«من رؤية الواقع إلى رؤيا العالم: رواية ... ومن الضّحايا لمحمّد العروسي المطوي مثالا»: الفرق بين المراجعتين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(أنشأ الصفحة ب''''1 - على سبيل التّمهيد''' نتناول في مقالنا مسألة رؤيا الأديب للعالم والكون والإنسان، وقد عنون...')
 
سطر 3: سطر 3:
 
نتناول في مقالنا مسألة رؤيا الأديب للعالم والكون والإنسان، وقد عنونّا ورقتنا: من رؤية الواقع إلى رؤيا العالم : رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي مثالا.  
 
نتناول في مقالنا مسألة رؤيا الأديب للعالم والكون والإنسان، وقد عنونّا ورقتنا: من رؤية الواقع إلى رؤيا العالم : رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي مثالا.  
 
وقد تخيّرنا رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي (1920 - 2005) دون غيرها من إنتاجه القصصيّ، وذلك لعدّة اعتبارات منها أنّ نصّ رواية « ... ومن الضّحايا »:  
 
وقد تخيّرنا رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي (1920 - 2005) دون غيرها من إنتاجه القصصيّ، وذلك لعدّة اعتبارات منها أنّ نصّ رواية « ... ومن الضّحايا »:  
- نصٌّ بكر، دشّن بداية تجربة المطوي الرّوائيّة، وفيه جَمجَم عن تصوّراته الأولى للكتابة القصصيّة.  
+
 
- نصٌّ مغبون مهمّش لم يُتناول بعمق في الكتابات النقديّة على خلاف ما سُكب حول رواية « حليمة » أو رواية « التّوت المرّ ».
+
-نصٌّ بكر، دشّن بداية تجربة المطوي الرّوائيّة، وفيه جَمجَم عن تصوّراته الأولى للكتابة القصصيّة.  
- نصّ لم يبلغْ مرحلة النّضج وتداخلت فيه الرّؤية والرّؤيا وحضر الإيديولوجيّ على حساب الرّوائي.
+
 
- نصٌّ مطعون في نسبته للمطوي، فقد كتب الأستاذ مختار العبيدي في الملحق الثّقافي لجريدة الصّباح منذ عشر سنوات خلت مؤكّدا أنّ هذه الرّواية أو أهمّ فصولها كان كتبها « عمّه أحمد العبيدي وهو نفسه بطل الرّواية الذي كان طالبا بجامع الزّيتونة مع العروسي المطوي وصديقا وفيّا له. وقد مرض بالرّبو فانقطع عن الدّراسة. ولكنّه كان في الأثناء يُرسل في كلّ شهر رسالة لصديقه محمّد العروسي المطوي يُعلمه فيها بأحواله وينقد من خلال بعضها طرق التّدريس بالزّيتونة وينقد في أخرى الأوضاع الاجتماعيّة في ما كان يُسمّى سوق الأربعاء جندوبة اليوم. وقد عاث فيها المعمّر سفلاي (Le colon Savaly) فسادا. فجمع المطوي هذه النّصوص ونشرها باسمه بالعنوان الذي كان يُوقّع به أحمد العبيدي رسائله وهو : ... ومن الضّحايا»( ). وأيّا تكن نسبة النصّ للمطوي أم لصديقه أحمد العبيدي المغمور( )، أم لهما معا، هذا مُنشئا لأحداثها وذاك صَوَّاغا لعباراتها، فإنّها عندنا كتابة أطراس، أو كتابة جماعيّة حضر فيها المرجعيّ وأناخ بكلكله على حساب التّخييليّ، وعاضده محكيّ الطّفولة على حساب الفنّ الرّوائيّ. بل هي على نحو ما مسوّدة رواية أو خامة صالحة لتكون رواية. وقد عرف جماعة تحت السّور مثلا هذا التّبادل للنّصوص على نحو ما أحلت عليه في كتابي عن الدّوعاجي من عتمة نسبة بعض النّصوص أهي لمحمود بيرم التّونسيّ (توفّي 1961 م) أم لعلي الدّوعاجي (توفّي 1949 م) أم لغيرهما( )؟
+
-نصٌّ مغبون مهمّش لم يُتناول بعمق في الكتابات النقديّة على خلاف ما سُكب حول رواية « حليمة » أو رواية « التّوت المرّ ».
- نصٌّ يفجّر عمقه في نهايته. إذْ بؤرة الرّواية ومستقرّها عندنا في فصلها الأخير الذي عنوانه: «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون» ( ). وفي هذا الفصل تتداخل الأجناس الأدبيّة وتتفاعل فيما بينها كما تتراسل الفنون والخطابات وهو ما يشي بثقل الإرث الإبداعيّ الأدبيّ وغير الأدبيّ الذي ينهل منه المطوي ويتفاعل معه أخذا وذاكرة ومحوا.  
+
 
- نصٌّ يُعلن عن مواقف المطوي ومن ورائه العبيدي وكلّ جيلهما من قضايا الفقر والتّفاوت الطّبقي والاستعمار والتخلّف والظّلم توقا إلى إحلال القيم البديلة من عدل وحريّة ومساواة.
+
-نصّ لم يبلغْ مرحلة النّضج وتداخلت فيه الرّؤية والرّؤيا وحضر الإيديولوجيّ على حساب الرّوائي.
- نصٌّ ينحاز إلى المشروع النّضالي الوطني وينخرط في المقاومة ضدّ الاستعمار لصالح الدّولة الوطنيّة وقيم الحداثة والتّنوير.  
+
 
 +
-نصٌّ مطعون في نسبته للمطوي، فقد كتب الأستاذ مختار العبيدي في الملحق الثّقافي لجريدة الصّباح منذ عشر سنوات خلت مؤكّدا أنّ هذه الرّواية أو أهمّ فصولها كان كتبها « عمّه أحمد العبيدي وهو نفسه بطل الرّواية الذي كان طالبا بجامع الزّيتونة مع العروسي المطوي وصديقا وفيّا له. وقد مرض بالرّبو فانقطع عن الدّراسة. ولكنّه كان في الأثناء يُرسل في كلّ شهر رسالة لصديقه محمّد العروسي المطوي يُعلمه فيها بأحواله وينقد من خلال بعضها طرق التّدريس بالزّيتونة وينقد في أخرى الأوضاع الاجتماعيّة في ما كان يُسمّى سوق الأربعاء جندوبة اليوم. وقد عاث فيها المعمّر سفلاي (Le colon Savaly) فسادا. فجمع المطوي هذه النّصوص ونشرها باسمه بالعنوان الذي كان يُوقّع به أحمد العبيدي رسائله وهو : ... ومن الضّحايا»( ). وأيّا تكن نسبة النصّ للمطوي أم لصديقه أحمد العبيدي المغمور( )، أم لهما معا، هذا مُنشئا لأحداثها وذاك صَوَّاغا لعباراتها، فإنّها عندنا كتابة أطراس، أو كتابة جماعيّة حضر فيها المرجعيّ وأناخ بكلكله على حساب التّخييليّ، وعاضده محكيّ الطّفولة على حساب الفنّ الرّوائيّ. بل هي على نحو ما مسوّدة رواية أو خامة صالحة لتكون رواية. وقد عرف جماعة تحت السّور مثلا هذا التّبادل للنّصوص على نحو ما أحلت عليه في كتابي عن الدّوعاجي من عتمة نسبة بعض النّصوص أهي لمحمود بيرم التّونسيّ (توفّي 1961 م) أم لعلي الدّوعاجي (توفّي 1949 م) أم لغيرهما( )؟
 +
 
 +
-نصٌّ يفجّر عمقه في نهايته. إذْ بؤرة الرّواية ومستقرّها عندنا في فصلها الأخير الذي عنوانه: «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون» ( ). وفي هذا الفصل تتداخل الأجناس الأدبيّة وتتفاعل فيما بينها كما تتراسل الفنون والخطابات وهو ما يشي بثقل الإرث الإبداعيّ الأدبيّ وغير الأدبيّ الذي ينهل منه المطوي ويتفاعل معه أخذا وذاكرة ومحوا.  
 +
 
 +
-نصٌّ يُعلن عن مواقف المطوي ومن ورائه العبيدي وكلّ جيلهما من قضايا الفقر والتّفاوت الطّبقي والاستعمار والتخلّف والظّلم توقا إلى إحلال القيم البديلة من عدل وحريّة ومساواة.
 +
-نصٌّ ينحاز إلى المشروع النّضالي الوطني وينخرط في المقاومة ضدّ الاستعمار لصالح الدّولة الوطنيّة وقيم الحداثة والتّنوير.  
 +
 
 
فلكلّ هذه الدّواعي تخيّرنا هذا النصّ الرّوائيّ لنسبر من خلاله مواقف المطوي ونتعرّف إلى رؤيته ورؤاه من قضايا الوطن وهموم الإنسان. فما الرّؤية والرّؤيا في المعاجم والموسوعات؟
 
فلكلّ هذه الدّواعي تخيّرنا هذا النصّ الرّوائيّ لنسبر من خلاله مواقف المطوي ونتعرّف إلى رؤيته ورؤاه من قضايا الوطن وهموم الإنسان. فما الرّؤية والرّؤيا في المعاجم والموسوعات؟
2 - في الرّؤية والرّؤيا: من الدّلالة المعجميّة إلى السّياقات الفكريّة
+
 
 +
'''2 - في الرّؤية والرّؤيا: من الدّلالة المعجميّة إلى السّياقات الفكريّة
 +
'''
 +
 
 
إذا كان الأمر على هذا النّحو من اختيار المدونة التي سنسبر من خلالها مواقف المطوي، فإنّ لوازم الدقّة العلميّة تقتضي أن نضبط مصطلحي العنوان: الرّؤية من جهة والرّؤيا من جهة أخرى. فما الرّؤية؟ وما الرّؤيا؟  
 
إذا كان الأمر على هذا النّحو من اختيار المدونة التي سنسبر من خلالها مواقف المطوي، فإنّ لوازم الدقّة العلميّة تقتضي أن نضبط مصطلحي العنوان: الرّؤية من جهة والرّؤيا من جهة أخرى. فما الرّؤية؟ وما الرّؤيا؟  
 +
 
نحن نميّز هنا بين الرّؤية والرّؤيا (Vision)، أي بين رؤية العين المجرّدة ورؤيا الأديب الثّاقبة بما هي كشف وتنبّؤ. على غرار ما نجده في لسان العرب لابن منظور حين جعل الرّؤية مرتبطة أساسا بالنّظر بالعين وما قد «يقع البصر عليه» ( ). بينما ربط الرّؤيا بما يراه النّائم في منامه( ). وجمع الرّؤيا «رُؤًى بالتّنوين»( ). ولها علاقة بالجنّ، لأنّ الرئيِّ هو ذاك «الجنيُّ يراه الإنسان» ( ). وهو الذي كما يقول: «يتعرّض للرّجل يُريه كهانة وطِبًّا»( ).
 
نحن نميّز هنا بين الرّؤية والرّؤيا (Vision)، أي بين رؤية العين المجرّدة ورؤيا الأديب الثّاقبة بما هي كشف وتنبّؤ. على غرار ما نجده في لسان العرب لابن منظور حين جعل الرّؤية مرتبطة أساسا بالنّظر بالعين وما قد «يقع البصر عليه» ( ). بينما ربط الرّؤيا بما يراه النّائم في منامه( ). وجمع الرّؤيا «رُؤًى بالتّنوين»( ). ولها علاقة بالجنّ، لأنّ الرئيِّ هو ذاك «الجنيُّ يراه الإنسان» ( ). وهو الذي كما يقول: «يتعرّض للرّجل يُريه كهانة وطِبًّا»( ).
 +
 
فاللّغة العربيّة حينئذ تسمح في بنيتها المعجميّة بتعدّد دوال الفعل (رأى). ولئن كانت الرّؤية تقتصر على البصريّ وعلى المدركات الحسيّة المباشرة، فإنّ الرّؤيا تتعدّى ذلك إلى العقل والحُلم على نحو يجعل منها أداة المعرفة البشريّة بامتياز.
 
فاللّغة العربيّة حينئذ تسمح في بنيتها المعجميّة بتعدّد دوال الفعل (رأى). ولئن كانت الرّؤية تقتصر على البصريّ وعلى المدركات الحسيّة المباشرة، فإنّ الرّؤيا تتعدّى ذلك إلى العقل والحُلم على نحو يجعل منها أداة المعرفة البشريّة بامتياز.
 +
 
ومن جهة أخرى تُعرِّف المعاجم المختصّة الرّؤيا بأنّها «مقدرة غير عاديّة على النّظرة الحكيمة وحسن التّمييز ونفاذ البصيرة»( ). وهي كذلك الطّريقة التي «يرى أو يتخيّل بها الإنسان»( ). ولهذا ربط صاحب معجم المصطلحات الأدبيّة الرّؤيا بكلّ «صورة عقليّة ناتجة عن ملكة الخيال»( ). وفي واقع الحال نعتبر أنّ رؤيا الأديب المطوي التي نسعى إلى تتبّعها هنا، إنّما هي مجمل مواقفه الشّاملة من الحياة ونظرته الثّاقبة للمجتمع التّونسيّ بماضيه الغابر وحاضره المثخن ومستقبله الآمل.  
 
ومن جهة أخرى تُعرِّف المعاجم المختصّة الرّؤيا بأنّها «مقدرة غير عاديّة على النّظرة الحكيمة وحسن التّمييز ونفاذ البصيرة»( ). وهي كذلك الطّريقة التي «يرى أو يتخيّل بها الإنسان»( ). ولهذا ربط صاحب معجم المصطلحات الأدبيّة الرّؤيا بكلّ «صورة عقليّة ناتجة عن ملكة الخيال»( ). وفي واقع الحال نعتبر أنّ رؤيا الأديب المطوي التي نسعى إلى تتبّعها هنا، إنّما هي مجمل مواقفه الشّاملة من الحياة ونظرته الثّاقبة للمجتمع التّونسيّ بماضيه الغابر وحاضره المثخن ومستقبله الآمل.  
 
