محمد عبده في تونس

من الموسوعة التونسية
نسخة 19:49، 24 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
محمد عبده

قبل انفصال الشيخ محمّد عبده عن جمال الدّين الأفغاني، هناك حقائق لا بدّ من إبرازها ووضعها في سياقها التّاريخي. لا شكّ في أنّ الشّيخ محمّد عبده زار تونس لأوّل مرّة، وأقام بها من 10 ديسمبر 1884 إلى 4 جانفي 1885, لكنّنا لا نعرف أسباب هذه الزيارة ويقال إنّ محمّد السنوسي اتّصل في إستانبول، حسبما رواه هو في كتابه الرّحلة الحجازيّة بمحمّد بيرم الخامس، كما اتّصل في دمشق بالأمير عبد القادر الجزائري لينضمّ المغاربة الثلاثة إلى "العروة الوثقى" وهي جمعيّة سريّة عالميةّ معادية لأوروبا يعتقد أن ّ جمال الدين الأفغاني هو الذي أسّسها في حيدر آباد، وأنّ لها عدّة فروع في العالم الإسلامي، غايتها الدعاية لفكرة التضامن الاسلامي (Panislamisme). ويقال إنّ السنوسي، عند رجوعه إلى تونس، في سنة 1883، نظّم نواة للعروة الوثقى من العلماء الزيتونييّن. ويروي بعضهم أن ّ الشيّخ محمدّ عبده زار تونس زورته الأولى من أجل الاتّصال بالفرع التّونسي للعروة الوثقى. وعلى الرّغم من تواتر هذه الرّواية، وتردّدها، فإنّها بحاجة إلى تعديل، كما تدلّ عليه الوثائق: فثمّة مثلا سيرتان لجمال الدّين الأفغاني قد ألقتا بظلال الشك على الرّواية حول مسائل ثلاث على الأقل: حقيقة تنظيم العروة الوثقى وطابعها العالمي، وقيام فرع تونسي لها، وسبب زيارة محمّد عبده لتونس. وتنفي السيرتان حقيقة وجود جمعيّة العروة الوثقى فيما عدا باريس. وفي جميع الأحوال لا يهمّنا هنا الجزم بوجود جمعيّة العروة الوثقى في حيدر آباد أو في القاهرة ما دام أمر وجودها بتونس لا شك فيه، كما تفيد السيرتان بأنّ عبده قدم إلى تونس أساسا ليطلب مساعدة لجريدة العروة الوثقى التي انقطعت عن الصدور في باريس لصعوبات ماليّة. إذن، سعى الشّيخ محمد عبده إلى الحصول على الأموال من التّونسيين ولعلّه أوهمهم بوجود جمعيّة سريّة أو على الأقل، بالغ في وصف انتشارها. ثمّ سعى عبده شخصيّا وفق هذه الرّواية لتشكيل خليّة للعروة الوثقى بتونس. وهذا ما يؤكّده مضمون رسالة بعث بها الشيخ عبده في 24 ديسمبر 1884 من تونس إلى جمال الدّين الأفغاني في باريس. وقد جاء فيها: "لقد التقيت هنا أثناء إقامتي بعلماء وأمراء موقّرين [علي باشا باي في باردو، ولي العهد بسانيّته في المرسى إلخ.] واستقصيت حول نشاطات عدد كبير منهم وأعلمتهم أنّ العروة الوثقى ليست فحسب اسما لصحيفة بل هي أيضا اسم منظمّة أسّسها السيّد [الأفغاني] عندما كان في الهند، مركزها حيدر آباد ولها فروع في أماكن أخرى ويجهل كلّ فرع وجود الفروع الأخرى، لكنّ رئيس الجمعيةّ يعلمها جميعا... إنّنا نرغب في بعث فرع هنا، وقد قبلوا الدّخول فيه [يقصد التّونسيين]. وإنّي اليوم بصدد تنظيم الجمعيّة في سرعة حتّى أسافر. أغلب الأعضاء من العلماء ومن بينهم الشّيخ الورتتاني، والشيخ سالم بوحاجب، وسوف أمدّك بأسماء كلّ الذين أدّوا القسم إثر إتمام الأمر إنّ شاء الله. وأرجوك ألاّ تكشف عن أسمائهم فقد أكدت لهم أنّ الأمر سرّي وأسماء الأعضاء لا يعرفها إلاّ رئيس الجمعيّة ودعاتها. أمّا موضوع المال فإنيّ في يأس مطلق، فقد طرقنا كلّ باب وتجاوزنا التّلميح إلى المصارحة بالأمر أو نكاد، ولكن يبدو لي أنّ جهودي تذهب دون طائل".

