمّ بشؤون الثقافة الدولية بصفته رئيسا للجنة القومية لليونسكو تحوّل إثرها في السبعينات إلى مباشرة الشؤون الثقافية بتونس بصفته وزيرا والاسهام في أعمال اليونسكو بصفته عضوا بمجلسها التنفيذي. وإنّ حركة دائبة كهذه من شأنها أن تعمّق تجربة الانسان الوجوديّة وتؤهله إلى خلق قطع فنية متميّزة بغزارة الالهام وإتقان الفن. وهو ما كنّا نأمل أن يكون من نصيب الثمانينات، لكن انتخابه رئيسا للبرلمان التونسي حال دون ذلك. قال غيلان: "لا تكون الطريق طريقا حتّى تكون بلا نهاية...".

أدبه[عدّل]

مؤلفات المسعدي صنفان :إبداع ونقد. نشر ثلاثة كتب من الصنف الأول وكتابين من الثاني ثم جمع محمود طرشونة أعماله الكاملة وحقّقها ونشرها سنتي 2002 و2003 في أربعة مجلدات ثلاثة منها بالعربية وواحد بالفرنسية قاربت الألفي صفحة ضمّنها فضلا عن كتبه المعروفة محاضراته وحواراته وتأمّلاته. ولا شك في أن المؤلفات الابداعية هي الأصل، وما الفصول النقدية والبحوث الأكاديمية إلاّ من التنظير الذي قد تكيّفه ظروف الزمان والمكان فيلقي على الانتاج الأدبي أضواء ليست دوما كاشفة. لذا يجدر الانطلاق من النصوص الابداعية واستنطاقها من الداخل قصد استكشاف مكوّناتها. وأول تلك الكتب الثلاثة من حيث تاريخ التأليف هو، حدث أبو هريرة قال... الذي يعود إلى سنة 1939، يليه كتاب السد الذي ألّف في الفترة نفسها تقريبا وفرغ الكاتب من وضعه سنة 1940. ولم يتأخر عنهما مولد النسيان إلاّ بثلاث سنوات. ثم توقف الانتاج الابداعي أو كاد وترك المكان لنشاط من صنف آخر يتجسّد في افتتاحيات مجلّة "المباحث" التي كان رئيس تحريرها، وفي فصول أخرى ومحاضرات جمعت في كتاب تأصيلا لكيان (1979). أما الكتاب الأخير فهو بحث بالفرنسية قد يعود تاريخ تأليفه إلى المرحلة الأولى وهو بعنوان الايقاع في السجع العربي وقد نشر لأول مرّة سنة 1982.

هذا كلّ ما ألّف محمود المسعدي فيما يقارب نصف القرن. وإذا قورن بكتّاب آخرين ينتجون في الفترة نفسها عشرات المؤلفات فهو يعتبر مقلاّ. لكن متى كان الاكثار مقياس الجودة والأصالة؟ ربّ شاعر ذاع صيته في الافاق بقصيدة واحدة وربّما ببيت واحد، وربّ كاتب لم ينشر أكثر من كتاب واحد، ومع ذلك فكتابه ذاك يعتبر علامة بارزة في تاريخ الأدب. ومؤلفات المسعدي القليلة نسبيا هي من هذا الصنّف.فهي دون غلوّ أحد منعرجات الأدب العربي الحديث إذ لها من الاشعاع والتأثير ما يؤهلها لأن تكون مدرسة أدبية.

حدّث أبو هريرة قال

وينتمي كتاب حدّث أبو هريرة قال... إلى الأدب الروائي ويعتبر في الوقت نفسه امتدادا للقصص العربي القديم وإحياء وتجديدا له. وإنّ كامل الأحداث تدور في فلك شخصيّة رئيسة اختار لها المؤلف اسم صحابي شهير ومحدّث من الثقات. لكن الشخصية الروائية تختلف تمام الاختلاف عن الشخصية التاريخيّة وربّما كانت نقيضها، فأبو هريرة في كتاب المسعدي إنسان قلق متمرّد لا يستقر على حال، أخرجه صديق له من جموده وتقليده فاكتشف الحسّ واللذّة، فكان البعث الأول، ثم أغرق فيهما إلى حدّ الملل فوضع ريحانة رغم أنها وهبته من المتعة ألوانا، فطلب الغيبة لكنه لم يدركها إذ وقع من جديد في شراك الجسد وعوض أن يجد في الراهبة ظلمة الهذلية دليلا يرشده إلى عالم الغيب والايمان، أدخلها عالم المتعة، "والدير يحسبنا نتعبّد ونبتهل وإنّما كنّا في الشيطانّ" (ص 140). ثم جرّب الفعل مع الجماعة فعلّمها الارادة وبكر السبيل وحياة الخصب والرخاء، لكنّه ما تخلى عنها حتّى انخذلت وعادت إلى تطاحنها فخاب أمله وطلب المطلق وظنّ أنه بلغ غايته وأدرك لغز الحياة والموت وما وراء الموت، فكان البعث الاخر. تلك أهم أحداث الرواية نختزلها ونرتّبها الترتيب المنطقي أي الزمني المخالف لترتيب اللوحات أو الروايات في الكتاب. وتصرّف الكاتب في الزمان وحتّى في المكان هو الذي يكسب هذه الرواية حداثة ما كانت الأحاديث والأخبار التي تقوم على أشكالها لتعرف شيئا منها.

