الطب في تونس

من الموسوعة التونسية
نسخة 08:34، 23 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[في القرنين 18 و19م]

كانت لتونس تقاليد عريقة ثريّة في الأعمال والتجارة الطّبية، منذ القرن الثالث للهجرة (التاسع الميلادي)، مرورا بفترات مزدهرة نيّرة وفترات أقل خصبا، بحسب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالبلاد. فكل يذكر ما كان للمدرسة الطبّية بالقيروان من شهرة ساطعة، وما كان لمدرسة تونس في العهد الحفصي من صيت اخترق الآفاق. وسنعرض أوّلا بايجاز بعض مظاهر الوضع الصحي بتونس في القرن الثامن عشر وما تميّز به المتطبّب المسلم هبة الله بن أحمد الحنفي، المورالي الأصل، النّازح إلى تونس سنة 1687 التي سلّمت فيها السّلط التركية جزيرة مورا (Morée) للبندقية. ولهبة الله كتاب جليل جمع بين الأقراباذين وحفظ الصحة والطّب العام. يبدأ هبة الله كتابه بمقدمة طويلة يعرض فيها القواعد التّقليدية لحفظ صحة الجهاز التنفّسي والجهاز الهضمي وأوجه الرّياضة والحركة والسّكون والاستفراغ والاحتباس. وابتداء من الورقة (61 وجه) يصف هبة الله أهمّ المركبات الطبية: الأشربة والمعاجين والجوارش المسهلة والحبوب والأقراص والسّفوف للمعدة واللّعوقات والمراهم والأدهان والأشياف. وفي المقالة الثالثة يبيّن الأمراض وعلاجها وأسبابها، من الرأس إلى القدم. وفي المقالة الرابعة يبيّن الأمراض الشاملة للبدن: الحميّات وعلاج النفخ والبثور ومرض الافرنسي والجذام والحكّة والجرب والحزاز والبلغم المالح والأمراض الحادثة في الجلد وعلاج الجراحات النّاشئة من الحرق، وداء الثعلب، وداء الحيّة، والعلاج من شرب السّم، ولسع النحلة ولدغ الحيّة ولسع العقرب والكلب... وعلى سبيل المثال ننقل من هذا الكتاب مقالا خصصه للصّاصفراس (أو الشاشفراص) : "ويقال له بسباس الهندي، وهو شجر شريف، والحكماء المتقدّمون لم يذكروه في كتبهم، ووجد بعدهم، وهو شجر رائحته كرائحة البسباس. وهذا الشجر ينبت في بلدة يقال لها (فلوريدا)، وهي من نواحي البلد المسمّى (بيَكي الدنيا) [أي عن التركي: الأرض البعيدة] وعرض هذه البلدة خمسة وعشرون درجة، ويجلب منها إلى بلد إسبانية، ومنها يجلب إلى بلد إستانبول وإلى سائر البلدان... وحكماء الافرنج يسمّونه بصاصفراص، يفتح الأسداد ويدرّها، يلين الاخلاط الغلخة ويقوي الأعضاء الدّاخليّة وينفع من جميع الأمراض الحاصلة من الرطوبة والبرودة، خصوصا الالتهاث والسّعال القديم والنّزلة ووجع الكلى والحصى الحاصل في الكلى ويحلّل الأرياح، ويصلح الرّحم ويسيل الحيض ويعين على الولادة ويقوّي المعدة ويسخّنها ويعين على هضمها ويمنع القيء ويذهب الغصّة ويورث لينة في الطبيعة... والافراط في استعماله مضرّ لصاحب المزاج الحار اليابس والنّحيل الجسم أيضا... ثم تأتي كيفية استعمال "هذا الشجر المبارك" ولعلّ ملاحظات هبة الله في شأن هذا الشجر أوسع وأدقّ من مقابلاتها في الاقراباذين الفرنسي المعنون: "الكتاب الجامع للأدوية المفردة" (Traitéuniversel des drogues simples) تأليف نيكولا لومارت Nicolas Lemert نشر باريس 1932 ص 761 "هذا الخشب حادّ قاطع مفتّح مدرّ للعرق نافع للقلب ومقاوم للسّم، مقوّ للبصر والمخّ، صالح للبلغم" على أنّ هذا الأقراباذين يضيف في فقرة أخرى مخصّصة للدّواء المسمى Saxifrage: "وهو مفتّح، صالح للحصى والأسداد، مدرّ للبول والطمث".

