الانشاد الطرقي الصوفي

من الموسوعة التونسية
نسخة 14:59، 23 جانفي 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

ظهرت أولى حلقات الشطح والسماع منذ أواخر القرن الثاني للهجرة ببغداد كما يذكر ذلك المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون نقلا عن التنوخي أبي علي، في حين يرجع ماسينيون نفسه مجالس الذكر إلى سنة 120هـ/738م أي مع بدايات التصوف الاسلامي.

على أن الظهور الحقيقي لحلقات الذكر ومجالس الانشاد الصوفي كان بعد عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي يعزى إليه بعث أول خانقاه (زاوية). وكانت تعرف بدويرة الصوفية بالقاهرة يقصدها الصوفية الوافدون إلى مصر وأجرى عليها أوقافا سنة 569هـ/1173م، وهي تعدّ أول خانقاه أسست بمصر ولُقّب شيخ هذه الزاوية بشيخ الشيوخ. وقد انتشر في الآن نفسه بمختلف أقطار العالم العربي الاسلامي، ولا سيما ببلاد الشام والعراق وشمال إفريقيا، أمر الزوايا والطرق الصوفية والرباطات التي تأوي الزهاد والعباد وكل من آثر حياة التروحن والتأمل.

وفي تونس، رغم أن الإرهاصات الأولى للحياة الصوفية وما يتصل بها من مجالس الذكر تعود إلى العهدين الأغلبي والصنهاجي، فإن مجالس الإنشاد وحلقاته في شكل جماعي لم تظهر إلا في العهد الحفصي على إثر مجيء أبي مدين شعيب الأنصاري (ت595هـ/1198م) هذا القطب الذي اجتمع فيه سر تصوف المغرب بحكمة تصوف المشرق عند لقائه بعبد القادر الجيلاني (ت564هـ/1168م). وقد كان لأبي مدين أثره في شخصيات أمثال عبد العزيز المهدوي (ت620هـ/1223م) والدهماني والنفطي (ت610هـ/1213م) وأبي سعيد الباجي (ت628هـ/1231م) الذي أثّر في أبي الحسن الشاذلي (ت658هـ/1258م) عند قدومه من المغرب.

وقد واصل الشاذلي نهجه في التربية الروحية للمريدين والأتباع عبر الذكر والالتزام بالأوراد وهي عدد معين من التسابيح وأذكار التوحيد والصلاة على النبي مع تلاوة الأحزاب (ومفردها حزب) ويعني الحزب في نظر الصوفية حسبما عرّفه "دوزي" Dozy مجموعة الأدعية التي يؤلفها أحد الشيوخ البارزين في الطريق الصوفي وأعطى مثالا على ذلك "حزب البحر" من تأليف الإمام أبي الحسن الشاذلي. ولقد ظلّت زاوية أبي سعيد الباجي شيخ أبي الحسن الشاذلي الكائنة بجبل المنار (ضاحية سيدي بوسعيد حاليا) فضاء يجتمع فيه المريدون وعشّاق الحياة الروحية لغاية الذكر والمدح. وقد نشأت بمرور الوقت في تلك الزاوية أنماط مختلفة من ألوان الذكر والسماع لعل أبرزها "المجرد" وهو لون من مالوف الجد يقوم على ضرب الأكف بإيقاع معين لضبط نسق الأداء دون مصاحبة أي صنف من الالات الموسيقية. وقد ارتبطت هذه الأوراد والأحزاب بحياة المجتمع وأثرت في نشاطه اليومي وأصبحت ذات وظيفة رمزية لها أثرها في كل مجالات الحياة.

وقد وُجد الكثير من الحروز والأحزاب التي توارثها الناس فيما بينهم واعتقدوا في تلاوتها الصّلاح والبركة، فكل من أراد الرزق وتصريف الأمور قرأ، على سبيل المثال، حرز الأقسام المنسوب إلى الشيخ محرز بن خلف. وكل من ركب البحر في السفر وهالته الأمواج وهبوب العواصف تلا حزب البحر المنسوب إلى الشيخ أبي الحسن الشاذلي، وغير ذلك كثير. ولا يمكن أن ينكر أحد ما كان لهؤلاء الأولياء من تأثير في وعي خاصة الناس ووجدان عامتهم وهم يلتمسون منهم الفرج عند الكربة، والشفاء عند المرض، والرزق والغنى عند الفقر، والزواج عند العُنس... لذلك نسبت إلى الأولياء كرامات زادتها أحيانا الأسطورة الشعبية تنميقا وهالة من الاعجاز حتى باتت الكرامات معجزات وغذت الذهنية الشعبية مثل هذه التصورات. وقد ازدهر لدى أهل الصوفية منذ القرن السابع للهجرة تأليف الأزجال والموشحات التي صُنعت ألحانها حسب التقاليد الأندلسية، كما جاء في الدراسة الوصفية المفصّلة التي قام بها كل من Dagmar وLaadeu الألمانيين حول الأناشيد والحضرات في تونس سنة 1960 بعد أن طافا بالبلاد وسجلا عدّة ألحان وقدما لنا الطرق الدينية الاسلامية ومصطلحاتها الفنية: تنظيماتها وأماكنها وطقوسها وأناشيدها وموسيقاها وآلاتها، وتحدثا كذلك عن طقوس السرد من أصل أفريقي وإيقاعاتها.

