يهود تونس

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
يهود تونس سنة 1900

تعتبر الكثير من الدراسات التاريخية أن اليهود من أقدم السكان في البلاد التونسية والشمال الإفريقي بوجه عام وأنّهم كانوا موجودين بها منذ أن حلّ الفينيقيون في القرن الثاني عشر قبل الميلاد وأسسوا أوتيكا في شمال شرقي البلاد محطة لجلب النحاس من المناطق الإيبيرية، مستندين في ذلك إلى ما أوردته التوراة عند ذكرها لترشيش. بل ذهب الأمر ببعضهم إلى اعتبار أنّ مدينة تونس البربرية هي في الأصل ترشيش. وهنالك من يذهب إلى أنّ وجود اليهود في البلاد التونسية يعود إلى القرن السادس قبل الميلاد، أي مباشرة إثر السبي البابلي في سنة 586ق. م.، معللين ذلك بوجود كنيس "الغريبة" المقام، حسب الأسطورة منذ ذلك الوقت، في جزيرة جربة. ومهما يكن من أمر، فإنّ وجود اليهود في البلاد التونسية قديم، خاصة في العهد الروماني. فالمصادر الأثرية والتاريخية تؤكّد أنّ هذا الحضور يعود إلى القرن الثاني بعد الميلاد. فالآثار التي عثر عليها القسّ ديلاتر (Delattre) في قمرت في أواخر القرن التاسع عشر وكنيس نارو (حمام الأنف حاليا في الضاحية الجنوبية لتونس العاصمة) التي أرّخ لها أرناست رينان (Ernest Renan)، خير دليل على ذلك. أمّا المصادر التاريخية المكتوبة، فإنّها لم تشر إلى وجودهم إلا في تلك المرحلة. فقد تناولهم ترتليانوس بالنقد والتشهير للدور الذي اضطلعوا به مع السلطات الرومانية للتنكيل بالمسيحيين، ثم لعدم اعترافهم بالديانة السماوية الجديدة. كلّ هذا، لم يمنع اليهود، في البداية، من القيام بعملية التبشير بديانتهم لدى الأهالي البربر، إلى درجة أنّ بعض هؤلاء دانوا باليهودية وظلوا عليها إلى يومنا هذا، مثل أولاد البحوسي الرحّل في الشمال الغربي.

لم يسلم اليهود المنتشرون طيلة العهد الروماني في الكثير من المدن، مثل قرطاج، وأوتيكا، وهنشير الداموس قرب القيروان، وهدروماتوم (سوسة حاليا) ونيابوليس (نابل حاليا) وكلوبيا (قليبيا حاليا) ونارو، من القمع والتبعات. وهذا ما جعلهم يسارعون إلى التحالف مع الوندال عندما هجموا على قرطاج سنة 429م، أملا في تغيير أحوالهم. ولكن سرعان ما ساءت أوضاعهم بقدوم البيزنطيين، خاصة في عهد الإمبراطور جوستنيان (527 - 565) الذي أصدر أوامر صارمة إزاءهم لاجبارهم على اعتناق المسيحية. فقد حوّل معابدهم إلى كنائس ومنعهم من ممارسة طقوسهم الدينية. ورغم إلغاء هذه القوانين من الإمبراطور موريس (602 - 582)، فقد ظلت وضعيتهم سيئة، فلم تتضح معالم حياتهم ولم يتمتّعوا بالأمان إلا بعد انتشار الإسلام في الشمال الافريقي، رغم محاولة التصدّي للمسلمين من قبل البربر، خاصة من قبل الكاهنة التي زعم الكثيرون منهم أنّها يهودية، ولكنها في الواقع، على ما وضّحه محمد الطالبي (الموسوعة الإسلامية، لندن، الجزء الرابع، ص ص 440 - 442). قد تكون مسيحية في حين رجّح محمّد حسين فنطر (مجلة ريبال،1987، III )أنّها قد تكون وثنية، على عكس ما أقرّه ابن خلدون.