وممّا يمتاز به كتاب هبة الله، على غرار كتب ابن الجزّار من قبله الألفاظ المقتبسة من أسماء الأعشاب والنباتات، وأسماء الأغذية التونسية المتعارفة (فقد يكون هذا الكتاب أيضا مصدرا ثمينا للدراسة التاريخية عن فنّ الطبخ والتغذية بتونس منذ القرن الثامن عشر للميلاد). وفي نهاية المقال سنعرض نماذج من هذه الألفاظ التونسيّة الدارجة. ومن القرن التاسع عشر نقدّم طبيبا بارعا، مسلما تونسيا أصيلا، ماهرا في صناعته، هو الحاج أحمد الدّهماني، القيرواني أصلا، وكان حيّا سنة 1250هـ/1834م.

لفت الدّهماني أنظار أمير تونس فعيّنه أمينا في الطّب: وهذه وظيفة كان يتقلّدها من اعتبر قادرا على إدارة مصالح البيمارستان، بارعا في العمل الطّبي، له من المعارف ما يمكّنه من إجراء الامتحانات على الطّلبة لمنحهم الاجازة لتعاطي العمل الطبّي بالبلاد. وترك هذا الحكيم المتفنّن المتطبّب الحاج أحمد الدهماني الحنفي كتابا جيّدا عظيم الفائدة عنوانه نفائس الدّرر الحسان، فيما يزيل المرض ويحفظ صحّة الانسان ومنه بالمكتبة الوطنيّة التونسية نسخ عدّة مخطوطة (أرقامها 16439، 16444 ،4604 ،19815 ،19820)، جمع فيه "قواعد الأقدمين وأظهر ما ابتكره من العجائب حكماء المتأخرين". ورتّب الدهماني كتابه على مقدّمة وثلاثة فنون وخاتمة.

فالمقدّمة اشتملت على فوائد يحتاج إليها في التّداوي، وقد جاء فيها تحذير من بعض التّراكيب الشّائعة بالقسطنطينية ومصر، وبيّنت ما وقع بعض الأقدمين فيه من الخطإ لئلاّ يقع في نفس النّاظر تهمة تمنعه من الاستفادة". ويشتمل الفنّ الأوّل على أربعة فصول بيّن فيها شرف علم الطّب والطبيعيات والضروريات والمفردات والمركّبات، على ترتيب حروف الهجاء. ونكتفي في ذلك باقتباس هذا القول الطريف للدهماني: "وممّا يدلّ على شرف علم الطّب أنّ العارف بالتّشريح يعرف عظيم قدرة اللّه تعالى ممّا أودع في هذا الشكل الانساني والجسم الحيواني من الأسرار الخفيّة، المحيّرة للعقول الزّكية، فإذا عرف ذلك كذلك كان له من أقوى الدّلائل على اعترافه بالخالق جل وعلا ". ويشتمل الفنّ الثاني على أربعة عشر فصلا في الأمراض الخاصّة بكلّ عضو على ما هو الأغلب في الوقوع.ويحتوي الفصل الثالث على ثمانية فصول في الأمراض العامّة. وخصّص الخاتمة لما يزيل المرض بالخاصيّة، من الرأس إلى القدم. ولا يكتفي الدّهماني بالنّقل عن القدامى، بل كان واسع الاطّلاع على علم المحدثين في عصره من البلدان الأوروبية، وخاصّة فرنسا: فيقول (في الورقة 52 ظ) : "وأردت أنّ أختم هذا الفصل ببعض مفردات ومركّبات ظهرت بعد انقراض أئمة هذا الفنّ: وأوّل ابتداء ظهورها سنة ثمانمائة والمظهرون لها الافرنج، حتى أنّ أكثرها باق على اسمه الافرنجي، وما أردت ذكرها إلاّ لكثرة نفعها وشيوعها". فمن ذلك، قوله عند ذكره للأنتيموني: "هو أشبه الأشياء بالكحل المغربي، ويعرف عند الصوّاغين بكلب الذهب لأنّه إذا وضع على الذّهب أكله، وله أفعال عجيبة لا توجد في غيره: في القيء والاسهال والتّعريق، وهو من ابتكارات الافرنج"، ثم يقدّم وصفا مطوّلا دقيقا لكيفية الحصول عليه وطرق استعماله. فهذه ظاهرة جديدة يسجّلها الدّهماني وهي إرساء تبادل ثقافي بين أوروبا والضفّة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسّط، يتجّه من الشمال إلى الجنوب، ويشهد على ذلك عدد من المصطلحات المقتبسة من اللّغة الافرنجية.

