معاهدة الحماية الفرنسية

من الموسوعة التونسية
نسخة 12:18، 6 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث
الصفحة الأولى من معاهدة قصر السعيد بباردو
الصفحة الأخيرة من معاهدة قصر السعيد بباردو

يمثّل استيلاء الفرنسيّين على الجزائر عام 1830، حدثا جعل مصير تونس أمرا محتوما. وكان ما كان من السباق إلى احتلال البلاد التونسية بين بعض الممالك الإيطالية وبريطانيا وفرنسا، غير أنّ هذه الأخيرة كانت الفائزة في ذلك السباق: ففي أواخر أفريل وأوائل ماي 1881، اخترق جنودها الحدود وفرضوا على الباي في 12 ماي معاهدة باردو التي قضت على سيادة الدّولة التّونسيّة رسميّا.

حيّزنا هنا لا يتّسع لتحليل مختلف المراحل الدّبلوماسيّة التي اجتازتها القضيّة التّونسيّة وإنّما يكفي أن نشير إلى أنّ تونس استمرّت تدافع عن نفسها قبل تمركز "الحماية"، ضدّ محاولات فرنسا والدول الأخرى مدّة خمسين عاما كاملة. وهذا يعني أن تونس لم تقبل الحماية قط، وأنّها حاولت بكلّ ما تملكه من جهد أن تحتفظ باستقلالها وأن تعمل على توطيد أواصر الصداقة مع جيرانها.

الصفحة الأولى من معاهدة المرسى

أصبحت هناك "قضية تونسيّة" يوم احتلّت فرنسا الجزائر في عام 1830، فأخذت تتدخّل في شؤون تونس شيئا فشيئا تمهيدا للاستيلاء عليها. ولم يتيسّر لها احتلالها، عام 1881، إلاّ بعد مناورات دوليّة دامت أكثر من عشرين عاما: كانت فرنسا تخشى مزاحمة بريطانيا العظمى لها ومطامع إيطاليا المكشوفة، وتأكّدت هذه المنافسة بين هذه الدّول الأوروبيّة في "الكومسيون المالي" الذي تأسّس عام 1869 لتسوية ديون تونس الخارجيّة. وكانت ذكرى الهزيمة المُهينة في "سيدان" (Sedan) أمام البروسيّين تضرم نار الثأر في نفوس الفرنسيّين. فكان مؤتمر الصلح في صائفة عام 1878 مناسبة أنذر فيها "بسمارك" زعماء الجمهوريّة الثالثة بالكفّ عن المطالبة بالألزاس واللورين. حرّضهم مقابل ذلك على احتلال تونس تعويضا لهم عن خسارة المقاطعتين المذكوتين، على أن تكون بريطانيا مطلقة اليد في مصر. أمّا إيطاليا فأُبعدت بمنح بعض التّرضيات لجاليتها بتونس.

ولقد احتلّ استعمال القوّة أو التّهديد بالقوّة مكانا لافتا في السياسة الفرنسيّة البحتة التي لم تكن واضحة تماما: لنقرأ مثلا ما يلي: "...رضي [باي تونس] بأن تحتلّ القوّات الفرنسيّة العسكريّة المراكز التي تراها صالحة لاستتباب النّظام والأمن بالبلاد وعلى الحدود. ويزول هذا الاحتلال عندما تتّفق السلطات الفرنسيّة والتونسيّة، وتعترفان معا بأنّ الإدارة المحليّة قد أصبحت قادرة على المحافظة على استتباب الأمن العام": (البند الثّاني من معاهدة باردو)، وقد أخذت فرنسا على عاتقها مهمّة "تنفيذ جميع المعاهدات المعقودة الآن، بين الحكومة التّونسية ومختلف الدول الأوروبيّة الكبرى":(البند الرابع)، ومهمّة ممارسة العلاقات الخارجيّة بواسطة دبلوماسييها وقناصلها ومقابل ذلك يلتزم سموّ الباي بعدم عقد أيّ معاهدة ذات صبغة دولية، دون إعلام الحكومة الفرنسيّة بذلك والحصول على موافقتها مسبقا": (البند السّادس)، و"تحتفظ حكومة الجمهوريّة الفرنسيّة وحكومة سمّو الباي لنفسهما، بحق الاتّفاق على وضع نظام للمملكة من شأنه ضمان تسديد الدّين العام، وكذلك ضمان حقوق دائني الولاية": (البند السابع)، و"تتعهّد الجمهوريّة الفرنسيّة ببذل مساعدتها المستمرّة لسموّ الباي، وحمايته من كلّ خطر يمكن أن يهدّد شخصه أو عائلته أو يخلّ بأمن مملكته": (البند الثالث)."يمثّل الحكومة الفرنسيّة لدى سموّ الباي وزير مقيم تكون وظيفته السّهر على تنفيذ أحكام هذه المعاهدة، ويكون الواسطة بين الدّولة الفرنسيّة وبين السلطات التّونسيّة في جميع القضايا الّتي تهمّ الجانبين": (البند الخامس). ولا بدّ من الاشارة إلى أنّ جناحا من المستعمرين كانوا ينادون بوجوب القضاء على الدّولة التّونسيّة وإلحاق البلاد التّونسيّة بفرنسا مثل ما تمّ فيما يتعلّق بالجزائر. وكان الأحرار الفرنسيّون يندّدون بالعدوان على شعب صديق ويطالبون بإجلاء الجيوش الفرنسيّة عن تونس.