بانتشار الاسلام وإقامة مدينة القيروان، ظهرت طائفة من اليهود التجار والحرفيين وتزامن توطينهم مع قدوم عقبة بن نافع، ثمّ موسى بن نصير. وعلى عكس ما أُشيع، لم تكن مدينة القيروان محرّمة عليهم. بل أقاموا فيها ونشطوا في إطار طائفة مهيكلة، تنعم بالأمان والاستقلالية، مثل بقية أهل الذمّة. لقد أكّدت الوثائق المصرية التي تخصّ الفترة الممتدّة بين القرنين التاسع والثاني عشر الميلادي، أهمية النشاط التجاري بين يهود إفريقية ويهود مصر سواء في القاهرة أو الاسكندرية.

ولم يقتصر إسهام اليهود في الفترات الأغلبية والفاطمية والصنهاجية على التجارة. وإنما شاركوا أيضا في الحياة الثقافية والعلمية، خاصة منها الطبية والفلكية، لمدينة القيروان. فقد برز في ميدان الطب، في العهد الأغلبي، إسحاق بن سليمان الاسرائيلي وتلميذه إسحاق بن عمران. وتنوّعت مشاركات إسحاق بن تميم في الطبّ والرياضيات وعلم الفلك. وتميّز أيضا في الدراسات التلمودية الحبر يعقوب بن نسيم بن شاهين ثم خلفه على رأس الطائفة تلميذه حنانيل بن حوشيل، مؤسس المدرسة التلمودية بالقيروان في أواخر القرن العاشر وقد ضاهت أو تكاد مدرسة بغداد التلمودية.

ورغم ما واجهته الطائفة اليهودية من ظروف قاسية إثر الزحف الهلالي في منتصف القرن الحادي عشر، ورغم ما تعرّض له أفرادها من قمع وملاحقات في الفترة الموحديّة منذ منتصف القرن الثاني عشر إلى حدود الستينات من القرن الثالث عشر - رغم الحماية التي حصلوا عليها في بدايات القرن الحادي عشر من الوليّ الصالح محرز بن خلف المُلقب بسلطان مدينة تونس - فقد تمتّعوا في العهد الحفصي بالاستقرار والنموّ والازدهار. ولا يعني هذا أنهم لم يتعرضوا في هذه الفترة لبعض المضايقات، مثل حمل "الشكْلة" (وهي قطعة من القماش توضع مثل العمامة على الرأس مازال اليهود عموما متمسكين بها) التي أقرّها المستنصر الحفصي (1249 - 1277). ولكنها كانت أشكالا عرضية لم تحل دون خروجهم من عزلتهم وتأقلمهم مع المجتمع الحفصي والمشاركة في الحياة اليومية اقتصاديا واجتماعيا، متنقلين بين البوادي والأرياف لعرض سلعهم، مسهمين في التجارة الصحراوية لجلب التبر والذهب والعاج وريش النعام من مناطق إفريقيا السوداء، متاجرين في المعادن الثمينة والأقمشة الصوفية والملابس والجلود. وامتهنوا أيضا في المُدن الكبرى، وخاصة العاصمة، الكثير من الحرف مثل صناعة الحلي والمجوهرات والصباغة والدباغة والحدادة والنجارة والخياطة. وهو ما جعلهم يندمجون في الدورة الاقتصادية. لم يكن اليهود وبالأخص منذ العهد الحفصي مُقصين عن النشاط اليومي. ولم يكونوا يعيشون على هامش المدينة، مثلما كان الحال آنذاك في مختلف الأصقاع الأوروبية. بل كانوا جزءا من نسيج المدينة العتيقة، لهم حارة خاصة بهم لكنها منفتحة على بقية الأحياء.

فحارة اليهود في تونس العاصمة توجد داخل أسوار المدينة بين ربض باب السويقة، حيث يوجد مقام الوليّ الصالح محرز بن خلف وربض باب البحر. وهي ليست منغلقة على نفسها وليس لها أبواب تُغلق عند الغروب، مثلما أشار إلى ذلك بعض الرحالة الأوروبيين، لأنهم لم يفهموا وجود دروب في بعض الأزقة التي يسكنها أثرياء اليهود وقد أقاموها، مثل أثرياء المسلمين، لحماية منازلهم. وظلّ اليهود ينعمون في هذه الحارة التي تقيم بها بعض العائلات المسلمة في حماية سيدي محرز، الذي جعلت منه الأسطورة حامي حمى اليهود.