إذن إنّ المتطبّبين التونسيين، في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إضافة إلى ما كانوا يستندون إليه من التّراث العلمي القديم، اعتمدوا أيضا على ما كان يقوم به أهل عصرهم بأوروبا من التجارب، مبرزين الاستعداد الكامل لتقبّلها والتفتّح الشّامل لأنوار المعرفة مهما كان منشؤها. على أن ّ اعتمادهم الأساس كان على تجربتهم الشخصية، ويشير الدّهماني إلى ذلك في الكثير من المواطن: فعند ذكره للسّقنقور (scinque) المعروف بتونس بالقرقولي، يقول: "وهو من المفردات النّفيسة المأمونة العاقبة، وعالجت بها أمراضا كثيرة، وهو من أجلّ أدوية الكبد، وله فعل لطيف في تفتيح الأسداد، وينقّي المعدة من الرّطوبات الفضليّة وينفع من حميّات النوائب نفعا بليغا..." والمهمّ هو الاقتباس من الاكتشافات الجديدة بما يلائم البيئة التونسية الخاصّة، أو كما يقول أبو العبّاس أحمد الخميري الشهير بالمغازلي: "بعد مراعاة قدر اختلاف الطبائع، باعتبار القطر، وتأثير الأدوية في قطر دون قطر، بحسب اختلاف عروض الأقاليم والعادات".

ولذا نرى أنّ الدهماني، مقتديا بمن سبقه من الأطباء التونسيين، كثيرا ما يسعى إلى تيسير الاستخدام للمصنّفات الطبّية بالالتجاء إلى عرض أسماء الأعشاب والعقاقير في لغة التخاطب الدّارجة بتونس. ومن الأدوية الجديدة التي يذكرها الدّهماني البيكوانة (Ipecacuanha) "وتعرف في مصر بعرق الذهب المطرش، وهو ينقّي المعدة ويخرج ما فيها وينفع من الاسهال، لا سيما الصفراوي، وينفع من الدوسنتريا المعوية، وينفع من الزحير والسحج، وشربته درهم". وتبرز المقارنة بما جاء في الأقراباذين العام الفرنسي المذكور آنفا شبها شديدا بين هذين الاقتباسين، وهو ما يؤكّد ما أشرنا إليه من تفتّح المتطبّبين التونسيين على العلم الأوروبي وممّا وجد من تيّار ثقافي في الاتجاه من الشمال إلى الجنوب بين أوروبا والضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسّط.على أنّنا نسجّل كذلك آثار التيّار السّابق في الاتّجاه المعاكس مثلا في التعبير: par haut et par bas (من فوق ومن تحت) وفي: cours de ventre (وهو نقل حرفي عن العربية، جريان الجوف) ونضيف في نهاية المقال أمثلة أخرى من هذا النقل الحرفي مستمدّة من المصدر نفسه.

