الهادي نويرة

من الموسوعة التونسية
نسخة 06:58، 14 أوت 2019 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الهادي نويرة

[1911 - 1993م]

ولد السياسي الهادي بن عميرة بن محمد نويرة بالمنستير يوم 6 أفريل 1911. زاول دراسته الثانوية بالمعهد الثانوي للبنين بسوسة، ثم تحول إلى فرنسا حيث أحرز شهادة الباكالوريا في جويلية 1933. وواصل بعد ذلك دراسته العليا بجامعة باريس حيث أحرز الإجازة في الحقوق سنة 1936. وإلى جانب مزاولة دراسته، كان للطالب الهادي نويرة نشاط سياسي ملحوظ. فقد انضمّ، منذ قدومه إلى باريس، إلى جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين بفرنسا، وأسهم إسهاما بعيد المدى في نشاطها وشارك في مؤتمراتها العامّة. وكان من الطلبة التونسيين الأوائل الذين عبّروا دون تردّد عن مساندتهم للحزب الدستوري الجديد منذ انبعاثه في أثناء مؤتمر قصر هلال في مارس 1934. وسرعان ما أصبح من دُعاة هذا الحزب المرموقين، لا سيما إثر الحملة القمعية التي شنّها المقيم العام بيروطون (1933 - 1936) على قادة الحزب الدستوري الجديد ومناضليه، منذ اعتقال أعضاء الديوان السياسي يوم 3 سبتمبر 1934. فقد بادر المناضل الهادي نويرة بالاشتراك مع نخبة من رفقائه الدستوريين إلى إنشاء "لجنة الدفاع عن الحريات بتونس" التي تحمّل مسؤولية كتابتها العامة، في حين أسندت رئاستها إلى الطالب سليمان بن سليمان. وتمكّن في مدّة وجيزة من ربط علاقات وديّة ببعض الفرنسيين من رجال الفكر والثقافة والسياسة المساندين لحركات التحرّر في المستعمرات.

وقد تزامن هذا النشاط الوطني مع ظرف ملائم في فترة 1934 - 1935 بفرنسا، إذ كان الصراع على أشدّه بين اليسار واليمين. فاستغلّ أعضاء "لجنة الدفاع عن الحريات بتونس" الفرصة لتوثيق الصلة بشخصيات فرنسية تابعة للأوساط اليسارية، أمثال المحامي الاشتراكي لونقي Robert - Jean Longuet مؤسس جريدة "Maghreb" والنائب الراديكالي "غستون برجري" Gaston Bergery مؤسس حزب "الجبهة العامة" (1933) وجريدة "La Flèche"(1934). واهتمّ الهادي نويرة أيضا بشؤون عمّال المغرب العربي بفرنسا، فاضطلع صحبة رفيقه سليمان بن سليمان بمهام قيادية في جمعية "نجم الشمال الافريقي" خلال سنتي 1935 و1936 عندما سُلّط القمع على الزعيم الجزائري مصالي الحاج. وكان ضمن الطلبة التونسيين الذين أوقفتهم الشرطة الفرنسية، وهم يحاولون حضور الاجتماع العام الذي دعت إليه جمعية "نجم الشمال الافريقي" يوم 14 أكتوبر 1934 في قاعة "الموتياليتي" (Mutualité) ومنعته السلطة.

لكنّ ذلك لم يمنع الطالب الهادي نويرة من مواصلة نشاطه في الجمعية نفسها وحضور اجتماعاتها بانتظام، فكان مثلا أحد أعضاء المكتب المشرف على المؤتمر الذي عقدته الجمعية في باريس يوم 27 ديسمبر 1936. ويبقى أهمّ عمل سياسي أنجزه عندئذ هو بعث شعبة طالبية في باريس تابعة للحزب الدستوري الجديد خلال سنة 1936. ولمّا اتّخذت السلطة الفرنسية قرارا يقضي بترحيله من فرنسا عاد نهائيا إلى أرض الوطن في مطلع سنة 1937. وكان الحزب الدستوري الجديد، بعد الافراج عن زعمائه في سنة 1936، يخوض وقتئذ تجربة حوار بينه وبين ممثّلي حكومة الجبهة الشعبية الفرنسية، تلك التجربة التي كان الوطنيون التونسيون يعلّقون عليها آمالا عريضة. ولكن سرعان ما تبدّدت تلك الآمال وسحب الديوان السياسي ثقته من تلك الحكومة، في أثناء المؤتمر الثاني الذي عقده الحزب في مقرّه بالعاصمة الكائن بنهج التريبونال، من 29 أكتوبر إلى 2 نوفمبر 1937.

