نجيب بالخوجة

من الموسوعة التونسية
نسخة 09:27، 21 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1933 - 2007م]

ولد نجيب بالخوجة بتونس العاصمة سنة 1933 من أب تونسي وأمّ هولندية. تلقّى تكوينا أكاديميا في قيادة الطائرات في الخمسينات، ولكنّ ميله إلى فنّ الرسم كان أقوى من انشغاله المهني في مجال الطيران، كما كان يمكن لبالخوجة الشاب أن يلتحق بوالدته ويحصل على إقامة هولندية. لكنّه فضّل أن يبقى بحيّ "باب الجديد" بالعاصمة، حيث نشأ. وكان في هذا الحي قد تعرّف إلى الرسّام الإيطالي المقيم بتونس فابيو روكشجياني الّذي وجد فيه صدى لأفكاره الفنية فتفاعلا.

وبعد أن أدركت تجربة هذا الشاب النضج في أواخر الخمسينات (وقد تجسدت في الأعمال التي عرضها ولقيت استحسان الفنانين والنقاد الطّلائعيّين ومنهم الرسّام التونسي حاتم المكّي) التحق بورشة روكشجياني. وأسّس معه سنة 1962 "مجموعة السّتة" التي كانت تدافع عن مواقف ثقافية طلائعية وتنبذ التقليد وتتصدّى بالنقد لما يأتيه بعض الرسّامين الفرنسيّين المقيمين بتونس وعدد من جماعة مدرسة تونس من توظيف للتراث والفولكلور المحلّيّين، بدا لها سطحيّا. ثمّ نشطت "مجموعة السّتة" بنهج القاهرة في قلب العاصمة وقدّمت عدة معارض جماعية. وقد كانت تضمّ فضلا عن بالخوجة وروكشجياني كلاّ من التونسيّين لطفي الأرناووط و الصّادق قمش والفرنسيّين جوليات قرمادي وجون كلود ألان. وعندما لقيت أعمال بالخوجة صدى واسعا في بيانال باريس الدولي، كانت الفرصة سانحة للالتحاق بالحي الدولي للفنون بعاصمة الأنوار للحصول على إقامة به. وكان ذلك سببا رئيسا لتلاشي هذه المجموعة قبل عودتها سنة 6691 في صيغة أخرى. وهي "معرض الخمسة" الذي يُعدّ وريثا شرعيّا لها...

ويعتبر الرسّام التونسي نجيب بالخوجة من روّاد نزعة التحديث في ثقافة الفنون التشكيلية بتونس خاصّة وفي العالم العربي عامّة. وقد تجلّى ذلك في خصوصيّة أسلوبه الفنّي الذي بدأ إرهاصه في الخمسينات من القرن العشرين. وذلك من جهة تركيزه على استعمال الفعل الخطّي المتواصل، في لحظة الأداء، دون رفع القلم من الورقة. وقد أدّى هذا الخطّ المتواصل إلى تكوين فضاء متاهيّ يصهر الشكل التشخيصي الأوّلي داخل فضاء ممتدّ ذي عناصر شبه متجانسة. وبمثل هذه النتائج التي تمخّض عنها التشكيل المتاهي - وقد أضحى هندسيّا - يحيل الرسّام فيما بعد على صورة مّا لمعمار المدينة العربيّة أو إلى هيئة ما لكتابة تشكيليّة بالخط الكوفي الهندسي. وقد دفعت هذه اإاحالات بالرسّام إلى تدارك هذه الصّور وهذه الهيئات المستفادة والاشتغال بها باعتبارها موضوعات مستقلّة بذاتها داخل لوحة حديثة، لا تتعاطى مع صورة المدينة على نحو ما كان يبدو في الفنّ الساذج والفنّ شبه الانطباعيّ والتشخيصيّ السائدَين، أو على نحو ما كان يبد وفي التصاوير السياحيّة. بل كان موضوع المدينة اكتشافا داخل الفعل الفنّي وليس منطلقا جاهزا يحتّمه الحنين إلى الماضي.

ومن ثمّة، انبنت لوحة بالخوجة على رؤية فنيّة ذات مواقف ثقافيّة تتعارض مع المألوف في ممارسات الرسّامين الفرنسيين بتونس وتلامذتهم من التونسيين. وتنهل مبادئها من شروط التأصيل والتحديث على حدّ سواء. فأن نكون حداثيّين في نظر هذا الرسّام هو أن لا نتمسّك بتراثنا جثّة هامدة آتية من الزّمن التليد بل أن نؤكّد قدرة هذا التّراث على نقل فكرة الخلق والابتكار التي تسكنه إلى الزّمن الحاضر والأزمان اللاحقة.

وهكذا ربط بالخوجة تصوّره للشّكل الفنّي بذاكرة الأنا وتراثها الجمعي من جهة وبجدليّة تاريخيّة ينفتح فيها هذا الشّكل على الزّمن المتوثّب والخلاّق من جهة أخرى. وهو الذي راهن على الافادة من تراث الشكل الفنّي (المدينة - الخطّ العربي - الزربيّة) في الوقت نفسه الذي راهن فيه على الافادة من تاريخ الفنّ الحديث وخاصّة منه ما يتعلّق بثورة الأساليب التجريديّة في مستهلّ القرن العشرين، من قبيل أعمال الهولندي بيات موندريون والسويسري بول كلي.

