سالم بوحاجب

من الموسوعة التونسية
نسخة 16:23، 23 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1258 - 1342ه1827 - 1924م]

سالم بوحاجب

ولد سالم بن عمر بن سالم بوحاجب ببنبلة، إحدى قرى الساحل التونسي في عائلة ينتمي مؤسسها إلى أبناء سيدي مهذب من عروش الخيام الضاربين جنوب صفاقس، ونشأ نشأة قروية فكان يدعى إلى القيام بأعمال فلاحية تناسب سنه في ضيعة أبيه وإلى حفظ القرآن ومبادئ الكتابة. ثمّ رحل إلى العاصمة التونسية فسكن عند عمّه الذي كان معلّما خاصا لأبناء مصطفى آغة بقصره بباردو. وفي أواخر سنة 1258هـ/1842 - 1843م - وهي السنة التي أحدث فيها المشير الأول أحمد باشا باي (1837 - 1855) تنظيما جعل به التعليم الزيتوني تعليما رسميا - دخل سالم بوحاجب جامع الزيتونة الأعظم وأخذ فيه العلوم الشرعية عن الشيوخ محمد الخضار المالكي، ومحمد بن الخوجة الحنفي، ومحمد النيفر المالكي. أما العلوم العربية فأخذها عن الشيخين محمد حمدة ابن عاشور المالكي، كما أخذ عنه في زاوية جده المعروفة باسم سيدي علي الزواوي وكذلك عن محمد معاوية الحنفي وقرأ أيضا في جامع الزيتونة عن الشيوخ أحمد عاشور، وابن الطاهر، وابن سلامة، والشّاذلي بن صالح، وعلي العفيف، وجميعهم من المالكية، وعن الشيخين محمد بيرم الرابع الحنفي ومصطفى بيرم. ولم يقتصر سالم بوحاجب على الأخذ من مناهل الزيتونة في نظامها الجديد بل التحق بدرس الموطّإ الذي كان يلقيه الشيخ إبراهيم الرياحي (ت1850م) بداره. ولم ينتخب الشيخ إبراهيم للتدريس الرسمي نظرا إلى مقامه الشرعي إذ كان آنذاك كبير أهل الشورى المالكية وإماما أوّل بجامع الزيتونة ومسيّرا للتعليم الزيتوني بصفته عضوا من الأعضاء الأربعة الذين تتكون منهم النظارة العلمية المشرفة على التعليم، كما أخذ عن العالم الصوفي محمد بن ملوكة بزاويته المعروفة خارج باب القرجاني، وكان هذا الشيخ مشهورا برسوخه في علم الفرائض والعلوم العقلية كالحساب والهندسة وكذلك بمعارف التصوّف.

وسرعان ما برز سالم بوحاجب بين أقرانه ونال إعجاب شيوخه. وبفضل مُثَابرته في البحث ارتقى إلى درجة رفيعة في التمكن من العلوم الشرعية وخاصة العلوم العربية اللغوية والحضارية، فسرعان ما اشتهر في الأوساط العلمية وقربت منزلته من أعيان الطبقة العليا من علماء عصره وخصوصا منهم الشيخ محمد بيرم الرابع (المدرس والمفتي ثم باش مفتي) حتى صار من المقربين لديه المنسوبين إليه المواظبين على جلسات ناديه العلمي والأدبي وفيه تعرف إلى العالم الشاعر محمود قابادو فاختصّ به وتأثر بآرائه الاصلاحية أيّما تأثّر، كما كانت صلته متينة بالشيخ القاضي ثم المفتي ونقيب الأشراف محمد الطاهر ابن عاشور الأول فكان من ملازميه وأهل وده وركنا من أركان مجلسه الأدبي والعلمي وفيه تعرف على أعيان من رجال الدولة أمثال محمد البكوش. انتصب سالم بوحاجب للتدريس بجامع الزيتونة سنة 1265هـ/1848 - 1849م واستمر يبث العلم في تلامذته إلى سنة 1330هـ/1911 - 1912م باستثناء المدة التي قضاها بأوروبا وخاصة بايطاليا من سنة 1290هـ/1873 - 1874م إلى سنة 1296هـ/1878 - 1879م مصاحبا الجنرال حسين لمّا وجهته الدولة التونسية إلى إيطاليا لمعالجة قضية القائد نسيم شمامة القابض العام للدولة سابقا. وارتقى سالم بوحاجب من طبقة المدرّسين المتطوعين إلى الطبقة الثانية سنة 1850 ثم ارتقى في شوال 1280هـ/1869م إلى الطبقة العليا. وتجدر الملاحظة هنا أنه عزم على نيل هذا المنصب بالمناظرة حسب النظام الجاري به العمل وقتئذ إلاّ أن المرشّح الاخر للمناظرة وهو الشيخ عمر ابن الشيخ أعلم النظارة العلمية بتخلّيه عن المشاركة فانتخب حينئذ سالم بوحاجب مدرسا من الطبقة الأولى دون القيام بالمناظرة.