وقد حضر الهادي نويرة هذا المؤتمر، وكان يمثل الشقّ الراديكالي في الحزب، صحبة بعض رفقائه من الشبّان الدستوريين، أمثال سليمان بن سليمان وعلي البلهوان والمنجي سليم والباهي الأدغم. وانتخب في نهاية المؤتمر عضوا في المجلس الملّي. وقد كان الحزب الدستوري الجديد، وبالأحرى كاتبه العام محمد الحبيب بورقيبة، يفكّر في تأسيس منظمة شغيلة تونسية تحت لواء الحزب الذي يتعيّن عليه في مثل تلك الظروف الحاسمة الاهتمام بشؤون الشغّالين، واستنباط طريقة وطنية قادرة على ضمان حقوقهم. فكلّف الديوان السياسي الهادي نويرة بضبط هذه الخطة والسهر على تطبيقها. لكنّ هذا المشروع تعرّض لصعوبات طارئة لم يكن من السهل تذليلها، إذ شهدت هذه الفترة بالذات عودة الشيخ عبد العزيز الثعالبي من المشرق في جويلية 1937، وبداية الصراع بين أنصار الديوان السياسي وأنصار اللجنة التنفيذية من جهة، وتوتّر العلاقات بين الحزب الدستوري الجديد والمنظمة النقابية الفرنسية التابعة للكنفدرالية العامّة للشغل (C.G.T) من جهة أخرى. وقد كان الوضع الاجتماعي والنقابي يشهد آنذاك حركية جديدة إثر انتصار كتلة الأحزاب اليسارية في الانتخابات التشريعية وتكوين حكومة الجبهة الشعبية. فاغتنم بعض النقابيين التونسيين الفرصة لبعث جامعة عموم العملة التونسية الثانية بقيادة بلقاسم الڨناوي، إثر المؤتمر التأسيسي المنعقد يوم 15 جوان 1937. لكن وضع الشغالين لم يتحسّن في تونس، بسبب تقاعس السلطة الاستعمارية في تطبيق القوانين الاجتماعية التي أقرّتها حكومة الجبهة الشعبية في فرنسا. فانجرّ عن ذلك توتّر الوضع الاجتماعي وحدوث اصطدامات بين الشغّالين وأعوان الأمن. من ذلك أنّ قوّات القمع الفرنسية قد أطلقت النار على العملة التونسيين المضربين في مناجم المتلوي والمضيلة (في 4 مارس 1937)، وأسفرت المواجهة عن سقوط ضحايا.

ومن ناحية أخرى، استرعى انتباه الملاحظين الجمع بين النشاط النقابي والنشاط الدستوري في منطقة بنزرت على وجه الخصوص، إذ كان المناضل حسن النوري مسؤولا في آن واحد عن الشعبة الدستورية وعن الاتحاد الجهوي لجامعة عموم العملة التونسية، وذلك وفق إستراتيجية الحزب الدستوري الجديد الرامية إلى توجيه المنظمات النقابية والمهنية والاجتماعية في اتّجاه معارضة السياسة الاستعمارية، إلاّ أنّ امتناع جامعة عموم العملة التونسية عن المشاركة في الاضراب الذي أعلنه الحزب الدستوري الجديد يوم 20 نوفمبر 1937 للتعبير عن تضامن الشعب التونسي مع الحركة الوطنية في الجزائر والمغرب، قد أبرز اختلاف وجهات النظر بين الديوان السياسي وبين الكاتب العام للمنظمة الشغيلة التونسية بلقاسم الڨناوي.

