إبراهيم الضحاك

من الموسوعة التونسية
نسخة 13:40، 21 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1931 - 2004م]

في بيئة صحراوية بالجنوب التونسي، ولد إبراهيم الضحاك سنة1931، بالزاوية من قرية القصر بقفصة. وهو من أبرز الفنّانين التونسيّين الذين تخصّصوا في فنّ الحفر ويعزى إليه الفضل في تركيز صفحات كبرى داخل ملف الحفر الفنّي بتونس، إذ هو أوّل فنّان تونسي واظب على ممارسة هذا الفنّ في تجربته الابداعيّة. وفنّ الحفر فرع من الفنون التشكيليّة، يبتدئ من داخل الرسم الخطّي وينتهي بتقنية الطباعة التقليدية. وتعود نشأة هذا الفنّ إلى نشأة الطباعة نفسها. إنّ الرسم الخطّي هو منطلق فنّ الحفر. فلا يمكن للفنّان أن يحفر أشكاله على طبقة الخشب دون أن يرسمها. ومن ثمّة، فلا غرابة في أن يكون إبراهيم الضحّاك رسّاما قبل أن يكون حفّارا. ومن مزايا الرّسم أنّه يساعد الفنّان على تحديد موضوعه والتحكّم فيه. وذلك لتأمين التواصل بين المتلقّيتوالصورة المحفورة، تواصلا يعتمد أساسا على الدلالة المباشرة كما في فنّ الطباعة. لذلك يسعى الضحّاك إلى وحدة الموضوع ووضوحه.

عرض الضحّاك أعماله سنة 1952. ثم عرضها مع جماعة مدرسة تونس لفنّ الرسم منذ سنة 1956، أي قبل أن يلتحق بأكاديميّة الفنون الجميلة بروما التي تخرّج فيها سنة 1961. ورغم سفره إلى إيطاليا مهد الفنّ الكلاسيكي فقد ظلّ إبراهيم الضحّاك متمسّكا في تجربته الحفريّة بموضوعات حميميّة مستمدّة من البيئة التونسيّة طبيعة وثقافة. أمّا مجال معارضه فكان من السّعة بحيث مكّنه من أن يؤكّد حضورا عالميّا بداية من معارضه التي أقامها في النصف الثاني من الستّينات بكلّ من روما وميونيخ وزيوريخ وباريس ولوزان ووصولا إلى معارضه التي أقامها، فيما بعد، بكل من فيينّا وجونيف وفالانسيا والاسكندريّة، كما أنجز الضحّاك عدّة كتب تضمّ مجموعات حفريّة مبوّبة منها الكتاب الفنّي الذي أعدّه صحبة الفنّان هاب غريشابر. وهو أحد الروّاد الكبار لفنّ الحفر المعاصر بألمانيا. انتقل الضحّاك من تونس إلى إيطاليا وألمانيا ولبنان وإلى غيرها من أنحاء العالم. ولعلّ من شأن هذا الترحال أن يؤكّد مدى قدرة الشكل الفنّي على تجاوز الحدود. إن موضوعات الجمل والخيل والجازية الهلاليّة التي استمدّها الفنّان من التراث الشفوي بالجنوب التونسي، وإن نشأت داخل خصوصيّة ثقافيّة وتاريخيّة، فهي تراهن من داخل العمل الفنّي على اكتساب طابَعٍ كونيّ إنسانيّ.

كيف يمرّ موضوع اللوحة، في مشروع الفنّان، من البعد التاريخي والثقافي إلى الأفق الجماليّ الكونيّ؟ فإلى أيّ مدى يرتقي الفنّان بلوحته أسلوبيّا من تسجيليّة الذاكرة الشعبية إلى إبداعيّة الرؤية الجماليّة؟ كيف يتجاوز الموضوع أفقه المرجعي في الذاكرة والطبيعة ليصبح موضوعا تشكيليّا محضا؟

سيرة فنيّة... حفر في ذاكرة الشكل[عدّل]