أمّا أسانيد الشيخ سالم في رواية الحديث فلم نقف إلاّ على ما أجاز له الشيخ عمر بن الطالب المعروف بابن سودة المتوفى سنة 1285هـ/1868 - 1869م. واضطلع بوحاجب بإقراء كتب مهمة مثل الموطإ وصحيح البخاري في علم الحديث وشرح الاشموني على ألفية ابن مالك في علم النحو والمزهر للسيوطي في علم اللغة كما اعتنى باحياء تدريس علم الأصول بعد أن كاد ينقرض من جامع الزيتونة فأخذ يدرس شرح العضد على مختصر ابن الحاجب. وتخرجت عليه طبقات عدّة من العلماء والمفكرين والأدباء أمثال حميدة بيرم وإسماعيل الصفايحي ومحمد بن عثمان السّنوسي ومحمد النجار ومحمد بن يوسف والخضر حسين وعبد العزيز المسعودي ومحمد مخلوف وعبد العزيز الثعالبي ومحمد بن الخوجة ومحمد المقداد الورتتاني ومحمد الطاهر ابن عاشور الثاني وغيرهم.

ولمّا تشكلت لجنة التفكير الأولى في إصلاح التعليم الزيتوني سنة 1898م انتخب سالم بوحاجب عضوا بها كمدرس. (أما تعيينه في لجنة الاصلاح الثالثة سنة 1924م فكان بصفة باش مفتي). وإلى جانب قيامه بالتدريس بالجامع الأعظم كان يقوم بأعباء وظيفتين في ميدان التعليم والتوجيه الديني هما إدارة المدرسة المنتصرية التي سمّاه شيخا لها الوزير خير الدين سنة 1876م. واستمرّ يدير شؤونها ويتصرف في أوقافها ويدرس فيها الحديث إلى سنة 1892 ثم إمامة جامع سبحان الله التي أسندت إليه سنة 1306هـ/1888 - 1889م وكان يلقي فيه الخطب الجمعية وختما في صحيح البخاري في شهر رمضان من كل سنة في موكب يحضره حسب العادة الجارية وقتئذ الباي أثناء موكب الاختام في بعض جوامع العاصمة، وكانت أختام الشيخ سالم مناسبات علميّة ممتازة. وإلى جانب نشاطه العلمي كان له نشاط إداري، بل وسياسي، إذ سمّي بإشارة من محمد بيرم الرابع كاتبا أوّل للمجلس البلدي عند تأسيسه سنة 1858م، وهناك تعرف إلى رئيس المجلس الأول الجنرال حسين وبفضله تعرف إلى خير الدين وسرعان ما قويت أواصر الصداقة بين هذين الرجلين السياسيين الساعيين إلى التجديد وهذا العالم الزيتوني المتفتح. وعيّن سالم بوحاجب عضوا بالمجلس الأكبر مع المدرسين محمد الطيب النيفر وعمر ابن الشيخ باقتراح من خير الدين رئيس المجلس عندما حصل شغور بتخلي بعض أعضائه بعيد تأسيسه سنة 1861م، كما سمّي رئيسا لأقلام التحرير في اللجنة الدّولية التي عهد إليها الوصاية على المالية التونسية سنة 1868م.