ازدهر فن الإنشاد الصوفي بتونس أساسا مع مطلع القرن الخامس عشر، قرن تعاظم انتشار الحركات الصوفية وتعميم مبدإ الطرقية، إذ ظهرت تلك القولة الشهيرة التي تردّدت على ألسنة العامة: من لا طريقة له فطريقته شيطانيّة أو "من لا ولي له فوليه الشيطان". وقد برزت إلي الوجود التآليف الكثيرة المتعلقة بأنواع الصلاة على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وطرائق ذكر المولى وحمده وتسبيحه والتهليل باسمه. ومن أبرز أدبيات المديح الصوفي التي انتعشت في هذه الفترة نذكر كتاب محمد بن سليمان الحسني الجزولي دلائل الخيرات وشوارق الأنوار في ذكر الصلاة على النبي المختار". يقول عنه المؤرّخ لطفي عيسى : "هو تصنيف في الدعاء والتضرع عرف انتشارًا واسعا داخل النطاق الاسلامي وخاصة بمركز الخلافة العثمانية (تركيا) وهو من الأوراد المنسوبة إلى نفس المصنّف المتوفى سنة 870هـ/1465م وكذلك ورد "سبحان الدائم لا يزول". وقد جعله مع ورد الفلاح الشيخ محمد بن عيسى الادريسي وردا لجماعته". ولهذه الأوراد جماعات خاصة بالحاضرة تتكفل بتلاوتها مضيفة إليها منظومات وأشعارا أخرى، مثل رائية أهل بدر. كما توجد جماعات خاصة بقصائد البوصيري وأخرى بالهمزية والبردة وتدعى بالبردجية (بجيم النسبة للصناعة عند الأتراك). ويذكر أنه راجت في الفترة نفسها حلقات الانشاد التي وجدت في أوراد أقطاب التصوف ووظائفهم وأشعارهم أكبر معين لها فأخذت تنشد بعض القصائد الصوفية لشعراء وصوفية كبار أمثال رابعة العدوية وعبد القادر الجيلاني وابن الفارض ومحيي الدين بن عربي وغيرهم على أنغام وإيقاعات تارة مألوفة وطورا مبتكرة، ضمن حلقات السماع وما تحتويه من إنشاد وذكر وتركيز على الاستماع إلى المديح النبوي والتسابيح. ولئن كتب لطفي عيسى: "إن السماع في تلك الفترة كان يعتمد الانشاد بالارتكاز على الطبوع التونسية المستوحاة من الموشحات الأندلسية" فإن عدّة شيوخ الصوفية وبعض مؤرّخي الحضارة يعتبرون أن الإيقاعات التي تقدم على أنغامها الأناشيد الصوفية هي من ابتكار أهل الطريقة وأن أصحاب فن التوشيح والطبوع هم الذين استندوا على النموذج الصوفي وحاكوا بنيته في سبيل بناء "النوبة" أو الموشح في صورتهما المعروفة. وقد كان مقدّمو الزاوية (جمع مقدّم وهو القائم على شؤون الذكر في الزاوية) يجتمعون كل عشية وخاصة عشية الجمعة، قبل صلاة المغرب وقبل موعد الوظيفة أو بعده حسب الطرق، وذلك لقراءة كتب الرقائق وإنشاد الشعر الصوفي في الحضرة والختم بالصلاة العظوميّة.ونجد في أوراد سفاين الانشاد الصوفي تركيزا مستمرا على ربط الرموز الصوفية الكبرى بشخصيات الصحابة والنبي صلى اللّه عليه وسلّم، مثلما نستنتج من هذه القصيدة لمحمد المنذر القادري (أحد رموز الزاوية القادرية بمنزل بوزلفة): <poem> بالمصطفى العدناني والآل والصحب والصديق الرباني من حظي بالقرب وعمر ذي الشان من ذكره يسبي والمرتضى عثمان من قد سبا لبي وسيد الشجعان علينا القطب كذلك الحسنان حبهما يسبي والأولياء الأعيان في الشرق والغرب وشيخنا الجيلاني المشرق الحرب وشيخنا الدهماني فيه نما حسبي وابن عيسى الرباعي الرائق الشرب وابن عزوز الداني من حضرة الرب بمحرز السلطاني أدعوك يا رب وجد بنيل الشأن وتفرج الكرب ودع لعبد فان بالفضل يا رب والعفو والغفران والنور والقرب وبن عروس الداني والسيد العربي