عندما استقرّ بتونس العاصمة في الخمسينات واستقام له الأمر بها وطّن إبراهيم الضحّاك نفسه على تطوير هوايته الفنيّة وشرع يدرس فنّ الرسم. فقصد واحدا من أهل الصناعة. وهو حاتم المكّي (1918 - 2003). وحاتم المكّي رسّام ومصمّم غرافيكي وواحد من جماعة تحت السور، لم يدّخر جهدا في توجيه إبراهيم. لقد كانت لقاءات الشابّ إبراهيم بحاتم المكّي الذي كان يجاوره بسيدي بوسعيد، همزة وصل للتعرّف إلى رسّامين تونسيّين آخرين منهم جلال بن عبد الله وعبد العزيز القرجي وعمّار فرحات والزبير التركي. فلقى لديهم حفاوة وصداقة. وكان إبراهيم الشابّ يلتمس آراء هذه الجماعة في ما يرسم من أعمال بالرسم الخطيّ والألوان المائيّة.

ورحل إبراهيم الضحّاك إلى إيطاليا بعد حصوله على منحة للدراسة بمدرسة الفنون الجميلة. وكانت الفرصة سانحة ليتأمّل تاريخ الفنّ وعراقة الابداع في متاحف روما حيث ينبني العمل الفني على علاقة الجمال بالكمال ثم على علاقته بالانسان والطبيعة منذ بروز الرسّام الايطالي جوتو.إن اللوحات التي اشتهر بها عصر النهضة الأوروبية بإيطاليا قد حوّلت قوانين الطبيعة إلى قواعد فنيّة في فنّ الرسم والتزويق والمعمار. وهكذا تمكّن إبراهيم الضحّاك من ملامسة كنوز الفنّ الأوروبي وتأمّل الدّرس الكبير الذي قدّمته النهضة إلى تاريخ الفن بأعمال بروقل كارافاج، الغريكو وغيرهم من معلمي الفنّ الكلاسيكي والحديث. ثم اتجه نظره إلى مدارس الفنّ الحديث في بداية القرن العشرين مثل التيّار المستقبلي لدى جياكوموبالا، حيث يتخلّى عن المفاهيم والقواعد المتعارفة لصالح التعبير عن الحركيّة الكونيّة التي تحكم الأشكال المرسومة. لقد أصبحت الصورة نتاج تفاعل بين الذاكرة والملاحظة. وهو ما نلاحظه في الايقاع الحركيّ لعناصر اللوحة ومضاعفة طيف الشخوص والأشياء.

أمّا في مجال تيار الرسّم الماورائي فقد اهتمّ الضحّاك بأعمال الرسّام الايطالي جورجيو موراندي الذي اشتهر برسم الطبيعة الساكنة. إن بعض الأواني والزجاجات والأقداح تكفي لانشاء اللوحة. أمّا التنسيق الجديد لعناصر اللوحة فيؤدّي إلى خلق روابط تشكيليّة بينها. أنهى الضحّاك دراسته بمدرسة الفنون الجميلة بروما سنة 1961. وعاد إلى تونس. فهل سيجد في التراث التونسي من صور الذاكرة ما من شأنه أن يغني ثقافته في تاريخ الفنّ؟ بعد عودته، انشغل بفنّ الحفر على الخشب. كلّ أعماله المحفورة مفعمة بالحركة ولئن لم تبرز الحركة على مستوى الأشكال وموضوعات التشخيصيّة فإنّها تلوح بطبعها في الخطوط. فبفضل حركيّة الخطوط وتموّجاتها وسيولتها يراقص الفنّان شخوصه المرسومة. لقد انشغل الضحّاك بموضوع الجازية الهلاليّة. فهل سيحوّل الصورة الفنيّة من المستوى الشفوي والحكائي إلى المستوى الشكليّ والمرئيّ؟ وإلى أيّ مدى سيرتقي الفنّان بلوحته من تسجيليّة الذاكرة الشعبيّة إلى إبداعيّة الرؤية الجماليّة؟

