بلاريجيا

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تقع بلاريجيا بسفح جبل ربيعة المرتفع بنحو 649م، على منحدر ضعيف مشرف على سهل مجردة، وهي على الطريق العتيقة الواصلة بين قرطاج وعنّابة (هيبون) والموافقة للطريق العصرية المخترقة للموقع الأثري. وهي أيضا قريبة جدّا من الفجّ المؤدّي إلى ميناء طبرقة عبر جبال خمير، ومن مصبّات عدّة أودية في مجردة. فلا غرابة أن تكون بلاّريجيا مستوطنة رومانية وقد حظيت بموقع مناسب ثري التربة غزير المياه رطب المناخ عرف عند الكتّاب القدامى ب: (Campi Magni) وأعطى جزءا من اسمه لبلاّريجيّا إذ هو مذكور عند أوغسطين بصفة (Campus Bullensis), وقد انتقل لفظ (Bullensis) إلى (Bulla) عند الرومان وإلى (Boll) عند الجغرافيين العرب، وعرّب لفظ (Campus) بفحص، فأصبحت التسمية العربية: فحص البلّ حسب البكري، كما تذكر لها تسمية ثانية بحمّام الدّرّاجي. كانت هذه المنطقة تابعة للقرطاجيين منذ القرن الثالث. كما شهدت المنطقة الحرب التي قادها ماسينيسا سنة 150 ق. م، لكنّها لم تقض على نشاط المنطقة الفلاحي. ومما يزيد في تأكيد أهميتها لجوء الملك هيارباس (Hiarbas) إليها سنة 81 ق. م. إثر انهزامه أمام خصمه بومبي (Pompée) وحليفة يمبسال، ولعلّها تسمّت ب (Regia) نسبة إلى الملك المعتصم بها. وقد عثر في بلاّريجيا على جملة من القبور الجلمودية والقبور البونية الحديثة أو المتأخرة.وهو ما يدلّ على تواصل الحضارة فيها. إلاّ أن الحضور الروماني بها أخذ يتأكّد ويتوسّع منذ إنشاء مقاطعة أفريكا سنة 146 ق. م، وخاصة انتصار قيصر في تبسّة سنة 46 ق. م. فمن ذلك التاريخ انتشرت في المنطقة عدّة مستعمرات رومانية. وحافظت بلاّريجيا، مع ذلك، على استقلالها الداخلي وعلى تقاليدها وتنظيمها السياسي بصفتها مدينة حرّة (Oppidum Liberum).

لقد كان ضغط أعيان بلاّريجيا شديدا على كلّ الأهالي لفرض الطابع الروماني على المدينة المتطوّرة، فكان الترومن جليا في اللغتين الرّسمية واليومية اللتين أصبحتا لغة لاتينية وفي أسماء السكان التي أصبحت رومانية بديلة للأسماء الأصلية، ولنا عدّة أمثلة في النقائش المكتشفة.من ذلك شخص أصله (Baigbal) أو برق بعل، أضاف إلى اسمه البربري أو الفينيقي اسمين رومانيين فأصبح يُسمّى (Helvuis Barigbal Lucius) وكذلك شاهد من شواهد القبور جمع فيه بين اسمين قديم وجديد أو محلي وروماني، فالأوّل (Manilia Zaba) والاخر (Publius Ponttius Felico). حتّى الهياكل السياسية للمدينة تغيّرت وأصبحت مقلّدة لهياكل مدينة إيطالية. كانت بلاّريجيا أوّل الأمر بلدية منذ ق 1م، وتقريبا في عهد (Vespasien) الامبراطور الذي حكم من سنة 69 إلى سنة 79م.ثم أصبحت مستعمرة بفضل (Hadrien) الامبراطور الذي حكم من سنة 117إلى سنة 138م. هكذا أصبح لبلاّريجيا تنظيم بلدي ومجلس منتخب على منوال مدينة روما. وبهذا أصبحت مركزا عمرانيا كبيرا مستقطبا لعدّة سكان نازحين لما توفّر فيها من مؤسسات ومرافق. هذا ما تؤكّده الاثار التي يعود الظاهر منها اليوم إلى الفترة الممتدّة من ق 1 إلى ق 6م. في حين تعود آثار المنشآت العمومية الكبيرة إلى الفترة ما بين ق 2 وق 5م، أي إلى الفترة الرومانية المزدهرة. في تلك الفترة تمكّن بعض أفراد من العائلات الكبيرة من الاسهام في إدارة الامبراطوريّة وفي الدخول إلى ما يشبه عندنا اليوم بمجلس النواب أو مجلس الشيوخ، بل إن بلاّريجيا هي المدينة الافريقية التي قدّمت لروما أكبر عدد من الشيوخ والنواب. وهو ما يدلّ على ازدهارها وحيويتها رغم تواضع عدد سكانها. وهو عدد لا يتجاوز بعض الالاف نسمة.