وفي التّنظير الغربيّ الحديث شغل مفهوم رؤيا العالم الفلاسفة والمفكّرين، وصار مجالا واسعا للتّحليل والتّأويل. فهذا دلتاي (Wilhelm Dilthey) (توفّي 1911 م) نفسه يشدّد على أهميّة الرّؤيا معتبرا أنّ اللّجوء إلى رؤيا العالم يُمكِّن من التّفكيك الإنسانيّ للواقع( ). والأدب هو ملتقى الفردي بالجمعيّ، حيث يلتقي الفرد بروح الشّعب وفكره كما يؤكّد على ذلك دلتاي. وهذا كارل مانهايم (Karl Mannheim) (توفّي 1947 م)، يذهب إلى أنّ رؤيا العالم تنبني أساسا على التمثّل الكلّي للإيديولوجيا وصهرها في بوتقة النصّ. وأمّا نورثروب فراي (Northrop Frye) (توفّي 1991 م)، فيرى أنّ الأدب هو حلم الإنسان أو رؤيا رغباته المشبعة في عالم برئ. إنّها عنده رؤيا المجتمع الإنسانيّ الحرّ.  
 
وفي التّنظير الغربيّ الحديث شغل مفهوم رؤيا العالم الفلاسفة والمفكّرين، وصار مجالا واسعا للتّحليل والتّأويل. فهذا دلتاي (Wilhelm Dilthey) (توفّي 1911 م) نفسه يشدّد على أهميّة الرّؤيا معتبرا أنّ اللّجوء إلى رؤيا العالم يُمكِّن من التّفكيك الإنسانيّ للواقع( ). والأدب هو ملتقى الفردي بالجمعيّ، حيث يلتقي الفرد بروح الشّعب وفكره كما يؤكّد على ذلك دلتاي. وهذا كارل مانهايم (Karl Mannheim) (توفّي 1947 م)، يذهب إلى أنّ رؤيا العالم تنبني أساسا على التمثّل الكلّي للإيديولوجيا وصهرها في بوتقة النصّ. وأمّا نورثروب فراي (Northrop Frye) (توفّي 1991 م)، فيرى أنّ الأدب هو حلم الإنسان أو رؤيا رغباته المشبعة في عالم برئ. إنّها عنده رؤيا المجتمع الإنسانيّ الحرّ.  
سطر 30: سطر 43:
 
الرّؤيا معناها عميق محجّب
 
الرّؤيا معناها عميق محجّب
 
الرّؤيا يتوصّل إليها القارئ المؤوِّل بمسبار العقل الأريب
 
الرّؤيا يتوصّل إليها القارئ المؤوِّل بمسبار العقل الأريب
 +
 
وهكذا يمكن القول إنّ الرّؤيا وحدها هي التي ستمكّن الكاتب محمّد العروسي المطوي من اِستكشاف صورة الإنسان في تحقّقه التّاريخيّ، وهو الذي واكب الحياة التّونسيّة الصّميمة بكلّ مشاغلها ورغباتها وأحلامها ونجاحاتها وانتكاساتها أيضا.  
 
وهكذا يمكن القول إنّ الرّؤيا وحدها هي التي ستمكّن الكاتب محمّد العروسي المطوي من اِستكشاف صورة الإنسان في تحقّقه التّاريخيّ، وهو الذي واكب الحياة التّونسيّة الصّميمة بكلّ مشاغلها ورغباتها وأحلامها ونجاحاتها وانتكاساتها أيضا.  
3 - رؤيا الأديب محمّد العروسي المطوي للعالم: من العتبات إلى المتن الرّوائيّ
+
 
3-1 الرّؤيا من خلال المناصّ:
+
'''3 - رؤيا الأديب محمّد العروسي المطوي للعالم: من العتبات إلى المتن الرّوائيّ
 +
'''
 +
 
 +
''3-1 الرّؤيا من خلال المناصّ:''
 +
 
 
حين نروم تتبّع مواقف المطوي وتبيّن رؤاه لا نظفر بها في متن الرّواية ومن خلال تصريحاته وتدخّلاته السّافرة في النصّ وحسب، وإنّما نجدها أيضا مُعلنة منذ عتبات الكتاب وفيما اصطلح عليه جيرار جينات (Gérard Genette) بالمناصّ (Paratexte) الذي يشمل عنده جميع المكوّنات التي تهمّ عتبات النصّ من قبيل العنوان والعنوان الفرعيّ والعنوان الدّاخلي والدّيباجات والحواشي والرّسوم وغيرها ( ). وعلى هذا النّحو تُعلن النّسخة التي نعتمدها منذ غلافها عن عنوانها : «... ومن الضّحايا»، دون أنْ نجد ما يُحيل في الغلاف على أنّها رواية. وتشير الطّبعة إلى أنّها نشرت سنة 1956 أي بُعَيْد الاستقلال، ضمن سلسلة «كتاب البعث» وما في عنوان السّلسلة من دلالة على النّهوض ونفض مظاهر الخمول والجمود، وهو الكتاب السّابع من كتبها الشّهريّة بعد كتاب «نداء العمل» وكتاب «مع الشّابي». هذه السّلسلة التي يُديرها الأديب أبو القاسم محمّد كرّو (توفّي 2015 م)، والتي أراد لها أن تكون كما هو مُعلن على ظهر غلافها الخارجيّ «مجلّة الجيل الواعي.. المتحفّز إلى غد أسعد.. وحياة أفضل.. ومستقبل مليء بالمعرفة»( ). وهي فضلا عن ذلك ترمي، وكما خطّط لها صاحبها، إلى «جعلك تعيش عصرك.. وتُساهم في نهضة وطنكَ»( ). فهدفها الأساسي وفق هذا التصوّر أنْ «تذود عن حريّة الفكر وقيمه العليا.. ومثله الخالدة» ( ).
 
حين نروم تتبّع مواقف المطوي وتبيّن رؤاه لا نظفر بها في متن الرّواية ومن خلال تصريحاته وتدخّلاته السّافرة في النصّ وحسب، وإنّما نجدها أيضا مُعلنة منذ عتبات الكتاب وفيما اصطلح عليه جيرار جينات (Gérard Genette) بالمناصّ (Paratexte) الذي يشمل عنده جميع المكوّنات التي تهمّ عتبات النصّ من قبيل العنوان والعنوان الفرعيّ والعنوان الدّاخلي والدّيباجات والحواشي والرّسوم وغيرها ( ). وعلى هذا النّحو تُعلن النّسخة التي نعتمدها منذ غلافها عن عنوانها : «... ومن الضّحايا»، دون أنْ نجد ما يُحيل في الغلاف على أنّها رواية. وتشير الطّبعة إلى أنّها نشرت سنة 1956 أي بُعَيْد الاستقلال، ضمن سلسلة «كتاب البعث» وما في عنوان السّلسلة من دلالة على النّهوض ونفض مظاهر الخمول والجمود، وهو الكتاب السّابع من كتبها الشّهريّة بعد كتاب «نداء العمل» وكتاب «مع الشّابي». هذه السّلسلة التي يُديرها الأديب أبو القاسم محمّد كرّو (توفّي 2015 م)، والتي أراد لها أن تكون كما هو مُعلن على ظهر غلافها الخارجيّ «مجلّة الجيل الواعي.. المتحفّز إلى غد أسعد.. وحياة أفضل.. ومستقبل مليء بالمعرفة»( ). وهي فضلا عن ذلك ترمي، وكما خطّط لها صاحبها، إلى «جعلك تعيش عصرك.. وتُساهم في نهضة وطنكَ»( ). فهدفها الأساسي وفق هذا التصوّر أنْ «تذود عن حريّة الفكر وقيمه العليا.. ومثله الخالدة» ( ).
  
 
وبموازاة مناصّ العنوان وظهر الغلاف الخارجيّ، حَوت الرّواية على مقدّمة أو إهداء أعلن من خلالهما المطوي عن مواقفه، بلْ صرّح عن رؤيته من الكتابة ووظائفها قائلا: «فإليكَ أيّها الضحيّة أقدّم هذه الصّفحات»( ). وهو لا يُعلن عن جنس كتابه بل يَحار في تسميتها بالقصّة أو المشهد، مبرِّرا ذلك بالقول: « الذي يعنيني فقط هو أنْ أنقل إليكَ هذا الحديث كما هو مسطور في قصّة الحياة. هذه القصّة التي نقرأ منها جميعا، ونُساهم في تأليفها جميعا»( ). فالكتابة القصصيّة حينئذ في رؤيا الأديب المطوي، تمتح مادّتها من الحياة، وتستقي سداتها من حوادث الأيّام. وهي فضلا عن ذلك لحظة دالّة ومشهد مكتنز مكثّف تقع عليه عين الكاتب فيستمدّ منه رؤيته ويصوغ من رموزه رؤاه. وهكذا فالرّواية في أجلّ مفاهيمها عند المطوي، إنّما هي «مشهد من مشاهد قصّة الحياة»( ).  
 
وبموازاة مناصّ العنوان وظهر الغلاف الخارجيّ، حَوت الرّواية على مقدّمة أو إهداء أعلن من خلالهما المطوي عن مواقفه، بلْ صرّح عن رؤيته من الكتابة ووظائفها قائلا: «فإليكَ أيّها الضحيّة أقدّم هذه الصّفحات»( ). وهو لا يُعلن عن جنس كتابه بل يَحار في تسميتها بالقصّة أو المشهد، مبرِّرا ذلك بالقول: « الذي يعنيني فقط هو أنْ أنقل إليكَ هذا الحديث كما هو مسطور في قصّة الحياة. هذه القصّة التي نقرأ منها جميعا، ونُساهم في تأليفها جميعا»( ). فالكتابة القصصيّة حينئذ في رؤيا الأديب المطوي، تمتح مادّتها من الحياة، وتستقي سداتها من حوادث الأيّام. وهي فضلا عن ذلك لحظة دالّة ومشهد مكتنز مكثّف تقع عليه عين الكاتب فيستمدّ منه رؤيته ويصوغ من رموزه رؤاه. وهكذا فالرّواية في أجلّ مفاهيمها عند المطوي، إنّما هي «مشهد من مشاهد قصّة الحياة»( ).  
 +
 
فكأنّ المطوي يتنصّل من قيود الفنّ ولوازم الكتابة الرّوائيّة وشروطها( ) على حساب الرّؤيا والالتزام بقضايا الوطن. ومن هذا المنطلق قَرن المطوي عمل الكاتب وشبّهه بعمل النسّاج الحائك «في نسج الثّوب الذي نُحاول أن تَلبسه الحياة بعد أن يُحاك على منَاسِجنا الذي ندبّره بأيدينا»( ).
 
فكأنّ المطوي يتنصّل من قيود الفنّ ولوازم الكتابة الرّوائيّة وشروطها( ) على حساب الرّؤيا والالتزام بقضايا الوطن. ومن هذا المنطلق قَرن المطوي عمل الكاتب وشبّهه بعمل النسّاج الحائك «في نسج الثّوب الذي نُحاول أن تَلبسه الحياة بعد أن يُحاك على منَاسِجنا الذي ندبّره بأيدينا»( ).
3-2 الرّؤيا من خلال المتن النصّي:
+
 
 +
''3-2 الرّؤيا من خلال المتن النصّي:''
 +
 
 
إنّ النّاظر في المتن السرديّ لرواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي يتمثّل بجلاء نزعته إلى الواقعيّة وحرصه على تصوير الإنسان التّونسي عامّة ومجتمع الرّيف بصفة خاصّة في فترة من فترات الاحتلال الفرنسي إبّان الخمسينات. ومن تجلّيات واقعيّته أن تخيّر الكاتب بطله من صميم البيئة التّونسيّة فتى وافر الذّكاء عزوفا أنوفا، صُلب الرّأي، شديد الخصومة. غير أنّ هذا الفتى لن يكون ظلاّ لأبيه ولا امتدادا له. وأمّا الوالد فكان: « عميدُ أسرة فتانا شيخ الزّاوية ومستودع أسرار المريدين، ومحلّ رجائهم في الخلاص. وكان الشّيخ محلّ التّقديس، وكان ميدانا صاخبا للتّنافس في التقرّب منه ومصاهرته، فكثرت زوجاته وتعدّد بنوه. فقد كانت العذارى تُهدى إليه إهداء. وماذا تقول البنت وقد نذر أبوها أن تُقدَّم إلى الشّيخ زوجا حلالا! وكم منهنّ من ينالهنّ الرّفض من الشّيخ فيحسّ الأب بخيبة الأمل ومرارة الردّ»( ). لقد رفض الفتى إذنْ أن يكون صورة لماضيه بكلّ ما فيه من تخلّف وتمسّك زائف ببالي العادات القديمة، وهو ما أتاح للمطوي أنْ يُعلن من خلال صوته القلق وثورته الحادّة عن رؤاه من جملة من القضايا والمواقف، إذْ وجد في الفتى صورته وعبّر من خلال مواقفه عن توقه إلى رفض الظّلم والاستعمار، ونبذ التخلّف والعيش في الأوهام.  
 