كما تقوم الطرق الصوفية بواسطة الانشاد الجماعي والمستمر بالمساهمة في تشكيل وإعادة تشكيل الذاكرة السنية المشتركة والمخيال الاسلامي الجمعي. ويصح هذا بالخصوص على الطرق المتفتحة على جل الرموز الصوفية ويتجلى كذلك في راياتها (السناجق) التي كانت تحمل أحيانا عبارة "لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه" في الوسط وفي أركانها الأربعة أسماء الخلفاء الأربعة. غير أن مثل هذا التشديد على متانة الصلة بين النبي وصحابته والأولياء عند الصوفية وربط بركة الأولياء وعرفانهم به باعتباره مصدرا للعلوم وواهبا للمعارف والمدد والاشراق النوراني على القطب، لا يمكن أن يتحوّل إلى دعوة هدفها إعادة بناء المجتمع الاسلامي وتصريف أموره الدنيوية وشؤونه اليومية والقضائية والسياسية على مقتضى مؤسسة دولة النبوة أو الخلفاء الراشدين، فذلك شأن آخر ولا حاجة إلى أقطاب الصوفية ورموزهم به. فالطريق الصوفي طريق محبة وعرفان، طريق وجد وجذب ومعراج روحاني وكشف رباني كما تؤكد ذلك كل أدبيّات أعلام الصوفية. ويلحّ عبد القادر الجيلاني على ضرورة الصبر على أذى العامة وعدم التدخل في أمور الدنيا والاهتمام بالنفس أساسا وترويضها على محبة اللّه وطاعته والتحلّي بآداب الطريق. ويأتي قول ابن سينا في كتابه "الإشارات والتنبيهات" ليؤكد الغاية القصوى التي تتجه إليها إرادة الصوفي والتي هي معرفة الحق الأول، ولا شيء غيره، فلا يؤثر شيئا في عرفانه وتعبده له فقط، لأنه مستحق للعبادة، لا لرغبة أو رهبة.

وقد أدرك جاك بارك المستشرق وعالم الاجتماع الفرنسي في دراساته حول المغرب العربي هذا المنحى في حياة الطرق الصوفية ومدى ابتعادها عن السياسي إذ يقول إنه "في نظر مؤسسي الطرق، مع نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، مثل الطيب الوزاني والعربي الدرقاوي ومحمد بن عبد الرحمان وأحمد التيجاني، يجب أن يكون الإيمان داخليا وأن هؤلاء الشيوخ رغم انتمائهم ونزعتهم الاستقلاليّة وحملهم السلاح أحيانا، لم تخامرهم فكرة تكوين دولة بديلة عن الدولة القائمة إذ انتقل هاجسهم من الماكرو سوسيولوجيا إلى الميكرو سوسولوجيا أي من الدولة إلى المجتمع والانسان، وقد دعا التيجاني أتباعه إلى خشية اللّه فقط والاعتراف بالضعف البشري"

حلقات الأذكار والمزارات[عدّل]

جاء في كتاب الصادق الرزقي "الأغاني التونسية" (1915) في ما يتعلق بالمزارات أنها ملحقة بأفعال التعبد عادة. وذكر أنها "شهيرة عندنا بالحاضرة (و) هي ضريح الشيخ سيدي أحمد بن عروس وضريح الشيخ سيدي محرز بن خلف، وتوجد مزارات أخرى خارج الحاضرة مثل مقبرة الزلاج حيث مقام الإمام الشيخ سيدي أبي الحسن والمغارة الشاذلية، و (مثل) خلوة أو دار السيدة المنوبيّة بنت عمران، وخارج باب سيدي عبد اللّه مقام الشيخ سيدي عبد اللّه الشريف. وكان مقام سيدي علي الحطاب وطريقه إلى بحيرة السيجومي... ودار السيدة المنوبيّة بقرية منوبة البعيدة عن الحاضرة بنحو سبعة أميال، ومقام فتح اللّه التركي الكائن بجبل الجلود...".

شيخ العمل والخرجة والآلات المستعملة في حلقات الذكر[عدّل]

يمكن أن نعرّف شيخ العمل بأنه من يتولى الاشراف على حلقة الذكر وتنشيط المريدين وضبط سير الأوراد في كل لقاء بالزاوية "الخانقاه" ويسميه بعضهم بشيخ الششتري نسبة إلى الشيخ أبي الحسن علي النميري الششتري. وهذا الدور لشيخ العمل عرفت به أكثر الطريقة العيساوية. ويكون شيخ العمل عارفا بالطبوع والايقاعات وأسمائها، ويكون تعيينه بإجازة من شيخ الزاوية أو شيخ الطريقة. وشيخ العمل هو الذي يختار من "الفقرا" من فيه أهلية للعمل فيضعه في مكان يختص به في الحلقة لا ينتقل عنها وهو الذي يباشر نقر الطار في بعض الطرق وضرب النغارات أو يكلف بذلك من شاء من تلاميذه. ويسمى الذي على يمينه كاهية الشيخ أو نائبه، والذي على يساره يكون هو المنشد، وهو الذي يترنم بالقصائد نشيدا في الراحات التي تتخلل النوبات.وعند الجلوس يفتتح العمل بقراءة الفاتحة، ثم يشرع الحاضرون في المديح (دون آلات) والمراوحة بين تموجات الحدة والثقل والتّأنّي والسرعة، فيندفع الشيخ في المديح وقد يعاونه كاهيته أو بعض الأفراد أو يتلقفون منه بعض الأصوات فيعينونه على إتمام المدحة، ثم يرددون طالعها ويسمى ذلك "الرّدة" كأن يرددوا هذا القول مرتين: <poem> يا شيخي أعطف علي يا مولى الرتبة العلية فيقول هو: يا شيخي يا عبد القادر أنت سلطان الأكابر يا مولى البرهان الحاضر أعطني عيشة هنية.

