جرجيس

من الموسوعة التونسية
نسخة 13:52، 9 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

بفتح الجيم وسكون الراء مدينة ساحلية بالجنوب الشرقي تبعد عن تونس نَحْوَ 540 كلم. تعد بلديّتها أقدم بلدية في منطقة الجنوب الشرقي إذ تأسّست سنة 1889. تقع المدينة في الرّكن الشّمالي الشّرقي لشبه جزيرة يحيط بها البحر الأبيض المتوسط شرقا وشمالا وخليج بوغرارة غربا. وتتألّف تضاريسها من عنصرين اثنين: هضبة متواضعة مجلّلة بالزّياتين في الشمال الغربي وأراض منخفضة مخصّصة للمراعي والحبوب والباكورات تتخلّلها سباخ أهمّها سبخة الملح، في الجنوب الشرقي. ترتفع الهضبة (دخلة عكارة) تدريجيا من سباخ خليج بوغرارة حتى تصل إلى 79 مترا (رأس الظهرة) ثم تنكسر على بعد كيلمتر واحد من البحر فتؤلّف جرفا يمتدّ تحته شريط واحات السويحل وصنغو - حسي الجربي. ويفصل بين البحر ومنطقة الأراضي المنخفضة تلّ مستطيل يسمى صلبا يبدأ من رأس جدير على الحدود التونسية اللّيبية فينكسر أمام بحيرة البيبان ثم يتواصل في امتداده وارتفاعه المتواضع إلى موضع جرجيس المركز حيث يحجز وراءه سهل القرعاء. فوق ذلك التلّ نشأت جرجيس ثم توسّعت فاستوعبت سهل القرعاء إلى أن أحدثت السّيول النازلة من رأس الظهرة كارثة في سنة 1969 عجل على إثرها بنسف جزء من التلّ الصخري لايجاد متنفس لمياه الفيضانات نحو البحر.

في جرجيس تلتقي طرقات بن قردان (وليبيا) ومدنين (وتونس) وجزيرة جربة التي لم يعد يفصل بينها وبين القارة مضيق منذ أن رمّمت قنطرته الأثرية. وللمدينة وظائف متعددة.:زراعيّة (زيتون - فواكه - أسماك - إسفنج) وصناعيّة (زيت - صابون - معامل تصبير ومواد بناء) وتجارية وسياحية (4000 سرير) وإدارية (مركز معتمدية). ولئن تضاعف عدد سكان بلديتها منذ سنة 1946 فإنّه لم يبلغ نسق التزايد الوطني بسبب الهجرة إلى تونس وليبيا وفرنسا.

وجرجيس محطّة ساحلية قديمة أسّسها الفينيقيون لأهمّية موقعها. أمّا مركز الحياة السياسية والاقتصادية فقد كان يوجد في مدينة زيتا (أو زيزا) على مرتفعات هنشير زيان التي تبعد عن جرجيس بنحو 8 كلم غربا. يوجد في زيتا ميناء على ساحل خليج بوغرارة الهادي الأمين (في موضع الرّصيف حاليا) يحمل اسمها (بونس زيتا) أي مرسى زيتا مع أنه يبعد عنها مسافة اثني عشر كلم. كان ذلك الميناء يربطها عبر بحر بوغرارة بمدينة جيغتي، بيد أنّ طريقها نحو صبراطة والشرق إنما كان يمرّ غالبا جنوب بحيرة البيبان تاركا جرجيس في الشّمال وراءه.أمّا مسلكها نحو مدينة مينانكس في جنوب جزيرة جربة فقد كان بوساطة قنطرة مدّت في مضيق على طول سبعة كلم وهي في القنطرة نفسها (التي كانت مغمورة) والتي رُمّمت وأعليت في الخمسينات فأسهمت في انتعاش الجزيرة وازدهار سياحتها منذ أن وازاها أنبوبان للماء الصالح للشراب وخط كهربائي. وزيتا مدينة ذات قلعة وساحة كبرى (فوروم) ومعبد وقد "تروْمنت" (ثقافة رومانيّة) دون أن تفرط في تقاليدها الشرقية. ازدهرت في القرن الأوّل والثّاني خاصّة واشتهرت بزيوتها وخمورها وسياسة أمورها من لدن فئة أرستقراطية ثرية كانت مولعة بالتّرف ومظاهر العظمة وتقديس الأباطرة المجسّمة فيما بقي من حطام المرمر المنحوت كالرأس العظيم للأمبراطور كلوديونس واليد العملاقة الممسكة بكرة.