وهي الأسطورة التي مازال التونسيون يتداولونها رغم ما يشوبها من تفاصيل تدحض مصداقيتها وتجعل بعض المؤرخين يشككون فيها (برناشفيك، تاريخ إفريقية في العهد الحفصي، 1988، وبول صباغ، تاريخ يهود تونس، 1991) وعلى كلّ، قد ظلت هذه الأسطورة سارية إلى درجة أنّ يهود تونس لا يقسمون إلا باسم سيدي محرز وأنّ بعض الأئمّة المسلمين يستشهدون بها في خطب الجمعة باعتبارها علامة من علامات التعايش بين المسلمين واليهود. عندما تعرض المسلمون واليهود إلى الملاحقات والقمع من المسيحيين في الأندلس، هاجر الكثير منهم إلى تونس منذ سنة 1492، خاصة بعد قرار الطرد الذي اتخذته السلط الاسبانية بعد سقوط غرناطة. واستقبل "الطوشانيم" أي اليهود المحليون "الميغوراشيم" أي المطرودين، مثلما استقبل المسلمون من الأهالي الأندلسيين. واستحسنت السلط الحفصية قدومهم حتى يسهموا في تنشيط الحياة الاقتصادية والتجارية، لما لهم من علاقات مع أوروبا، وخاصة مع من هرب من يهود الأندلس في اتجاه إيطاليا وفرنسا وهولندا.

وطيلة العهد العثماني، وفي عهد عثمان داي (1598 - 1610) بالذات، تعاقبت على البلاد التونسية موجات أخرى من المهاجرين الأندلسيين المسلمين واليهود "السيفيراديم" (نسبة إلى يهود إسبانيا). ولئن قدم بعض هؤلاء من إسبانيا مباشرة، فقد حلّ الكثير منهم من مدينة ليفورنو الايطالية المعروفة لدى التونسيين باسم "القرنة". فأطلق عليهم اسم يهود القرانة. بل صار كلّ اليهود القادمين من أوروبا، يُنعتون بهذا الاسم، خاصة أنهم أقاموا في وسط المدينة العتيقة سوقا تجارية تحمل إلى اليوم اسم سوق القرانة.

لقد استطاع يهود القرانة، بحكم ثرواتهم وتجارتهم مع البلدان الأوروبية، أن يفرضوا أنفسهم على الأهليين من اليهود وعلى السلطات العثمانية في الوقت نفسه إلى درجة أنهم أمسوا منذ سنة1685، حسب الوثائق التجارية لقنصلية فرنسا، جالية مستقلة وأضحوا يعتبرون أنفسهم أمّة. بل عملوا، بحكم احتقارهم لليهود المحليين وإرادة التميّز عنهم، على مطالبة السلطة الحسينية بالانسلاخ عن اليهود الأهليين للتملص من الضرائب التي أرادت رئاسة الطائفة الأهلية أن تفرضها عليهم. وكان لهم الأمر كذلك في سنة 1710 في عهد حسين بن علي وهو في أوج قوّته، وكذلك في سنة 1743 في عهد علي باشا. وبذلك أصبحت الطائفة اليهودية منقسمة إلى قسمين: يهود "القرانة" من ناحية وأغلبية من اليهود "التوانسة" من ناحية أخرى. وكأنّ القسمين أغراب بعضهم عن بعض، إذ قلما تُعقد بين أبنائهم المصاهرات. وأصبح لكل قسم من القسمين صندوقه الخيري الخاصّ ومسلخه وضرائبه وحتى مقبرته. كان يهود القرانة متعالين، يحتقرون اليهود التوانسة، إلى درجة أنّ هؤلاء طلبوا من حاخام قدم إلى البلاد من القدس سنة 1753 أن يجيزهم بالقضاء ولو جسديا على يهود القرانة، بل إنّهم اتهموا هؤلاء في السنة نفسها لدى الباي علي بن حسين بالكفر وعدم الانتماء إلى الملّة اليهودية لأنهم يأكلون لحم الخنزير. وربما لم تتخذ السلطة أي إجراء ضدّهم نظرا إلى الدور التجاري الذي كانوا يقومون به خاصة فيما يتعلق بالتوسط لفدية أسرى النصارى في عمليات القرصنة.