فقرّر الديوان السياسي السيطرة على جامعة عموم العملة التونسية، بدعم من المناضلين الدستوريين والنقابيين في جهة بنزرت، وذلك في أثناء المؤتمر الذي عقدته الجامعة يومي 29 و30 جانفي 1938. وانسحب أنصار بلقاسم الڨناوي من المؤتمر، فانتُخبت هيئة موالية للحزب الدستوري الجديد، وعُيّن الهادي نويرة كاتبا عاما للمنظمة الشغيلة. وإثر المؤتمر، كثّفت جامعة عموم العملة الدستورية من نضالها النقابي بقيادة الهادي نويرة، لا سيما في معقلها بنزرت، حيث جدّت اضطرابات في منزل جميل والماتلين، وبرز بالخصوص رئيس الجامعة الدستورية ببنزرت الحبيب بوقطفة والزعيم النقابي الدستوري بالمنطقة حسن النوري. وفي يوم 8 جانفي 1938، أطلق أعوان الأمن الفرنسيون النار على المشاركين في المظاهرة الاحتجاجية التي قادها الحبيب بوقطفة وأسفرت عن استشهاد ستّة متظاهرين وجرح ثلاثين مناضلا. وقد خصّصت "العمل" جريدة الحزب الدستوري الجديد حيّزا كبيرا من عددها الحادي والخمسين المؤرخ في 13 جانفي 1938 للحديث عن "حقيقة فاجعة بنزرت"، بقلم الهادي نويرة.

وألقي القبض عليه صحبة رفقائه الدستوريّين، إثر أحداث أفريل 1938. وزجّ به في السجن المدني بتونس ثمّ نقل في جوان 1939 إلى جهة مرسيليا بجنوب فرنسا، حيث اعتُقل صحبة قادة الحزب الدستوري الجديد الستّة: الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف وسليمان بن سليمان والمنجي سليم وعلي البلهوان ومحمود بورقيبة، إلى أن أفرجت عنهم السلطة الألمانية يوم 8 نوفمبر 1942. ونُقلوا إلى روما حيث احتجزتهم الحكومة الايطالية إلى أن رُحلوا إلى تونس يوم 26 فيفري 1943, باستثناء الزعيم الحبيب بورقيبة الذي لم يُسمح له بالعودة إلى أرض الوطن إلاّ يوم 8 أفريل 1943. وإثر جلاء قوّات المحور عن البلاد التونسية في 8 ماي 1943، استأنف الهادي نويرة نشاطه الوطني في كنف السرية نظرا إلى الحصار الذي فرضته السلطة الاستعمارية على المناضلين الدستوريين. ولم ينفرج الوضع نسبيّا إلاّ بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها في شهر ماي 1945. فعاد الحزب الدستوري الجديد إلى سالف نشاطه في وضح النهار، وبرز من قادة الحزب الزعماء صالح بن يوسف والمنجي سليم وعلي البلهوان وسليمان بن سليمان والهادي نويرة الذي انتخب سنة 1946 رئيسا لجمعية الشبيبة المدرسية، كما أسهم في إعداد مؤتمر ليلة القدر (23 أوت 1946) واستطاع الافلات من قبضة الشرطة الفرنسية التي دهمت مقرّ الاجتماع وألقت القبض على 46 مناضلا من المشاركين في المؤتمر. ثمّ كثّف من نشاطه في مطلع سنة 1948، فزار في شهر فيفري الساحل والجنوب، حيث ركّز اللجان المحلية لاغاثة المنكوبين من جرّاء الجفاف. واشترك مع رفيقه المنجي سليم، مدير الحزب، في تحرير اللائحة التي قدّمها ممثل الحزب في فرنسا، المناضل جلّولي فارس، حول الحالة السياسية السائدة في تونس، إلى هيئة منظمة الأمم المتحدة. وانتُخب في أثناء مؤتمر الحزب المنعقد بدار سليم في تونس العاصمة يوم 17 أكتوبر 1948 كاتبا عاما مساعدا مكلّفا بالدعاية والصحافة، كما بادر في أفريل 1948 بإصدار جريدة أسبوعية بالفرنسية ناطقة باسم الحزب اسمها: "الرسالة" (Mission)، اكتسبت شهرة واسعة في تونس وفرنسا، لما اتّسمت به من اعتدال وثبات.