الجنرال الفرنسي بريار وباي تونس محمد الصادق باي ساعة التوقيع على معاهدة الحماية يوم12ماي 1881

عندئذ اتّخذ رئيس الحكومة الفرنسيّة جول فيري (Jules Ferry) موقفا وسطا وقال: إنّ فرنسا لا تريد استعمار تونس، ولا ترمي إلى إدماج ترابها في التّراب الفرنسي، وإنّ احتلالها لها لا يعدو أن يكون ضمانا لبقائها بالجزائر. فسياسة فرنسا نحو تونس تتلخّص حسب عباراته في كلمتين "لا إلحاق ولا انسحاب". وكانت فرنسا تبحث عن شكل آخر مغاير لتجربة ضمّ الجزائر إليها وكانت تلك التّجربة قد كبّدتها خسائر فادحة في المال والرجال، فكانت "الحماية" - وهي صيغة جديدة مستوحاة من سابقة أحدثتها النّمسا في البوسنا والهرسك (Bosnie Herzégovine) تتجسّد في حكم البلاد حكما غير مباشر بوساطة السلط الأهلية وذلك بإبقائها في وظائفها ولكن بمراقبتها عن كثب. وهكذا تظلّ دولة البايات وإدارتها كما هما ولكن يقوم إلى جانبهما مراقبون فرنسيّون من مقيم عام إلى جانب الباي وكاتب عام لدى الإدارة المركزيّة والوزراء التّونسيّين، ومن مراقبين مدنيّين في الولايات يشرفون على القياد وممثّلي السلط بها.

لكنّ الواقع كان مغايرا لذلك تماما فسرعان ما حاد المراقبون الفرنسيّون عمّا انتدبوا إليه فعمدوا إلى الإدارة المباشرة ولم يتركوا لممثّلي السلطة المحليّة إلاّ نفوذا صوريّا. ثمّ قرّر الفرنسيّون اتّخاذ شكل من "الحماية" على تونس أقوى وأرسخ فوافق علي باي (1882 - 1902) على اتّفاقيّة المرسى جوان 1883 التي عبّرت صراحة عن الحماية الفرنسيّة على تونس. ولأوّل مرّة سجّلت كلمة "محميّة" بالمداد في هذه الاتّفاقيّة. وبمقتضاها يحافظ الباي على سلطة اسميّة تخصّ الشؤون الدّاخليّة. أمّا شؤون الدّفاع والعلاقات الخارجيّة، فقد انتقلت بتمامها وكمالها إلى سلطات الحماية بمقتضى ما أبرم من المعاهدات. وكما سبق أن أشرنا فإنّ بعث مصالح "فنيّة" فرنسيّة تماما قد أنقص من سلطات الوزير الأكبر: فهذه المصالح الفنيّة التي انتصبت في القطاعات الأساسيّة هي على التّوالي: قطاع المالية (1882)، والأشغال العامة (1882)، والتّعليم (1883)، والفلاحة، والتّجارة، والاستعمار (1890)، والبريد (1890). باختصار، يمكن القول إنّ توطيد الحماية الفرنسيّة قد مهّد السبل لاستغلال الشّعب التّونسي استغلالا تامّا، وسلب ثروات البلاد من قبل المحتكرين والمستوطنين الفرنسيّين، إذ هرع إلى الايالة التونسيّة مختلف الأصناف من الهواة المولعين بالكسب دون عناء فاستولوا على الأراضي والامتيازات والمقاولات والوظائف الإداريّة وغير الإداريّة. وعلى غرار ما حصل في الجزائر، نُهبت الأراضي التّونسيّة على نطاق واسع، وبوتيرة أسرع.