وما من شك في أن أهمّ ناحية من حياته الإدارية والسياسية هي مشاركته في البعثات الرسمية. فقد سافر إلى الاستانة ضمن البعثة التي قادها خير الدين سنة 1864م قصد التفاوض مع الباب العالي في شأن العلاقات بين الايالة التونسية والسلطنة العثمانية. ثم سافر إلى أوروبا مصاحبا لصديقه الجنرال حسين في قضيّة شمامة التي أشرنا إليها آنفا، وقد أقام بايطاليا ست سنين اغتنمها للاطّلاع على حضارتها المجيدة وتعلم لغتها. وفي أثناء إقامته بها ارتحل إلى فرنسا وزار معرض باريس سنة 1878م حيث اطلع على أحدث المخترعات "فكانت إقامته الطويلة بأوروبا فاتحة لنظره اليقظ إلى حقائق الأمور وباعثة له للعمل على إنهاض الفكر الاسلامي" (محمد الفاضل ابن عاشور).

أمّا الوظائف الشرعية فلم يرتق إليها إلا في آخر حياته. فقد سمّي مفتيا مالكيّا سنة 1605م ثم رئيس المفتين المالكيين (كبير أهل الشورى أو باش مُفْتٍ) عند وفاة الشيخ أحمد الشريف سنة 1919م. ويرجع هذا التأخير إلى إقامته الطويلة في أوروبا ومواقفه غير المألوفة، لا لأنه أصيل أسرة من داخل الإيالة كما رجّح ذلك بعض المؤرخين المعاصرين. توفّي الشيخ سالم بوحاجب ببستان ابنه خليل بالمرسى يوم 14 ذي الحجة 1342هـ (16 جويلية 1924م) ودفن بمقبرة الجلاّز بعد أن أقيمت عليه الصلاة في بطحاء القصبة بحضور الباي على عادة مراسم جنائز الشيوخ ورؤساء المجلس الشرعي. وخلّف أربعة أبناء، هم عمر والوزير خليل والدكتور الحكيم حسين والمحامي أحمد وبنتين السيدتين زليخة وزبيدة.

تآليفه[عدّل]