إنّ النّاظر في المتن السرديّ لرواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي يتمثّل بجلاء نزعته إلى الواقعيّة وحرصه على تصوير الإنسان التّونسي عامّة ومجتمع الرّيف بصفة خاصّة في فترة من فترات الاحتلال الفرنسي إبّان الخمسينات. ومن تجلّيات واقعيّته أن تخيّر الكاتب بطله من صميم البيئة التّونسيّة فتى وافر الذّكاء عزوفا أنوفا، صُلب الرّأي، شديد الخصومة. غير أنّ هذا الفتى لن يكون ظلاّ لأبيه ولا امتدادا له. وأمّا الوالد فكان: « عميدُ أسرة فتانا شيخ الزّاوية ومستودع أسرار المريدين، ومحلّ رجائهم في الخلاص. وكان الشّيخ محلّ التّقديس، وكان ميدانا صاخبا للتّنافس في التقرّب منه ومصاهرته، فكثرت زوجاته وتعدّد بنوه. فقد كانت العذارى تُهدى إليه إهداء. وماذا تقول البنت وقد نذر أبوها أن تُقدَّم إلى الشّيخ زوجا حلالا! وكم منهنّ من ينالهنّ الرّفض من الشّيخ فيحسّ الأب بخيبة الأمل ومرارة الردّ»( ). لقد رفض الفتى إذنْ أن يكون صورة لماضيه بكلّ ما فيه من تخلّف وتمسّك زائف ببالي العادات القديمة، وهو ما أتاح للمطوي أنْ يُعلن من خلال صوته القلق وثورته الحادّة عن رؤاه من جملة من القضايا والمواقف، إذْ وجد في الفتى صورته وعبّر من خلال مواقفه عن توقه إلى رفض الظّلم والاستعمار، ونبذ التخلّف والعيش في الأوهام.  
 +
 
ويجد الفتى نفسه في صراع قويّ مع شخصيّات معرقلة تتعارض رغبتها السرديّة ورؤاها الفكريّة مع رغبته ورؤاه، فمن هذه الشخصيّات المقابلة لرغبة الفتى شخصيّة المستعمر الدّخيل أو الدّخلاء أو صاحب المستعمرة أو صاحب مستعمرة الهكتار كما يُعبِّر عن ذلك في متن الرّواية. وحتّى بنو جلدته من السكّان الأصليّين كانوا لرغبته متنكّرين بل اصطفّوا إلى جانب المستعمر، فأطلق عليهم اسم الضّمائر الخربة مرّة والأحمرة المذلّلة مرّة أخرى. وكان له القاضي الشّرعيّ خصما عنيدا فلعب دورا كبيرا في خسارة أرضه وجنونه في النّهاية. بهذا رُشّح الفتى للصّراع وأوكَل الكاتبُ للسّاردِ العليم مهمّة التّعبير عن مواقفه، والإصداح برُؤاه من قضايا عصره العديدة الحارقة. يقول فاضحا خُطط المستعمر كاشفا عن المتعاونين معه، ممّن نعتهم بـ«الأحمرة المذلّلة». أو كما يقول: «وكانت بلاهة السكّان الأصليّين وجهلهم خير مساعد لتنفيذ خطّة الاستعمار الابتلاعيّة. وقد وجد هذا الاستعمار من «الأحمرة المذلّلة» والضّمائر الخربة خير سند يعتمد عليه وأمتن جسر عَبَر فوقه لينال أغراضه ويحقّق أهدافه» ( ). لقد طغت في المقطع النصّي السّابق الذي تنخّلناه الرّؤية على الرّؤيا وعلا صوت الإيديولوجيّ على حساب صوت الفنّ القصصيّ وغاب التّلميح لصالح التّصريح، إيذانا برغبة الكاتب في الفضح والتّعرية. فالمطوي مُنخرط بكليّته في مشروع الدّولة الوطنيّة النّاشئة مُلتزم بقضايا شعبه يَروم تشخيص الواقع بأدوائه بحثا منه عن سُبل الخلاص والخروج من التخلّف ومن هذا «الوضع الأعرج»( )،كما يقول. ولئن حَاول أن يتوسّل بنظام التّرميز في عبارة «الأحمرة المذلّلة»، إلاّ أنّه سرعان ما هتك أستار الصّورة الدّقيقة وعرّي لُطفها حين شرحها في الهامش. فهي كما جاء في التّعريف: «لقب يُطلقه الهنود على الحكّام المسؤولين الخاضعين للمستعمر والمنفّذين لأغراضه»( ).
 
ويجد الفتى نفسه في صراع قويّ مع شخصيّات معرقلة تتعارض رغبتها السرديّة ورؤاها الفكريّة مع رغبته ورؤاه، فمن هذه الشخصيّات المقابلة لرغبة الفتى شخصيّة المستعمر الدّخيل أو الدّخلاء أو صاحب المستعمرة أو صاحب مستعمرة الهكتار كما يُعبِّر عن ذلك في متن الرّواية. وحتّى بنو جلدته من السكّان الأصليّين كانوا لرغبته متنكّرين بل اصطفّوا إلى جانب المستعمر، فأطلق عليهم اسم الضّمائر الخربة مرّة والأحمرة المذلّلة مرّة أخرى. وكان له القاضي الشّرعيّ خصما عنيدا فلعب دورا كبيرا في خسارة أرضه وجنونه في النّهاية. بهذا رُشّح الفتى للصّراع وأوكَل الكاتبُ للسّاردِ العليم مهمّة التّعبير عن مواقفه، والإصداح برُؤاه من قضايا عصره العديدة الحارقة. يقول فاضحا خُطط المستعمر كاشفا عن المتعاونين معه، ممّن نعتهم بـ«الأحمرة المذلّلة». أو كما يقول: «وكانت بلاهة السكّان الأصليّين وجهلهم خير مساعد لتنفيذ خطّة الاستعمار الابتلاعيّة. وقد وجد هذا الاستعمار من «الأحمرة المذلّلة» والضّمائر الخربة خير سند يعتمد عليه وأمتن جسر عَبَر فوقه لينال أغراضه ويحقّق أهدافه» ( ). لقد طغت في المقطع النصّي السّابق الذي تنخّلناه الرّؤية على الرّؤيا وعلا صوت الإيديولوجيّ على حساب صوت الفنّ القصصيّ وغاب التّلميح لصالح التّصريح، إيذانا برغبة الكاتب في الفضح والتّعرية. فالمطوي مُنخرط بكليّته في مشروع الدّولة الوطنيّة النّاشئة مُلتزم بقضايا شعبه يَروم تشخيص الواقع بأدوائه بحثا منه عن سُبل الخلاص والخروج من التخلّف ومن هذا «الوضع الأعرج»( )،كما يقول. ولئن حَاول أن يتوسّل بنظام التّرميز في عبارة «الأحمرة المذلّلة»، إلاّ أنّه سرعان ما هتك أستار الصّورة الدّقيقة وعرّي لُطفها حين شرحها في الهامش. فهي كما جاء في التّعريف: «لقب يُطلقه الهنود على الحكّام المسؤولين الخاضعين للمستعمر والمنفّذين لأغراضه»( ).
 +
 
ولا يلبث السّارد أن ينحرف عن مهمّة السّرد إلى مهمّة الإصداح بمواقف المطوي أو كأنّه ينسحب ليحشو نصّه بمفاهيمه الجديدة عن الإنسان ويجعل الدّفاع عن الكرامة لصيقة بماهيته ووجوده. ولهذا ندَّد مرارا في غضون الرّواية بالظّلم وكشف عن مواقفه من الاستعمار، منتصرا في كلّ آن إلى جانب المعدمين من الضّحايا، ضحايا الاستغلال والجشع والتّقسيم غير العادل للثّروات، فضلا عن نهب المستعمر والدّخيل الذي وجد عَونا من الخونة والأذناب ممّن سهّلوا سطوه وشرّعوا سرقته.  
 
ولا يلبث السّارد أن ينحرف عن مهمّة السّرد إلى مهمّة الإصداح بمواقف المطوي أو كأنّه ينسحب ليحشو نصّه بمفاهيمه الجديدة عن الإنسان ويجعل الدّفاع عن الكرامة لصيقة بماهيته ووجوده. ولهذا ندَّد مرارا في غضون الرّواية بالظّلم وكشف عن مواقفه من الاستعمار، منتصرا في كلّ آن إلى جانب المعدمين من الضّحايا، ضحايا الاستغلال والجشع والتّقسيم غير العادل للثّروات، فضلا عن نهب المستعمر والدّخيل الذي وجد عَونا من الخونة والأذناب ممّن سهّلوا سطوه وشرّعوا سرقته.  
 
يقول في نبرة احتجاجيّة واضحة تُعلن عن التزامه غير المشروط بقضايا شعبه: «وتبارى الدّخلاء في امتلاك الأراضي وطرد مالكيها الشّرعيّين. ولم يمض زمن حتّى أصبح أولائك المالكون الشّرعيّون فقراء معدمين لا يملكون أرضا، ولا يكسبون رزقا. وهَامَ الكثير منهم على وجهه يلتمس قُوتَه بالمذلّة والمهانة. وبقي القسم الأعظم منهم عَمَلة عند أسيادهم!»( ).  
 
يقول في نبرة احتجاجيّة واضحة تُعلن عن التزامه غير المشروط بقضايا شعبه: «وتبارى الدّخلاء في امتلاك الأراضي وطرد مالكيها الشّرعيّين. ولم يمض زمن حتّى أصبح أولائك المالكون الشّرعيّون فقراء معدمين لا يملكون أرضا، ولا يكسبون رزقا. وهَامَ الكثير منهم على وجهه يلتمس قُوتَه بالمذلّة والمهانة. وبقي القسم الأعظم منهم عَمَلة عند أسيادهم!»( ).  
 
فالمطوي إذنْ يُؤمن أشدّ الإيمان بأنّ للأدب وظيفة تنويريّة تغييريّة، تمسّ قضايا النّاس وتسعى إلى زحزحتها وتغييرها. وهو الملتزم بقيم الكرامة الإنسانيّة. يقول في هذا المعنى: «إنّ في مفهوم الإنسان الدّفاع عن الكرامة. فهل ابتعدوا عن هذا المفهوم إلى ذلك الحدّ؟»( ). هذه الكرامة التي ينتهكها المغتصب. ولهذا لا يتورّع في الإحالة على المرجعيّ متخيِّرا حوادث دالّة من قبيل ما جاء في هذا المقطع النصّي: «وذات يوم من شهر أوت من سنة 1922 اهتزّت جنبات سهل جندوبة لنبإ ملأ الأرجاء رُعبا وهَولاً. فقد عمد أحد المستعمرين إلى شنق عامليْن من عمّاله لأنّهما اختطفا عنقود عنب من مزرعة سيّدهما بدون استئذان، فكان جزاؤهما أنْ شُنقا ساعات طوالا في وهج الشّمس»( ).  
 
فالمطوي إذنْ يُؤمن أشدّ الإيمان بأنّ للأدب وظيفة تنويريّة تغييريّة، تمسّ قضايا النّاس وتسعى إلى زحزحتها وتغييرها. وهو الملتزم بقيم الكرامة الإنسانيّة. يقول في هذا المعنى: «إنّ في مفهوم الإنسان الدّفاع عن الكرامة. فهل ابتعدوا عن هذا المفهوم إلى ذلك الحدّ؟»( ). هذه الكرامة التي ينتهكها المغتصب. ولهذا لا يتورّع في الإحالة على المرجعيّ متخيِّرا حوادث دالّة من قبيل ما جاء في هذا المقطع النصّي: «وذات يوم من شهر أوت من سنة 1922 اهتزّت جنبات سهل جندوبة لنبإ ملأ الأرجاء رُعبا وهَولاً. فقد عمد أحد المستعمرين إلى شنق عامليْن من عمّاله لأنّهما اختطفا عنقود عنب من مزرعة سيّدهما بدون استئذان، فكان جزاؤهما أنْ شُنقا ساعات طوالا في وهج الشّمس»( ).  
 
وممّا لا ريب فيه أنّ صورة تنكيل المستعمر، التي عوّل فيها المطوي على المرجعيّ ونهل فيها من التّاريخيّ حين استقى الخبر من جريدة «مرشد الأمّة» وأثبت ذلك في الهامش( )، لها مثيلاتها في قصص المطوي. ففي رواية حليمة سيعمد إلى تسريد التّاريخيّ حين عَرض لموت والد حليمة الذي قتله المعمّر لا لشيء إلاّ لأنّه قطف زهرة من بستانه اشتهتها امرأته الحامل( ). ففعل التّنكيل والقتل إذنْ في عُرف المستعمر واحد لا ينفصل.
 
وممّا لا ريب فيه أنّ صورة تنكيل المستعمر، التي عوّل فيها المطوي على المرجعيّ ونهل فيها من التّاريخيّ حين استقى الخبر من جريدة «مرشد الأمّة» وأثبت ذلك في الهامش( )، لها مثيلاتها في قصص المطوي. ففي رواية حليمة سيعمد إلى تسريد التّاريخيّ حين عَرض لموت والد حليمة الذي قتله المعمّر لا لشيء إلاّ لأنّه قطف زهرة من بستانه اشتهتها امرأته الحامل( ). ففعل التّنكيل والقتل إذنْ في عُرف المستعمر واحد لا ينفصل.
 +
 
ويسير السّارد في منطق الفضح حين يتخيّر عباراته مُستعملا في ذلك الصّور الرمزيّة والعبارات المخصوصة بما يمكّنه من رسم بشاعة الدّخيل وبيان شدّة استغلاله حين يقول: «وقهقه الدّخيلُ ملْء هكتاره. لقد وجد الحلّ، ولنْ يعوزه المال. المال هو العصا السحريّة التي ستجعل من ذلك الهكتار مصدر ثراء واسع. إنّه سيقودهم بعصاه كما يقود الجزّار نعاجه الوادعة السّاذجة»( ). وعلى هذا النّحو يلعب التّمثيل في هذا المقطع السّابق فعله ويقوّي من نبرة الاحتجاج، كاشفا جشع المغتصِب وجوره، وتلك مواقف تنسجم مع رؤيا الأديب المطوي، وهو المنخرط في الشّأن الوطني التّونسي الملتزم بقضايا المجتمع والدّولة.  
 
ويسير السّارد في منطق الفضح حين يتخيّر عباراته مُستعملا في ذلك الصّور الرمزيّة والعبارات المخصوصة بما يمكّنه من رسم بشاعة الدّخيل وبيان شدّة استغلاله حين يقول: «وقهقه الدّخيلُ ملْء هكتاره. لقد وجد الحلّ، ولنْ يعوزه المال. المال هو العصا السحريّة التي ستجعل من ذلك الهكتار مصدر ثراء واسع. إنّه سيقودهم بعصاه كما يقود الجزّار نعاجه الوادعة السّاذجة»( ). وعلى هذا النّحو يلعب التّمثيل في هذا المقطع السّابق فعله ويقوّي من نبرة الاحتجاج، كاشفا جشع المغتصِب وجوره، وتلك مواقف تنسجم مع رؤيا الأديب المطوي، وهو المنخرط في الشّأن الوطني التّونسي الملتزم بقضايا المجتمع والدّولة.  
 +
 
ومن مواقفه المعلنة أيضا في تلافيف الرّواية نقمته على اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة وجمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول أو كما يقول: «كان السّواد يَمثُل له أنَّى سار: ففي الطّريق اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة. وفي المعهد جمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول. وفي مسقط الرّأس البليّة الكبرى: أوهام وخرافات، وإحن ومشاحنات، خضوع وتقرّب لمن يدسّ لهم السمّ في الدّسم، ويعمل ليله ونهاره على أنْ يُخرجهم من أرض الجدود حفاة عراة»( ). وهو يعي جيّدا العلاقة بين تفشِّي الخرافات والأوهام وانتشار الزّوايا وخطط المستعمر الذي يعمل على توظيفها خدمة لمصالحه مادامت مخدّرا روحيّا يضمن له الهيمنة على العقول وتحقيق الأمن في خنوع وخضوع. يقول في كشف دالّ عن رؤاه الفكريّة وتوجّهاته المستنيرة على لسان الفتى: «هو يعلم مدى عطف الاستعمار على الطّرق والزّوايا، ومدى مساعدتهم لأربابها والقائمين عليها. وهي المخدّر الرّوحي الذي يُناصره الاستعمار ويمدّه بالإعانة لعلمه أنّ رواج ذلك المخدّر استقرار له وأمن، وأنّ في زواله إيقاضا للمشاعر وتحفّزا للكرامة والعزّة»( ).
 