ظلت الأمور على حالها. وكان يهود القرانة، رغم الامتيازات التي حصلوا عليها، يعتبرون أنفسهم إيطاليين. ومنذ اندلاع الثورة الفرنسية سنة 1789 وصدور القوانين الخاصة بمنح اليهود المواطنة الفرنسية سنة 1792، سعى الكثير منهم في تونس إلى الحصول على الجنسية الفرنسية أو على حماية القنصليات الأوروبية، وخاصة الإيطالية. لكن السلط المحلية ظلت تعتبرهم من رعاياها. وظلّ هذا التمسك قائما حتى في عهد "الحماية الفرنسية" رغم المحاولات الكثيرة التي قام بها اليهود في بدايات القرن العشرين للحصول على الجنسية الفرنسية.

بلغ عدد اليهود في أواسط القرن التاسع عشر قرابة الثلاثين ألف نسمة في العاصمة، مع بعض الآلاف الآخرين في أهمّ مدن الإيالة وخاصة منها الساحلية. فكان النصيب الأوفر منهم متجمعا في العاصمة في الحارة داخل أسوار المدينة العتيقة. ولكن نظرا إلى تكاثر عددهم وضيق مساحة الحارة، شرع بعض أثرياء اليهود وخاصة يهود القرانة، بعد أن سمح لهم الصادق باي بذلك في 1860، في الخروج من المدينة العتيقة للاستقرار في المدينة الحديثة التي بدأت تظهر معالمها إثر صدور "عهد الأمان" في سبتمبر 1857، نتيجة ضغوط دولية مارستها كلّ من فرنسا وإنقلترا، إثر حادثة إعدام اليهودي باتو سفاز في السنة نفسها بتهمة شتم الرسول (صلعم). فعهد الأمان هذا، الذي اعتُبر بمنزلة أوّل دستور في البلاد، تعهّد فيه الباي بحماية جميع السكان واحترام حقوقهم ونفوسهم وممتلكاتهم، دون استثناء للمسيحيين واليهود. وهذا ما جعل الكثير من هؤلاء، وخاصة يهود القرانة، يهرعون إلى السّكنى في المدينة العصرية، مبتعدين عن الحارة ومجالها الذي بدأ يضيق.

عظم شأن يهود القرانة منذ الستينات من القرن التاسع عشر، بحكم تمكنهم من السيطرة على جزء كبير من التجارة الخارجية، مثل تصدير الزيت والصوف والجلود والحبوب وتوريد المعادن والخشب والمواد المصنّعة. فكثرت مطالبتهم بالحصول على "شهادات" جنسية من القنصليات الأوروبية، التي بدأت معالم النيّات الاستعمارية لبلدانها تتضح شيئا فشيئا، مغتنمين في الوقت نفسه الأزمة المالية الخانقة التي كانت تمرّ بها إيالة تونس لاقراض الباي أو التوسط لفائدته لدى البنوك الأوروبية حتى يوفروا له سيولا مالية بفوائض ربوية مشطة. وممّا زاد في تعميق هذه الأزمة فرار قايد اليهود نسيم شمامة إلى إيطاليا حاملا معه كميات كبيرة من أموال الدولة، بحكم أنّ حسابات الخزينة كانت بين يديه. وعندما أصدر الباي محمّد الصادق سنة 1861 دستورا، (الأوّل في العالم العربي - الاسلامي)، اقترح تعيين يهود من المستشارين في المجلس الكبير (البرلمان) وهو ما أدى إلى نشوب جدل بين أحمد بن أبي الضياف المساند لهذا الاقتراح وأمير الأمراء الجنرال حسين صديق خير الدين باشا وأمين سره الذي عارض هذه الفكرة باعتبار أنّ المقترحين من يهود الڨرنة، يمثلون المصالح الأجنبية أكثر من تمثيلهم المصالح الأهلية.