ومثل هذه المواقف أكّدت أنّ الفنّ التشكيلي الذي يدافع عنه بالخوجة ليس مهارة تقنيّة أو خبرة بتقنية اللون وسحر الخطوط، بل هو أيضا خطاب ثقافي وفكر جدليّ له مرجعيّاته ما بين تاريخ الفنّ العربي الاسلامي وتاريخ الفن الحديث وتاريخ الفكر النّقدي والجدلي. وذلك ما أدّى ببالخوجة إلى أن يكون أبا الفنّ الطّلائعي والتجريدي التونسي داخل مجموعة الستّة، تلك التي أغنت السّاحة الثقافيّة بتونس بأفكار إبداعيّة ومواقف ثقافيّة بارزة، في الستينات والسبعينات على الأقل. وقد رافقت نزعات الطليعة والتجديد في واقع الفنون والاداب والفكر وقتذاك.

مثلما حظيت أعمال بالخوجة التي كان يعمل على إنجازها حتّى في آخر حياته، بمكانة لدى المؤرّخين والنقّاد التونسيّين والعرب عامة، فقد لقيت كذلك صدى في عدّة ربوع متوسّطيّة وخاصّة بفرنسا، منذ المشاركات اللامعة التي سجّلها بالخوجة ببيانال باريس في الستينات ومعارضه ببعض الأروقة الفرنسيّة والمركز الثّقافي الايطالي بتونس ومشاركاته بمعهد العالم العربي بباريس.ليس فنّ بالخوجة فنّا مجرّدا خالصا. إنّه نتاج فعل في الأشياء وصناعة تشكيليّة لمنظر العالم - المدينة، حتى يتوصّل إلى أشكاله التجريديّة. إنّه عمليّة تنقية واختزال. وبفضل هذا المسار الذي يخوضه الشكل، تتخلّص اللّوحة من المحتوى المشهدي المباشر لتصير إلى نسيج تشكيلي ذي عناصر تتحرّك إيقاعيّا وتتجانس مع تركيبة الحروف في الخط الكوفي. إنّ التجريد هو بمنزلة استثمار للبنى التشكيليّة في منظر العالم والأشياء. وهو مسار يؤكّد وحدة الرؤية وعمارتها. يقول نجيب بالخوجة في شهادة له سنة 1970 "وبفعل هذه التّنقية أو هذه التّعرية التي تؤدّي بي إلى انتزاع كلّ الزوائد والحفاظ على الهيكل، تمكّنتُ من إيجاد مقاطع حروف، بل ومقاطع كلمات أيضا".

ومثل هذا المسار التجريدي الذي تتماهى فيه العناصر المعماريّة مع الحروف، هو وجه من الذّكاء التشكيلي الذي ينشط داخل ممارسة دؤوبة للأشياء، تولّد خداعا فنيّا ولذّة جماليّة. وهو ما يتأكّد عندما "يتردّد الشكل ما بين اندثاره من جهة وإعادة تشكيله من جهة أخرى" أو عندما "يراوح نسيج اللوحة ما بين خلاء وملاء، سالب وموجب، وتتشكّل عمارة الرؤية في نوع من المتاهة، حيث تفضي العناصر إلى بعضها وتتقاطع الاتجاهات ما بين عمودي وأفقي". بمثل هذا التقاطع بين العمودي والأفقي تتوحّد خطوط المتاهة في شبكة اللوحة (وهو حلّ تشكيليّ قديم كما في الفنّ العربي الاسلامي) ويعيد إلى العناصر لحمتها وإلى النسيج وحدته بعد أن يفتت منظر الأشكال وتحليله. وهكذا، فبقدر تجذّر الشّكل الفنّي لدى بالخوجة في مرجعيّته التراثيّة والمحليّة (المعمار-الخط العربي - تشكيلات الزربيّة التونسية) يكون التقاؤه باللغة المعاصرة للفنّ التجريدي في نقائها الشكلي. إنّ مسار التنقية الشكليّة هو ولوج إلى كونية اللغة البصريّة وتواصل جمالي مع راهنيّة تاريخ الفنّ. فقد قامت لوحة بالخوجة على تشذيب الشكل وتحليله إلى مربّعات ومستطيلات وأنصاف دوائر داخل نسيج من علاقات القوى الديناميكية - البنائيّة يبيح الانخراط في التجارب الكبرى للتجريد والتفاعل مع مكتسبات الفنّ الحديث.

لا ريب في أنّ مسار النقاء الشكلي وإن كان يحتكم إلى عين هندسيّة، فيرتدّ إلى النظر الذهني والحسابي في التعامل مع الامتداد المساحي فيصبح الشكل فكرة أو قوّة هندسيّة، فإنّه ينمّ عن عمليّة تجري أفعالها في الزمن الحي يتجاوز فيها الشكل حدود الثنائيّات (تشخيص - تجريد، موضوع - شكل). ويؤكد نوعا من الصناعة المخبريّة للشكل، تلك التي تتحرّك داخل تجربة شعورية - حسيّة حيّة تربط بين الرؤية التشكيليّة والتدبير الحرفي أو الحذلقة التّصنيعيّة. وهو ما يفسّر نزوع الفنّان إلى مخالطة أجناس تشكيليّة أخرى غير الرسّم مثل النحت أو الحفر أو التلصيق، إذ كانت له تجربة حيّة مع خامات مختلفة مثل الورق المقوّى والخشب والأليمينيوم والبلور... قال بالخوجة في آخري حياته "لو كُتبت لي حياة فنيّة جديدة سأكون فيها نحّاتا بامتياز..."