ومن مواقفه المعلنة أيضا في تلافيف الرّواية نقمته على اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة وجمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول أو كما يقول: «كان السّواد يَمثُل له أنَّى سار: ففي الطّريق اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة. وفي المعهد جمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول. وفي مسقط الرّأس البليّة الكبرى: أوهام وخرافات، وإحن ومشاحنات، خضوع وتقرّب لمن يدسّ لهم السمّ في الدّسم، ويعمل ليله ونهاره على أنْ يُخرجهم من أرض الجدود حفاة عراة»( ). وهو يعي جيّدا العلاقة بين تفشِّي الخرافات والأوهام وانتشار الزّوايا وخطط المستعمر الذي يعمل على توظيفها خدمة لمصالحه مادامت مخدّرا روحيّا يضمن له الهيمنة على العقول وتحقيق الأمن في خنوع وخضوع. يقول في كشف دالّ عن رؤاه الفكريّة وتوجّهاته المستنيرة على لسان الفتى: «هو يعلم مدى عطف الاستعمار على الطّرق والزّوايا، ومدى مساعدتهم لأربابها والقائمين عليها. وهي المخدّر الرّوحي الذي يُناصره الاستعمار ويمدّه بالإعانة لعلمه أنّ رواج ذلك المخدّر استقرار له وأمن، وأنّ في زواله إيقاضا للمشاعر وتحفّزا للكرامة والعزّة»( ).
وتزداد الرّؤية وُضوحا لتشغل الحيّز الرّوائي وتتردّد في متنه مُعلنة عن مواقف المطوي الأخرى ومن أهمّها ما وجدناه من آراء حول التّعليم الزّيتوني والتي جَهَر بها على لسان الشّخصيّة الرّوائيّة الرّئيسيّة( ). يقول في هذا الباب بمزيد بيان: «وانتقل الفتى ذات خريف إلى العاصمة، وانخرط في سلك تلامذة جامع الزّيتونة الأعظم. وكان مسكنُ الفتى بإحدى مدارس سُكنى الطّلبة الواقعة قريبا من حيّ الحلفاويّين المليء بالحركة والضّجيج، والمزدحم كامل النّهار وجزءا من اللّيل بالنّاس والباعة المتجوّلين. وكانت مساكن أولائك الطّلبة على غاية من الإهمال والفوضى لا تخضع إلاّ لصورة وهميّة من النّظام والرّقابة. وعندما أصبحت بيوت تلك المدارس لا تكفي لإيواء جميع الطّلبة الملتحقين بجامع الزّيتونة آلت تلك البيوت إلى ما يُشبه السّجون المضيفة حيث أصبحت تُحشى حشوا مهولا بالسّاكنين ممّا هو فوق طاقتها، وممّا يجعل قاطنيها عُرضة للأمراض والعلل»( ).  
+
 
 +
وتزداد الرّؤية وُضوحا لتشغل الحيّز الرّوائي وتتردّد في متنه مُعلنة عن مواقف المطوي الأخرى ومن أهمّها ما وجدناه من آراء حول التّعليم الزّيتوني والتي جَهَر بها على لسان الشّخصيّة الرّوائيّة الرّئيسيّة( ). يقول في هذا الباب بمزيد بيان: «وانتقل الفتى ذات خريف إلى العاصمة، وانخرط في سلك تلامذة جامع الزّيتونة الأعظم. وكان مسكنُ الفتى بإحدى مدارس سُكنى الطّلبة الواقعة قريبا من حيّ الحلفاويّين المليء بالحركة والضّجيج، والمزدحم كامل النّهار وجزءا من اللّيل بالنّاس والباعة المتجوّلين. وكانت مساكن أولائك الطّلبة على غاية من الإهمال والفوضى لا تخضع إلاّ لصورة وهميّة من النّظام والرّقابة. وعندما أصبحت بيوت تلك المدارس لا تكفي لإيواء جميع الطّلبة الملتحقين بجامع الزّيتونة آلت تلك البيوت إلى ما يُشبه السّجون المضيفة حيث أصبحت تُحشى حشوا مهولا بالسّاكنين ممّا هو فوق طاقتها، وممّا يجعل قاطنيها عُرضة للأمراض والعلل»( ).
 +
 
ويمتزج نقد أساليب التّعليم الزّيتوني في مواضع أخرى من الرّواية بمحكيّ الطّفولة فيصير السّرد لمحة دالّة فيه وصف لأجواء الحياة بحلقات الدّروس بالجامع المعمور. يقول في هذا الصّدد واصفا ما كان المطويّ وهو الطّالب الزّيتونيّ عليه من تمرّد وسخط: «كان الفتى -كما علمتَ- يختلف إلى حلقات الدّروس بجامع الزّيتونة. وكانت كلّ سنة دراسيّة يقضّيها الفتى بين تلك الحلقات تزيده تمرّدا وسُخطا على طرق الدّراسة وأساليبها. وعلى مناهج التّفكير والبحث عند طائفة كبيرة من شيوخه وأساتذته»( ).
 
ويمتزج نقد أساليب التّعليم الزّيتوني في مواضع أخرى من الرّواية بمحكيّ الطّفولة فيصير السّرد لمحة دالّة فيه وصف لأجواء الحياة بحلقات الدّروس بالجامع المعمور. يقول في هذا الصّدد واصفا ما كان المطويّ وهو الطّالب الزّيتونيّ عليه من تمرّد وسخط: «كان الفتى -كما علمتَ- يختلف إلى حلقات الدّروس بجامع الزّيتونة. وكانت كلّ سنة دراسيّة يقضّيها الفتى بين تلك الحلقات تزيده تمرّدا وسُخطا على طرق الدّراسة وأساليبها. وعلى مناهج التّفكير والبحث عند طائفة كبيرة من شيوخه وأساتذته»( ).
 +
 
غير أنّه حين تحضر رؤية المطوي في روايته حضورا صريحا بل سافرا، ينسحب الفنّ على حساب الإيديولوجيا وتتحوّل الرّؤيا إلى إعلان عن المواقف التي تطمس معالم الفنّ القصصيّ القائم على التّلميح والتّعمية بالأساس. يقول في بيان وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها: «وكانت أحلام الشّباب وضفراته، وكانت وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها، كلّ ذلك يدفعه إلى شيء غير قليل من السّخط على الأوضاع والتبرّم بالتّقاليد»( ).
 
غير أنّه حين تحضر رؤية المطوي في روايته حضورا صريحا بل سافرا، ينسحب الفنّ على حساب الإيديولوجيا وتتحوّل الرّؤيا إلى إعلان عن المواقف التي تطمس معالم الفنّ القصصيّ القائم على التّلميح والتّعمية بالأساس. يقول في بيان وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها: «وكانت أحلام الشّباب وضفراته، وكانت وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها، كلّ ذلك يدفعه إلى شيء غير قليل من السّخط على الأوضاع والتبرّم بالتّقاليد»( ).
 +
 
ولم تكنْ رغبته في إصلاح التّعليم الزّيتوني إلاّ توافقا وانسجاما مع رؤيته العميقة للنّهضة العربيّة التي عِمادها إصلاح التّعليم والارتقاء به. يقول في هذا الباب: «وأعجبَ الفتى بروّاد النّهضة العربيّة المعاصرة من كتّاب وشعراء، ومفكّرين ومصلحين. وأقبل على إنتاجهم بفكر هاضم وعقل واعٍ. ولكنّ محصول الفتى الجديد جنَى على أعصابه، لقد أحسّ بجحيم داخليّ ملتهب السّعير. لقد قارن بين الأوضاع ومعطيات الفكر الحرّ، وقارن بين مبادئ الدّين وسلوك المتّبعين لهذا الدّين، وبين أصول الدّين وهذه الإضافات والشّروح والحواشي، وإذا بالتّناقض يَملأ جوانبه ويغبر أمامه المسالك والطّرق. وصَلاَه جحيم الشكّ والارتياب فعاش دهرا في عالم غامض مبهم. وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزوميّاته فغدا له أنيسا ورفيقا» ( ).  
 
ولم تكنْ رغبته في إصلاح التّعليم الزّيتوني إلاّ توافقا وانسجاما مع رؤيته العميقة للنّهضة العربيّة التي عِمادها إصلاح التّعليم والارتقاء به. يقول في هذا الباب: «وأعجبَ الفتى بروّاد النّهضة العربيّة المعاصرة من كتّاب وشعراء، ومفكّرين ومصلحين. وأقبل على إنتاجهم بفكر هاضم وعقل واعٍ. ولكنّ محصول الفتى الجديد جنَى على أعصابه، لقد أحسّ بجحيم داخليّ ملتهب السّعير. لقد قارن بين الأوضاع ومعطيات الفكر الحرّ، وقارن بين مبادئ الدّين وسلوك المتّبعين لهذا الدّين، وبين أصول الدّين وهذه الإضافات والشّروح والحواشي، وإذا بالتّناقض يَملأ جوانبه ويغبر أمامه المسالك والطّرق. وصَلاَه جحيم الشكّ والارتياب فعاش دهرا في عالم غامض مبهم. وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزوميّاته فغدا له أنيسا ورفيقا» ( ).  
 
لقد كشف المقطع النصّي السّابق عن الرّوافد الفكريّة التي منها استمدّ المطوي رؤاه الفكريّة وذائقته الأدبيّة وهي الرّوافد التي يحرّض القارئ عليها وينبّهه إليها، ففي تراثنا القديم والحديث من ثراء الفكر ما يمكّن من تحقيق النّهضة ودفع التخلّف والجمود.
 
لقد كشف المقطع النصّي السّابق عن الرّوافد الفكريّة التي منها استمدّ المطوي رؤاه الفكريّة وذائقته الأدبيّة وهي الرّوافد التي يحرّض القارئ عليها وينبّهه إليها، ففي تراثنا القديم والحديث من ثراء الفكر ما يمكّن من تحقيق النّهضة ودفع التخلّف والجمود.
على أنّ تلك النّزعة التحليليّة التي تُداخِل الخطاب القصصيّ وتتخلّله، والتي يَختَفي فيها السّارد ويتوارى على حساب بروز الكاتب برؤاه الفكريّة السّافرة، تتجلّى أيضا في لغته الواصفة وخطابه على الخطاب حين يشخّص الواقع ويعرض له في نزعة سوداويّة تشاؤميّة تُحيل على خطابات الشّابي (توفّي 1934م) والطّاهر الحدّاد (توفّي 1935م) ورعيل المفكّرين من أمثالهما. ومن أجلى تلك المواقف وضوحا وأبعدها دلالة ما نجده مَاثِلا في هذا المقطع النصّي حين يقول واصفا أحوال الفتى بطل الرّواية: «وبَرَق للفتى أملٌ في الإصلاح. وكان الفتى صريحا وكان عَنُودا. ولهذا أقدم على الإصلاح بشيء من العنف، مع شيء كبير من قوّة الحجّة ووضوح البرهان. وانخرط في سلك بعض الجمعيّات والمؤسّسات التي تدعو إلى النّهوض والإصلاح»( ).  
+
 
 +
على أنّ تلك النّزعة التحليليّة التي تُداخِل الخطاب القصصيّ وتتخلّله، والتي يَختَفي فيها السّارد ويتوارى على حساب بروز الكاتب برؤاه الفكريّة السّافرة، تتجلّى أيضا في لغته الواصفة وخطابه على الخطاب حين يشخّص الواقع ويعرض له في نزعة سوداويّة تشاؤميّة تُحيل على خطابات الشّابي (توفّي 1934م) والطّاهر الحدّاد (توفّي 1935م) ورعيل المفكّرين من أمثالهما. ومن أجلى تلك المواقف وضوحا وأبعدها دلالة ما نجده مَاثِلا في هذا المقطع النصّي حين يقول واصفا أحوال الفتى بطل الرّواية: «وبَرَق للفتى أملٌ في الإصلاح. وكان الفتى صريحا وكان عَنُودا. ولهذا أقدم على الإصلاح بشيء من العنف، مع شيء كبير من قوّة الحجّة ووضوح البرهان. وانخرط في سلك بعض الجمعيّات والمؤسّسات التي تدعو إلى النّهوض والإصلاح»().
 +
 
وبموازاة كلّ ذلك لا تخلو الرّواية أيضا من الدّفاع عن قضايا المرأة، وهو ما يتردّد صداه أيضا في مؤلّفاته القصصيّة الأخرى. فرواية «حليمة» بطلتها امرأة وكلّ ما في اسمها دالّ على الحلم والنّضال. وفي روايته «... ومن الضّحايا» حضرت المرأة شخصيّة ثانويّة فيها، ولكنّه حمّل شخصيّة الفتى الرّئيسيّة بمواقف صريحة في الدّفاع عن العمّة العانس، رافضا أن تكون المرأة سلعة أو عقّارا. يقول في هذا المضمار مصرّحا بمواقفه من المرأة مُعلنا عن انحيازه إلى كرامتها: «فليست المرأة في نظره سلعة أو عقّارا. وليست هذه العانس عنده مصدرا للغُنم والاكتساب. بلْ إنّها عنده مأساة إنسانيّة أراد تداركها قبل أنْ تصبح عصيّة العلاج»( ).  
 