وهذه الرواية، على ما يبدو، هي أصحّ الرّوايات. وكان الأفغاني معروفا في حياته بميوله وإيمانه العميق بالوحدة (الجامعة) الإسلاميّة. وهذا معلوم في القاهرة وإستانبول ودمشق وغيرها. لذا يمكن الاستنتاج بأنّ محمّد السنوسي ومحمّد بيرم الخامس وعبد القادر الجزائري عندما كانوا يلتقون لمناقشة أوضاع البلاد الاسلاميّة يعترفون بتعاطفهم مع أفكار الأفغاني، وأنّ السنوسي عندما رجع إلى تونس في سنة 1883 كان يعدّ نفسه من أنصار الأفغاني، وأنّه، بهذا القدر أو ذاك، ممثّل له. وقد تراسل السنوسي مع الأفغاني قبل زيارة عبده إلى تونس ولم يذكر في مراسلته سوى أنّه اتّصل بالعروة الوثقى أي الجريدة. أمّا الشيخ سالم بوحاجب فقد أشار عرضا إلى مجموعة سريّة وطلب من الأفغاني كتمان اسمه. وفي جميع الأحوال، تتعذّر معرفة القائمة الكاملة لأعضاء الفرع التّونسي للعروة الوثقى إذ ليس لدينا وثائق ترشدنا عن نشاط هذا الفرع وأثره في تونس، أو تنظيمه الذي يكتنفه الغموض. ولا نعرف من الأعضاء سوى محمّد السنوسي، وسالم بوحاجب، ومحمّد بيرم الخامس (بالمهجر). وقد ذكر عبده في رسالته إلى الأفغاني المتقدّم ذكرها أنّ أغلب لأعضاء من العلماء وأنّ عددهم حوالي العشرة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الأعضاء الذين سبق ذكرهم، فمن المرجحّ أنّ بقيةّ أعضاء الجمعيّة ينتمون إلى العلماء الاصلاحيين الذين كانوا قد ساندوا خير الدّين قبل ذلك التّاريخ. وهو ما يفسّر وجود شيخ الاسلام الحنفي أحمد بن خوجة، وقاضي باردو وغيرهما من كبار علماء تونس الذين استقبلوا محمد عبده بحفاوة على عكس ما كان يتوقعه قبل المجيء إلى تونس. فقد أكرموا وفادته، إذ "أقام في قصور العظماء، واجتمع في نواديهم، وامتزج برجال العصابة الاصلاحيّة"، و"حضر الدروس بجامع الزّيتونة الأعظم"، ومكّنوه من إلقاء محاضرات بالجامع نفسه.

أمّا فيما يخصّ زيارة محمّد عبده الثانية إلى تونس، فإنه بعد أن قضى عشرة أيام في الجزائر، وصل إلى تونس يوم الاربعاء 9 سبتمبر 1903، وأقام بالمرسى عند خليل بوحاجب وزوجته الأميرة نازلي. والتقى عبده على انفراد أو في أثناء مآدب الضيافة بعدد كثير من الشبان التونسيين، منهم: البشير صفر، وعبد الجليل الزاوش، وعلي بوشوشة، وعمار القلاّتي، وعمار بكوش، ومن العلماء التونسيين: الطيب النيفر، ومحمد بن مصطفى محسن، وأحمد الشريف، ومحمود بن الخوجة، وسالم بوحاجب، ومحمد الطاهر ابن عاشور، وصالح الشريف.

وفي 10 سبتمبر أدّى محمد عبده زيارة مجاملة إلى الكاتب العام للحكومة التونسية برنار روا (Bernard Roy) ونائب المقيم العام الذي هيأ للشيخ عبده استقبالا لطيفا. وفي 12 من الشهر نفسه حضر دروسا بجامع الزيتونة، وكذلك جلسة بالمجلس الشرعي، كما زار المكتبة الخلدونية وأعجب خاصة بمكتبة جامع الزيتونة، وتاقت نفسه إلى "نسخ بعض المخطوطات النادرة لغاية تزيين مكتبة الأزهر". ومهما يكن من أمر فقد شاع في مصر أنّ عبده قد أخذ معه عددا من مخطوطات مكتبة جامع الزيتونة، لكنّ جريدة "الحاضرة" بتونس فنّدت هذه الشائعة يوم 27 نوفمبر 1903. وعلاوة على زيارته لمحكمة الدّريبة، والمطبعة الرسمية، زار محمد عبده المستشفى الصادقي، والمطحنة العصرية لعبد الجليل الزاوش. وفي مساء 14 سبتمبر، أعدّ محمد عبده مأدبة عشاء فاخرة، دعا إليها على وجه الخصوص برنار روا الكاتب العام للحكومة.