ولكنها غنية باقتصادها وثرواتها الفلاحيّة. وقد شهد بذلك الأسقف أوغسطينوس عندما مرّ ببلاّريجيا سنة 399م، وفيها خطب منتقدا بعض عادات السكان، من ذلك التردّد على المسرح، هذا النوع من التسلية الذي حرّمته الكنيسة المسيحية، فقد قاطعه أهالي شمتو، المدينة المجاورة لبلاّريجيا، ومازالت هذه محافظة عليه. وبالفعل فقد انتشرت المسيحية في المدينة ولكن الخلافات لم تخمد حتى إنّه في سنة 411م كان لا بدّ من تمثيل المدينة في مؤتمر قرطاج باثنين من قساوستها، أحدهما كاثوليكي والاخر دوناتي، ولكنّ المهتمين بالموضوع لا يعرفون كيف قُضي على الدّوناتية بحيث لم تبق إلاّ الكاثوليكية ممثلة للديانة المسيحية. وكذلك المعلومات عن الفترة الوندالية والبيزنطية ما عدا حلقة من الاستيلاء البيزنطي رواها الكاتب المعاصر للأحداث آنذاك بروكوب (Procope) سنة 533م. فبعد أن افتكّت قرطاج من الوندال اعتصموا في بلاّريجيا ولكنهم لم يصمدوا أمام البيزنطيين الذين احتلّوا المدينة، ولم تستتبّ أوضاعهم بها نظرا إلى الانتفاضات التي قام بها الأهالي. ومن آثار تلك الفترة المضطربة حصن صغير وتحصينات المسرح. وإذا كانت فترة الانحطاط مجهولة، فإنّ وجود أسقف ببلاّريجيا في أواسط ق 7م يدلّ على استمرار العمران بها ولو بشكل متواضع، وقد عثر فيها على كنز ذي 260 قطعة نقدية فضيّة تعود إلى النصف الثاني من ق 6هـ/21م. ولكن في الفترة الاسلاميّة التي لم تخلّف في بلاّريجيا أيّ معلم مهمّ بدأت الحياة تنطفئ تدريجيا لفائدة مراكز عمرانيّة جديدة أهمّها جندوبة أو سوق الأربعاء سابقا حيث توفرت حظوظ التنمية بالطريق الرئيسة الجديدة وخطّ السكة الحديدية المنشأتين في عهد الحماية الفرنسيّة لأغراض استعماريّة.وبلاّريجيا اليوم موقع أثري وسياحي مهمّ، اهتمّ بوصف آثاره الرحالة والباحثون من مختلف الجنسيات، وأجريت فيه بعض الحفريات غير المنظمة، آخرها قام به فريق معهد الاثار بتونس بالتعاون مع المدرسة الفرنسية بروما، وكان من ثماره كتاب صدر سنة 1977 مع ملحق حول آثار بلاّريجيا في متحف باردو. والزائر اليوم لموقع بلاّريجيا يشاهد مواجل الماء في عدّة مواضع وقوس النصر والحصن البيزنطي وعدّة معابد وحمامات ومنازل وأنهج ومقابر بما فيها القبور الجلمودية جنوبا والمسرح والساحة العامة والكابيتول والسوق.