وبموازاة كلّ ذلك لا تخلو الرّواية أيضا من الدّفاع عن قضايا المرأة، وهو ما يتردّد صداه أيضا في مؤلّفاته القصصيّة الأخرى. فرواية «حليمة» بطلتها امرأة وكلّ ما في اسمها دالّ على الحلم والنّضال. وفي روايته «... ومن الضّحايا» حضرت المرأة شخصيّة ثانويّة فيها، ولكنّه حمّل شخصيّة الفتى الرّئيسيّة بمواقف صريحة في الدّفاع عن العمّة العانس، رافضا أن تكون المرأة سلعة أو عقّارا. يقول في هذا المضمار مصرّحا بمواقفه من المرأة مُعلنا عن انحيازه إلى كرامتها: «فليست المرأة في نظره سلعة أو عقّارا. وليست هذه العانس عنده مصدرا للغُنم والاكتساب. بلْ إنّها عنده مأساة إنسانيّة أراد تداركها قبل أنْ تصبح عصيّة العلاج»( ).  
 +
 
على أنّ مواقف المطوي في المتن الرّوائيّ لا تظهر فقط في ما أعلنا عنه، بل نجد رؤاه صريحة أيضا في مسائل أخرى من قبيل رأيه في المؤسّسة القضائيّة والمحاكم الشّرعيّة حين عرض لما كان فيها من خور واضطراب أضرّ بمصالح المتقاضين. يقول في ذلك مثلا: « ولأوّل مرّة يذهب الفتى إلى المحكمة الشّرعيّة الرّاجع إليها بالنّظر. وشدّ ما كانت صدمته عنيفة لمّا اتّصل بهذه المحكمة، فقد ساءته وحزّت منه المعاملة السيّئة التي كان يلقاها المتخاصمون والمتقاضون وكلّ من أُجبر على قضاء حاجة من هذه المحكمة: الإهمال والاضطراب يتمثّلان في كلّ ناحية من نواحيها، وتحلّب اللّهاة وامتداد اليد للارتشاء يبدُوَان على كلّ فم ينطق وكلّ يد تتحرّك»( ). ولم يكن للفتى من بدّ إلاّ أن يكافح ويخوض غمار المحاكم علّه يسترجع في النّهاية حقّه المسلوب، ويتمسّك بأرض الأجداد رمزا من رموز التجذّر في التّربة والوفاء للوطن. وهو يصرّح بضرورة مواصلة الكفاح في سبيل البلاد والعشيرة، أو كما يَهمس في لحظة تجلّ: «وكان له الحقّ الذي يراه بجانبه، لأنّه يُكافح في سبيل بلاده وسبيل العشيرة. فهل يكفيه ذلك عدّة ليُقارع خصمه القويّ الغنيّ، الجبّار العنيد؟» ( ).  
 
على أنّ مواقف المطوي في المتن الرّوائيّ لا تظهر فقط في ما أعلنا عنه، بل نجد رؤاه صريحة أيضا في مسائل أخرى من قبيل رأيه في المؤسّسة القضائيّة والمحاكم الشّرعيّة حين عرض لما كان فيها من خور واضطراب أضرّ بمصالح المتقاضين. يقول في ذلك مثلا: « ولأوّل مرّة يذهب الفتى إلى المحكمة الشّرعيّة الرّاجع إليها بالنّظر. وشدّ ما كانت صدمته عنيفة لمّا اتّصل بهذه المحكمة، فقد ساءته وحزّت منه المعاملة السيّئة التي كان يلقاها المتخاصمون والمتقاضون وكلّ من أُجبر على قضاء حاجة من هذه المحكمة: الإهمال والاضطراب يتمثّلان في كلّ ناحية من نواحيها، وتحلّب اللّهاة وامتداد اليد للارتشاء يبدُوَان على كلّ فم ينطق وكلّ يد تتحرّك»( ). ولم يكن للفتى من بدّ إلاّ أن يكافح ويخوض غمار المحاكم علّه يسترجع في النّهاية حقّه المسلوب، ويتمسّك بأرض الأجداد رمزا من رموز التجذّر في التّربة والوفاء للوطن. وهو يصرّح بضرورة مواصلة الكفاح في سبيل البلاد والعشيرة، أو كما يَهمس في لحظة تجلّ: «وكان له الحقّ الذي يراه بجانبه، لأنّه يُكافح في سبيل بلاده وسبيل العشيرة. فهل يكفيه ذلك عدّة ليُقارع خصمه القويّ الغنيّ، الجبّار العنيد؟» ( ).  
 
ولئنْ لم يفقد الأمل كلّ مرّة، لأنّ الأمل بعباراته: «هو أنا منذ أن رفعت قلمي وسجّلت اسم .. عفوا وشاء قلمي أن يكتب ساخرا من القيود والشّروط، والقواعد والألفاظ»( ). غير أنّ نهاية البطل كانت نهاية فاجعة إذْ انتهى إلى المرض والجنون مسلِّما بمصيره المحتوم في الظّاهر. وإنْ ظلّ الأمل يعشّش في داخله. ألم يقل في ختام الرّواية: « وهكذا جمع المسكين قواه ودبّ الأمل فيه بفضل هذه الشّجرة التي أكرمته منذ مئات السّنين ومنذ آلافها. وبعد راحة استمرّ في طريقه.. لكنْ لا يبدو عليه أنّه يجهل المصير »( ). ويرمز للأمل في الرّواية بالبحر والزّيتونة، بعد أن اِحتمى البطل بهما، وهما من رموز جمال تونس وعنوانا لثرواتها الحقيقيّة. ألم يقل في رسمها: « وشجرة الزّيتون هي سدرة المنتهى. وعرش لمن لا محطّة له إلاّ هي، ولا يأنس السّلامة إلاّ من ظلّها. ولا يملأ بطنه إلاّ من هوائها. ولا يشبع صدره إلاّ من ورقها، ولا يشدّ قلبه إلاّ من حبوبها»( ). ولهذا يدبّ فيه الأمل وينهض رغم عثراته وواقعه المرّ وما يُحيط به من محن وأدواء. فهي إذنْ نهاية سوداويّة من جهة، ولكنّها نهاية آملة متفائلة كشعر صديقه الشّابي الذي يرنو إلى الأفق المحجّب هازئا بالسّحب والأنواء. لهذا يستمرّ في طريقه غير هيّاب ولا مبال يروم تحقيق حلم بني وطنه في المجد والحياة بعزّة وشموخ.
 
ولئنْ لم يفقد الأمل كلّ مرّة، لأنّ الأمل بعباراته: «هو أنا منذ أن رفعت قلمي وسجّلت اسم .. عفوا وشاء قلمي أن يكتب ساخرا من القيود والشّروط، والقواعد والألفاظ»( ). غير أنّ نهاية البطل كانت نهاية فاجعة إذْ انتهى إلى المرض والجنون مسلِّما بمصيره المحتوم في الظّاهر. وإنْ ظلّ الأمل يعشّش في داخله. ألم يقل في ختام الرّواية: « وهكذا جمع المسكين قواه ودبّ الأمل فيه بفضل هذه الشّجرة التي أكرمته منذ مئات السّنين ومنذ آلافها. وبعد راحة استمرّ في طريقه.. لكنْ لا يبدو عليه أنّه يجهل المصير »( ). ويرمز للأمل في الرّواية بالبحر والزّيتونة، بعد أن اِحتمى البطل بهما، وهما من رموز جمال تونس وعنوانا لثرواتها الحقيقيّة. ألم يقل في رسمها: « وشجرة الزّيتون هي سدرة المنتهى. وعرش لمن لا محطّة له إلاّ هي، ولا يأنس السّلامة إلاّ من ظلّها. ولا يملأ بطنه إلاّ من هوائها. ولا يشبع صدره إلاّ من ورقها، ولا يشدّ قلبه إلاّ من حبوبها»( ). ولهذا يدبّ فيه الأمل وينهض رغم عثراته وواقعه المرّ وما يُحيط به من محن وأدواء. فهي إذنْ نهاية سوداويّة من جهة، ولكنّها نهاية آملة متفائلة كشعر صديقه الشّابي الذي يرنو إلى الأفق المحجّب هازئا بالسّحب والأنواء. لهذا يستمرّ في طريقه غير هيّاب ولا مبال يروم تحقيق حلم بني وطنه في المجد والحياة بعزّة وشموخ.
3-3 الرّؤيا من خلال فصل الرّواية الختامي:
+
 
 +
''3-3 الرّؤيا من خلال فصل الرّواية الختامي:
 +
''
 
لا تتجلّى رؤى المطوي في خطاب المقدّمات وفي العتبات ولا في متن الرّواية وحسب، بل تصير أقرب إلى السّمت الواضح في فصل الرّواية الختاميّ. فقد انتهت رواية «... ومن الضّحايا» بفصل عنونه الكاتب بـ «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون»( ). وفي هذا الفصل تداخلت الأجناس الأدبيّة فحضرت الرّسالة والأغنية والخبر التّاريخيّ إلى جانب أجناس أدبيّة أخرى يمكن أن نفرّعها على هذا النّحو:
 
لا تتجلّى رؤى المطوي في خطاب المقدّمات وفي العتبات ولا في متن الرّواية وحسب، بل تصير أقرب إلى السّمت الواضح في فصل الرّواية الختاميّ. فقد انتهت رواية «... ومن الضّحايا» بفصل عنونه الكاتب بـ «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون»( ). وفي هذا الفصل تداخلت الأجناس الأدبيّة فحضرت الرّسالة والأغنية والخبر التّاريخيّ إلى جانب أجناس أدبيّة أخرى يمكن أن نفرّعها على هذا النّحو:
1- الرّسالة الأدبيّة: «وأمسكَ بقلمه ليكتب فكتب رسالة طويلة في خمس عشرة صفحة» ( ).
+
 
2- الأغنية: «تسمعون من محطّة الشّرق الأدنى كلمة الآنسة بنت النّاس عنوانها (الأمل والتّشاؤم) أو (مرسى السّفينة) أو (شجرة الزّيتون)»( ).
+
1-الرّسالة الأدبيّة: «وأمسكَ بقلمه ليكتب فكتب رسالة طويلة في خمس عشرة صفحة» ( ).
3- الخبر التّاريخي: «وهو بالإخارة خطاب طارق بن زياد عندما أحرق السّفن وفيما قال... أنتم أضيع من الأيتام في مأدبة اللّئام»( ). ومنها إيراد خبر عبد الرّحمان النّاصر الذي جلس خمسين سنة على كرسيّ الإمارة بالأندلس( ).
+
 
4- محكيّ الطّفولة: «الأمل! -هو قول زميل في الكتّاب- ... يا سى ... الدّنيا جميلة والمستقبل جميل، والهواء جميل»( ).
+
2-الأغنية: «تسمعون من محطّة الشّرق الأدنى كلمة الآنسة بنت النّاس عنوانها (الأمل والتّشاؤم) أو (مرسى السّفينة) أو (شجرة الزّيتون)»( ).
5- القصص القرآني: « نعم. الأمل حسبما أعتقد هو أمل يونس... لولا أنّه كان من المسبّحين لَلبِثَ في بطنه إلى يوم يبعثون»( ).
+
 
6- الحديث النّبوي والسّير: «الأمل هو قول محمّد... اللّهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في ملحمة أحد»( ).
+
3-الخبر التّاريخي: «وهو بالإخارة خطاب طارق بن زياد عندما أحرق السّفن وفيما قال... أنتم أضيع من الأيتام في مأدبة اللّئام»( ). ومنها إيراد خبر عبد الرّحمان النّاصر الذي جلس خمسين سنة على كرسيّ الإمارة بالأندلس( ).
7- الشّعر بالإحالة على نصوص الشّابي وترديدها: والشّابي كان صوتا متفرّدا شغل أبناء جيله، ولذا عبّر الكاتب عن موقفه منه ولم يخف تأثّره به، يقول: «صرتُ الشّابي الشّاعر الفيلسوف العظيم إيه يا عزيزي سأعيش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشمّاء»( ). وهكذا يقرّ بفضل السّبق للشّابي ناسجا على منواله متّبعا رؤاه العميقة للكون والإنسان. يقول في ذلك مصرّحا بوضوح عن مواقفه: «إيه عزيزي. لقد سجّلت سلفا شعوري، وسبَقتَني بما تصوّرته وما لا أتصوّره. ولك الفضل الكبير في اقتباس يُثلج خاطري لأسكبه بين يدي مفسّر الأحلام»( ).  
+
 
 +
4-محكيّ الطّفولة: «الأمل! -هو قول زميل في الكتّاب- ... يا سى ... الدّنيا جميلة والمستقبل جميل، والهواء جميل»( ).
 +
 
 +
5-القصص القرآني: « نعم. الأمل حسبما أعتقد هو أمل يونس... لولا أنّه كان من المسبّحين لَلبِثَ في بطنه إلى يوم يبعثون»( ).
 +
 
 +
6-الحديث النّبوي والسّير: «الأمل هو قول محمّد... اللّهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في ملحمة أحد»( ).
 +
 
 +
7-الشّعر بالإحالة على نصوص الشّابي وترديدها: والشّابي كان صوتا متفرّدا شغل أبناء جيله، ولذا عبّر الكاتب عن موقفه منه ولم يخف تأثّره به، يقول: «صرتُ الشّابي الشّاعر الفيلسوف العظيم إيه يا عزيزي سأعيش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشمّاء»( ). وهكذا يقرّ بفضل السّبق للشّابي ناسجا على منواله متّبعا رؤاه العميقة للكون والإنسان. يقول في ذلك مصرّحا بوضوح عن مواقفه: «إيه عزيزي. لقد سجّلت سلفا شعوري، وسبَقتَني بما تصوّرته وما لا أتصوّره. ولك الفضل الكبير في اقتباس يُثلج خاطري لأسكبه بين يدي مفسّر الأحلام»( ).  
 +
 
 
وهو إلى ذلك يُحيل على المعرّي (توفّي 449 هـ) حين يقول: «وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزومايّاته فغدا أنيسًا ورفيقًا»( ). ويقتبس عن المتنبّي (توفّي 354 هـ) حين يقول: « كما قال المتنبّي:
 
وهو إلى ذلك يُحيل على المعرّي (توفّي 449 هـ) حين يقول: «وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزومايّاته فغدا أنيسًا ورفيقًا»( ). ويقتبس عن المتنبّي (توفّي 354 هـ) حين يقول: « كما قال المتنبّي:
 +
 
سُبحانَ خالق نفْسِي كَيــْفَ لَذَّتُها ♠ فِيمَــا تَرَاهُ النُّفـــُوسُ غَاليـــة الألَم»( ).  
 