المؤسسات الطبيّة: البيمارستانات[عدّل]

إنّ أ.ف غوتيي ذاته يعترف في شأن من يستمرّ في تسميتهم بالسّرازين (أي الشرقيين) : "من المحققّ أنّ السرّازين كان لهم مستشفيات حسنة التنظيم، فتحت لا فحسب لجموع المرضى، بل أيضا في وجه طلاّب العلوم الطبّية...". وأمّا نظام البيمارستانات، ومختلف أقسامها، ومن قام فيها من الأطبّاء والممرّضين والفرّاشين، وما كان من موارد مالية، وما أوقف عليها من أحباس، وأجري من الصّدقات على المجذومين والعميان، وما جمع فيها من الأدوية والأشربة والعقاقير، فكلّ ذلك لم يدخل عليه تغيير مهمّ في العالم الاسلامي، (انظر : "الطب والبيمارستانات في الإسلام" في مجلة "المباحث" التونسية، الأعداد 40 إلى 43/من أوت إلى أكتوبر 1947). ونحيل أيضا على ما ورد من أخبار مهمّة تتعلّق بهذا الموضوع في كتاب عيون الأطباء في طبقات الأطبّاء لابن أبي أصيبعة، وكتاب صبح الأعشى للقلقشندي وملخّص القول أنّه كان للبيمارستان جناحان: أحدهما للنّساء والآخر للرّجال، وفي كلّ منهما أجهزة وأعوان وممرّضون، وفي البيمارستان قاعات للأمراض الباطنية والجراحة والكحالة ولجبر الكسور ولكلّ بيمارستان صيدلية "توجد فيها أنواع الأشربة والمعاجين واللعوقات والمراهم والأشياف وسائر الأدوية، في الأوعية من الخزف والبراني الصّينية والصحاف والأكواب والقوارير". ويدور الطبيب المشرف على المرضى ويتفقد أحوالهم وينظر في قواريهم (التّفسرة أي فحص البولة) وبين يديه المشارفون والقوّام لخدمة المرضى. ثم يجلس في الإيوان الكبير الذي بالبيمارستان، ويحضر كتب الاشتغال، ويأتيه جماعة من الأطبّاء المشتغلين ويقعدون بين يديه، ثم تجري مباحثات طبّية، ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة ونظر في الكتب. وكان هذا نظام المستشفيات التونسية أيضا في الفترة التي تهمّنا الممتدّة من القرن السابع عشر إلى القرن التّاسع عشر. وفي ما يلي استعراض وجيز لأهمّ هذه المستشفيات:

مستشفى العزّافين[عدّل]

مستشفى عزيزة عثمانة

هو من آثار "أمّ الخيرات"، عزيزة عثمانة بنت أبي العبّاس أحمد بن محمد بن عثمان داي، إذ حبّست وأوقفت وأبّدت جميع أمّاالها من حقول وعقارات على هذا المستشفى: ذكر ذلك ابن أبي الضياف في آخر حديثه عن ولاية عثمان داي بقوله: "وأحباس حفيدته عزيزة عثمانة لم يزل الضعفاء بالمارستان ينتفعون بها إلى الآن"، كما نصّ على ذلك ح. ح. عبد الوهّاب إذ يقول: "من أعمالها الخيرية إقامة مارستان داخل الحاضرة بحومة العزّافين، لمعالجة الأمراض المختلفة، وتسمّى فيما بعد بالمستشفى الصّادقي". فاعتمدت ذلك في مقالي المذكور، وكنت أوّل من أشار إلى أنّ هذا المستشفى "هو ما صار اليوم - أعني سنة 1947 - نزل قصر هلال قرب سوق النّحاس". وواصل الدكتور أحمد بن ميلاد بحوثه في الموضوع، وكانت النتيجة ما سجّل في كتابه "تاريخ الطّب العربي التونسي"، ط، تونس 1980، ص 181: "إن ّ بناية هذا المارستان لم تزل قائمة الذّات، وهي بنهج القصبة عدد 101، بين نهج العزّافين وسوق النّحاس، وتحتوي على أربع وعشرين غرفة، اثنتا عشرة منها أرضية ومثلها في الطابق الأوّل".