وإذا كانت جلّ تماثيل الالهة أو أباطرة الرومان قد نُقلت مع أجمل اللوحات الفسيفسائية إلى متحف باردو، فإن الكشوف الجديدة أجلت لوحات أخرى تمثل الحياة اليومية والاقتصاديّة والدينية في المدينة قديما مع بعض التوابيت المزخرفة. ولا شكّ في أن أهم المعالم الدّالة على خصوصيّة المعمار في هذه الناحية هي تلك المنازل ذات الطابقين، أحدهما سفلي تحت الأرض يساعد على التأقلم مع الحرارة المتفاوتة صيفا وشتاء.ومن أروع تلك المنازل ذات الطابق الأرضي منزل الصيد البرّي ومنزل الصيد البحري نسبة إلى مشاهد اللوحات الفسيفسائية المزيّنة للأوّل والثاني، وتمتاز بتعدّد غرفها ومرافقها العجيبة:من ذلك احتواؤها على كنيسة خاصة يتعبّد فيها سكان المنزل الكثيرون، وعلى حمّامات خاصة بهم. فلعلّ هذه المنازل كانت خاصة بسكنى الصيادين الأثرياء أو المنخرطين في الجمعيات المنظمة لمهرجانات بلاّريجيا.أمّا المجموعة المعروضة بمتحف باردو من آثار بلاّريجيا وهي التي تعود إلى نهاية القرن الثاني وبداية القرن الثالث، فهي تماثيل نحتت في بلاّريجيا وفي أماكن أخرى ثمّ جلبت إلى معابد المدينة، دلالة على انتشار الرّومنة، وعبادة أبولون بدرجة أولى وديميتير وأسكولاب وأتينا وساتورن بدرجة ثانية. تبدو محصّلة البحث في الجذور التاريخية لهذه العائلة محدودة وجد هزيلة، فقد تواضعت الروايات التي بحوزتنا حول أصول عائلة البُكري على نَسْب جدها المؤسس، أبي بكر الأكبر إلى أصول قرشية أُمَوية تُلحقه بالخليفة الراشدي عثمان بن عفان دون أن تمدنا بمعلومات حول الجوانب المتصلة بسيرته فيما عدا تاريخ وفاته خلال القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي ودفنه بقرية المنيهلة في الظهير الشمالي الغربي لمدينة تونس.

تأكّد ارتقاء البُكريين في سلم الوجاهة الاجتماعية وفقا لشهادة حسين خوجة مع موفّى الربع الأول من القرن السابع عشر وذلك بالتزامن مع تعيين تاج العارفين البكري إماما خطيبا لجامع الزيتونة بإيعاز من أبي يحيى الرصاع في حدود سنة 1625م، لذلك نرجّح توصّل العديد من الشخصيات المنتسبة لعائلة البُكري من الحفاظ على موقعها الاجتماعي المتميّز عبر توارثها لخطابة جامع الزيتونة طيلة ما يقارب القرنين من الزمن.

ولئن تعددت التراجم المخصصة لسير الأئمة البُكريين ضمن مؤلفات أحمد برناز في الشُهب المخرقة، والوزير السراج في الحلل السندسية، وحسين خوجة في ذيل بشائر أهل الايمان، وأحمد بن أبي الضياف في إتحاف أهل الزمان، ومحمد السنوسي في مسامرات الظريف، ومحمد مخلوف في شجرة النور الزكية، فإن النتف التي أمدّتنا بها لم تسعفنا في التعرّف بالقدر المأمول من الدقة إلى التقاطيع المميّزة لسيرها التي بقيت غائمة السمات غير واضحة المعالم.

تركّز الشذرات التي بحوزتنا بخصوص أفراد العائلة البُكرية على عراقة أصولهم العائلية، مشدّدة على محورية الثروة التي عادت لهم بعد زواج الشيخ تاج العارفين بأمّ هاني ابنة الولي الصالح أبي الغيث القشاش (1551 - 1623م) والوريثة الوحيدة للثروة الكبيرة التي كدّسها هذا الولي الفرد في ترسيخ صيتهم. وهو مؤشر بليغ يحيل على نوع من تبادل الشرعية بين الوجاهة الناجمة عن النجاح في تجربة الصلاح وبلوغ مرتبة "المشيخة"، والوجاهة العلمية المترتّبة على النجاح في مسيرة التحصيل. كما تشير تلك النتف إلى أن أبا بكر بن تاج العارفين الذي تضلّع في تدريس الحديث بجامع الزيتونة منذ صباه لم يجد أي صعوبة في وراثة خطة خطابة نفس الجامع عن والده. وتفيد أيضا أنه لدى وفاة الشيخ أبي بكر في حدود سنة 1662م مرّت خطابة الجامع إلى ابنيه أبي الغيث البُكري المتوفى في حدود سنة 1698م وعلي البُكري المتوفى سنة 1712م.