سُبحانَ خالق نفْسِي كَيــْفَ لَذَّتُها ♠ فِيمَــا تَرَاهُ النُّفـــُوسُ غَاليـــة الألَم»( ).  
8- الأدب الرّحلي والعجيب: « ركبنا السّفينة، وكنت رئيسا عليها. وإذا بنا نضلّ الطّريق نشرف على شاطئ صقليّة»( ). وتتداخل الرّحلة والقصّ على لسان الحيوان بالعجيب حين يقول في ذلك: «ولقد مرّ أعرابي بالسّاحل وأعجبه منظر هذه الشّجرة المباركة، وقد مدّت فروعها وبسقت أغصانها على شاطئ البحر» ( ).  
+
 
ولئن بدا هذا الوصف لصيق الواقع، إلاّ أنه سرعان ما يتداخل بالعجيب والغريب حين يقول: «وكانت دهشته عظيمة عندما وجد جانبًا من الحوت يتقلّب في الرّمال.. وقف مستغربا [...] هنا فقط خاطبه الحوت: أيّها المارّ ألم تعلم أنّ هذا المكان لا يأتي إليه إلاّ الشقيّ المنكود [...] ثمّ أجابه كبير العصافير: أيّها المارّ إنّ الحظّ طيرك في مغامرة كبرى... » ( ).
+
8-الأدب الرّحلي والعجيب: « ركبنا السّفينة، وكنت رئيسا عليها. وإذا بنا نضلّ الطّريق نشرف على شاطئ صقليّة»( ). وتتداخل الرّحلة والقصّ على لسان الحيوان بالعجيب حين يقول في ذلك: «ولقد مرّ أعرابي بالسّاحل وأعجبه منظر هذه الشّجرة المباركة، وقد مدّت فروعها وبسقت أغصانها على شاطئ البحر» ( ).  
4 - الخاتمة
+
ولئن بدا هذا الوصف لصيق الواقع، إلاّ أنه سرعان ما يتداخل بالعجيب والغريب حين يقول: «وكانت دهشته عظيمة عندما وجد جانبًا من الحوت يتقلّب في الرّمال.. وقف مستغربا [...] هنا فقط خاطبه الحوت: أيّها المارّ ألم تعلم أنّ هذا المكان لا يأتي إليه إلاّ الشقيّ المنكود [...] ثمّ أجابه كبير العصافير: أيّها المارّ إنّ الحظّ طيرك في مغامرة كبرى... » ().
 +
 
 +
'''4 - الخاتمة
 +
'''
 
وحاصل ما يمكن أن نختم به عملنا هو أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي تكشف بجلاء عن رؤيته الحسيّة المباشرة، ولكنّها في الآن نفسه تجلو للقارئ رؤيا الأديب المطوي من قضايا الوطن والوطنيّة.  
 
وحاصل ما يمكن أن نختم به عملنا هو أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي تكشف بجلاء عن رؤيته الحسيّة المباشرة، ولكنّها في الآن نفسه تجلو للقارئ رؤيا الأديب المطوي من قضايا الوطن والوطنيّة.  
 +
 
ولئن حضرت الرّؤية في أغلب الأحيان حضورا صريحا بل سافرا، فإنّ ذلك ساهم في انسحاب الفنّ على حساب تمكّن الإيديولوجيا من الخطاب القصصيّ، فتحوّلت تبعا لذلك الرّؤيا إلى إعلان عن مواقف الكاتب ومواقف جيله من حارق ما يعتمل في مجتمعهم ويمور في أحشائه من قضايا ومحن.  
 
ولئن حضرت الرّؤية في أغلب الأحيان حضورا صريحا بل سافرا، فإنّ ذلك ساهم في انسحاب الفنّ على حساب تمكّن الإيديولوجيا من الخطاب القصصيّ، فتحوّلت تبعا لذلك الرّؤيا إلى إعلان عن مواقف الكاتب ومواقف جيله من حارق ما يعتمل في مجتمعهم ويمور في أحشائه من قضايا ومحن.  
 
ورغم أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي، وما شاب نسبتها من شكوك، إلاّ أنّها كانت فاتحة الفنّ الرّوائيّ ومسوّدة ساعدته على أن يكتب في مستقبل أيّامه القصّة القصيرة والرّواية متداركا مقتضيات الفنّ ولوازم الإبداع، فتراءت الرّؤية على حساب الرّؤيا وصارت نصوص حليمة والتّوت المرّ وطريق المعصرة أعمالا إبداعيّة فيها من عناصر الصّنعة ما به شبّ المطوي على الطّوق وتمكّن من المسك بخيوط اللّعبة السرديّة.
 
ورغم أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي، وما شاب نسبتها من شكوك، إلاّ أنّها كانت فاتحة الفنّ الرّوائيّ ومسوّدة ساعدته على أن يكتب في مستقبل أيّامه القصّة القصيرة والرّواية متداركا مقتضيات الفنّ ولوازم الإبداع، فتراءت الرّؤية على حساب الرّؤيا وصارت نصوص حليمة والتّوت المرّ وطريق المعصرة أعمالا إبداعيّة فيها من عناصر الصّنعة ما به شبّ المطوي على الطّوق وتمكّن من المسك بخيوط اللّعبة السرديّة.

مراجعة 08:37، 12 جوان 2020

1 - على سبيل التّمهيد

نتناول في مقالنا مسألة رؤيا الأديب للعالم والكون والإنسان، وقد عنونّا ورقتنا: من رؤية الواقع إلى رؤيا العالم : رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي مثالا. وقد تخيّرنا رواية « ... ومن الضّحايا » لمحمّد العروسي المطوي (1920 - 2005) دون غيرها من إنتاجه القصصيّ، وذلك لعدّة اعتبارات منها أنّ نصّ رواية « ... ومن الضّحايا »:

-نصٌّ بكر، دشّن بداية تجربة المطوي الرّوائيّة، وفيه جَمجَم عن تصوّراته الأولى للكتابة القصصيّة.

-نصٌّ مغبون مهمّش لم يُتناول بعمق في الكتابات النقديّة على خلاف ما سُكب حول رواية « حليمة » أو رواية « التّوت المرّ ».

-نصّ لم يبلغْ مرحلة النّضج وتداخلت فيه الرّؤية والرّؤيا وحضر الإيديولوجيّ على حساب الرّوائي.

-نصٌّ مطعون في نسبته للمطوي، فقد كتب الأستاذ مختار العبيدي في الملحق الثّقافي لجريدة الصّباح منذ عشر سنوات خلت مؤكّدا أنّ هذه الرّواية أو أهمّ فصولها كان كتبها « عمّه أحمد العبيدي وهو نفسه بطل الرّواية الذي كان طالبا بجامع الزّيتونة مع العروسي المطوي وصديقا وفيّا له. وقد مرض بالرّبو فانقطع عن الدّراسة. ولكنّه كان في الأثناء يُرسل في كلّ شهر رسالة لصديقه محمّد العروسي المطوي يُعلمه فيها بأحواله وينقد من خلال بعضها طرق التّدريس بالزّيتونة وينقد في أخرى الأوضاع الاجتماعيّة في ما كان يُسمّى سوق الأربعاء جندوبة اليوم. وقد عاث فيها المعمّر سفلاي (Le colon Savaly) فسادا. فجمع المطوي هذه النّصوص ونشرها باسمه بالعنوان الذي كان يُوقّع به أحمد العبيدي رسائله وهو : ... ومن الضّحايا»( ). وأيّا تكن نسبة النصّ للمطوي أم لصديقه أحمد العبيدي المغمور( )، أم لهما معا، هذا مُنشئا لأحداثها وذاك صَوَّاغا لعباراتها، فإنّها عندنا كتابة أطراس، أو كتابة جماعيّة حضر فيها المرجعيّ وأناخ بكلكله على حساب التّخييليّ، وعاضده محكيّ الطّفولة على حساب الفنّ الرّوائيّ. بل هي على نحو ما مسوّدة رواية أو خامة صالحة لتكون رواية. وقد عرف جماعة تحت السّور مثلا هذا التّبادل للنّصوص على نحو ما أحلت عليه في كتابي عن الدّوعاجي من عتمة نسبة بعض النّصوص أهي لمحمود بيرم التّونسيّ (توفّي 1961 م) أم لعلي الدّوعاجي (توفّي 1949 م) أم لغيرهما( )؟

-نصٌّ يفجّر عمقه في نهايته. إذْ بؤرة الرّواية ومستقرّها عندنا في فصلها الأخير الذي عنوانه: «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون» ( ). وفي هذا الفصل تتداخل الأجناس الأدبيّة وتتفاعل فيما بينها كما تتراسل الفنون والخطابات وهو ما يشي بثقل الإرث الإبداعيّ الأدبيّ وغير الأدبيّ الذي ينهل منه المطوي ويتفاعل معه أخذا وذاكرة ومحوا.

-نصٌّ يُعلن عن مواقف المطوي ومن ورائه العبيدي وكلّ جيلهما من قضايا الفقر والتّفاوت الطّبقي والاستعمار والتخلّف والظّلم توقا إلى إحلال القيم البديلة من عدل وحريّة ومساواة. -نصٌّ ينحاز إلى المشروع النّضالي الوطني وينخرط في المقاومة ضدّ الاستعمار لصالح الدّولة الوطنيّة وقيم الحداثة والتّنوير.

فلكلّ هذه الدّواعي تخيّرنا هذا النصّ الرّوائيّ لنسبر من خلاله مواقف المطوي ونتعرّف إلى رؤيته ورؤاه من قضايا الوطن وهموم الإنسان. فما الرّؤية والرّؤيا في المعاجم والموسوعات؟

2 - في الرّؤية والرّؤيا: من الدّلالة المعجميّة إلى السّياقات الفكريّة

إذا كان الأمر على هذا النّحو من اختيار المدونة التي سنسبر من خلالها مواقف المطوي، فإنّ لوازم الدقّة العلميّة تقتضي أن نضبط مصطلحي العنوان: الرّؤية من جهة والرّؤيا من جهة أخرى. فما الرّؤية؟ وما الرّؤيا؟

نحن نميّز هنا بين الرّؤية والرّؤيا (Vision)، أي بين رؤية العين المجرّدة ورؤيا الأديب الثّاقبة بما هي كشف وتنبّؤ. على غرار ما نجده في لسان العرب لابن منظور حين جعل الرّؤية مرتبطة أساسا بالنّظر بالعين وما قد «يقع البصر عليه» ( ). بينما ربط الرّؤيا بما يراه النّائم في منامه( ). وجمع الرّؤيا «رُؤًى بالتّنوين»( ). ولها علاقة بالجنّ، لأنّ الرئيِّ هو ذاك «الجنيُّ يراه الإنسان» ( ). وهو الذي كما يقول: «يتعرّض للرّجل يُريه كهانة وطِبًّا»( ).

فاللّغة العربيّة حينئذ تسمح في بنيتها المعجميّة بتعدّد دوال الفعل (رأى). ولئن كانت الرّؤية تقتصر على البصريّ وعلى المدركات الحسيّة المباشرة، فإنّ الرّؤيا تتعدّى ذلك إلى العقل والحُلم على نحو يجعل منها أداة المعرفة البشريّة بامتياز.

ومن جهة أخرى تُعرِّف المعاجم المختصّة الرّؤيا بأنّها «مقدرة غير عاديّة على النّظرة الحكيمة وحسن التّمييز ونفاذ البصيرة»( ). وهي كذلك الطّريقة التي «يرى أو يتخيّل بها الإنسان»( ). ولهذا ربط صاحب معجم المصطلحات الأدبيّة الرّؤيا بكلّ «صورة عقليّة ناتجة عن ملكة الخيال»( ). وفي واقع الحال نعتبر أنّ رؤيا الأديب المطوي التي نسعى إلى تتبّعها هنا، إنّما هي مجمل مواقفه الشّاملة من الحياة ونظرته الثّاقبة للمجتمع التّونسيّ بماضيه الغابر وحاضره المثخن ومستقبله الآمل. وفي التّنظير الغربيّ الحديث شغل مفهوم رؤيا العالم الفلاسفة والمفكّرين، وصار مجالا واسعا للتّحليل والتّأويل. فهذا دلتاي (Wilhelm Dilthey) (توفّي 1911 م) نفسه يشدّد على أهميّة الرّؤيا معتبرا أنّ اللّجوء إلى رؤيا العالم يُمكِّن من التّفكيك الإنسانيّ للواقع( ). والأدب هو ملتقى الفردي بالجمعيّ، حيث يلتقي الفرد بروح الشّعب وفكره كما يؤكّد على ذلك دلتاي. وهذا كارل مانهايم (Karl Mannheim) (توفّي 1947 م)، يذهب إلى أنّ رؤيا العالم تنبني أساسا على التمثّل الكلّي للإيديولوجيا وصهرها في بوتقة النصّ. وأمّا نورثروب فراي (Northrop Frye) (توفّي 1991 م)، فيرى أنّ الأدب هو حلم الإنسان أو رؤيا رغباته المشبعة في عالم برئ. إنّها عنده رؤيا المجتمع الإنسانيّ الحرّ. وتلخيصا لكلّ ما سبق يمكن أن نُجمل الفروق بين الرّؤية والرّؤيا في الجدول التّالي: الرّؤية الرّؤيا الرّؤية محسوس عيني حيّ الرّؤية لغتها العبارة الرّؤية نظر سطحيّ في الموجودات الرّؤية حسّ وواقع الرّؤية معناها سطحي الرّؤية يَتوصَّل إليها القارئ العادي بيسر الرّؤيا تنبّؤ وكشف الرّؤيا لغتها الإشارة والمجاز والرّمز الرّؤيا تأمّل بهيج للعالم والكون الرّؤيا حدس وحلم الرّؤيا معناها عميق محجّب الرّؤيا يتوصّل إليها القارئ المؤوِّل بمسبار العقل الأريب

وهكذا يمكن القول إنّ الرّؤيا وحدها هي التي ستمكّن الكاتب محمّد العروسي المطوي من اِستكشاف صورة الإنسان في تحقّقه التّاريخيّ، وهو الذي واكب الحياة التّونسيّة الصّميمة بكلّ مشاغلها ورغباتها وأحلامها ونجاحاتها وانتكاساتها أيضا.