والخرجات عبارة عن خروج "فقرا" الزاوية بالذكر والمديح والأعلام والحراب والطاسات لاقامة العمل بضريح أحد الأولياء.وبعد تعيين اليوم المعد للخرجة يصدر شيخ الزاوية الاذن للباش شاوش بالتهيؤ لذلك فيأمر الشواش بلبس ثياب الزينة وتعطيل الشغل في ذلك اليوم. أما الباش شاوش فإنه يجري التفقد على الماعون وهو النغارات والطّيران (جمع طار والمقصود به الرق) والدفوف ويتفقد "الحرر" أي الأعلام وغير ذلك من اللوازم فلا يأتي اليوم المعين حتى تكون جميع الاستعدادات حاضرة. ويضع "الفقرا" المحامل على أكتافهم وهي عبارة عن عصي مخروطة، في نصفها حلقة من نحاس يوضع فيها مؤخر العلم مشدود الطرفين بسير من الجلد مطرز بالحرير يضعه العلاّم على كتفه، ويتقدمون بنظام حتى يقفوا أمام بعضهم ظهرا لوجه. ويحمل العلام شبه لواء صغير معلقة فيه مبخرة من نحاس كالطبق مشدودة إلى ذلك اللواء بسلاسل، ويدعو العشّاق (الذي يكثر من الصلاة على النبي صلى اللّه عليه وسلم) بصوت مرتفع وبيده مَبْخَرَة البخور، وخلف هؤلاء كلهم جماعة العمل ملتفين صفوفا حول شيوخهم وبأيديهم البنادر (الدفوف) والطّيرَان والنغارات وخلفهم شيخ الطريقة، وخلفه علاّم يحمل على رأس الشيخ علما أخضر فيشرعون في المدح بصفة ترسل وهزيج قريب من الخفيف (في غناء المالوف) وفيه الخفيف أيضا ويسير الموكب إلى المحل المقصود.

في أصل الحضرة وحقيقتها: (العيساوية أنموذجا)[عدّل]

إنّ الحضرة من أبرز ما يميز جماعة الطريقة العيساوية نسبة إلى الولي الصالح الذائع الصيت الشيخ سيدي محمد بن عيسى المكناسي دفين مكناسة الزيتون (ت933هـ/1525م). والحضرة هي في الأصل عبارة عن وقوف صف من "الفقرا" أمام حلقة العمل حفاة الأرجل مجردين من الجبايب والبرانس يذكرون اللّه بضمير الغائب "هو، هو" بغرغرة في الصوت وتجهّد وتراكع منتظم قد يكون واحدا بعد واحد وقد يتفقون فيه جميعا، وذلك حسبما تقتضيه الألحان التي يقوم بها جماعة العمل في المديح. فيتعمدون من حين إلى آخر على ساق واحدة في الوقوف مقدمين الساق الأولى ليركزوا بها على الأرض وفق النغم والخروجات ومعاني المنطوق به وما يوحي به، وذلك على أشكال متنوعة وحركات مخصوصة تحدث صدى ملازما للنقر الصادر من الدفوف والطّار والنغارات ويحدثون ذلك تبعا لشيخ الحضرة الذي يقف في منتصف الصف. وهذا الشيخ تراه يخرج من وسط الصف من حين إلى آخر ويأتي بحركات من الرقص والركوع والتصفيق الحاد والاشارات بالتعظيم والغرغرة كلما سمع في المديح ذكر اسم النبي صلى اللّه عليه وسلم أو ذكر أحد الأولياء، بحيث يأتي بحركات لافتة للانظار، وكل ذلك يكون ارتجالا ودون نظام نغمي مسبق. ويصف الصادق الرزقي الطور الموالي من عمل الحضرة فيقول: "وتقف الحضرة أمام هذه الحلقة المستطيلة صوب وجوه أصحابها للصف الذي يكون فيه شيخ العمل. فيشرعون بعد قراءة الفاتحة في ""المجرد" وهو عبارة عن كلام في مدح الشيوخ والحضرة النبوية ويكون مقفى وتارة يكون خاليا من القافية، وفيه بعض الوزن، ومن المجرد ما لا يوجد فيه وزن ولا قافية. فيعمدون إلى إتمام لحنه على التأوهات أو كلام آخر كلفظ "يا بابا" أو "اللّه اللّه". وهذا المجرد لا يخدمونه إلا بضرب الكف على الصنائع (أي المقامات الموسيقية) المعروفة بأوزان أغلبها مقتبس من نوبات المالوف. وأحيانا يستخدم أفراد الطريقة العيساوية الدف وآلات الايقاع ويقدمون في ذلك نوبات فيها من شعر ابن الفارض وغيره من أقطاب الصوفية. وبعد المجرد يأتون بالمديح ويرتكبون فيه من الحركات والخفيف ما يأتي في المالوف ويخدمون نوبات المديح الأولى بالطّار والنغارات فقط. فإذا أرادوا الانتقال إلى الخمّاري فإنهم يزيدون في ضرب الدفوف التي تتراوح بين الأربعة والثمانية". وتجدر الاشارة إلى أن للطريقة العيساوية في تونس نوبات في مالوف الجد أيضا عددها يضاهي نوبات المالوف الأندلسي. وفي هذه الحالة يكون المريدون متحلقين حول شيخهم (شيخ العمل) ضمن فضاء شبه معزول عن العالم، فضاء للحركة والسماع والمداومة على ممارسة الطقس. ونجد داخل هذا الفضاء حالات يتم فيها الانفصال عن العالم الخارجي والانتقال إلى الوجد والتواصل مع عالم الحضرة والشهود.