وقد لخّص صالح الشّريف ماهيّة معاهدة الحماية فيما يلي: "من نظر إلى هاته المعاهدة نظرا سطحيّا يفهم أنّها كلّها خديعة ومكر. فقد خوّلت فرنسا لنفسها أن تقبض على القوّة المسلّحة ومنع الأمّة من حمل الأسلحة، والقبض على الخارجيّة، والمالية، وحماية الباي على فرض أنّ دولة الخلافة صاحبة الحق قامت تطلب حقّها، وأعجب ما فيها وضع غرامة حربيّة على الأمّة التي قامت تدافع عن وطنها، وغولبت على أمرها بخديعة بايها، وهجوم فرنسا عليها بغتة، وتأجيل انجلاء الاحتلال [...]، والحال أنّ الإدارة المحليّة مقتدرة على تقرير الرّاحة العموميّة ومقرّرة لها بالفعل منذ ألف وثلاثمائة سنة [كولاية عثمانيّة ابتداء من 1574] ولم يعتر نظامها شيء من الخلل إلاّ ما أحدثته فرنسا بهجومها على القطر ولكنّ القوّة المجرّدة من فضيلة الانصاف، العارية من جلباب الحياء تفعل فوق هذا"، وأضاف في معرض كلامه عن موقف الدّولة العثمانيّة "عندما بلغها نبأ الاحتلال الفرنسي لتونس" سلّمت "لائحة إلى الدّول أثبتت فيها إلى ذلك القطر حقّ من حقوقها، وجزء متمّم لسلطتها، وسردت الأدلّة الصّحيحة على ذلك مثل تسميتها لأمرائه، وللمخاطبات الرسميّة التي كانت مداولة بينهم وبينها، وذكر اسم مولانا السلطان في الخطب ووضعه على سكك المعاملات، واعترف وزير خارجيّة نابيلون الثّالث نفسه حيث قال في قضيّة القرض التّونسي الذي وقّع في باريز: "يلزم لصحّة هذا القرض، أن يطلب رضاء الباب العالي". وقد اقتضى فرض الحماية الفرنسيّة في عهد المقيم العام بول كامبون (Paul Cambon) - المقيم العام الفرنسي بتونس ابتداء من مارس 1882 - إقحام نخبة أجنبيّة جديدة حاكمة، ولكن ذلك لم يؤد إلى إزالة النخبة التّونسيّة القديمة ولا حتّى إلى إزاحتها عن مواقعها نظريّا على الأقل. فالحماية كأنّها إضافة ألصقت بالنّظام الحسيني الذي يفترض فيه، من حيث المبدأ، أنّه مستمرّ في ممارسة "السياسة الدّاخلية"، لكنّ الباي لم يكن إلاّ دمية تحرّكها فرنسا. وقد كان كامبون يعارض صراحة الحكم المباشر أو سياسة الالحاق التي طبّقتها فرنسا على الجزائر. ففي 1884، كتب إلى وزير الخارجيّة ما يلي: "... من الضروري الكفّ عن الأساليب التّقليديّة التي كلّفت فرنسا ثمنا باهظا بالجزائر... الرّأي العام يدين حكومة تعتمد ضمّ تونس، وطالب بإرساء نظام حماية وبالابقاء على المؤسّسات الأهليّة". وجاء في رسالة كتبها بول كامبون، في سنة 1885، إلى وزير الخارجيّة: "إن الحكومة التّونسيّة تمثّل بالنّسبة إلى فرنسا أداة قويّة ومرنة في الآن نفسه لتسيير الأهالي. ويمكننا، إذا لَزمَ الأمر، أن نوجّه بواسطتها الضّربة دون أن نثير تعصّب المسلمين".

هذا هو بول كامبون، المقيم العام الفرنسي بتونس من مارس 1882 إلى نوفمبر 1886, الذي كان قبل ذلك، مدير ديوان جول فيري رئيس الحكومة الفرنسيّة (1870). لقد حكم تونس حقّا وفعلا: كان المنظّم الأوّل لنظام الحماية وكان "يغطي ويعرّى رأس الادارة المحليّة". كان يحكم تونس، باسم ذريعة الرّقابة، وأيضا باسم الباي "من أعلى إلى أسفل". وما من شك في أنّ تونس "المحميّة" كانت تابعة، مهما كانت المظاهر، ل"صاحبة الحول والطول" الادارة الفرنسيّة التّابعة لوزارة الخارجيّة الفرنسيّة. فهل يمكن، والحالة تلك، الحديث عن اختلاف حقيقي ومحسوس بين نظام تونس المحميّة، ونظام الجزائر الملحقة؟ صحيح أنّ عددا من المؤرّخين قد تعبوا دون طائل في البحث عن وجود فعليّ للسيادة المزدوجة في هذه البلاد المحميّة أو تلك. ولذا يمكن القول إنّه لا يمكن الاعتراف، في واقع الأمر، بوجود سيادتين اثنتين في وقت واحد، عندما تكون إحداهما خاضعة خضوعا تامّا للأخرى.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • Ganage Jean,Les origines de la protectorat française en Tunisie (1861-1881),PUF,1959