تزايد نفوذ اليهود المالي، منذ ستينات القرن التاسع عشر واتخذتهم فرنسا ذريعة للتدخل في شؤون البلاد بدعوى حماية محمّييها اليهود - وفرض حمايتها على العائلة الحسينية من ناحية والبلاد من ناحية أخرى في 12 ماي 1881. ابتهج اليهود عموما بإقامة فرنسا نظام الحماية على الإيالة التونسية، ورأوا أنهم سيغنمون الكثير من الامتيازات على غرار يهود الجزائر، الحاصلين على المواطنة الفرنسية منذ أكتوبر 1873، بفضل قانون كريميو (Crémieux). وأقبل اليهود التوانسة بعد قيام الحماية على أنموذج الحياة الغربية، باستثناء يهود جربة الذين حافظوا على تقاليدهم القديمة. فتخلوا بسرعة عن المدارس التلمودية، رغم بقاء بعضها، والتحقوا بمدارس "الرابطة اليهودية العالمية" التي فتحت أبوابها في تونس منذ سنة 1878 لتعلّم اللغة الفرنسية والنهل من الثقافة الغربية على أمل الحصول على جنسية الدولة الحامية والتحوّل من وضعية الرعايا الخاضعين لسلطة البايات إلى مواطنين فرنسيين من الدرجة الأولى.

وانتشرت مدارس الرابطة المذكورة في أهمّ المدن، مثل سوسة وصفاقس. فأمسى عدد تلامذتها قبل الحرب العالمية الأولى 3.500 تلميذ، في حين التحق أكثر من 5.000 آخرين بالمدارس العمومية والخاصة. وبذلك بدأت عملية فرنسة الجالية اليهودية، خاصة التوانسة منهم، إلى درجة أنّ الكثير منهم غيروا أسماءهم العبرية بأسماء فرنسية، مثل يوسف باسم جوزيف ويعقوب باسم جاكوب وموشى باسم موييز. ووصل الأمر بهم إلى عدم التخاطب إلا باللغة الفرنسية، متناسين بذلك لهجتهم العبرية - الغربية. وفي إطار هذا التوجه الفرنسي تواصل خروج اليهود الميسورين من الحارة للاقامة في الأحياء الأوروبية المستحدثة وخاصة في المناطق المحيطة بالمقبرة اليهودية (حديقة الحبيب ثامر حاليا)، أي بشارع لندن وشارع مدريد وحي لافيات. ولكن رغم ظاهرة الفرنسة هذه والارتماء في أحضان فرنسا للحصول على مزيد من الامتيازات، فقد ظلّ يهود القرانة متمسكين بهويتهم الإيطالية، آملين في أن تحل إيطاليا محلّ فرنسا في الإيالة التونسية. وهذا ما جعل الكثير من الفرنسيين، وعبر جريدة "تونس الفرنسية" تشنّ عليهم حملة في أواخر سنة 1892، مؤاخذة إياهم، وجميع يهود تونس، على نزعة الهيمنة التي تحدوهم وسعيهم إلى تكوين "دولة في صلب الدولة".وعندما اندلعت في فرنسا قضية درايفوس (1898)، جدّت بالجزائر وتونس أعمال عنف ضدّ اليهود وحملات تشهيرية تدخل في إطار المعاداة للسامية المستفحلة آنذاك لدى غلاة الاستعماريين.

