سليمان الحرايري

من الموسوعة التونسية
نسخة 12:41، 24 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1824 - 1877م]

هو سليمان بن علي الحرايري الحسني التونسي، رجل فكر وقلم، لم تفسح له الحياة من العمر إلا مدى قصيرا لا يتجاوز 53 سنة، قضى أوّلها في تونس الحاضرة وآخرها في باريس. وقد دفن بالجناح الإسلامي من مقبرة الأب لاشاز، يوم الأحد 22 رمضان 1294هـ/30 سبتمبر 1877م. ينحدر سليمان الحرايري من عائلة فارسيّة الأصل، كان جدّه للأب مملوكا أتى به إلى تونس من بلاد فارس أو ربّما من القوقاز، وكان أبوه علي الحرايري يبيع فطير الاسفنج والتمر، لكنه كان توّاقا إلى العلم فأدخل ابنه سليمان إلى جامع الزيتونة في سنّ مبكّرة لطلب العلم.وكان الفتى ذكيّا، نابها، طلعة، فلم يلبث أن تولّى تدريس الحسابيات في رحاب الجامع الأعظم وليس له من العمر سوى خمسة عشر عاما، كما امتاز سليمان الحرايري عن بقيّة أقرانه الشبّان بميله إلى التحرير والتحبير. ولذلك أولاه المشير الأول أحمد باي (1837 - 1855) رئاسة الكتابة بديوانه سنة 1840، وعمره لا يتجاوز عهدئذ ستة عشر عاما. أما دراسته فإنّنا لا نعرف بالضبط كم سنة قضّاها في الدراسة بجامع الزيتونة، غير أنّ تحاريره وكتاباته وتحاليله وما ألّفه من فصول ومؤلّفات قيّمة تدلّ على ثقافة زيتونيّة متأصّلة واطّلاع واسع على أمّهات الكتب في شتّى المواد والفنون، إذ نجده يستشهد في كتاباته بالايات القرآنيّة والأحاديث النبويّة، وينقل عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم ويقتبس فقرات من عدّة مؤلّفات مثل: كتاب الشمائل النبويّة للترمذي (ت 279هـ/892م) وكتاب الشفا للقاضي عياض (ت544هـ/1149م) ومنهاج الطالبين للنووي (ت676هـ/1277م)، وكتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي (ت685هـ/1286م)، وكتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970هـ/1562م) وفتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني (ت852هـ/1449م) وكتب شرح العقائد النسفية والمطوّل والحاوي لسعد الدين التفتازاني (ت758هـ/1390م)، وغيرها من المصنّفات والمصادر التي كان سليمان الحرايري يعتمدها في تحاريره وكتاباته.

وفي بعض مصنّفاته عرّفنا بأحد شيوخه بجامع الزيتونة، كان من أعلام الحنفية في تونس وأشهرهم صيتا عصرئذ وهو شيخ الإسلام محمد معاوية الذي كان، على حدّ تعبير الحرايري، "آية في الدراية والرواية، لا يشقّ له فيها غبار، ولا يجاريه أحد في مضمار". وقد قرأ عليه بالخصوص، "قراءة تحقيق وتدقيق"، التلويح لسعد الدين التفتازاني في أصول الفقه. وإلى جانب ذلك تأثّر سليمان الحرايري بشخصيّة أخرى فرنسيّة مسيحيّة هي شخصيّة القسّ فرانسوا بورغادالذي قدم إلى تونس في سنة 1841 وعيّن في السنة الموالية واعظا بكنيسة سان لويس بقرطاج. وما لبث أن بادر إلى تأسيس مدرسة خاصة بنهج سيدي المرجاني بتونس لتعليم أطفال التونسيين من يهود ومسلمين ثمّ حوّلها في سنة 1845 إلى معهد ثانوي أطلق عليه اسم "معهد سان لويس". أما الحرايري فقد كلّفته القنصليّة الفرنسيّة بتونس سنة 1844 بتقديم بعض الدروس في اللّغة العربية لبعض الموظّفين الفرنسيين، وتخرّج على يديه عدد من المترجمين الفرنسيين منهم المترجم الأوّل بالقنصليّة الفرنسية ألفونس روسو (Alphonse Rousseau) الذي ترك عدّة كتب تاريخيّة من أهمّها كتاب الحولّيات التونسيّة (Annales tunisiennes).

وفي سنة 1849 شرع سليمان الحرايري في تدريس اللّغة العربية بمعهد القسّ بورغاد. وقد بدأ اسمه يبرز بالخارج بوساطة تلامذته الفرنسيين. من ذلك أنّ المترجم الثاني بالقنصليّة الفرنسيّة بتونس هانري كوتال نشر في المجلة الآسيويّة (سنة 1847) جدولا لمقابلة التاريخ الهجري بالتاريخ المسيحي، منبّها إلى أنّ الطريقة التي توخّاها هي طريقة سليمان الحرايري. وقد أدّت هذه الصلة التي ربطت الحرايري بالمسيحيين المبشرين في تونس إلى القدح في إيمانه من قبل بعض رجال الدين المسلمين التونسيّين.