السيرة الهلالية لإبراهيم الضحاك

في مجموعة الجازية الهلاليّة، التي شرع الضحّاك في عرضها سنة1973، ساعد السياق الملحمي على تنشيط عنصر الحركيّة على مستوى الأشكال. لقد تناول الضحّاك أفراح الصّحراء ومعاركها من داخل جماليّة ملحميّة وحركيّة، تستفيد من الحركة الخطيّة والشكليّة، تلك التي يستفزّها الوضع البطولي للشخوص المرسومة.هل وجد إبراهيم الضحّاك في مثل هذه المدوّنة الشعبيّة ما يكفي لتأصيل شوقه إلى ثقافة الصّورة؟ في الكثير من محفوراته، يفرد الضحّاك مكانة مهمّة للجياد والخيول والفرسان، فضلا عن الابل. وذلك لما لها من حضور قويّ في المخيال الشعبي. إنّ صدق التعبير الفنّي يسترجع صدق الذاكرة في علاقتها بالعالم والأشياء.أمّا مجموعة السمك التي شرع فيها الضحّاك في سنوات الثمانينات فهي تؤكّد كيف أنّ اللّوحة الحفريّة لم تعد هيكلا شكليّا بل أضحت أيضا مسارا لونيّا. ففي لوحة بائع السمك، يستفزّنا النظر إلى حدّة التضاربات اللونيّة الجريئة التي بين الأزرق والأحمر.ولكن اللوحة الفنيّة ليست مجرّد انفعالات عابرة. إنّها بنية تقنيّة تنشأ داخل مقاييس الذهن والادراك. إنّ فنّ الضحّاك مزيج من الذاكرة الرمزيّة والملاحظة المباشرة. إنّه حفر في ثقافة الصّورة الفنيّة.

ولكن استقرار الضحّاك بسيدي بوسعيد، بعد عودته من أوروبا وانضمامه إلى جماعة مدرسة تونس، قد فتحا آفاقا جماليّة أرحب في لوحاته التي أنجزها بالرسم الزيتي بداية من سنة 1975. وهي تجربة تستلهم مقوّماتها الفنيّة من جماليّة المدينة التونسيّة، عندما تتجلّى من خلال أجواء سيدي بوسعيد. إنّ زرقة النوافذ والأبواب والحديد المطرّق تربط بياض الجدران بأزرق البحر والسماء. لقد ظلّ إبراهيم الضحّاك في مثل هذه النماذج الزيتيّة يقسّم اللوحة إلى أشرطة ومستويات متراتبة على نحو أفقي. وذلك للسيطرة على مواطن الحركة وتوجيهها إيقاعيا. إنّ إيقاع الخيول والإبل وتواتر السيقان قد تواصل في إيقاع الأعمدة بمقهى العالية. ولكنّ هذا الانتقال من أفق الصحراء إلى تقسيمات الفضاء داخل المدينة أو من رمال الجنوب إلى معمار سيدي بوسعيد هو انتقال على مستوى الرؤية الجماليّة إلى العالم. إنّ مقهى العالية بسيدي بوسعيد، موضوع بحث فيه الفنّان كثيرا لايجاد التناسب الجمالي ما بين خصوصيّة الفضاء وتركيبة الشخوص.وسواء تعلّق الأمر بهذه المشاهد المستمدّة من الحياة اليوميّة، أو بسهرات المالوف والتفاف الناس حول الطاولة والمائدة أو بغيرها من المشاهد التونسية، بأحلامها الشرقيّة الملوّنة وطابعها الاحتفالي، فإنّ بنية اللوحة تستمدّ أصولها من تقسيماتها الأفقيّة، كما في فنّ الحفر (المشاهد الصحراويّة المحفورة وإيقاع حركة الجمال)، أو من حركيّتها الدائريّة التي يمكن أن نجد لها صدى في تراث المنمنمات. ويؤكّد مثل هذا الفضاء المشحون حميميّة الاجتماع في التراث الاحتفالي التونسي. وبقدر ما تبدو فرشاة الضحّاك حنونا ودافئة، تستبطن نوعا من الخشونة في تصريف الألوان. فلا يهتمّ الفنّان بتفاصيل الشخوص وزخارفها. بل يبرز بنية التقائها الحركي.

إنّ لوحة الضحّاك انعكاس لبيئتها... فهي تحتكم إلى بعد حكائيّ عفويّ. ولعلّ من مميّزات هذه التجربة أنّها بتنقلها بين موضوعات متنوّعة وتقنيات مختلفة تبدو من السّعة والامتداد بحيث يصعب حصرها.وقد نعثر على خيط خفيّ يربط مدارات هذا الفنّان في ذلك البحث الدّؤوب عن الحركة وممكناتها التشكيليّة ما بين خط وشكل أو رسم ولون، إذ تبدو اللوحة مفعمة بالحركة، حتى وإن تعلّق الأمر بطبيعة ساكنة.