جعلت هذه الأحداث فيما بعد، وخاصة منذ سنة 1905، الكثير من اليهود التوانسة المتخرجين في المدارس الفرنسية ومدارس "الرابطة اليهودية العالمية" يطالبون بمقاضاتهم لدى المحاكم الفرنسية، باعتبار أنّ المحاكم الحاخامية خاضعة للمحاكم الشرعية الأهلية أو بتمكينهم مباشرة من الجنسية الفرنسية على غرار يهود الجزائر. لقبت هذه الحركة المطالبة بالجنسية الفرنسية لكلّ اليهود، التي تزعمها المحامي مردخاي سماجة، معارضة شديدة من قبل حركة "الشباب التونسي" الذين كانوا يعتبرون أنّ يهود تونس هم أساسا مواطنون تونسيون، لهم حق المطالبة بإصلاح المحاكم الحاخامية، مثلما يطالب التونسيون المسلمون بإصلاحات في المحاكم الشرعية الأهلية. ورغم ذلك، فقد أصدرت سلطات الحماية قانونا في أكتوبر 1910 يمكّن اليهود الحاصلين على شهادة الدكتوراه من التمتع بالجنسيّة الفرنسية. وذلك في إطار عملية تعجيزية، لأنها كانت ترغب في تجنيس أقلية من يهود القرانة، للتخلص من التأثير الايطالي. وفي الوقت نفسه، أي في سنة 1911، وفي جانفي تحديدا، تأسست أول منظمة صهيونية، بتوجه لائكي، تحمل اسم "أغودات صهيون" سرعان ما انقسمت في سنة 1914 لتظهر منظمة صهيونية أخرى، ذات طابع ديني أطلق عليها "يوشبات صهيون". وكان هدف المنظمتين تحريض اليهود على الهجرة إلى فلسطين والعمل على جمع الأموال لفائدة "القيرن قائمة إسرائيل" و"القيرن قائمة حاسيود". وهما الصندوقان التابعان للمنظمة الصهيونية العالمية والمكلّفان بتمويل المستعمرات التوطينية في فلسطين.

إثر الحرب العالمية الأولى، حاول الوطنيون، وخاصة منهم مناضلو الحزب الحرّ الدستوري التونسي، استمالة يهود تونس إلى النشاط الوطني. فأشركوهم في الوفود الحزبية إلى فرنسا للمطالبة بإصلاحات وخاصة الوفد الثالث سنة 1921. بل أسسوا معهم "لجنة عربية - يهودية للمطالبة بالاستقلال". وهذا ما جعل فرنسا تتساهل أكثر فأكثر مع اليهود فيما يتعلق بتمكينهم من الجنسية الفرنسية، حتى تقوّض التقارب الإسلامي - اليهودي. فأصدرت قانونا في سنة 1921 يمكّن اليهود الحاصلين على الإجازة من الجنسية الفرنسية، بغية جعل يهود الڨرنة يهرعون للحصول عليها ويتخلون عن موالاتهم لإيطاليا. ولكن دون جدوى، إذ ظلّ يهود الڨرنة متمسكين بانتمائهم الإيطالي. والملاحظ أنّه في العشرينات، أسهم الكثير من اليهود، وخاصة منهم التوانسة، في الحياة الثقافية، مثل السينمائي شيكلي والفنان الشيخ العفريت والمطربيتين لويزة التونسية وحبيبة مسيكة التي حرقها أحد اليهود المتيّمين بها في أواخر شهر رمضان سنة 1930. وحضر جنازتها جمع غفير من المسلمين، لأنها تجرأت في أحد عروضها المسرحية على الالتفاف بالعلم التونسي وإنشاد نشيد الثورة.

وفي الثلاثينات نما النشاط الصهيوني في الأوساط الشعبية اليهودية. فتعددت زيارات مسؤولين عالميين عن هذه الحركة. ولكن وجدت هذه الزيارات مناهضة عنيفة من الوطنيين، وخاصة الشاذلي خير الله الذي تمكن من إفشال زيارة فلاديمير جابوتنسكي الصهيوني اليميني المتطرف ورئيس المنظمة العالمية الصهيونية الجديدة، الداعية إلى تأسيس الدولة اليهودية الكبرى من النيل إلى الفرات، إلى تونس سنة1931، كما نظّمت الشبيبة الدستورية مظاهرات في جانفي 1937 احتجاجا على زيارة هالبارن ووصول الباخرة الحربية الايطالية - الصهيونية سارةI. بتنامي الحركة الفاشية والنازية في أوروبا وحتى في شمال إفريقيا لدى الجاليات الأوروبية وإقامة الحلف الحديدي بين هتلر وموسيليني، أصدرت حكومة فيشي سنة 1941 القوانين المعادية لليهود، حارمة إياهم من الوظيفة العمومية ومن العمل في الصحافة والمسرح ومقلّلة من عدد الأطباء منهم والمحامين والصيادلة، ومن ثمّة إقصائهم عن الدورة الاقتصادية والحدّ من تأثير يهود الڨرنة.

