الاستشراق في فن الرسم

من الموسوعة التونسية
نسخة 08:45، 6 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

خلافا لما كانت تحظى به مصر والجزائر والمغرب، طوال القرن التاسع عشر، من إقبال وشهرة لدى أهل الأدب والفن من المستشرقين، لم تستقبل تونس إلا القليل ممن مروا بها في طريقهم ذهابا أو إيابا إلى بلاد المشرق. وإذ لم تكن في ذلك الحين علائق وطيدة من شأنها أن تربط بين بلدان أوروبا والقطر التونسي فتجعل منه مسلكا للغادين وموردا للوافدين، كان تمركز الحماية الفرنسية عام 1881 منطلقا للفْت الأنظار إلى هذه الرّبوع من شمال إفريقيا وانضمامها إلى الآفاق الشاسعة لعالم الشرق الذي كان يَسْتلهم منه الأدباء والفنانون الغربيون موضوعاتهم ويغذون به خيالهم. وقد تسببت حملة بونابرت على مصر، سنة 1798م، ثم احتلال الجزائر (1830) وزيارة الرسّام الفرنسي ديلاكروا Delacroix إلى المغرب الأقصى (1832) في انجذاب عدد مهم من الفنانين الذين قصدوا هذه الربوع لغرض الاطّلاع على معالمها وعادات أهلها واستكشاف مناظرها الطبيعية، فحركت عواطفهم وبعثت فيهم أحاسيس جديدة في وقت سئموا فيه الموضوعات المأخوذة من الميثولوجيا الإغريقية والوقائع التاريخية القديمة. فكانوا أول من حوّلوا أنظارهم نحو مصر التي أصبحت منهلا خصبا صقلوا به مواهبهم وأذكوا به حماسهم، فاستنبطوا ممّا لاحظوا فيها وجمعوه من معلومات عنها: مشاهد ملحمية لقائدهم بونابرت في معركته ضد جيش المماليك، وسط هذا المحيط غير المألوف لهم بمناخه وعمرانه وهيئة أهله، إذ تمتدّ رمال الصحراء بنخيلها وأهراماتها وتبدو الأسلحة المنمّقة والألبسة المزركشة والخيول المسرّجة والجمال بهوادجها وكل ما يدعو إلى الاستغراب. فنتجت عن ذلك رسوم تميزت بالفَخَامة والخطوط الملتوية والألوان البراقة، بَدَت مغايرة تماما لما كانت عليه أسلوبية "الكلاسيكية الحديثة" من أشكال صلبة وألوان باهتة، وقوالب شكلية جامدة منقولة عن مقاييس الجمالية اليونانية الرومانية التي مجّها الرسامون بعد طول ممارسة. فكانت هذه الرسوم الاستشراقية المبكّرة شاهدة على ظهور التيار الرومانسي ودافعا من دوافع تكوينه وسبيلا إلى تحريره من قواعد الرسم الاتباعي الأكاديمي.

على أن حملة مصر، التي سرعان ما انتهت بإخفاق بونابرت أمام أسوار عكّا، رغم أنّها كشفت عجائب الشرق للفنانين، فإنها على نحو حاسم لم تتوصل إلى عقد صلات وثيقة ودائمة بين "الشرق" وأوروبا مثلما تحقّق بعد التوسّع الاستعماري الذي تغلغل في أصقاعه النائية. فكان للاستيلاء على الجزائر وقع مهم أعطى لحركة الاستشراق نفسا جديدا وجعل منها مغامرة واسعة النطاق، إذ ما انفك الرسامون، في زمن أصبحت فيه النشاطات السياحيّة منظمة وميسورة ووسائل النقل موفورة، يترددون على هذه النواحي، يطوفون في كامل أرجائها، مدنها وصحاريها. لكن اصطدامهم بالواقع الشرقي لم يمنعهم من إطلاق العنان لمخيلاتهم، التي كانت تذكيها الطّرافة وتكشفها الموهبة الفنية، فلم تكن غاية زائر هذه الربوع التطرّق إلى الواقع ومحاولة إدراكه وفهمه بصدق، بل كانت للبحث في تلك الصورة المسبقة، وهي صورة انتقائية وناقصة، تختلف عن حقيقة الواقع المعيش.