العناصر الموسيقية في أناشيد الطرق الصوفية[عدّل]

الطريقة الشاذليّة[عدّل]

تعتبر الطريقة الشاذليّة من أشهر الطرق الصوفية بالشمال الافريقي التي أثرت وانتشرت مشرقا ومغربا وتنسب أحزابها وأورادها إلى الامام أبي الحسن الشاذلي. وقد ألف الشاذلي ما يزيد عن العشرين حزبا تؤدى في أنغام معينة وعلى درجات صوتية تتراوح بين الشدة واللين. وقد ألف تلميذه سيدي أبو العباس المرسي حزبا واحدا على نهج شيخه.ومن أهم أحزاب الشاذلي "حزب البحر" و"حزب الشيخ" أو "الحزب الكبير" و"حزب الحمد" و"حزب الفتح". وتتضمن هذه الأحزاب بالدرجة الأولى معاني التوسل إلى اللّه تعالى وإيثاره على كل شيء مع التلطف بآي القرآن والدعوة إلى الصبر على مكاره الدنيا والاستغفار والحمد.

وتتضمن حصص الذكر في الطريقة الشاذلية تلاوة لما يتيسر من القرآن الكريم وقراءة للأحزاب والأدعية وترديد اسم الجلالة اللّه ثم (هو) على درجتين يفصل بينها بعد رباعي أو خماسي. ويقوم الباش منشد وهو قائد المنشدين بارتجال قصائد ذات أغراض دينية ثم يشترك مع بقية المنشدين بعد الذكر في إنشاد ما يسمى بالمرزوقية وهي قصائد تؤدى في مقام راست الذيل يتناوب فيها المنشدون ويشتركون بعد ذلك في أداء بعض البشارف التونسية بالاهات.

الطريقة الرحمانية[عدّل]

المؤسس الأول لهذه الطريقة هو عمر الخلوتي. وقد حملت في شمال إفريقيا اسم محمد عبد الرحمان القشتولي (ت1794م) الذي عمل على نشر الطريقة في شمال إفريقيا. وترتكز مبادئ هذه الطريقة على القيام بالفروض والانهماك في ذكر اللّه بصوت جهوري، وترديد أذكار يومية بجامع الزيتونة وذلك كل يوم بعد صلاة العصر وهم جالسون في شبه حلقة. ومن أشهر زوايا الطريقة: زاوية الشيخ علي بو حجر بالكاف. وقد أدخل المنتسبون إلى الطريقة آلات إيقاعية مثل الطّار والنغارات والدفوف وألفوا لها مدائح شبيهة بمدائح القادرية.

الطريقة العروسية[عدّل]

وتنسب إلى الشيخ أحمد بن عروس (ت1436م). ولم تنل هذه الطريقة من الشهرة ما نالته الطرق الأخرى ولم تنتشر مثلها. والمرجح أن تكون قد أخذت بعض أوراد هذه الطريقة وأحزابها جماعة السلامية التي كانت في ابتداء أمرها تؤدّي أذكارها في الزاوية العروسية.

الطريقة السلامية[عدّل]

يعود تأسيسها إلى الشيخ عبد السلام الأسمر (ت1573م) ولها شهرة كبيرة وأتباع كثيرون بين تونس وليبيا خاصة، ولها أذكار قليلة وأدعية مخصوصة تؤدى بأسلوب لطيف.

ومما يؤدى في هذه الحلقات:

إنشاد السلسلة الذهبية[عدّل]

وهي عبارة عن تسعة وسبعين بيتا أطلق عليها الشيخ عبد السلام اسم "السلسلة الذهبية" يفتتح بها قسم العمل الذي يؤدى إنشادا معتمدا على إيقاع ونغم. وقد ذكر فتحي زغندة في دراسته: "الطريقة السلامية في تونس، أشعارها وألحانها" أن لحن السلسلة حسب ما تتوافر له من روايات، ينطلق في مقام الحسين أثناء البيت الأول ونصف البيت الثاني ثم يتخلص إلى مقام رمل الماية بإبراز عقد الجواب، ويجري اللحن من البيت الثالث إلى البيت الثامن في المقام نفسه ثم يتخلص إلى مقام الرمل في البيتين التاسع والعاشر ومنه إلى مقامي راست الذيل في البيت الحادي عشر والعراق في البيتين الثاني عشر والثالث عشر. وتنطوي هذه السلسلة على زخارف وتلوينات عدّة إلى درجة أن ترقيم ألحان السلسلة الذهبية موسيقيا لا يترجم كل الزخارف التي يمكن أن يضيفها المنشد.

