محمود قابادو

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1230 - 1288هـ/1815 - 1871م]

أسرته وتربيته

هو المصلح الحداثي الشّيخ محمود بن محمّد بن محمّد بن عمر قابادو الذي كان غالبا ما يمضي كتاباته باسم محمود الشريف. ويبدو أنه كثيرا ما كان يستعمل صفة "الشريف" هذه المهاجرون القادمون من الأندلس أو من المغرب. ويبدو من دراسة أجيال "الأشراف" أنّ أغلبهم ينتمون إلى منطقة"الساقية الحمراء" في الصحراء الغربيّة. أمّا عائلة قابادو فأصلها من الأندلس. ولعلّها هاجرت إلى تونس سنة 1609 في عهد عثمان داي. واستقرّت في أوّل الأمر بصفاقس حيث ولد أبوا محمود قابادو وتزوّجا. ثمّ تحوّلا إلى تونس العاصمة حيث ولد محمود سنة 1815. ويقال إنّ والده غادر مدينة صفاقس لأنّ صناعة الأسلحة التي كان يمارسها أصبحت غير ذات جدوى. فتربّى حينئذ في مدينة تونس وحفظ القرآن في الكتّاب مثل سائر الأطفال الذين هم في سنّه. ولكن سرعان ما تعرّض لأزمة صوفيّة، فحاول إشفاء غليله بمطالعة كتب أعلام الصوفيّة وفي طليعتهم ابن عربي. وكان عصاميّا، لأنّه رفض مزاولة دروس نظامية أو الامتثال للانضباط المدرسي. وكان يتسكّع في مدينة تونس، وهو أشعث الشعر، رثّ الثياب، حافي القدمين.

إقامته في مصراتة ورجوعه إلى تونس

وفي سنة 1832 غادر محمود قابادو تونس متوجّها إلى مصراتة بايالة طرابلس الخاضعة للحكم العثماني، حيث التحق بالطريقة المدنيّة المتفرّعة عن الطريقة الشاذليّة، وكان يشرف عليها الشيخ محمد حسن بن حمزة ظافر المدني المتوفّى سنة 1852. والملاحظ أن ّ مذهب هذه الطريقة الصوفيّة يلحّ على أن يبذل المريد أقصى ما يمكن من الجهد للتأمّل في الذات الالاهية والاتحاد الصوفي مع اللّه. "فأخذ يتابع يوميّا دروس شيخه المتدرّجة والمنتظمة، ويسعى بانصياع إلى الامتثال لما يصدره إليه من أوامر: كالمكوث مدّة متواصلة بالزاوية وإقامة الصلوات آناء الليل وأطراف النهار والصوم عدة أيّام متتالية وحضور حلقات الذكر والاشتراك مع المريدين الباحثين مثله عن الطريق المؤدّية إلى الحقيقة والباذلين قصارى الجهد للتعجيل بساعة الالهام النافع. ولم يهمل أيّ عمل من الأعمال الصوفية اللاّزمة في نظره للفوز باكتمال الذات، وبلوغ تلك الغاية التي رضي في سبيلها بالاغتراب والحرمان". وبعد أن أقام محمود قابادو ثلاث سنوات في مصراتة، رجع سنة 1835 إلى تونس حيث تابع دروس أشهر شيوخ جامع الزيتونة. فتتلمذ للشيخ الحنفي محمد بيرم الثالث المفتي ثم رئيس المجلس الشرعي، المولود سنة 1787, مع التدريس في الوقت ذاته. ودرس أيضا على الشيخ أبي العباس أحمد بن الطاهر اللطيف أصيل جهة الساحل، العالم الفقيه وتلميذ الشيخ إبراهيم الرياحي والشيخ محمد بن الطاهر بن مسعود والشيخ حسن الشريف. وواصل الشيخ أحمد بن الطاهر التدريس إلى أن عيّنه الباي قاضي المحلّة سنة 1838. ومن تلاميذ الشيخ الاخرين، بالاضافة إلى محمود قابادو، نذكر عمر بن الشيخ وسالم بوحاجب، كما أن ّ الشيخ المذكور هو الذي أشار إلى أحد وزراء الباي، سليمان كاهية، بتعيين قابادو مربّيا لابنه أو مؤدّبا خاصّا، كما يقع ذلك عادة لدى كبار العائلات بتونس العاصمة. أمّا أستاذ محمود قابادو الثالث، فهو الشيخ محمد بن صالح بن ملوكة الذي كان والده، هو أيضا، شيخا متميّزا. فتابع دروسه ودروس الشيخ أحمد بوخريص، قبل أنّ يصبح هو ذاته مدرّسا. ولعل الشيخ ابن ملوكة هو الذي كان له الأثر الأكبر في تكوين محمود قابادو، بعد الشيخ المدني الذي درّبه على التصوّف، في حين درّبه الشيخ ابن ملوكة على العلوم الكونيّة التي كان يحذقها جيّدا، حسب طريقته في التدريس، القائمة على الجمع بين التعليم النظري والتعليم التطبيقي، مع ممّارسة الرياضة البدنيّة، مصداقا لقاعدة "العقل السليم في الجسم السليم". ونجد أيضا من تلامذة الشيخ ابن ملوكة: عمر بن الشيخ وسالم بوحاجب. تلك هي المرحلة الأساسيّة الأولى من مراحل دراسات قابادو، وقد بدأ يهتمّ فيها بالعلوم الكونيّة بعد ما بحث كثيرا في "العلوم الحكميّة ".