وفي أثناء الاحتلال الألماني لتونس (نوفمبر 1942 - ماي 1943) تعرض اليهود التوانسة بالأخص إلى تتبعات ومضايقات من القوات الألمانية التي فرضت عليهم العمل الاجباري وألزمتهم بدفع غرامة مالية جماعية وحمل شارة النجمة الصفراء المهينة، في حين حصل بعض يهود الڨرنة على حماية إيطاليا الفاشيّة. فلم يلاحقوا، كما أخفت عدّة عائلات أهلية الكثير منهم في منازلها حتى لا تشمل هؤلاء اليهود الملاحقات، خاصة أنّ محمد المنصف باي صرّح في عّدة مناسبات بأنّ جميع رعاياه من مسلمين أو يهود يحظون بحمايته ورعايته. وقد أكد ذلك للمقيم العام الفرنسي دي إستيفا عندما زار الباي في قصره بالمرسى. وقد أوردت جريدة "البتي متان" اليهودية هذا البيان في عددها الصادر يوم 25 جوان 1942.

حين انهزمت قوات المحور في منتصف سنة 1943 عُزل المنصف باي بتهمة التعامل معها والحال أنّه لم يبد أي تعاون. بل حرص على ملازمة الحياد. ثمّ ألغت قوات الحلفاء ومنها فرنسا المنتصرة قوانين نظام فيشي العنصرية.ودفعت تعويضات مالية لليهود، كما ألغت كلّ التضييقات على نشاطهم الاقتصادي وأعادت الموظفين منهم إلى وظائفهم. غير أنّ سلط الحماية بادرت إثر انتصار الحلفاء بمصادرة أملاك الايطاليين ومنهم يهود الڨرنة. فسارع هؤلاء بطلب الجنسية الفرنسية للمحافظة على أملاكهم وتأثيرهم في صلب الطائفة اليهودية التي نما عددها وكثر عدد المتمدرسين من أفرادها (14.000 سنة 1955)، مسهمين في الحياة الاقتصادية والثقافية باللغة الفرنسية، أكثر منها اللغة العربية أو العبري - عربية التي تخلوا عنها نتيجة حركة الفرنسة. بل إنّ الصحافة العبري - عربية التي ازدهرت فيما بين 1884 و1930، انحسرت إن لم نقل انقرضت بعد أن صدر منها أكثر من أربعين عنوانا في الفترة المذكورة. ولم يبق منها إلا عنوان واحد. وهو الأسبوعية "النجمة" التي صدرت في سوسة لصاحبها المسرحي مخلوف نجار والتي تواصل صدورها إلى حدود سنة 1963.

ونظرا إلى المشكلات التي كانت قائمة بين يهود الڨرنة واليهود التوانسة نتيجة لانقسام المجموعتين منذ سنة 1710، دفعت سلط الحماية الباي إلى إصدار أمر عليّ يلغي بمقتضاه هذا الانقسام ويوحّد بين المجموعتين في إطار "مجلس طائفي" موحّد بإشراف الحكومة. عندما تمكنت فرنسا إثر الحرب العالمية الثانية من استعادة سيادتها وهيمنتها على مستعمراتها، تطوّرت الحركة الصهيونية في تونس وفي غيرها من أنحاء المعمورة، خاصة بعد قرار التقسيم لسنة 1947، ثمّ تأسيس الدولة الصهيونية سنة 1948 على أرض فلسطين. فبدأت هجرة عدد من فقراء اليهود التوانسة إلى فلسطين للاستقرار في بئر السبع ونتانيا والقدس. وقد كانت هذه الهجرة محتشمة رغم أنّ سلطات الحماية لم تبد أي معارضة، لأنها كانت تريد التخلص من هؤلاء اليهود. ورغم ذلك، فإنّ التونسيين، المساندين للقضية الفلسطينية، - وقد تطوّع الكثير من الشبان للتحوّل إلى جبهة القتال - لم يأتوا بأيّ عمل شائن إزاء اليهود الذين فضلوا البقاء في البلاد، حتى وإن كانوا مساندين لفرنسا. وصدرت آنذاك الأوامر من الكاتب العام للحزب الحر الدستوري الجديد، صالح بن يوسف، بعدم التعرض بسوء "لإخوتهم اليهود". عندما اندلعت الثورة المسلحة في بداية الخمسينات من القرن العشرين، توخى اليهود سياسة الحذر واكتفوا بالمطالبة بحلّ وسط في النزاع التونسي - الفرنسي. فقد كانوا متخوفين من إمكان حصول البلاد التونسية على سيادتها، بحكم أنّ معظمهم حصل على الجنسية الفرنسية. وعندما حصلت البلاد على استقلالها لم يعد لليهود المتجنسين من حقوق سوى التي يتمتع بها الأجانب. أمّا اليهود الحاملون للجنسية التونسية، فقد سعت حكومة الاستقلال إلى إدماجهم في المجموعة الوطنية في ظلّ قانون مدني يكفل حقوق المواطن.