ولئن لم يخرج توارث خطة إمامة جامع الزيتونة وخطابته عن هذه العائلة فإن عدم تحلّي من تقلدوا تلك الخطة بعد هذا التاريخ بالكفاءة قد عُرف بين الدّاني والقاصي بحيث تمّ اللجوء إلى تعويضهم نيابة ممن له أهلية القيام بذلك باسمهم، وهو حال ابني الشيخ علي البُكري عثمان المتوفى في حدود سنة 1762م وشقيقه حمودة الذي كان مؤلف الاتحاف شاهدا على "عدم قابليته" أو عدم نجابته في تولي تلك الخطة الشرعية السامية.فقد أورد في شأنه أنه "صعد المنبر فلم يقدر أن يفوه بكلمة، فبقي مدة،فاستنزله المزوال بهيئة ازدراء كما ينزل الصبيان". وهو موقع ابنه أبي الغيث أيضا هذا الذي دفعه قصوره إلى إنابة أحد أفراد عائلته، وشأن حفيده علي المتوفّى في حدود سنة 1812م وهو آخر البُكريين الذين نالوا شرف تولي تلك الخطة دون التصدّر فعليّا لممارسة ما يتصل بها من مهام.

قائمة الأئمة البكرييّن الذين تداولوا على خطابة جامع الزيتونة :

اسم الامام الخطيب تاريخ الوفاة تاج العارفين البُكري - ابنه أبوبكر البكري 1662م حفيده أبو الغيث البكري 1698م أخوه علي البكري 1712م عثمان ابن علي البكري 1762م أخوه حمودة البكري - ابنه أبو الغيث البكري - علي بن أبي الغيث البكري 1812م وتبقى مسألة احتكار أفراد هذه العائلة لخطابة جامع الزيتونة مدة تقارب القرنين من الزمن موضوعا يشوبه التعتيم والكتمان المقصود. فليس من السهل على المؤرخ من موقع تعامله بمسافة نقدية مع المصادر عدم الطعن في الرواية التي تناقلتها كتب الحوليات والتراجم حول تخلي أبي يحيى الرصاع وهو على فراش موته على هذه الخطة طوعا لفائدة باني مجد بيت البكريين "تاج العارفين" كما أن ّ كل محاولة للتفريق فيما كدّسوه من الثروة بين رصيدهم العائلي ومداخيل الأحباس الموقوفة على جامع الزيتونة والتي عاد لهم أمر تصريفها، مهمة صعبة الانجاز عسيرة التحقيق، علما أن ما أوردته المصادر المتداولة لا ينفذُ إلى التفاصيل الدقيقة ولا يستجلي حقيقة الملابسات التي حفت بهذا الموضوع.

فقد أشار بُرناز لدى تعرّضه لبعض الجوانب من سيرة الشيخ علي البُكري حفيد تاج العارفين المتوفّى في حدود سنة 1712م أنه قد "رأى بيده دفترا مكتوبا بخطّه أن الشيخ علي البُكري...