3 - رؤيا الأديب محمّد العروسي المطوي للعالم: من العتبات إلى المتن الرّوائيّ

3-1 الرّؤيا من خلال المناصّ:

حين نروم تتبّع مواقف المطوي وتبيّن رؤاه لا نظفر بها في متن الرّواية ومن خلال تصريحاته وتدخّلاته السّافرة في النصّ وحسب، وإنّما نجدها أيضا مُعلنة منذ عتبات الكتاب وفيما اصطلح عليه جيرار جينات (Gérard Genette) بالمناصّ (Paratexte) الذي يشمل عنده جميع المكوّنات التي تهمّ عتبات النصّ من قبيل العنوان والعنوان الفرعيّ والعنوان الدّاخلي والدّيباجات والحواشي والرّسوم وغيرها ( ). وعلى هذا النّحو تُعلن النّسخة التي نعتمدها منذ غلافها عن عنوانها : «... ومن الضّحايا»، دون أنْ نجد ما يُحيل في الغلاف على أنّها رواية. وتشير الطّبعة إلى أنّها نشرت سنة 1956 أي بُعَيْد الاستقلال، ضمن سلسلة «كتاب البعث» وما في عنوان السّلسلة من دلالة على النّهوض ونفض مظاهر الخمول والجمود، وهو الكتاب السّابع من كتبها الشّهريّة بعد كتاب «نداء العمل» وكتاب «مع الشّابي». هذه السّلسلة التي يُديرها الأديب أبو القاسم محمّد كرّو (توفّي 2015 م)، والتي أراد لها أن تكون كما هو مُعلن على ظهر غلافها الخارجيّ «مجلّة الجيل الواعي.. المتحفّز إلى غد أسعد.. وحياة أفضل.. ومستقبل مليء بالمعرفة»( ). وهي فضلا عن ذلك ترمي، وكما خطّط لها صاحبها، إلى «جعلك تعيش عصرك.. وتُساهم في نهضة وطنكَ»( ). فهدفها الأساسي وفق هذا التصوّر أنْ «تذود عن حريّة الفكر وقيمه العليا.. ومثله الخالدة» ( ).

وبموازاة مناصّ العنوان وظهر الغلاف الخارجيّ، حَوت الرّواية على مقدّمة أو إهداء أعلن من خلالهما المطوي عن مواقفه، بلْ صرّح عن رؤيته من الكتابة ووظائفها قائلا: «فإليكَ أيّها الضحيّة أقدّم هذه الصّفحات»( ). وهو لا يُعلن عن جنس كتابه بل يَحار في تسميتها بالقصّة أو المشهد، مبرِّرا ذلك بالقول: « الذي يعنيني فقط هو أنْ أنقل إليكَ هذا الحديث كما هو مسطور في قصّة الحياة. هذه القصّة التي نقرأ منها جميعا، ونُساهم في تأليفها جميعا»( ). فالكتابة القصصيّة حينئذ في رؤيا الأديب المطوي، تمتح مادّتها من الحياة، وتستقي سداتها من حوادث الأيّام. وهي فضلا عن ذلك لحظة دالّة ومشهد مكتنز مكثّف تقع عليه عين الكاتب فيستمدّ منه رؤيته ويصوغ من رموزه رؤاه. وهكذا فالرّواية في أجلّ مفاهيمها عند المطوي، إنّما هي «مشهد من مشاهد قصّة الحياة»( ).

فكأنّ المطوي يتنصّل من قيود الفنّ ولوازم الكتابة الرّوائيّة وشروطها( ) على حساب الرّؤيا والالتزام بقضايا الوطن. ومن هذا المنطلق قَرن المطوي عمل الكاتب وشبّهه بعمل النسّاج الحائك «في نسج الثّوب الذي نُحاول أن تَلبسه الحياة بعد أن يُحاك على منَاسِجنا الذي ندبّره بأيدينا»( ).

3-2 الرّؤيا من خلال المتن النصّي:

إنّ النّاظر في المتن السرديّ لرواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي يتمثّل بجلاء نزعته إلى الواقعيّة وحرصه على تصوير الإنسان التّونسي عامّة ومجتمع الرّيف بصفة خاصّة في فترة من فترات الاحتلال الفرنسي إبّان الخمسينات. ومن تجلّيات واقعيّته أن تخيّر الكاتب بطله من صميم البيئة التّونسيّة فتى وافر الذّكاء عزوفا أنوفا، صُلب الرّأي، شديد الخصومة. غير أنّ هذا الفتى لن يكون ظلاّ لأبيه ولا امتدادا له. وأمّا الوالد فكان: « عميدُ أسرة فتانا شيخ الزّاوية ومستودع أسرار المريدين، ومحلّ رجائهم في الخلاص. وكان الشّيخ محلّ التّقديس، وكان ميدانا صاخبا للتّنافس في التقرّب منه ومصاهرته، فكثرت زوجاته وتعدّد بنوه. فقد كانت العذارى تُهدى إليه إهداء. وماذا تقول البنت وقد نذر أبوها أن تُقدَّم إلى الشّيخ زوجا حلالا! وكم منهنّ من ينالهنّ الرّفض من الشّيخ فيحسّ الأب بخيبة الأمل ومرارة الردّ»( ). لقد رفض الفتى إذنْ أن يكون صورة لماضيه بكلّ ما فيه من تخلّف وتمسّك زائف ببالي العادات القديمة، وهو ما أتاح للمطوي أنْ يُعلن من خلال صوته القلق وثورته الحادّة عن رؤاه من جملة من القضايا والمواقف، إذْ وجد في الفتى صورته وعبّر من خلال مواقفه عن توقه إلى رفض الظّلم والاستعمار، ونبذ التخلّف والعيش في الأوهام.

ويجد الفتى نفسه في صراع قويّ مع شخصيّات معرقلة تتعارض رغبتها السرديّة ورؤاها الفكريّة مع رغبته ورؤاه، فمن هذه الشخصيّات المقابلة لرغبة الفتى شخصيّة المستعمر الدّخيل أو الدّخلاء أو صاحب المستعمرة أو صاحب مستعمرة الهكتار كما يُعبِّر عن ذلك في متن الرّواية. وحتّى بنو جلدته من السكّان الأصليّين كانوا لرغبته متنكّرين بل اصطفّوا إلى جانب المستعمر، فأطلق عليهم اسم الضّمائر الخربة مرّة والأحمرة المذلّلة مرّة أخرى. وكان له القاضي الشّرعيّ خصما عنيدا فلعب دورا كبيرا في خسارة أرضه وجنونه في النّهاية. بهذا رُشّح الفتى للصّراع وأوكَل الكاتبُ للسّاردِ العليم مهمّة التّعبير عن مواقفه، والإصداح برُؤاه من قضايا عصره العديدة الحارقة. يقول فاضحا خُطط المستعمر كاشفا عن المتعاونين معه، ممّن نعتهم بـ«الأحمرة المذلّلة». أو كما يقول: «وكانت بلاهة السكّان الأصليّين وجهلهم خير مساعد لتنفيذ خطّة الاستعمار الابتلاعيّة. وقد وجد هذا الاستعمار من «الأحمرة المذلّلة» والضّمائر الخربة خير سند يعتمد عليه وأمتن جسر عَبَر فوقه لينال أغراضه ويحقّق أهدافه» ( ). لقد طغت في المقطع النصّي السّابق الذي تنخّلناه الرّؤية على الرّؤيا وعلا صوت الإيديولوجيّ على حساب صوت الفنّ القصصيّ وغاب التّلميح لصالح التّصريح، إيذانا برغبة الكاتب في الفضح والتّعرية. فالمطوي مُنخرط بكليّته في مشروع الدّولة الوطنيّة النّاشئة مُلتزم بقضايا شعبه يَروم تشخيص الواقع بأدوائه بحثا منه عن سُبل الخلاص والخروج من التخلّف ومن هذا «الوضع الأعرج»( )،كما يقول. ولئن حَاول أن يتوسّل بنظام التّرميز في عبارة «الأحمرة المذلّلة»، إلاّ أنّه سرعان ما هتك أستار الصّورة الدّقيقة وعرّي لُطفها حين شرحها في الهامش. فهي كما جاء في التّعريف: «لقب يُطلقه الهنود على الحكّام المسؤولين الخاضعين للمستعمر والمنفّذين لأغراضه»( ).

ولا يلبث السّارد أن ينحرف عن مهمّة السّرد إلى مهمّة الإصداح بمواقف المطوي أو كأنّه ينسحب ليحشو نصّه بمفاهيمه الجديدة عن الإنسان ويجعل الدّفاع عن الكرامة لصيقة بماهيته ووجوده. ولهذا ندَّد مرارا في غضون الرّواية بالظّلم وكشف عن مواقفه من الاستعمار، منتصرا في كلّ آن إلى جانب المعدمين من الضّحايا، ضحايا الاستغلال والجشع والتّقسيم غير العادل للثّروات، فضلا عن نهب المستعمر والدّخيل الذي وجد عَونا من الخونة والأذناب ممّن سهّلوا سطوه وشرّعوا سرقته. يقول في نبرة احتجاجيّة واضحة تُعلن عن التزامه غير المشروط بقضايا شعبه: «وتبارى الدّخلاء في امتلاك الأراضي وطرد مالكيها الشّرعيّين. ولم يمض زمن حتّى أصبح أولائك المالكون الشّرعيّون فقراء معدمين لا يملكون أرضا، ولا يكسبون رزقا. وهَامَ الكثير منهم على وجهه يلتمس قُوتَه بالمذلّة والمهانة. وبقي القسم الأعظم منهم عَمَلة عند أسيادهم!»( ). فالمطوي إذنْ يُؤمن أشدّ الإيمان بأنّ للأدب وظيفة تنويريّة تغييريّة، تمسّ قضايا النّاس وتسعى إلى زحزحتها وتغييرها. وهو الملتزم بقيم الكرامة الإنسانيّة. يقول في هذا المعنى: «إنّ في مفهوم الإنسان الدّفاع عن الكرامة. فهل ابتعدوا عن هذا المفهوم إلى ذلك الحدّ؟»( ). هذه الكرامة التي ينتهكها المغتصب. ولهذا لا يتورّع في الإحالة على المرجعيّ متخيِّرا حوادث دالّة من قبيل ما جاء في هذا المقطع النصّي: «وذات يوم من شهر أوت من سنة 1922 اهتزّت جنبات سهل جندوبة لنبإ ملأ الأرجاء رُعبا وهَولاً. فقد عمد أحد المستعمرين إلى شنق عامليْن من عمّاله لأنّهما اختطفا عنقود عنب من مزرعة سيّدهما بدون استئذان، فكان جزاؤهما أنْ شُنقا ساعات طوالا في وهج الشّمس»( ). وممّا لا ريب فيه أنّ صورة تنكيل المستعمر، التي عوّل فيها المطوي على المرجعيّ ونهل فيها من التّاريخيّ حين استقى الخبر من جريدة «مرشد الأمّة» وأثبت ذلك في الهامش( )، لها مثيلاتها في قصص المطوي. ففي رواية حليمة سيعمد إلى تسريد التّاريخيّ حين عَرض لموت والد حليمة الذي قتله المعمّر لا لشيء إلاّ لأنّه قطف زهرة من بستانه اشتهتها امرأته الحامل( ). ففعل التّنكيل والقتل إذنْ في عُرف المستعمر واحد لا ينفصل.

ويسير السّارد في منطق الفضح حين يتخيّر عباراته مُستعملا في ذلك الصّور الرمزيّة والعبارات المخصوصة بما يمكّنه من رسم بشاعة الدّخيل وبيان شدّة استغلاله حين يقول: «وقهقه الدّخيلُ ملْء هكتاره. لقد وجد الحلّ، ولنْ يعوزه المال. المال هو العصا السحريّة التي ستجعل من ذلك الهكتار مصدر ثراء واسع. إنّه سيقودهم بعصاه كما يقود الجزّار نعاجه الوادعة السّاذجة»( ). وعلى هذا النّحو يلعب التّمثيل في هذا المقطع السّابق فعله ويقوّي من نبرة الاحتجاج، كاشفا جشع المغتصِب وجوره، وتلك مواقف تنسجم مع رؤيا الأديب المطوي، وهو المنخرط في الشّأن الوطني التّونسي الملتزم بقضايا المجتمع والدّولة.

ومن مواقفه المعلنة أيضا في تلافيف الرّواية نقمته على اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة وجمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول أو كما يقول: «كان السّواد يَمثُل له أنَّى سار: ففي الطّريق اِعوجاج البشر وظلم الأحكام وقساوة الطّغاة. وفي المعهد جمود الفكر وتبليد الأذهان وتحجّر العقول. وفي مسقط الرّأس البليّة الكبرى: أوهام وخرافات، وإحن ومشاحنات، خضوع وتقرّب لمن يدسّ لهم السمّ في الدّسم، ويعمل ليله ونهاره على أنْ يُخرجهم من أرض الجدود حفاة عراة»( ). وهو يعي جيّدا العلاقة بين تفشِّي الخرافات والأوهام وانتشار الزّوايا وخطط المستعمر الذي يعمل على توظيفها خدمة لمصالحه مادامت مخدّرا روحيّا يضمن له الهيمنة على العقول وتحقيق الأمن في خنوع وخضوع. يقول في كشف دالّ عن رؤاه الفكريّة وتوجّهاته المستنيرة على لسان الفتى: «هو يعلم مدى عطف الاستعمار على الطّرق والزّوايا، ومدى مساعدتهم لأربابها والقائمين عليها. وهي المخدّر الرّوحي الذي يُناصره الاستعمار ويمدّه بالإعانة لعلمه أنّ رواج ذلك المخدّر استقرار له وأمن، وأنّ في زواله إيقاضا للمشاعر وتحفّزا للكرامة والعزّة»( ).

وتزداد الرّؤية وُضوحا لتشغل الحيّز الرّوائي وتتردّد في متنه مُعلنة عن مواقف المطوي الأخرى ومن أهمّها ما وجدناه من آراء حول التّعليم الزّيتوني والتي جَهَر بها على لسان الشّخصيّة الرّوائيّة الرّئيسيّة( ). يقول في هذا الباب بمزيد بيان: «وانتقل الفتى ذات خريف إلى العاصمة، وانخرط في سلك تلامذة جامع الزّيتونة الأعظم. وكان مسكنُ الفتى بإحدى مدارس سُكنى الطّلبة الواقعة قريبا من حيّ الحلفاويّين المليء بالحركة والضّجيج، والمزدحم كامل النّهار وجزءا من اللّيل بالنّاس والباعة المتجوّلين. وكانت مساكن أولائك الطّلبة على غاية من الإهمال والفوضى لا تخضع إلاّ لصورة وهميّة من النّظام والرّقابة. وعندما أصبحت بيوت تلك المدارس لا تكفي لإيواء جميع الطّلبة الملتحقين بجامع الزّيتونة آلت تلك البيوت إلى ما يُشبه السّجون المضيفة حيث أصبحت تُحشى حشوا مهولا بالسّاكنين ممّا هو فوق طاقتها، وممّا يجعل قاطنيها عُرضة للأمراض والعلل»( ).