وبلغ تيار الاستشراق ذروته مع احتلال الجزائر، لكنه لم يصل إلى تونس قبل تمركز الحماية، حتى إنّ حامل لواء الرومانسية ديلاكروا، عندما تجوّل في المغرب الأقصى طيلة ستّة أشهر، لم تطأ قدمه أرض تونس ولم يدفعه حب اطلاعه على مواصلة السير إلى هذه الجهة الشرقية من المغرب الكبير، في حين أنه مرّ، عند رجوعه، بالجزائر العاصمة حيث استطاع، بتوصية خاصة، دُخُولَ الجناح الخاص بالحريم، فكانت لوحته الرائعة "نساء من الجزائر" (صالون 1834) نتيجة تلك الزيارة، غير أن علاقته الوحيدة بتونس، إن اعْتَبرناها علاقة، تتحدّد في الرسم الذاتي الذي تركه لمحمود بن عياد وكيل الباي، حيث يظهر بلباسه التونسي الفاخر وقد اعتمّ ولفّ رأسه وكتفيه ببرنس أبيض، متقلدا سيفا وماسكا بيده مسبحة، وهو واقف على رصيف مرفإ مطل على البحر تحدّه بعض الحصون، وهذه اللوحة البديعة مما عُرض بباريس في معرض مئوية احتلال الجزائر سنة 1930.

وإذا تصفحنا أدلّة صالون باريس التي تسجّل قائمة الأعمال المعروضة فيه كلّ سنة، فإننا قلّما نجد ما له صلة بتونس، رغم وفرة الأعمال المتعلّقة بأقطار المغرب، ناهيك أنه خلال فترة ما بين سنة 1830 وسنة 1880 لم نضبط إلاّ قرابة عشرين لوحة كان لها على نحو مباشر أو غير مباشر ارتباط بتونس، منها ما هو عائد إلى مدينة قرطاج البونية، ومنها ما يهمّ حياة بعض المسيحيّين الكَنسيّين ممّن قدموا إلى تونس، ومنها ما هو مجرّد رسوم تخطيطية لمبان معمارية لها قيمة توثيقية ليس غير. فهي في معظمها أعمال تلحق بموضوعات ذات محتوى تاريخي، متداولة في الرسم الأكاديمي، غايتها التنويه بماضي فرنسا والتذكير بخصال بعض رجالاتها، ولم يرد ذكر لتونس فيها، إلاّ عرضا.

ونكتفي بالاشارة إلى أشهر هذه الأعمال.وأوّل ما نعثر عليه لوحة من ممتلكات متحف اللوفر، للبارون بول غيران (Baron Paul Guérin)، عنوانها "إينياس يحكي لديدون فجائع طروادة" (صالون سنة 1817), نشاهد فيها ديدون، وهي عليسة (ابنة ملك مدينة صور الفينيقية) التي هاجرت إلى إفريقيا (Africa) وأسست بها قرطاج، وقد اتكأت على سرير وهي تُصغي إلى حديث الأمير إينياس أحد أبطال حرب طروادة. وقد تضمنت اللوحة بعضا من الأثاث والزخارف كأنها علامات توحي بمكان المشهد والزمان الذي يدور فيه، وهو قصر الملكة ديدون بقرطاج في نهاية القرن التاسع قبل الميلاد كما تخيلته ريشة الرسام.