المستشفى الصّادقي[عدّل]

المستشفى الصادقي سنة 1899

تضخّم عدد السكّان بالعاصمة التونسية فسرعان ما ضاق مستشفى العزّافين عن المرضى. وأشار الوزير خير الدّين باشا على الملك محمد الصّادق باي سنة 1296هـ/1879م (أي قبل الاحتلال الفرنسي بسنتين) بنقل المستشفى إلى محلّ ثكنة سابقة شيّدها حمودة باشا المرادي للجنود الأتراك. فكان المستشفى في البداية يحتوي على مائة سرير، ثم أفسح فيه بضمّ مدرسة مسجد يوسف داي، الملاصقة له، قصد إيواء النسوة. وكانت معالجة الفقراء مجّانية وكان أغنياء أهل البلد يعالجون فيه "بالدفّع في كل يوم لقيمة خمس ريالات في مقابلة أجر المحلّ والخدمة والدواء والطّبيب" (الفصل 11 من الأمر العلي المؤرخ بيوم 13 صفر 1296 الموافق الثالث من فيفري 1879). ويلفت الفصل 28 بالخصوص النظر إذ يقرّ أمرا شديد الطرافة في ذلك العهد، وهذا نصهّ : "كل ّ مولود يولد في الحاضرة يجب على وليّه أنّ يلقح له الجدري قبل بلوغه لسنّ الثلاثة أشهر، لما في ذلك من حفظ الصحّة التي أجرى الله بها عادته في عباده". واستند الأمر إلى فتوى فقهية تنصّ على "أنّ التلقيح للجدري مرغوب فيه، ويعتبر من الفروض، إذ لا يشوبه غرر، والمصل المستعمل فيه طاهر لا يحمل نجسا ولا عفونة". وصار المستشفى الصّادقي، في نظامه، أنموذجا مثاليا اقتدى به فيما بعد، في عهد الحماية، عند إقامة معاهد صحّية مشابهة به. وأوضح التطبيق، في وقت لاحق، ما كان لفصلين من فصول تنظيمه على الخصوص، الفصل 8 والفصل 38، من صلاح ومن أهميّة. فالفصل 38: "يجعل بالمارستان حماما فخاريا وأحواضا للماء السخن والبارد ودوشا". والفصل 8 ينصّ على ما يلي: "كل ّ من يقبل في المارستان تحفظ ثيابه التي جاء بها، ويلبس ثياب المارستان إلى أن يشفيه اللّه، فتسلّم ثيابه إليه على الصفة التي نزعها منه". فحين تفشّى في البلاد وباء حمّى التّيفوس لاحظ الطبيب شارل نيكول، مدير معهد باستور بتونس، أنّ من كان في المستشفى الصّادقي من سائر المرضى لم يصب بهذا الوباء، على العكس من مرضى سائر المستشفيات الذين أصيبوا به. ففكّر في الأمر، وبحث في المسألة جيّدا، وانقدحت شرارة إلهام عبقري في ذهنه... فاكتشف أن ّ حامل المرض، الناشر له، إنمّا هو حشرة القمل التي عزلت لدى مرضى المستشفى الصّادقي بنزع الثياب عند قبول المريض به.

نكتفي في الختام بملاحظة أنّ البلاد التونسية، الصغيرة المتواضعة الامكانات المادّية، كانت منذ العصور التي ذكرنا، متقدّمة تقدّما محسوسا على جادّة الحداثة والتعصير، في حقل العمل الصحّي، مكوّنة جهازا طبّيا مقتدرا ومشيّدة معاهد صحّية لائقة، منظمة أحسن تنظيم... ولنذكر من جديد خاصّية أكّدناها فيما سبق، وهي ما اتّصف به دوما المتطبّبون التونسيون من تفتّح فكري في بحوثهم، على المستخدمات العلمية وراء البحر الأبيض المتوسط. فكان هدفهم الدّائم وغرضهم المستمرّ الحصول على البراعة والمهارة اللازمتين للتخفيف من آلام الانسان، وقطع دابر المرض، والسّعي في هذا السّبيل، يحدوهم التوافق الوثيق والتّناغم التام مع سائر بني البشر.ولعمري، إنّ الشاعر القرطاجني طيرانس قد أعلن، منذ القدم، قولته الشهيرة التي جرت مجرى المثل:"إني إنسان، ولا شيء ممّا يهمّ الإنسان بغريب عنّي!"