لم يترك الشيخ سالم بوحاجب من الآثار العلميّة إلا إنتاجا قليلا، وهي ظاهرة لم ينفرد بها بل كانت منتشرة في الأوساط العلميّة في ذلك العصر، إلاّ أن وجود هذه الظاهرة فيه تركت فينا حسرة شديدة نظرا إلى ما اشتهر به من ذكاء حاد ودقة في البحث وآراء إصلاحية. وهكذا اقتصرت تآليفه على أختام الحديث على الموطإ وصحيح البخاري التي ألقاها بالمدرسة المنتصرية و جامع سبحان الله. وهذه الأختام بخط يده يقارب عددها الستين لا نعرف منها سوى مجموعة محفوظة بالمكتبة العاشورية في كُرّاسَيْن: الأول تحت رقم 1328 يحتوي على أربعة أختام في الموطإ وواحد في البخاري، والاخر تحت رقم 1235 محتويا على ثلاثة أختام ألقيت بالمدرسة المنتصرية و جامع سبحان الله متضمنة مختارات من الموطإ ودرسا في باب الاستسقاء في خطبة الجمعة. هذا وقد نشر جانب من تلك الأختام: ختمان كان ألقاهما سنة 1320هـ/1902م ضمن مجموعة أختام رمضان 1320هـ (72ص 98) طُبع بالمطبعة الرسمية العربية بتونس بعناية محمد بن الخوجة، وختم نشر بجريدة الزهرة، (عدد الأحد 22 رمضان 1328هـ/1910م). ومن تآليفه المخطوطة أيضا شرحه على العاصميّة في علم الفقه ودرس اختتامي في شرح الاشموني على ألفية ابن مالك (دار الكتب الوطنية 9941). أما ديوان شعره - وهو في جزأين بخط يده قد أشار إليه المؤرخون - فلم نعرف عنه شيئا. هذا وإنّ جانبا من أبياته الشعرية يوجد في كتاب الرحلة الحجازية لمحمد بن عثمان السنوسي وفي الترجمة الذاتية المخطوطة للأديب عبد العزيز المسعودي المحفوظة بالمكتبة العاشورية وقصيدة يمدح فيها خير الدين توجد في كنش الطواحني (رصيد حسن حسني عبد الوهاب بدار الكتب الوطنية رقم 18763). ويقال إنّ له رحلة دوّن فيها مذكرات أسفاره وإقامته بإيطاليا.أمّا خطبه المنبرية فقد اعتنى بعض تلاميذه بنشر تسع وخمسين منها سنة 1331هـ/1913م بالمطبعة التونسية، كما اعتنى تلميذه الشيخ محمد باش طبجي بنشر جانب غير قليل من مواقف سالم بوحاجب ومن تحقيقات وتدقيقات مهمة قام بها في مناسبات مختلفة وخاصة في المناقشات التي كانت تجري في أثناء أختامه للحديث وذلك في كتاب عنوانه "خاتمة روضة الانبساط في تحقيق المناط" (تونس 1347هـ/1928م). أمّا الدرس المنهجي والاصلاحي الذي ألقاه بمناسبة الافتتاح لنشاط الجمعية الخلدونية سنة 1897 فيوجد نصّه في كتاب "أليس الصبح بقريب؟" للشيخ محمد الطاهر ابن عاشور (تونس 1967 و1988 ص 103 - 112). ويجدر بنا أن نشير هنا إلى ما قدّمه سالم بوحاجب من إنتاج فكري وعلمي يسعى إلى بثّ النزعة الاصلاحية في الأوساط الاسلامية من ذلك إسهامه في كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك" لصديقه خير الدين وهو في الحقيقة من تحرير سالم بوحاجب.واشتهر أيضا باجتهاده الاصلاحي وإقباله على التجديد فهو من ابرز الشخصيات الفكرية والعلمية التونسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين وهو كذلك من أهم روّاد النزعة الاصلاحية في زمن كان أقرانه وزملاؤه مصرّين على العزلة الفكرية منكمشين على الأساليب العلمية والتعليمية المألوفة رافضين كل محاولة في انفتاح على العلوم والحضارة الغربية يرون التفكير في النهوض بل مجرد التأمل في إصلاح أساليب التعليم بدعة وتجاسرا على الدين. فجاء الشيخ سالم بوحاجب مواصلا ومتمّما لما سعى إلى تحقيقه الشيخ محمود قابادو. ورغم انتمائه إلى رموز الاصلاح السياسيين منهم أمثال خير الدين وحسين والزيتونيين أمثال محمد بن مصطفى بيرم ومحمد بن عثمان السنوسي، فإنّ سالم بوحاجب لم يترك للناحية السياسية المجال للتغلّب على الناحية العلمية في شخصيته. فكان لا يضطرب بالدرجة التي يضطرب بها أصدقاؤه إزاء التقلّبات والنكبات السياسية معتمدا العمل الفكري واعيا بما يتطلّبه النهوض من نفس طويل ومن تطور علمي واجتماعي لا يتعلّق بمجرد العمل السياسي الظرفي. وهذا الاتجاه يتجلّى في علاقته بالحركة السّلفية. فعلى حين تجسم تحمّس محمد بيرم ومحمد السنوسي لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في انخراطهما في جمعية "العروة الوثقى" يبدو أن صلة الشيخ سالم بهذه الحركة لم تتجاوز الاعجاب بمواقف الشيخين رائدي الحركة وحرصهما على النهوض بالفكر الاسلامي، على أن نظرية الشيخ سالم تجعله أقرب إلى نزعة الشيخ عبده من نزعة جمال الدين المرتكزة على العمل السياسي العاجل. وهكذا أصبح كل من الشيخين المصري والتونسي يعجب بآراء الاخر ومواقفه.