سلسلة الفزوع[عدّل]

وهي تسمية تطلق على قصيدة باللهجة الدارجة تحتوي على ما يناهز الثمانمائة بيت. وكلمة فزوع تعني الاستعانة بالأولياء والصالحين للتغلب على النزاعات وقضاء الحاجات والتوسل إلى اللّه. ينبني لحن سلسلة الفزوع حسبما هو شائع في القطر التونسي على الارتجال أي أن الجمل التي يتركب منها اللحن غير ثابتة (مع أنها خاضعة لايقاع ذي ثلاثة أوقات) بل تتغير من شيخ إلى آخر بحسب ما لكل شيخ من معرفة موسيقية أساسها التمكن من الايقاعات وحذق المقامات أو الطبوع وحسن التصرف فيها والتخلص من طبع إلى آخر حسب طرق أقرتها التقاليد. وتعطي هذه المعرفة الموسيقية قدرة على ابتكار ألحان متناسقة تعكس سلامة ذوق المنشد وتمكنه من التأثير في السامعين وإطرابهم بأن يجعلهم يتجاوبون مع طريقة أدائه.

التصلية[عدّل]

يقوم المنشدون "بالتصلية" أي ترديد: اللهم صلّ على سيدنا محمد وسلم على آله وصحبه، مع قصيد في مدح الرسول على لحن بسيط وسريع يتركب من درجتين. ثم تتلى الفاتحة وبها يختم القسم الثاني الخالي من استعمال الالات.

البحور[عدّل]

من العسير حصر عدد بحور السلامية، وقد لحن أغلبها في مقامات تونسية سواء منها المستعملة في التراث التقليدي (المالوف) أو الشعبي الحضري وكذلك شأن الايقاعات الموسيقية التي لحنت عليها البحور.وأهم إيقاع تقليدي مستعمل في البحور هو دخول براول. أما الهيكل اللحني للبحور فيشتمل على جملة موسيقية أساسيّة ينشدها شيخ الفرقة فيعيدها المنشدون ثم يتناولها الشيخ ثانية على مختلف أبيات البحر مع تصرّف جزئي وخروج من مقام إلى آخر بحسب مقدرته على التصرّف والارتجال الموزون.

الشطحة[عدّل]

يكون إيقاعها أسرع بقليل من الايقاع الذي لحن فيه البحر. الختم: هو مقطوعة تلي الشطحة وتكون في إيقاع موسيقي أسرع من الايقاع الذي بنيت عليه.

التهليلة[عدّل]

هي جملة موسيقية بسيطة في إيقاع سريع (براول سريعة) تنشد اسم الجلالة.وكلمة تهليلة (من تَهْليل) مشتقة من اسم اللّه. وتختم الوصلة الغنائية للسلامية بالتهليلة وتسمّى أيضا "جذبة" وهي أسرع مقطوعة في الوصلة وبها يصل حفل السلامية إلى ذروته.ويمكن أن يتضمن الحفل في الزوايا وصلتين تتضمن كل منهما بحورا وشطحات وأختاما وتهليلات متنوّعة.

الطريقة العامرية[عدّل]

تنسب إلى الولي الصالح الشيخ سيدي عامر المزوغي، ولها انتشار في الجزائر أكثر من تونس. ويجتمع العامريون أو "العوامرية" - كما يسمون في الأوساط الاجتماعية العامة - كل يوم خميس إثر صلاة العصر يتجاذبون وشعورهم منشورة على أكتفاهم... فيصيحون "اللّه اللّه" إلى أن يخرج الواحد منهم عن طوره. ويَسْتَعْمل العامريون آلات موسيقية مثل الزرنة والطبيلة (الدربوكة) علاوة على الطّار والنغارات والدفوف.

طريقة سيدي بو علي النفطي[عدّل]

أسسها الشيخ أبو علي النفطي (ت615هـ/1213م)، وهذه الطريقة مبنية على الذكر والمديح. يرقص المنشدون مستعملين آلات كالبندير والقندي (طبل صغير من فخار هرمي الشكل). وانتشرت هذه الطريقة أساسا ببلاد الجريد.

الطريقة العزوزية[عدّل]

تنسب إلى الولي الصالح سيدي علي عَزّوز المولود بفاس بالمغرب الأقصى والمتوفى بزغوان 1705م. ولهذه الطريقة زوايا، الأولى بنهج سيدي علي عزوز بالعاصمة، والثانية ببنزرت، والثالثة بزغوان حيث يوجد ضريح الشيخ. ولها فنون عجيبة أندلسية بالطار والنغارات.

الطريقة المدانية[عدّل]

نسبة إلى الغوث أبي شعيب الأنصاري المداني (ت 594هـ/1197 - 1198م) الذي أدرك مقام الولاية بعد أن التقى بالشيخ سيدي عبد القادر الجيلاني على إثر سفره إلى مكة المكرمة. وهذه الطريقة تختلف عن الطريقة العلاوية المنسوبة إلى سيدي أحمد العلاوي ذي الصلة بطريقة العائلة "الدرقاوية" التي كان شيخها العربي الدرقاوي. وتختص الطريقة المدانية بالمبالغة في الزهد والتقشف وكبح الشهوات والتفكير في أحوال الاخرة. وأتباعها كثيرون، وكان من النادر عندهم إدخال المديح واستعمال الالات. ومن طقوسهم الاجتماع في الزاوية وقراءة "الوظيفة" جالسين والتذاكر في المواعظ ثم الوقوف على شكل حلقة والشروع في ذكر اللّه بضمير الغائب "هو".