وبحكم الصلات التي كانت تربط بين القنصلية الفرنسيّة بتونس والحرايري الذي كان يباشر خطّة الاشهاد بالحاضرة، منذ سنة 1847، عيّنته القنصليّة المذكورة في سنة 1854 كاتبا بها، واستمرّ في القيام بهذه المهمّة إلى سنة 1856 وهي السّنة التي هاجر فيها إلى باريس حيث كلّف بتدريس اللّغة العربيّة في المدرسة القوميّة للّغات الشرقيّة.

نشاط سليمان الحرايري في باريس[عدّل]

في سنة 1858 تحوّل القسّ فرانسوا بورغاد نهائيا إلى فرنسا بعد أن عهد إلى أحد الأساتذة الإيطاليين بالاشراف على معهد نهج سيدي المرجاني. وفي باريس أصدر بورغاد جريدة تحمل اسم "برجيس باريس أنيس الجليس"، وهي جريدة سياسيّة نصف شهريّة ظهرت في شهر ماي 1859 وتولّى رئاسة تحريرها رشيد الدحداح (1814 - 1889). ثم عُهد إلى سليمان الحرايري بمهمّة التحرير اعتبارا من شهر جوان 1859، وفي سنة 1861 عرضت للدحداح أشغال مهمّة في تونس في عهد الصادق باي، فسلّم رئاسة تحرير الجريدة إلى سليمان الحرايري الذي استمرّ في الاضطلاع بهذه المهمّة إلى أن احتجبت "برجيس باريس أنيس الجليس" في سنة 1866 إثر وفاة مؤسّسها ومديرها القسّ فرنسوا بورغاد. وتعدّ هذه الجريدة باكورة الصحف العربية بكبر حجمها وجودة حروفها وإتقان طبعها واتّساع موضوعاتها. وقد ذاعت شهرتها في الخافقين وأقبل الأدباء على الاشتراك فيها من كلّ الأقطار العربية، كما يتّضح ذلك من أسماء وكلائها وأماكن بيعها المنشورة في صدرها إلى جانبي العنوان. وكانت عبارتها فصيحة ومباحثها مفيدة تتناول كلّ فنّ ومطلب. وقد سطّرت جريدة "برجيس باريس أنيس الجليس" لنفسها منذ العدد الأوّل برنامجا طبّقته فيما بعد بحذافيره. وكانت قد تأسّست لغرضين اثنين: أوّلهما إبلاغ الأخبار المفيدة للقاصي والداني. والآخر ذكر ترقّي العلوم ومخترعات أربابها وتسهيل مناهجها لطلاّبها، وذلك بالنّقل عن الصحف اليوميّة الفرنسيّة والانجليزيّة من غير تعرّض ولا اعتراض، على ما يذكر من الأمور السياسية والأغراض. وعندما جَابَهَ بعض المسلمين ببلاد الشّام،وكانت مقاطعة عثمانيّة في صائفة 1860 مشكلات بين المسلمين ونصارى جبل لبنان، نشرت جريدة "برجيس باريس أنيس الجليس"، دون عصبيّة، أخبار هذه المأساة، على حين كانت جريدة "الجوائب" التي أصدرها بالاستانة أحمد فارس الشدياق سنة 1860 تخفي تلك الأخبار، وربّما تنسب إلى جريدة "البرجيس" نشر الأكاذيب والمغالطة بشأنها.

وقد اغتنم سليمان الحرايري هذه الفرصة - وهو الرجل الذي انعتق من قيود العصبيّة والغلوّ، على حدّ تعبيره، وارتفع إلى المستوى السامي لدين الاسلام الصحيح - فنشر بالبرجيس رسالة ألّفها بعنوان: "رسالة في ذمّ ما ارتكبه بعض مسلمي المشرق من البغي على النصارى". لقد كان الشيخ سليمان الحرايري أوّل صحفي تونسي جمع الأخبار وبوّبها وعلّق عليها، وهو يعدّ من الروّاد الأوائل للصحفيّين العرب بوجه أعمّ. والدليل على ذلك أنّ جريدة "البرجيس" كانت أوّل صحيفة ظهرت بانتظام في القرن 19، إذ لم تصدر قبلها سوى جريدة "الوقائع" المصريّة التي ظهرت على نحو غير منتظم في سنة 1828، أو جريدة "المبشّر" التي صدرت بالجزائر سنة 1847، أو جريدة "مرآة الأحوال" التي أصدرها رزق الله حسّون سنة 1855 بالاستانة ثم انتقل إلى إنجلترا. أما صحيفتا "عطارد" للمستشرق كرلتي بمرسيليا و"حديقة الأخبار" لخليل الخوري ببيروت، فقد ظهرتا في السنة نفسها ولم يكن لهما ما كان لجريدة "برجيس باريس أنيس الجليس" من شأن. والواقع أنّ "البرجيس" وجد قلبا خاليا فتمكّن، إذ لم تكن ترد على البلاد العربيّة قبل ذلك صحيفة إخباريّة جامعة منتظمة تعلّق تعاليق حرّة على الحوادث العالميّة وتوجّه القارئ بعقليّة ميّالة إلى الحرية والعدالة والشورى بين الناس. ولم تكن هذه الجريدة تقتصر على أخبار حوادث العصر، بل كان لا يخلو عدد منها من حكايات ونوادر تنقل عن ماضي الاسلام والمسلمين، وعن ماضي الافرنج وحاضرهم أيضا، وتقدّم للقرّاء صورا عليا من الهمّة والشهامة عند بعضهم، والتعلّق بالحريّة عند الآخرين.