ترتكز آراء الشيخ سالم بوحاجب الاصلاحية على ثلاثة أركان أساسية، الأول هو عزمه على مقاومة الجمود المسيطر يومئذ على التعليم الزيتوني والتخلّي عن الأسلوب السائد في التدريس المطبوع بالتقليد والتمسك بظواهر النصوص والاعراض عن تحقيق المناط. فسعى إلى تحقيق غايته الاصلاحية مدة تدريسه بجامع الزيتونة متوخيّا منهجا تعليميّا، أركانه الالمام بالأصول ومراعاة مقاصد الشريعة والاعراض عن كثرة النقول وسالكا طريق النقد والبحث مع استقلال الفكرة وولوع بمناقشة الاراء واستنباط الأفكار فأدخل بمنهجه هذا إصلاحات كثيرة على أساليب التعليم الزيتوني مع رسوخ في العلم حتى قال فيه تلميذه محمد الخضر حسين (كامل) :

يترسمون به الخليف كأنما
 
شهدته أعنيهم و هم أيقاظ

و كأن درس الفقه مجلس مالك
 
و كأنما درس البيان عكاظ

و يغوص في درس الحديث على حلى

غفلت عن اسنباطها الحفاض

وهذه الطريقة الجديدة، وإن نالت إعجاب طلبة الشيخ سالم وبعض زملائه، فإنها تسبّبت من ناحية أخرى في مناصبة عدّة شيوخ مدرسين له العداء بحكم نزعتهم المحافظة التي أخذت تناهض بشدة كل فكر إصلاحيّ داخل "الزيتونة". ونظرا إلى ما اشتهر به من مواقف إصلاحية عيّن الشيخ سالم باتفاق جميع الأعضاء رئيسا للجنة النظر في العلوم الحديثة المتفرعة عن لجنة النظر في إصلاح التعليم الزيتوني الأولى سنة 1898. ويبدو أنّ ما لاحظه من رسوخ النزعة التقليدية المحافظة في وسط مدرّسي الجامع شيوخا وشَبَابًا وضعف تأثير النزعة الاصلاحية كان دافعا له على توجيه أبنائه عمر وخليل وحسين وأحمد إلى التعليم الصادقي في المدرسة التي أسسها صديقه خير الدين.وأما الركن الثاني الذي ترتكز عليه آراء سالم بوحاجب الاصلاحية فهو التنويه بضرورة تعلّم العلوم الحديثة وممارستها. وأشهر ما صدع به في هذا المجال هو درسه الافتتاحي للجمعية الخلدونية سنة 1897 إذ يقول فيه بعد تفسير الايتين "وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة" (الاية 30، سورة البقرة) و"علّم آدم الأسماء كلّها" (الاية 31، سورة البقرة) وذكر ما كانت عليه الأمّة الاسلامية من إقبال على العلوم الكونية وتمدّن ثمّ ما اعتراها من تقهقر وتأخّر في العلوم "ولا نرى سببا لذلك [تأخر المسلمين في العلومّ إلا اعتقاد كثير منّا أنّ التقدّم في العلوم الدنياوية ينشأ عنه التأخر في العلوم الدينية، والواقع بالعكس، فإن الدّين إنّما تقهقر عند تأخر المسلمين في تلك العلوم (.) إنّ تعاطي العلوم الدنياوية المشار إليه [الطب، الحساب، علم الفلاحة، الهندسة... (.) ممّا لا بأس به، بل تقدم في كلام الغزالي ما يفيد أن تعلم العلوم المحتاج إليها في إقامة الدنيا من فروض الكفاية..."

ومن شدة تحمس الشيخ سالم لموضوع انفتاح الفكر الاسلامي على العلوم الحديثة وعزمه الراسخ على إرجاع الجانب التوجيهي والفكري لجميع المحافل العلمية والدينية كان يتناول موضوع العلوم العصرية في أختام الحديث، حتى إنّه لم يتردد في تركيز ختم رمضان سنة 1328هـ/1910م على ذلك الموضوع وعلى عدم تناقض ممارستها مع الشريعة الاسلامية إذ يقول "... إقبالنا على العلوم الأخروية لا يمنعنا من أن نلتفت إلى إصلاح الدنيا باعتبار كونها للاخرة مطية بل هي بهذا الاعتبار تلتحق بالأخروية مع أن تلك العلوم الدنياوية إذا صلحت النيّة في تعاطيها نجدها لا تخرج عن حفظ الأمور التي اتفقت - الشرائع على وجوب حفظها أعني الدين والبدن والعرض والمال".وهو الكلام نفسه الذي قاله بمناسبة افتتاح الخلدونية.