ويصل المريدون إلى حالة المشاهدة بواسطة التكرار المواصل لاسم "اللّه" أو لاسم يحيل عليه وهم في حالة من الزفير والنفير والانحناء والوُقُوف. ويتسارع النسق دون أن يحيدوا عن أماكنهم.وكان الشيخ محمد المداني مؤسّس هذه الطريقة بقصيبة المديوني قد نشرها بأمر من أستاذه أحمد العلاوي سنة 1910. وتم سنة 1918 تأسيس الزاوية الرئيسة للطريقة الموجودة الان بقصيبة المديوني. وقد وجدت في قلوب الناس مطاوعة سهلت انتشار الطريقة في جهات عدّة من البلاد التونسية، بالعاصمة وأحوازها، وبزغوان ومنزل تميم والسواسي وصفاقس والمحرص وقابس والمرازيق ونفزاوة ومنطقة المهدية، إضافة إلى الفروع الأخرى بالمنستير وتوزر ونفطة والرديف. وتشترك هذه الطريقة مع غيرها من الطرق الصوفية في التعبير عن الحقيقة الايمانية الصوفية وطلب معرفة اللّه ومرضاته بالشعر والموسيقى عبر أشكال عدّة. وتتميّز هذه الطريقة عن الطرق الأخرى بعدم استعمال الآلات الموسيقية بل تقتصر في الانشاد على أصوات المغنين عوضا عن كل الالات، فيردد المنشدون اسم الصدر (آه) في قالب إيقاعي موزون بمصاحبة بعض الأوراد والأبيات الشعرية في ذكر المولى جل جلاله أو مدح الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك على ألحان وأنغام مخصوصة في درجات عالية تتخذ أحيانا ما يشبه الموّال ويسمى ذلك "الحضرة" وهي من نظم الشيخ محمد المداني. وتعتمد هذه الطريقة على تقنيات حرفية جدّا مثل التوزيع الموسيقي بين الشيخ والمريدين، ويكون شكل الأداء أحيانا حرّا ومرتجلا لا يلتزم بإيقاع ما، أو مرتجلا وموقّعا، أو مقيدا فيكون موقّعا وغير مرتجل. وهنا تضاف أحيانا كلمة أو كلمات لا توجد أصلا في القصيدة وذلك ليكتمل مسار اللحن عند أداء الأغنية. ويكون التحول أحيانا من المقام الرئيس إلى بعض المقامات الأخرى. أما اللهجة المستعملة في الانشاد فهي إما العامية أو العربية الفصحى أو البدوية ويكون موضوع النص المؤدى إما مديحا أو تعبّدا أو ابتهالا.

الطريقة التيجانية[عدّل]

ظهرت هذه الطريقة بظهور الولي سيّدي أحمد التيجاني دفين فاس (ت 5181م) وهي أكبر الطرق انتشارا وأكثرها عددا من حيث الأتباع الذين يسمونهم الأحباب أو أحباب الشيخ. يذكر الصادق الرزقي أنه "لا جذب فيها ولا رقص، ولا خوارق، ولها مؤلفات عديدة كالبغية والرماح وغيرها" . أما عمل الطريقة فهو عبارة عن استغفار وصلوات على النبي صلى اللّه عليه وسلم، وذكر لا إله إلا اللّه، وتسمى مجموعة تلك الأذكار والصلوات "الوظيفة" وهي واجبة القراءة على كل واحد من أحباب الشيخ في كل صباح ومساء بغاية السكينة والوقار والخشوع، مع تركيز الاهتمام على السير إلى المقصد الأسمى للمجاهدة الروحية.

طريقة سيدي سعد وظهور السطمبالي[عدّل]

تسكت المصادر والمراجع عن هذه الطريقة ما عدا بعض الإشارات المتناثرة هنا وهناك أو بعض الشهادات الحية. ويرتبط فن السطمبالي بالأحباش والسود القادمين من الجنوب الشرقي للقارة الافريقية، عند ظهوره في القرن التاسع عشر. ولقد نسب خطأ إلى الباشا آغا السطمبولي الذي ينحدر من مدينة إستانبول التركية. وارتبط هذا الفن بفكرة العلاج بالموسيقى باعتماد التخمّر الصّوفي والتصعيد الروحي عبر تركيز الاهتمام على الآلات المعروفة في هذا النمط الموسيقي مثل القمبري وهي آلة وترية وإيقاعية معا والطبلة والشقاشق والقراقب وهي آلات إيقاعية ذات جرس موسيقي نحاسي. وفي بعض الأحيان تقدم هذه الطريقة أناشيدها وأذكارها بلهجة غير عربية وإن كانت قريبة منها. وتكون فيها ملفوظات لمخاطبة قوى روحية من غير جنس البشر مثل "قلاديمة" و"بابا جاط" و"أمي يانا" و"يامو"... يؤديها رواد هذه الطريقة الذين كانوا دوما زنوجا من أتباع الولي سيدي سعد الشوشان ومريديه، ولهم نوبة تسمى "نوبة بوسعدية". وتجدر الإشارة إلى استمرار هذه الطريقة إلى الآن وأهمية الدور الذي ماتزال تقوم به في الحياة الثقافية والاجتماعية في بعض الجهات من البلاد التونسيّة.