على أنّه لم تمض سوى سنتين على صدور جريدة "البرجيس" حتى ظهرت في تونس جريدة "الرائد التونسي"، وفي الأستانة جريدة "الجوائب" التي أصدرها أحمد فارس الشدياق (1804 - 1888). وكان من الطبيعي أن تتنازع "البرجيس" و"الجوائب" القرّاء في العالم العربي والاسلامي، وكانت حظوظ نجاح "الجوائب" في هذا الميدان أوفر، فهي صحيفة الاسلام والخلافة، على حين أنّ "البرجيس" صحيفة القس الفرنسي بورغاد. ولم ينفع جريدة "البرجيس" في هذه المنافسة تجرّدها ولا سموّ لغتها ولا ارتفاعها عن الاسفاف والمهاترة. فاحتدمت المعركة بين الجريدتين، وكانت ردود سليمان الحرايري مركّزة منطقيّة وبياناته اللّغوية مؤيّدة بالمراجع ومستندة إلى الشواهد من أقوال الأيّمة والفقهاء والشعراء. وكان كلّ ذلك يقلق راحة "الجوائب" ويزيد في غيظها، فحملت على الحرايري حملة شعواء، مشهّرة به رامية له بالتنكّر للخلافة والإسلام والمسلمين وخدمة ركاب النصارى.

وبعد احتجاب "البرجيس" إثر وفاة الأب بورغاد، حاول سليمان الحرايري دون جدوى الحصول على منحة ماليّة من إمبراطور فرنسا نابليون الثالث لاصدار جريدة جديدة تحمل اسم "النسر الممدّن". ولما خابت مساعيه اكتفى بتدريس اللّغة العربيّة بالمدرسة القوميّة للّغات الشرقية وتقديم دروس خاصّة لابنَيْ أخي الوزير الأكبر التونسي مصطفى خزنه دار المقيميْن بباريس.

آثار سليمان الحرايري[عدّل]

لقد اهتمّ سليمان الحرايري منذ تخرّجه في جامع الزيتونة بالترجمة فشرع منذ سنة 1848 في نقل بعض الكتب من اللّغة الفرنسيّة إلى اللّغة العربيّة، وكان أوّل كتاب عرّبه هو كتاب نويل وشابسال ثم كتاب مسامرة قرطاجنّة للأب بورغاد الذي طبع باللّغة العربيّة في تونس سنة 1850 بالمطبعة الحجريّة التي أسّسها بورغاد. ونشرت طبعة ثانية من هذا الكتاب في باريس سنة 1859 بعنوان مسامرة قرطاجنّة، وهي مناظرة في القرآن والانجيل بين قاض ومفت وراهب. وإلى جانب ذلك، ألّف سليمان الحرايري رسالة بعنوان المعالجة بمناسبة انتشار داء الوباء بتونس سنة 1850 وطبعها في السنة نفسها، إلاّ أنّ أوّل كتاب نشره بفرنسا هو كتاب نحو لومون الفرنسي(Grammaire française de Lhomond )الذي صدر بباريس سنة ثم نشر سنة 1860 رسالة في القهوة بعنوان القول المحقّق في تحريم البنّ المحرق. ونشر في جريدة "برجيس باريس أنيس الجليس" قسما من سيرة عنترة وكتاب قلائد العقيان للفتح بن خاقان، ثم نشرهما على حدة سنة 1860. ونشر أيضا "مقامات الشيخ أحمد بن محمد الشهير بابن المعظم" وهو أحد أدباء القرن الثالث عشر الميلادي. ونشر كذلك مختارات أدبية من أشعار العرب وقصصهم بعنوان طرب المسامع في الكلام الجامع. وأصدر سنة 1862 كتابا جديدا بعنوان: رسالة في حوادث الجوّ، أي أسباب الرياح والحرّ والبرد والضباب والرعد والبرق وقوس قزح ونحو ذلك. وقد بذل المؤلّف في هذا الكتاب مجهودا كبيرا لتعريب أسماء الاختراعات الجديدة في ذلك العصر. وفي السنة نفسها ألّف رسالة حول لبس القبّعة (البرنيطة) بعنوان أجوبة الحيارى في لبس قلنسوة النصارى. وفي سنة 1867 نشر سليمان الحرايري كتابا جديدا بعنوان عرض البضائع العام وصف فيه معرض باريس الدولي المنتظم في تلك السنة، وهكذا كان الحرائري مثقفا مسلما حداثيا تنويريّا.