بدأ التّنقيب عن آثار زيتا ولكن على نحو غير منتظم منذ سنة 1846. وقد زارها علماء منهم باخت الألماني وريناك الفرنسي فاكتشفوا أعمدة وتماثيل مرمرية كثيرة ونقائش توجد الان موزعة على متاحف اللّوفر وسوسة وباردو، كما نبشت سكّك الحراثة المعمّقة على نحو عفوي منذ عهد قريب جدا عدة شواهد وأوان وآثار فينيقية جُمعت في متحف أحدث بمدينة جرجيس لهذا الغرض. وفي الحقبة الأولى من العصر الوسيط اقتصرت المصادر على ذكر قبيلة عكّارة. وفي القرن الثاني عشر فقط يبيّن الإدريسي في "نزهته" أنّ المنطقة الساحلية كانت عامرة، يسكنها قوم من الوهبية "ضيافون يطعمون الطعام ويندبون إلى طعامهم ويسالمون النّاس في أموالهم وفيهم عدالة بيّنة لمن نزل بهم، غرسوا النّخيل والكروم وتحصنوا في "قصور" جرجيس وشماخ... وجزيرة زيزوا (المغمورة حاليا)، كما تبيّن وثائق القرن الثالث عشر الاسبانية التي درسها دي فورك في أطروحته أنّ جرجيس كانت ميناء لتصدير الملح إلى أوروبا. ويقول التجاني في "رحلته" إثر حملته الجبائية (1306 - 1308م) : "وهنالك السّبخة المفضّل ملحها على جميع السّباخ ومنها يمتار أكثر بلاد النّصرانية". ويؤكّد ذلك كل من العياشي في القرن السابع عشر: "وفي المحلّ مرسى جيّدة ينزل بها النّصارى بإذن أمير البلد يأخذون الملح من سبخة كبيرة هناك وفيها ملح عجيب"، والورثيلاني (القرن الثامن عشر) في رحلتيهما.

ويسمّى سكان جرجيس وشبه جزيرتها "عكارة" وقد أصبحوا مشهورين وانتشر هذا الاسم على نحو واسع إثر فاجعة 5 جوان 1907 عام القارب في الذاكرة الجماعية. وهو الذي مات في أثنائه ثلاثة وسبعون فلاحا جاؤوا من جرجيس في زوارقهم إلى موضع "الكتف" (على مقربة من الحدود مع ليبيا) لحصاد زروعهم. وكان الحاكم العسكري بجرجيس قد سخرهم مكرهين ليحجزوا سفينة تهريب أجنبية شحنتها بارود وأسلحة تفجرت كالبركان عند وصول زوارق الحصار إليها. وعكّارة ينتسب إليها الشيخ الصيّاح العكّاري الذي رابط أثناء النزاع العثماني الاسباني في موقع مرحلة من مراحل قافلة الحج على مقربة من بن قردان حيث يوجد ضريحه وكان معلما بارزا ومزارا منتظما مشهودا تؤمه جموع عكارة في موسم الربيع من كل سنة حتى بداية الاستقلال. كان عكّارة من صفّ الحسينية فآزروا أولاد حسين بن علي برّا وبحرا لكنهم انهزموا هزيمة نكراء في جزيرة جربة أمام الباشية (1735) ثم أدركهم النوائل (المقيمون حاليا بزلطن في ليبيا) فقتّلوهم تقتيلا ذريعا وأجلوهم من شبه الجزيرة فتفرّقوا قاصدين نواحي متعددة (الغار وضواحي طرابلس وبني معقل في جربة والساحل التونسي والوطن القبلي وأرياف بنزرت...) ولم يعودوا إلى أوطانهم إلا بعد انتصار الدولة الحسينية النهائي في عهد علي باي (1759 - 1782) الذي بنى لهم برجا محاطا بخندق (معززا بخمسة عشر مدفعا) تعلوه قنطرة معلقة. وأقطع علي باي عكّارة المنطقة الساحلية. وبدأت فترة استقرار نسبي تتخلّلها من حين إلى آخر غارات النوائل. في تلك الفترة بنت فروع عكّارة الستة (أولاد بوعلي، أولاد سعيد أولاد محمد، الزاوية، الموانسة، الخلائفة) منازلهم و"قصورهم" حول جرجيس وانتحلوا الزّراعة والرّعي وصيد الأسماك مقسمين رزنامتهم الفلاحية على النحو التالي:

1- الحرث في الخريف ثمّ الرّجوع إلى جرجيس.

2- انتجاع المراعي والحصاد في الربيع وبداية الصيف.

3- وأخيرا الرجوع إلى جرجيس لري البساتين وصيد الأسماك والاسفنج وجني التمر في الصّيف والخريف.

واستمرّ ذلك النّسق الموسمي في مجال زراعي مساحته 60.000 هكتار إلى أن طرق البلاد طارق الاحتلال الفرنسي (1881) فأصبحت جرجيس بحكم قربها من الحدود مع ليبيا مركزا من أهمّ المراكز الحربية يسوس شؤونها المدنيّة ضبّاط عجّلوا ببناء مدينة عسكريّة مسيجة كبتت تنفس المدينة القديمة ومنعتها من التوسّع نحو الشاطئ فنزلت بناءاتها إلى سهل القرعاء وعلى طول طريقي جربة و مدنين. وسكن المدينة بعض الأوروبيين وجمع من يهود جربة بيد أنّ عكّارة آثروا بناء منازلهم في البساتين المحيطة بجرجيس والأخرى الممتدة على طول الساحل الشمالي. وفي سنة 1897، كان الاستعمار يبتزّ من الأراضي الصّالحة للزراعة ثلثها (20.000 هكتار) ويوزّعها على 13 معمّرًا ثم يحبس بعد الحرب العالمية الأولى ثلثا آخر في صيغة ملكية على الشياع (أراض اشتراكية) ويستأثر بصيد الأسماك في بحيرة البيبان. فلم يبق لعكّارة وقد تقلّص مجالهم إلا الهجرة. ولئن هاجر بعضهم إلى مدينة تونس وتخصّص آخرون في صيد الاسفنج فإن أغلبهم آثر البقاء في ما بقي من الأراضي، فغرسوا في ظرف قصير من الزّمن مليون زيتونة ثمّ تجاوزوا حدودهم الادارية فأحيوا بالمغارسة أراضي دخلة ورغمة (الجرف وبوغرارة). ولئن تجسّمت غريزة عكّارة الدفاعية ضدّ الاستعمار الزّراعي في غراسة الزياتين فإنّ تلك الغراسة السّريعة والمكثّفة أحيانا قد أدت إلى تقلّص مساحة المزارع والمراعي واختلال التوازن الاقتصادي التقليدي وتفتّت الملكية عند الأغلبية وتجمّعها عند بعضهم من غير عكّارة في الغالب.

وبتضاعف عدد السكّان (14.000 في سنة 1907 - 30.000 في سنة 1946) وتقهقر مستوى المعيشة - إذ لم يحدث الاستعمار مشروعا اقتصاديا يذكر عدا مصنع للغازات السّامّة في سبخة الملح أثناء الحرب العالمية الأولى - لم تنتعش المدينة ولم تنشط وتتوسّع إلا بعد الاستقلال عندما افتتح مجال للسّياحة وعبدت الطرقات الرئيسة وامتدت شبكات التّنوير والماء الصّالح للشّراب وحفر ميناء للصّيد البحري وآخر تجاري، وإن استؤصلت هذه الحقبة بعض المعالم التاريخية (برج علي باي، زاوية سيدي مصدق، "قصور" الموانسة وأولاد سعيد...) ورسوخا في المحافظة على نمطين قديمين للملكية: الملكية الكبرى (زياتين الدولة بضيعة شماخ التي تمسح 6.000 هكتار ونيف) والملكية العروشية.