وفي سنة 1833، قدّم فرنسوا غراني(François Granet )مجموعة من لوحات ذات موضوع ديني، منها "الآباء المُبَشّرُون يسترجعون أسرى من تونس". وتعكس هذه اللوحات ما كان يقوم به القساوسة من إطلاق سراح أسرى غزاة البحر (القراصنة) وردّهم إلى بلدانهم، وهو عمل لا يتعدّى الطريقة الأكاديمية المتبعة آنذاك في مدارس الفن الرسمية والورشات، أتى على نسق قواعد الكلاسيكية الحديثة التي تزعّمها لويس دافيد أستاذ غراني. وفي الاطار نفسه تندرج لوحة فرنسوا ليبول"سان فانسون دي بول أسير تونس" (صالون سنة 1834)، وقد قبض الغزاة على هذا القديس في بداية ق 17م إثر حصوله على لقب الكهنوت وساقوه إلى الحاضرة التونسية فنراه في السجن مكبّلا في القيود حيث قضى قرابة العام قبل إرْجَاعه إلى بلاده. وكذلك لوحة سان لويس "على أطلال قرطاج" (صالون سنة 1844) لتيودور غودان (Théodore Gudin), التي تمثل ذكرى نزول لويس التاسع ملك فرنسا بأسطوله على شواطئ قرطاج، في الحملة الصليبية الثامنة التي شنّها على تونس وما جاورها.

وقد حصلت الحكومة الفرنسية في عهد الباي حسين الثاني على رخصة لتشييد كنيسة صغيرة في المكان الذي يرجّح أنه مات فيه هذا الملك، بنيت في عهد المشير أحمد باي (1855 - 1837)، وكانت متواضعة صغيرة الحجم، مثلما تبديه لنا لوحة غودان "منظر كنيسة سان لويس بقرطاج" (صالون 1844). وقد عرض شارل جوردان (Charles Jourdain), المهندس الذي قام بتصميمها، مجموعة من الرسوم المبسطة لكل مقسماتها في صالون سنة 1850. وفي سنة 1890 هدّمت هذه الكنيسة وأقام الآباء البيض عوضا عنها الكاتدرائية الحالية، على أسلوب بيزنطي - مغربي وهي بجانب متحف الآثار الوطني بقرطاج.

وفي الصالون الباريسي عُرضَت بعض الرّسوم المائية والتّخطيطيّة، منها لوحة "السوق" لفرانس فاشرو (France Vacherot) وأخرى "الطّراف" لفيلكس بَارْمَنْتيي (Félix Parmentier).

وهكذا نلاحظ أن هذه الأعمال الخاصة بتونس كانت نادرة جدّا، حتى إنّ المعرض الاستعماري الذي أقيم سنة 1906 بمدرسة الفنون الجميلة بمرسيليا، لم يشتمل على أكثر من لوحة واحدة تتعلّق بتونس. وهي لوحة "سوق تونسية" للرسام المرسيلي فابيوس براست (Fabius Brest). وكان تعرّف بعض الرسامين على البلاد التونسية قبل "الحماية" يقتصر على ما ترويه بعض المصادر من كتب الرحلات أو المصادر الأدبية التي تتضمّن غالبا أخبارا يضطلع فيها الخيال بدور مهمّ. فمن ملحمة "الانيادة" لورجليوس، أعظم شعراء روما، إلى قصة "صلامبو" لفلوبير التي أتمّ تأليفها بعد رجوعه من قرطاج وزيارة معالمها الأثرية (سنة 1858), تتراءى لنا فيها هذه التخوم لجنوب البحر المتوسط، من وراء رؤية غربية خياليّة في إطار "برابري" (Barbaresque) "متوحش"، كأنها مسارح يرتع فيها أخلاط من المحاربين والفرسان والبدو والنساء القابعات في حريمهن. فكأنّ تونس بمَنْ وبما كان فيها ليست أكثر من "صندوق عجب" عند هؤلاء الرسّامين والكتّاب المفتونين بالعجائبيّة الاستشراقيّة!

ببليوغرافيا[عدّل]

  • Souss M'hamed, les peintres Européens en Tunisie (1900-1930),Thèse pour Doctorat de troisième cycle,la Sorbonne,Paris,1982