لم تتغافل حكومة الاستقلال عن اليهود. بل أشركتهم في الحياة السياسية. من ذلك أنّه عيّن وزير يهودي في الحكومة التي تأسست غداة الحكم الذاتي في جوان 1955 وفي أوّل حكومة بعد الاستقلال التام في مارس 1956، كما انتخب نائب يهودي في المجلس التأسيسي سنة 1956 هذا المجلس الذي التأم لوضع دستور للبلاد سنة 1959، وانتخب نائب يهودي في المجلس التشريعي الأول في سنة 1959 والثاني سنة 1964.

ولكن الاصلاحات التي قامت بها الحكومة الوطنية في عدّة مجالات، رأى فيها اليهود منحى عربيا - إسلاميا، خاصة أنّ دستور سنة 1959 أقرّ بأنّ تونس دولة عربية دينها الاسلام. فاعتبروا أنّ هذا الإجراء بمنزلة الاقصاء. ففضل الكثير منهم الهجرة إلى فرنسا، معتبرين أنّ اندماجهم هناك سيكون أسهل. ولكن ظلت الطائفة اليهودية موجودة. ورغم سياسة التعاضد وتجربة القطاع العام في الستينات من القرن الماضي. التي أضرت بالكثير من المؤسسات التجارية اليهودية وبالمسلمين أيضا، فقد ظلّ اليهود متعلقين ببلدهم الأصلي وبمسقط رأسهم. ولكن أحداث العنف التي جدّت في جوان 1967 تزامنا مع هزيمة الجيوش العربية، أدت، رغم تطمينات الزعيم الحبيب بورقيبة، إلى هجرة الكثير من الشبان اليهود سواء إلى فرنسا أو إلى إسرائيل عبر فرنسا، في حين خيّرت عدّة عائلات يهودية، وخاصة كبار السنّ، البقاء بالبلاد. فتقلص بذلك عددهم بنسبة كبيرة إلى درجة أنّه لم يبق منهم سوى 2.000 نسمة تقريبا، معظمهم من المسنين، يتولى شؤونهم كبير الأحبار، يقيمون شعائرهم الدينية بكامل الحرية والطمأنينة. ولهم عضو في مجلس المستشارين.

كنيس الغريبة

والملاحظ أنّ معظم اليهود أصيلي تونس يأتون إليها في الكثير من المناسبات الدينية الخاصة بهم، كزيارة مقامات الأولياء الصالحين عندهم، مثل ربي يعقوب سلامة بنابل وربي يوسف المغربي بالحامة، كما يزورون سنويا في منتصف شهر ماي كنيس "الغريبة" بجربة. وهو أقدم كنيس في البلاد التونسية. وحوله تحوم الكثير من الأساطير.

ببليوغرافيا

  • Sebag Paul,Historie des juifs de Tunisie des origines à nos jours,Paris,L' Harmattan,1991
  • Tunis au XVIIe siècle:une cité Barbaresque au temps de la course,Ed,L'Harmattan,1989
  • Tunis ,Histoire d'une ville,éd L'Harmattan,Paris,1998
  • Sebag P et Attal Robert, L’évolution d'un ghetto nord africain:la Hara de Tunis,PUF,Tunis-Paris,1959
  • Taïeb Jacques,Les juifs livournais de 1600 à 1881,historie communautaire,historie plurielle:la communauté juifs de Tunisie,C.P.T,1999