ويمتزج نقد أساليب التّعليم الزّيتوني في مواضع أخرى من الرّواية بمحكيّ الطّفولة فيصير السّرد لمحة دالّة فيه وصف لأجواء الحياة بحلقات الدّروس بالجامع المعمور. يقول في هذا الصّدد واصفا ما كان المطويّ وهو الطّالب الزّيتونيّ عليه من تمرّد وسخط: «كان الفتى -كما علمتَ- يختلف إلى حلقات الدّروس بجامع الزّيتونة. وكانت كلّ سنة دراسيّة يقضّيها الفتى بين تلك الحلقات تزيده تمرّدا وسُخطا على طرق الدّراسة وأساليبها. وعلى مناهج التّفكير والبحث عند طائفة كبيرة من شيوخه وأساتذته»( ).

غير أنّه حين تحضر رؤية المطوي في روايته حضورا صريحا بل سافرا، ينسحب الفنّ على حساب الإيديولوجيا وتتحوّل الرّؤيا إلى إعلان عن المواقف التي تطمس معالم الفنّ القصصيّ القائم على التّلميح والتّعمية بالأساس. يقول في بيان وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها: «وكانت أحلام الشّباب وضفراته، وكانت وضعيّة التّعليم بالزّيتونة وطرق التّدريس وأساليبه فيها، كلّ ذلك يدفعه إلى شيء غير قليل من السّخط على الأوضاع والتبرّم بالتّقاليد»( ).

ولم تكنْ رغبته في إصلاح التّعليم الزّيتوني إلاّ توافقا وانسجاما مع رؤيته العميقة للنّهضة العربيّة التي عِمادها إصلاح التّعليم والارتقاء به. يقول في هذا الباب: «وأعجبَ الفتى بروّاد النّهضة العربيّة المعاصرة من كتّاب وشعراء، ومفكّرين ومصلحين. وأقبل على إنتاجهم بفكر هاضم وعقل واعٍ. ولكنّ محصول الفتى الجديد جنَى على أعصابه، لقد أحسّ بجحيم داخليّ ملتهب السّعير. لقد قارن بين الأوضاع ومعطيات الفكر الحرّ، وقارن بين مبادئ الدّين وسلوك المتّبعين لهذا الدّين، وبين أصول الدّين وهذه الإضافات والشّروح والحواشي، وإذا بالتّناقض يَملأ جوانبه ويغبر أمامه المسالك والطّرق. وصَلاَه جحيم الشكّ والارتياب فعاش دهرا في عالم غامض مبهم. وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزوميّاته فغدا له أنيسا ورفيقا» ( ). لقد كشف المقطع النصّي السّابق عن الرّوافد الفكريّة التي منها استمدّ المطوي رؤاه الفكريّة وذائقته الأدبيّة وهي الرّوافد التي يحرّض القارئ عليها وينبّهه إليها، ففي تراثنا القديم والحديث من ثراء الفكر ما يمكّن من تحقيق النّهضة ودفع التخلّف والجمود.

على أنّ تلك النّزعة التحليليّة التي تُداخِل الخطاب القصصيّ وتتخلّله، والتي يَختَفي فيها السّارد ويتوارى على حساب بروز الكاتب برؤاه الفكريّة السّافرة، تتجلّى أيضا في لغته الواصفة وخطابه على الخطاب حين يشخّص الواقع ويعرض له في نزعة سوداويّة تشاؤميّة تُحيل على خطابات الشّابي (توفّي 1934م) والطّاهر الحدّاد (توفّي 1935م) ورعيل المفكّرين من أمثالهما. ومن أجلى تلك المواقف وضوحا وأبعدها دلالة ما نجده مَاثِلا في هذا المقطع النصّي حين يقول واصفا أحوال الفتى بطل الرّواية: «وبَرَق للفتى أملٌ في الإصلاح. وكان الفتى صريحا وكان عَنُودا. ولهذا أقدم على الإصلاح بشيء من العنف، مع شيء كبير من قوّة الحجّة ووضوح البرهان. وانخرط في سلك بعض الجمعيّات والمؤسّسات التي تدعو إلى النّهوض والإصلاح»().

وبموازاة كلّ ذلك لا تخلو الرّواية أيضا من الدّفاع عن قضايا المرأة، وهو ما يتردّد صداه أيضا في مؤلّفاته القصصيّة الأخرى. فرواية «حليمة» بطلتها امرأة وكلّ ما في اسمها دالّ على الحلم والنّضال. وفي روايته «... ومن الضّحايا» حضرت المرأة شخصيّة ثانويّة فيها، ولكنّه حمّل شخصيّة الفتى الرّئيسيّة بمواقف صريحة في الدّفاع عن العمّة العانس، رافضا أن تكون المرأة سلعة أو عقّارا. يقول في هذا المضمار مصرّحا بمواقفه من المرأة مُعلنا عن انحيازه إلى كرامتها: «فليست المرأة في نظره سلعة أو عقّارا. وليست هذه العانس عنده مصدرا للغُنم والاكتساب. بلْ إنّها عنده مأساة إنسانيّة أراد تداركها قبل أنْ تصبح عصيّة العلاج»( ).

على أنّ مواقف المطوي في المتن الرّوائيّ لا تظهر فقط في ما أعلنا عنه، بل نجد رؤاه صريحة أيضا في مسائل أخرى من قبيل رأيه في المؤسّسة القضائيّة والمحاكم الشّرعيّة حين عرض لما كان فيها من خور واضطراب أضرّ بمصالح المتقاضين. يقول في ذلك مثلا: « ولأوّل مرّة يذهب الفتى إلى المحكمة الشّرعيّة الرّاجع إليها بالنّظر. وشدّ ما كانت صدمته عنيفة لمّا اتّصل بهذه المحكمة، فقد ساءته وحزّت منه المعاملة السيّئة التي كان يلقاها المتخاصمون والمتقاضون وكلّ من أُجبر على قضاء حاجة من هذه المحكمة: الإهمال والاضطراب يتمثّلان في كلّ ناحية من نواحيها، وتحلّب اللّهاة وامتداد اليد للارتشاء يبدُوَان على كلّ فم ينطق وكلّ يد تتحرّك»( ). ولم يكن للفتى من بدّ إلاّ أن يكافح ويخوض غمار المحاكم علّه يسترجع في النّهاية حقّه المسلوب، ويتمسّك بأرض الأجداد رمزا من رموز التجذّر في التّربة والوفاء للوطن. وهو يصرّح بضرورة مواصلة الكفاح في سبيل البلاد والعشيرة، أو كما يَهمس في لحظة تجلّ: «وكان له الحقّ الذي يراه بجانبه، لأنّه يُكافح في سبيل بلاده وسبيل العشيرة. فهل يكفيه ذلك عدّة ليُقارع خصمه القويّ الغنيّ، الجبّار العنيد؟» ( ). ولئنْ لم يفقد الأمل كلّ مرّة، لأنّ الأمل بعباراته: «هو أنا منذ أن رفعت قلمي وسجّلت اسم .. عفوا وشاء قلمي أن يكتب ساخرا من القيود والشّروط، والقواعد والألفاظ»( ). غير أنّ نهاية البطل كانت نهاية فاجعة إذْ انتهى إلى المرض والجنون مسلِّما بمصيره المحتوم في الظّاهر. وإنْ ظلّ الأمل يعشّش في داخله. ألم يقل في ختام الرّواية: « وهكذا جمع المسكين قواه ودبّ الأمل فيه بفضل هذه الشّجرة التي أكرمته منذ مئات السّنين ومنذ آلافها. وبعد راحة استمرّ في طريقه.. لكنْ لا يبدو عليه أنّه يجهل المصير »( ). ويرمز للأمل في الرّواية بالبحر والزّيتونة، بعد أن اِحتمى البطل بهما، وهما من رموز جمال تونس وعنوانا لثرواتها الحقيقيّة. ألم يقل في رسمها: « وشجرة الزّيتون هي سدرة المنتهى. وعرش لمن لا محطّة له إلاّ هي، ولا يأنس السّلامة إلاّ من ظلّها. ولا يملأ بطنه إلاّ من هوائها. ولا يشبع صدره إلاّ من ورقها، ولا يشدّ قلبه إلاّ من حبوبها»( ). ولهذا يدبّ فيه الأمل وينهض رغم عثراته وواقعه المرّ وما يُحيط به من محن وأدواء. فهي إذنْ نهاية سوداويّة من جهة، ولكنّها نهاية آملة متفائلة كشعر صديقه الشّابي الذي يرنو إلى الأفق المحجّب هازئا بالسّحب والأنواء. لهذا يستمرّ في طريقه غير هيّاب ولا مبال يروم تحقيق حلم بني وطنه في المجد والحياة بعزّة وشموخ.

3-3 الرّؤيا من خلال فصل الرّواية الختامي: لا تتجلّى رؤى المطوي في خطاب المقدّمات وفي العتبات ولا في متن الرّواية وحسب، بل تصير أقرب إلى السّمت الواضح في فصل الرّواية الختاميّ. فقد انتهت رواية «... ومن الضّحايا» بفصل عنونه الكاتب بـ «رسالة معتوه: الأمل والتّشاؤم، مرسى السّفينة، شجرة الزّيتون»( ). وفي هذا الفصل تداخلت الأجناس الأدبيّة فحضرت الرّسالة والأغنية والخبر التّاريخيّ إلى جانب أجناس أدبيّة أخرى يمكن أن نفرّعها على هذا النّحو:

1-الرّسالة الأدبيّة: «وأمسكَ بقلمه ليكتب فكتب رسالة طويلة في خمس عشرة صفحة» ( ).

2-الأغنية: «تسمعون من محطّة الشّرق الأدنى كلمة الآنسة بنت النّاس عنوانها (الأمل والتّشاؤم) أو (مرسى السّفينة) أو (شجرة الزّيتون)»( ).

3-الخبر التّاريخي: «وهو بالإخارة خطاب طارق بن زياد عندما أحرق السّفن وفيما قال... أنتم أضيع من الأيتام في مأدبة اللّئام»( ). ومنها إيراد خبر عبد الرّحمان النّاصر الذي جلس خمسين سنة على كرسيّ الإمارة بالأندلس( ).

4-محكيّ الطّفولة: «الأمل! -هو قول زميل في الكتّاب- ... يا سى ... الدّنيا جميلة والمستقبل جميل، والهواء جميل»( ).

5-القصص القرآني: « نعم. الأمل حسبما أعتقد هو أمل يونس... لولا أنّه كان من المسبّحين لَلبِثَ في بطنه إلى يوم يبعثون»( ).

6-الحديث النّبوي والسّير: «الأمل هو قول محمّد... اللّهم أن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد في ملحمة أحد»( ).

7-الشّعر بالإحالة على نصوص الشّابي وترديدها: والشّابي كان صوتا متفرّدا شغل أبناء جيله، ولذا عبّر الكاتب عن موقفه منه ولم يخف تأثّره به، يقول: «صرتُ الشّابي الشّاعر الفيلسوف العظيم إيه يا عزيزي سأعيش رغم الدّاء والأعداء كالنّسر فوق القمّة الشمّاء»( ). وهكذا يقرّ بفضل السّبق للشّابي ناسجا على منواله متّبعا رؤاه العميقة للكون والإنسان. يقول في ذلك مصرّحا بوضوح عن مواقفه: «إيه عزيزي. لقد سجّلت سلفا شعوري، وسبَقتَني بما تصوّرته وما لا أتصوّره. ولك الفضل الكبير في اقتباس يُثلج خاطري لأسكبه بين يدي مفسّر الأحلام»( ).

وهو إلى ذلك يُحيل على المعرّي (توفّي 449 هـ) حين يقول: «وحبّبت إليه دراسة المعرّي ومطالعة أشعاره ولزومايّاته فغدا أنيسًا ورفيقًا»( ). ويقتبس عن المتنبّي (توفّي 354 هـ) حين يقول: « كما قال المتنبّي:

سُبحانَ خالق نفْسِي كَيــْفَ لَذَّتُها ♠ فِيمَــا تَرَاهُ النُّفـــُوسُ غَاليـــة الألَم»( ).

8-الأدب الرّحلي والعجيب: « ركبنا السّفينة، وكنت رئيسا عليها. وإذا بنا نضلّ الطّريق نشرف على شاطئ صقليّة»( ). وتتداخل الرّحلة والقصّ على لسان الحيوان بالعجيب حين يقول في ذلك: «ولقد مرّ أعرابي بالسّاحل وأعجبه منظر هذه الشّجرة المباركة، وقد مدّت فروعها وبسقت أغصانها على شاطئ البحر» ( ). ولئن بدا هذا الوصف لصيق الواقع، إلاّ أنه سرعان ما يتداخل بالعجيب والغريب حين يقول: «وكانت دهشته عظيمة عندما وجد جانبًا من الحوت يتقلّب في الرّمال.. وقف مستغربا [...] هنا فقط خاطبه الحوت: أيّها المارّ ألم تعلم أنّ هذا المكان لا يأتي إليه إلاّ الشقيّ المنكود [...] ثمّ أجابه كبير العصافير: أيّها المارّ إنّ الحظّ طيرك في مغامرة كبرى... » ().

4 - الخاتمة وحاصل ما يمكن أن نختم به عملنا هو أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي تكشف بجلاء عن رؤيته الحسيّة المباشرة، ولكنّها في الآن نفسه تجلو للقارئ رؤيا الأديب المطوي من قضايا الوطن والوطنيّة.

ولئن حضرت الرّؤية في أغلب الأحيان حضورا صريحا بل سافرا، فإنّ ذلك ساهم في انسحاب الفنّ على حساب تمكّن الإيديولوجيا من الخطاب القصصيّ، فتحوّلت تبعا لذلك الرّؤيا إلى إعلان عن مواقف الكاتب ومواقف جيله من حارق ما يعتمل في مجتمعهم ويمور في أحشائه من قضايا ومحن. ورغم أنّ رواية «... ومن الضّحايا» لمحمّد العروسي المطوي، وما شاب نسبتها من شكوك، إلاّ أنّها كانت فاتحة الفنّ الرّوائيّ ومسوّدة ساعدته على أن يكتب في مستقبل أيّامه القصّة القصيرة والرّواية متداركا مقتضيات الفنّ ولوازم الإبداع، فتراءت الرّؤية على حساب الرّؤيا وصارت نصوص حليمة والتّوت المرّ وطريق المعصرة أعمالا إبداعيّة فيها من عناصر الصّنعة ما به شبّ المطوي على الطّوق وتمكّن من المسك بخيوط اللّعبة السرديّة.