عرض الحضرة والتقاء أناشيد كل الطرق الصوفية[عدّل]

خلال موسم 3991 - 4991 ظهر في تونس عرض موسيقي مسرحي كبير يحتوي على عناصر فرجوية وقيم جمالية متنوعة باسم "الحضرة". وقد أنجزه المؤلف والموزع الموسيقي سمير العقربي والمخرج المسرحي الفاضل الجزيري. ويحتوي هذا العرض الذي ظل يحظى بإعجاب الناس داخل البلاد وخارجها على لوحات ومشاهد تجسد "خرجات" الطرق الصوفية بتونس واحتفالها بالمواسم والأعياد وفي ذكرى المولد النبوي الشريف وانتظام المريدين والزائرين (الذكّارة) في صفوف أو على شكل حلقات معينة. ويضم العرض ألوانا من أناشيد وأذكار الطرق الصوفية، ولا سيما ما يقدمه المريدون والأحباب والمعتقدون في صلاح الأولياء وبركتهم من مدحات (مدح الصالحين وإبراز مآثرهم في قضاء حوائج الناس). ويعتمد في هذا العرض أساسيا على آلات الايقاع التي يفوق عددها الستين وكلها من جنس الدفوف والطيران، مصحوبة بآلة "الكونترباص" أو "القيتارباص" وآلة الكمنجة لمساعدة المنشد على ضبط طبقة الأداء والتحكم في الدرجات الصوتية، ولكن دون تغيير في الأسس اللحنية وفاء لتقاليد الانشاد الصوفي. وقد تكون مصحوبة بالأرغن لايجادنوع من الصدى والزخرفة ولكن باقتضاب شديد، وتظلّ الأولوية أساسا لآلات الايقاع. وقد عمل سمير العقربي على إبراز مواطن التعدد والتوافق الصوتي في أناشيد الحضرة وضبط نظامها النغمي وعلى خلق تجاوب بين الأصوات المؤدية. وهو ما زاد هذه الأناشيد جمالية وإن ابتعد بها بعض الشيء عن الأصل، وهو ما أكده بعض مشايخ الطرق ومقدميها. وركز العقربي عنايته على عنصر الارتجال في الانشاد الصوفي. وهو ما جعل هذه الأناشيد تبدو دائما كما لو كانت تُقدّم لأول مرة.أما الجزيري فقد سعى إلى إعادة حياة الزاوية وسمات مجتمع الولاء الصالح الذي يقوم على الاعتقاد الراسخ في بركة الأولياء، وذلك من خلال الديكور والأضواء والاخراج المسرحي. يمكن أن نستنتج ممّا سبق:

  • أن فضاءات الذكر وحلقات الانشاد كانت ولا تزال خير حافظ للذاكرة التونسيّة الثقافية الفنية، كما مثلت منبع إبداع واستلهام لا ينضب.
  • أن الانشاد الصوفي هو عين الغناء المتقن إذ أخذ مؤلفو المالوف والموشحات والأزجال الكثير من إيقاعات ومقامات وقوالب الموسيقى الصوفية وساروا على نهجها.
  • أن كل الايقاعات والمقامات المستعملة في الموسيقى الحضرية المتقنة نجدها مستعملة في الموسيقى الصوفية وحلقات الانشاد.

أنّه من الخطإ اعتبار الموسيقى الصوفية موسيقى شعبية، وهي مثال ونموذج يحتذى في كل أشكال التأليف الأخرى. ولذا يبدو من الضروري العودة إلى قوالب الانشاد الصوفي في العالم العربي وتوظيفها للارتقاء بالأغنية العربية.

وينبغي التفطن إلى ثراء المدونة الصوفية العربية الاسلامية وإعادة قراءتها واستنطاق نصوصها وأورادها لكشف ما تنطوي عليه من قيم ذات أبعاد إنسانية سامية، وهي أبعاد ترتقي بالانسان إلى الكمال مرورا بمعرفة الأصل واستكناه ماهية الوجود والحياة عبر التواصل الخلاق مع المطلق، وتشكيل صورة أكثر شفافية عن الأنا، وهذا لا ينفي جنوح الطرق الصوفية إلى الشعوذة والتهريج. ولعل هذا العامل هو الذي أسهم في ظهور مفهوم "الموسيقى الصوفية" من حيث هو مفهوم نخبوي ونمط فني ثقافي راق يرشحه بعضهم ليكون التعبير الفنيّ لمجتمعات الغد، وليكون النمط الأرقى في الاستجابة لتطلّعات المستقبل وإيجاد إجابات مهمة عن التساؤلات الانسانية المتصلة بالأصل والمصير والخلاص والايمان والمعرفة والاستقرار النفسي.