ونظرا إلى تخلّي عبده، منذ سنوات سابقة، عن أفكار جمال الدين الأفغاني فإنّه لم يثر، في زيارته الثانية إلى تونس، إلاّ القليل من المناقشات السياسية، ويبدو أنّه قد ألحّ على مسألة الاصلاح الديني والتربوي. وإذا كان صحيحا أنّ الحركة الاصلاحية الزيتونية التي كان محمود قابادو المنظّر الأوّل لها في التاريخ الحديث كانت سابقة لكل الحركات الأخرى، فإنّها ربّما كانت من مصادر تأثّر الشيخ محمد عبده نفسه، وهذه وجهة نظر كغيرها من وجهات النظر المخالفة لها، والقابلة للنقاش أو التّمحيص. ويقول شارل أندري جوليان في هذا الصدد: ولعل الشيخ عبده استنبط مذهبه في تونس العاصمة في أثناء إقامته الأولى بها.

محمد عبده يتوسط أعضاء الجمعية الخلدونية

وفي زيارته الثانية لم يثر محمد عبده نقاشات سياسية إلاّ لماما، وهذا يتماشى مع مزاجه الجديد: بدأ محمد عبده ثائرا، وكتب ما يعدّ طرازا ممتازا من الأدب السياسي والثوري في أعداد مجلة "العروة الوثقى" يوجّه سياستها ويملي خطّتها جمال الدين الأفغاني، ويحرّر مقالاتها محمدعبده. فما تأجّج في هذه المقالات من نار الثورة لم يكن، في الحقيقة، إلاّ صدى روح الأفغاني وقلبه، فلما انقطع مدد الثورة عن محمد عبده عاد إلى همومه الاصلاحية ونهجه المتّسم بالاعتدال. وهذا النهج يتماشى مع استعداد معظم المثقفين التونسيين الذين فتر عزمهم في المجال السياسي بالمقارنة مع ما كانوا عليه في عام 1884. وهذا ما تدل عليه واقعتان حدثتا في أثناء وجود محمّد عبده بتونس: امتدّ النقاش بين عبده وبعض العلماء التونسيين بمناسبة وليمة غداء كبرى على شرف عبده، وذلك بمنزل الشيخ محمد محسن يوم 16 سبتمبر، والمحاضرة العمومية بقاعة الجمعيّة الخلدونية يوم 20 سبتمبر، وكان عنوان المحاضرة: "العلم وطرق التعليم" وقد نشرتها تباعا جريدة "الحاضرة"، ونقلتها "المؤيّد" و"المنار" وطبعت طبعتين مستقلتين إحداهما بتونس، والأخرى بمصر. ويرى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الذي شهد مأدبة الغداء أنّ عبده أبدى نقده للكتب الدراسيّة المقررة وللمناهج المتّبعة في مؤسسات التعليم الاسلامي واصفا إياها بأنها بالية، ورأى في الوقت نفسه، أنّه من حسن حظ الطلاّب الزيتونيين تمكنهم من إتمام تعلمهم بالخلدونية. وبعد عودة محمد عبده إلى القاهرة أوردت مجلة "المنار" في حديث له قوله: "إنّ الزيتونة سبقت الأزهر في الأخذ بالاصلاحات الضرورية". وقد جرّ النقاش إلى ذكر الفقيه الحنبلي (الأصولي) ابن تيميّة المتوفى عام 728 / 1328 [من أشهر مؤلفاته: "السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية"]، وظهر الاختلاف بينه وبين بعض العلماء التونسيين وعلى رأسهم الشيخ صالح الشريف الذي رمى عبده بالترويج للأفكار الوهابيّة وبأنه متأثر بابن تيميّة. ولئن عبّر عبده عن تنصّله من الوهابية المتطرّفة فإنّه لم ينف علاقته بابن تيميّة على المستوى المذهبي.