وتناول الشيخ سالم بوحاجب أيضا موضوع الاختراعات العصرية في شعره فأنشد أبياتا أنيقة طريفة في مدح آلة تسجيل الصوت مثلا. أما الركن الثالث فهو أدخله من تجديد نسبي في الخطابة الدينية إذ تضمنت خطبه الجمعية على منبر جامع سبحان الله موضوعات تهم الحياة العامة والأحوال الاجتماعية. إن إعجاب الشيخ سالم بتقدم الحضارة الغربية واعتقاده ضرورة مواكبة التطور العلمي لم يحجب عن فكره ما تحتوي عليه بعض التراتيب المنبثقة عن تلك الحضارة من خطر يهدّد الكيان القومي عندما تطبق في نظام استعماري. فكان من المناهضين للاجراءات الصحية والادارية التي اتخذها مجلس بلدية العاصمة وكان من الممضين في الرسالة الموجهة إلى الوزير الأكبر في هذا الشأن، وذلك أثناء احتجاج الأهالي المعروف بالنازلة التونسية سنة 1885. أما فيما يتعلّق بالجانب الاجتماعي من حياته فكان هذا الشيخ الزيتوني المتفتح ينير بذكائه وكياسته وسعة معلوماته جلسات أشهر النوادي العلمية والأدبية آنذاك، مثل نادي الشيخ محمد بيرم الرابع ونادي الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور الأول ونادي الوزير محمد البكوش كما نال إعجاب الأميرة المصرية نازلي ابنة الأمير مصطفى فاضل باشا ابن إبراهيم باشا لما اتّصلت به عند حلولها بتونس سنة 1314هـ/1896 - 1897م. وقد اشتهرت هذه الأميرة بالدور المهمّ الذي قامت به في النهضة المصرية وخاصة ناديها الأدبي والسياسي بالقاهرة. وعظم إعجابها بالشيخ سالم حتى إنّها لما عزمت على الاستقرار بتونس اتخذت أسرته أسرة ثانية لها فتزوجت بابنه خليل واختارت بستانا أنيقا لسكناها بضاحية المرسى (فيلا رمسيس) أحيت فيه ناديا أدبيا وفكريا كان من روّاده أبرز وجوه النخبة التونسية وكان سالم بوحاجب لا يتردد في الاتيان من بستانه بسيدي أبي سعيد للمشاركة في جلسات هذا المجلس.واشتهر بتواضعه وابتعاده عن التكلّف والتصنّع محافظا على بساطة السلوك القروي في جلوسه وسيره ولباسه. وكان مقتديا بالسلف من لباس القفطان وغيره مع تقشف ينبئ عن ازدرائه للدّنيا، كما كان محبّا للأرض والطبيعة والفلاحة الّتى طالما تغنّى بها في شعره.

واشتهر أيضا بتجاوزه للعادات المألوفة عند المدرسين الشيوخ فكان لا يتردد مثلا في استعمال ألفاظ إيطالية في دروسه. فهو بحقّ باعث النهضة الفكرية في الشباب الزيتوني ورائد الحركة الاصلاحية الزيتونية التي ما انفكّت تنمو طيلة القرن العشرين. كما عزّز بفضل نفوذه الأدبي المناشط الرامية إلى النهوض بالفكر التونسي مثل بعث جريدة "الحاضرة" سنة 1888 وتأسيس الجمعية الخلدونية فكان للشيخ سالم بوحاجب تأثير لا في الزيتونيين فحسب بل وفي نخبة المثقفين الاصلاحيين من خريجي المدرسة الصادقية أمثال البشير صفر وعلي بوشوشة وغيرهما.