عنده مائة هنشير، أي مائة أرض تصلح للحراثة وأرض، ما عدا ما عندهم من الدور والحوانيت والعقارات والأحباس المختلفة عن أوائلهم، ما يجلّ عن العدد". وتدعّم هذه الشهادة التي نقلها محمد برناز في أوائل القرن الثامن عشر ما أورده المنتصر بن المرابط بن أبي لحيّة القفصي مؤلف مناقب القشاش حول "استحاطة" شيخه ب"هناشير" عدة وملكيته لما لا يقل عن "مائة وثلاثين محراث [كذا]". وتضم قائمة الأملاك المحبّسة حسب ما جرده مؤلف موسوعة مدينة تونس بالاستناد إلى ما احتفظت به لنا وثائق الأرشيف،خمسة عشرة عقارا فلاحيا تعود ملكيتها للزاوية البُكرية موزّعة على كامل مجال البلاد التونسية وهي: "هنشير المنزل، وهنشير مكنة، وهنشير القصبة، وهنشير بني داود، وهنشير السبع عوينات، وهنشيرعتيتل بن علي، وهنشير كدية الخماسة، وهنشير قصر منصور بافريقة، وهنشير عبيدة من أرض القيروان، وهنشير روّاد، وهنشير رحبة الفول، وهنشيرالشقافية بربع نفّات، وهنشير الروحيّة، وهنشيرجويبية المنية قبلي مدينة القيروان، وهنشير المنستيرى جوفي الجبل الأحمر". والبيّن أن عماد أرباب هذا البيت - وفقا لما اتفق عليه ناقلو أخبارهم - "البذل المادي".

فقد أورد مؤلف الاتحاف أنه "كان لزاويتهم من الثروة ما أعانهم على المروءة ونعم العون على المروءة الجدّة...لهم صدقات جارية وكرم مبذول وأهل الحاضرة يعظّمونهم ويتغافلون عن مساوئهم".

ولعل أبلغ ما روي في هذا الصدد وأورده ابن أبي الضياف على لسان يونس بن علي باشا الأول ساعة مروره بدارهم الواقعة بالحلفاوين عند ربض باب سويقة في طريقه إلى القصبة لاعلان تمرّده على أبيه سنة 1752م، فقد ذكر أن يونس "لمّا رأى الخيل المسوّمة وآثار النعمة ونضارة العيش وجمال إقبال الدنيا، تمنى أنه من أبناء الزاوية البُكريّة. فقيل له في ذلك فقال: شاركونا في لذة العيش واستأثروا عنّا بلذة الأمن".

ومهما يكن من أمر هذه المَرْويَات فنحن متأكدون بالتعويل على المعطيات التي نقلتها لنا حوليات ابن أبي الضياف ووثائق جمعية الأوقاف المحفوظة بأرشيف أملاك الدولة، أن البُكريين قد حافظوا على الامتيازات الضريبية الممنوحة لهم باعتبار انتساب عائلتهم إلى كبريات بيوت الصلاح، كما أننا نرجح تواصل حصولهم على "فتوح" أو هبات العديد من الفرق القبليّة وجانب من مجابيها. فقد استقلت زاويتهم برئاسة "عروش المواطيس [بجهة ماطر] والحسنة وزياد وزكواتها" بصرف النظر عن استفادتهم من مداخيل العقارات والرباع الموقوفة على جامع الزيتونة وهي أوقاف بقيت تحت إدارتهم أو تصرّفهم المباشر طوال فترة تصدّرهم لخطابة هذه المؤسسة الدينية العريقة. غير أن كل محاولة للفصل بين ثروة البُكريين الخاصة والمداخيل التي وفرتها عملية تصريفهم لأوقاف جامع الزيتونة تشكل رهانا يعسر بالنظر إلى ضحالة مصادرنا رفعه.

وبالعودة إلى سيرة باني مجد العائلة البُكريّة يتبين لنا أن وفاة صهره القشّاش قد عرّضته إلى العديد من الصعوبات أسهب مؤلف مناقبه،المنتصر بن أبي لُحَيّة القفصي، في الخوض في تفاصيلها.فقد ساءه أن تتعثّر مسيرة الزاوية بعد رحيل مؤسسّ ها وتتراجع هيبتها وتتدهور إمكانياتها المادية، خاصة أن من احتلّ مكان شيخه لم يتوفر على الكفاءة المطلوبة لتولي المسؤولية وقصر همّه على الاستفادة من أملاك الزاوية بغرض تدعيم موقعه على حساب مصالح بقية فقراء الطريقة. ولئن كان بوسعنا تفهّم أسباب تحامل المنتصر على من احتل موضع شيخه، فإن شهادته حول انقلاب أوضاع الزاوية بعد وفاة هذا الأخير تؤشّر على امتعاض المنتسبين إلى الطريقة القشاشية من تصدّر "تاج العارفين" لوراثة شيخهم.