وفي سنة 1949 عُيّن الهادي نويرة عضوا في اللجنة التي بعثها الحزب "لضبط أسس الدستور التونسي ومبادئه والتمثيل الشعبي" التي تأسست يوم 12 ماي 1951، برئاسة الزعيم النقابي فرحات حشاد. وإثر فشل المفاوضات التونسية الفرنسية حول الاستقلال الداخلي (مذكّرة 15 ديسمبر 1951) واندلاع المعركة الحاسمة في 18 جانفي 1952، واصل الهادي نويرة نشاطه الوطني في صلب الديوان السياسي السرّي المشرف على حركة المقاومة، وقد كان يضمّ المناضلين الصادق المقدّم وفرحات حشّاد وجلّولي فارس والطيّب المهيري والنوري البودالي والفرجاني بن الحاج عمّار وإبراهيم عبد الله وأحمد المستيري والمختار عطية... وبالاضافة إلى نشاطه السياسي الذي تجسّد في تحرير المقالات لشرح موقف الحزب من الأحداث الجارية آنذاك، كان يدعو إلى استمرار المقاومة والصمود تجاه سياسة القمع التي كان ينتهجها المقيم العام دي هوتكلوك. واعتقلته السلطة الاستعمارية إثر تكوين وزارة صلاح الدين البكّوش (مارس 1952)، ثم أُبعد إلى الجنوب التونسي ووُضع بعد ذلك رهن الاقامة الجبرية.

ومن أبرز مقالاته الصحفية في تلك الفترة الفصول التي نشرها في الصحف الفرنسية في سنتي 1953 و1954. وقد كان متّصلا بثلّة من السياسيين الفرنسيين المتحرّرين أمثال منداس فرانس وجاك دوهاميل مبعوث رئيس الحكومة الفرنسية آنذاك إدغار فور "Edgar Faure". ورغم اعتزاله النشاط السياسي إثر استقالته من الديوان السياسي في مارس 1954،لأسباب صحّية وسياسية ناشئة عن اختلاف في وجهات النظر بينه وبين بعض رفقائه في الحزب، فإنّه ما انفكّ يتابع عن كثب تطوّر الأحداث الوطنية والتدخّل لدى بعض السياسيين الفرنسيين لفائدة القضية التونسية عندما تقلّد منداس فرانس رئاسة الحكومة الفرنسية. وإثر زيارة هذا الزعيم الفرنسي لتونس يوم 31 جويلية 1954، وإلقاء خطابه الشهير الذي أعلن فيه أمام محمد الأمين باي في قصره بقرطاج، اعتراف الحكومة الفرنسية بحقّ تونس في الاستقلال الداخلي، عُيّن الهادي نويرة، بوصفه ممثّلا للحزب الدستوري الجديد، وزيرا للتجارة في حكومة الطاهر بن عمّار الأولى (أوت 1954 - سبتمبر 1955) ثم وزيرا للمالية في حكومة الطاهر بن عمار الثانية، إثر دخول اتفاقيات الاستقلال الداخلي حيّز التنفيذ (سبتمبر 1955 - أفريل 1956).

وفي عهد الاستقلال، قام الهادي نويرة بدور متميّز في تونسة المالية، وفي وضع سياسة نقديّة تتماشى وحاجات البلاد، كما مهّد لانشاء البنك المركزي التونسي الذي بُعث في نوفمبر 1958، تاريخ تعيينه محافظا لهذه المؤسسة النقدية الوطنية. واستمرّ في الاضطلاع بهذه المهمّة إلى أنّ عُيّن وزيرا أوّل في 2 نوفمبر 1970. وقد عمل طيلة تحمّله لهذه المسؤولية الجسيمة (نوفمبر 1970 - فيفري 1980) على انتهاج سياسة اقتصادية وإنمائية تفسح المجال للمبادرة الحرّة واقتصاد السوق ويمكن القول إنه باني الاقتصاد التونسي المعاصر. وتوفّى الهادي نويرة يوم 25 جانفي 1993، ودُفن في مقبرة المنستير.