أما كتاب السد فقد اعتمد شكل المسرحية إطارا لأحداثه مع حفاظه على صور ومفاهيم وألفاظ مستقاة من التراث العربي والاسلامي، ذلك لأن غيلان شخصيّة مأسويّة قويّة قد يكون الاطار المسرحي أنسب إلى التّعبير عن مطامحها وآرائها. فأهمّ الأحداث تقوم على رغبة غيلان في بناء سدّ يحبس به الماء الضائع في أرض ضمأى تعاني القحط والجفاف ويرفض أهلها الاعتراض على موانع الالهة صاهباء وهواتف أنبيائها، فتمرّد غيلان على تلك القوى الغيبيّة ولم يثنه عن عزمه إيمان ميمونة ورضاها بالمقدر، فنجح في التصدّي للعراقيل وبنى سدّه رغم كلّ الصعاب.لكن سرعان ما هبّت عواصف هوجاء وغضبت الطبيعة وانهدّ السدّ وسقط أنقاضا. وكانت ميارى قد شدّت أزره عندما خذله عمّاله ودفعته إلى المثابرة على الجهد فظهرت طيف خيال وبعثت في نفسه أملا متجددا وعزيمة وأرشدته إلى نور في الغاب منير، فقالا في صوت واحد: "لنعلون برأسينا ولنفتحن لهما في السماء بابا".وبذلك صعّد إرادته نحو السماء ولم يمنعه انهيار السدّ من التفكير في تجديد التجربة أنه يعتقد أن الفضل كل الفضل في الفعل والعزم. ويتّضح من هذاالتحليل الموجز لأهم الأحداث أنّ هذا الكتاب ينتمي إلى جنس المسرح الذهني الهادف إلى تبليغ أطروحة فكرية في شكل فنّي. وقد أثارت المسرحية عندما نشرت لأول مرة سنة 1955 نقاشا حادّا في الساحة الأدبية أذكاه الدكتور طه حسين بقوله: "وحسبك أني قرأتها مرّتين ثم احتجت إلى أن أعيد النظر فيها قبل أن أملي هذا الحديث، وهي بأدب الجدّ العسير أشبه منها بأي شيء آخر". لكن بقية الفصل دلّت على فهم عميق لمختلف أبعادها، خاصة عندما ربطها بالتيّار الوجودي القائم على الحرية والارادة والمسؤولية ونزّلها في إطار وجوديّة إسلامية عميقة الجذور في التراث العربي الاسلامي.

ولا يقلّ مدين في مولد النسيان عزيمة عن غيلان، فهو أيضا أراد تجاوز حدود الذات الانسانية بإرادته الخلود، فقد ساءه أن يرى الناس يجدّون ويسعون فيهيئون الطعام للدّود والفناء، وأزعجه أن يتداوى الناس بالأوهام والغيب فبنى مارستانا يعالج فيه المرضى، وصدّهم عن الاستغاثة بسحر رنجهاد سادنة عين سلهوى، وأحبّ أن يركّب عقّارا يعيش أبدا من يتناول منه. ولمّا مات له أول ميّت انتابه الشك في قدرة أدويته في القضاء على "هادم اللذات" وفكّر في الاستعانة بسحر رنجهاد فأدخلته الغاب ورافقته إلى عين سلهوى وأرته كيف يعاني الأموات من ذكرى أجسادها وعلّمته أن يطهّر من الزمان دواءه لأن الزمان هو الذي يجعل الروح تحنّ إلى الجسد حتى بعد الموت. وكان أول من تناول الدواء الذي ركبّه، فظنّ أنه أدرك الخلود... ساعة، لكن جسمه انهار وتعفّن في لحظات وعزّ عليه نيل الخلود، إلاّ أنّ ليلى التي كانت تعترض على تجاربه قد أصابتها بعد موته عدوى الارادة، فكانت نهاية مدين بداية لها. وهكذا تتجدّد عبر ليلى التجربة الانسانية وتبقي على الأمل في نيل المراد.

إنّ بعض من اطّلع على هذا الأدب اعتبره أدب الهزيمة التي تتوّج التمرد وتفلّ العزائم !ولو صحّ هذا الفهم لما كان لأدب المسعدي قيمة فكرية تذكر، إذ لا يعقل أن يدعو الأدب الرفيع إلى اليأس والتشاؤم ويبقى مع ذلك إشعاعه وبعده الانساني. لكنّ تحليل الجوانب الفنية قد يكون كفيلا بمعرفة غاياته على حقيقتها. أما الكتابان النقديّان فيمكن أن نعتبرهما رافدين ينيران بعض تلك الجوانب، ونخص بالذكر منهما كتاب تأصيلا لكيان....

ببليوغرافيا[عدّل]

  • طرشونة محمود، الأدب المريد في مؤلفات المسعدي، ط1، تونس، 1978، ط5،إدارة المعرفة باباي، تونس، 19997.
  • محمود المسعدي، الأعمال الكاملة،جمع وتقديم وبيبليوغرافيا، وزارة الثقافةودار الجنوب، تونس،2003، أربعة مجلدات.
  • مباحث في الأدب التونسي، دراسات نقدية في مؤلفات المسعدي والمدني والفارسي وخريف، تونس، 1989.