وهكذا فإن الطابع الوعظي الذي يكتنف المروية المناقبية غالبا ما يُخفي صراعا مكتوما على الوراثة لم تصلنا حول تفاصيله غير مرويات لفّقها المستفيدون منه، في حين تمّ التكتم عمدا على وجهة نظر بقية الأطراف وألقيت وجهة نظرهم في مطاوي النسيان.

وتشكل الملابسات المتصلة بطريقة تخلي "تاج العارفين البُكري" عن "المشيخة" الصوفية بعد أن تصدّر لوراثة صهره في إدارة شؤون الزاوية وتفضيله تولي إمامة جامع الزيتونة، عينة عن طبيعة ذلك التلفيق. فقد تواضعت جميع الروايات التي نتوفر عليها على محورية حصوله على دعم سلفه أبي يحيى الرصاع المنحدّر من عائلة قريبة من المخزن الحفصي الافل، هو من استُشير على فراش موته فلم يجد أي غضاضة - بزعم من ركّبوا لنا تلك الرواية تركيبا - في إقصاء ابنه اعتبارا لعدم النجابة في تولي تلك الخطة، مفضّلا وضع مسؤولية إمامة الجامع المذكور بيد سليل البُكريين في شخص الشيخ "محمد تاج العارفين".

ولئن كنّا نجد صعوبة كبيرة في تبرير هذا المنعرج الذي عاينته سيرة باني مجد البيت البُكري والمتمثل في التخلي عن "المشيخة" الصوفية رغم تعدّد الاشارات المتصلة بقلة درايته بتصريف أوضاع الزاوية ضمن مناقب القشاش،فإنه ليس بعيدا أن يكون تراجع صيت تلك المؤسسة وانهيار مواردها بعد أن ضمن تاج العارفين وضع يده على ميراث زوجته هما ما شجعاه حقيقة على المسارعة بقبول "العرض" الذي قُدّم له والمتمثل في تولي إمامة أكبر مؤسسة دينية داخل الحاضرة، وهي خطة حافظ جميع من تولّوها على مكانة مرموقة ووضعية اجتماعية رفيعة طوال الفترتين الوسيطةوالحديثة. فقد أورد محمد بن سلامة ضمن "عقده المنضّد" شهادة مفادها أنه قد "رأى ظهيرا بيد أولاد الزاوية البُكرية...مذكورا فيه أن حاكم الوقت أحضر أعيان الناس وكبراء البلاد والخاصة والعامة [لشهود مراسم الاحتفال بتنصيب إمام جامع الزيتونة...] وكان يقع للمتولي موكب كبير، والحق هذا، لأنّه نيابة عن السلطان في أمر من خصائصه وهو الامامة بالناس. وناهيك مرتبة تساءل الفقهاء [في شأنها] حول أولوية [تقديم] كبش الامام يوم عيد الاضحى [على كبش السلطان...] وخرجوا من الخلاف بوضع كبش السلطان عند الخروج من الصلاة وكبش لامام جامع الزيتونة بالمقصورة، إذا فرغ من الخطبة، والأمر بذلك إلى الان". وتقيم هذه الشهادة، - رغم تأخرها الزمني على المرحلة التاريخية التي عاينت بروز باني مجد العائلة - الحجة على سخاء العرض الذي قُدم للبُكريين في شخص "تاج العارفين". كما تبيّن حسّه العملي، إذ بالرغم عن جميع التحفّظات التي أبداها مؤلف مناقب صهره،فإنه لا يمكن أن لا نعترف له بالنجاح - إذا ما تجاوزنا موضوع تأمين مرور ميراث زوجته إلى تصرّفه - في معالجة ملفات معقّدةكان على رأس قائمتها "تطبيع" علاقات إسلام الزوايا مع الحكّام الأتراك مقابل التزامهم بالتعامل الكيّس مع نخب العلم والصلاح داخل الحواضر.