إقامته في استانبول

لكنّ محمود قابادو سلك من جديد طريق الهجرة بعد وفاة مخدومه سليمان كاهية سنة 1838. وكان قد توقّع، فيما يقال، سقوط أحمد باي الأوّل الذي اعتلى العرش سنة 1837, ومن ثمّة خشي انتقام الباي. وبالاضافة إلى هذا السبب السياسي، يبدو أنّ قابادو استهوته إستانبول التي كانت عهدئذ عاصمة العالم الاسلامي السياسية والفكرية. وكان ذلك العصر عصر إصلاح الجيش والتعليم والادارة في عهد السلطان العثماني محمود الثاني. فكانت الاقامة في إستانبول مفيدة له، إذ تابع بعض الدروس وتولّى هو ذاته التدريس، وتمكّن من الاجتماع في الوقت نفسه بعلماء المدينة، كما تدلّ على ذلك بعض القصائد الواردة في ديوانه (1 / 150 - 2 / 85 - 137). وشهد في الوقت ذاته الشروع في تطبيق الاصلاحات في دار الخلافة العثمانيّة.

محمود قابادو في تونس

عاد محمود قابادو إلى تونس سنة 1842, وكان ذلك دائما في عهد المشير الأوّل أحمد باي (1837 - 1855) الذي يعتبر هو أيضا من رجال الاصلاح والذي ينحدر من أمّ إيطاليّة ويجيد التكلّم باللغة الايطاليّة والكتابة والحديث باللغة التركيّة. ومنذ مبايعته، أمر ببناء قصره الجديد بباردو الذي أصبح مقرّ سكناه، وبتشييد قصور أخرى مثل قصر المحمّدية الواقع في الطريق الرابطة بين تونس وزغوان، وقد استقرّ فيه سنة 1846, وأراد أنّ يجعل منه نسخة من قصر فرساي الفرنسي الذي شاهده إبان زيارته عام 1846 لفرنسا. كان هذا الباي أوّل من اهتمّ بإصلاح التعليم بجامع الزيتونة، وقد خصّص له اعتمادات من بيت المال، وأقرّ إنشاء مناظرة لانتداب المدرّسين الذين أصبح نصفهم من المالكية والنصف الاخر من الحنفيّة. ولا غرو في ألاّ يكون هذا وحده كفيلا بأن يصلح التعليم بهذه المؤسسة العتيقة إصلاحا جوهريّا، ولكنّ هذه هي المرّة الأولى التي تكفّلت فيها الدولة بالمؤسّسة التعليميّة. وقبل ذلك أعاد أحمد باي ترتيب المدرسة الحربية بباردو (1840) وأرساها على قواعد متينة سعيا إلى تحديث جيشه. ومن أجل ذلك انتدب مدرّسين ومدرّبين أوروبيين، وكان على رأس المدرسة الحربية بباردو مستشرق من أصل إيطالي، اسمه كاليغاريس، كان قد عمل في الجيش التركي. وكان أحمد باي يريد تكوين ضبّاط جيشه حسب المثال الأوروبي. ولذلك قرّر تدريس اللّغتين الايطالية والفرنسيّة، وجعل منهما لغتي تدريس الموادّ العلمية والفنون العسكريّة. وإلى جانب هذا التعليم الجديد من النوع الأوروبي، أبقى تدريس اللغة والاداب العربيّة والعلوم الاسلامية في هذه المدرسة. وعهد بتدريس هذه الموادّ إلى محمود قابادو الذي كان قد التقى به أحمد ابن أبي الضياف في إستانبول، في أثناء مهمّة قام بها هناك بتكليف من أحمد باي. ويبدو أنّ ابن أبي الضياف هو الذي أشار على الباي بتعيين محمود قابادو في ذلك المنصب. لكنّ دوره في المدرسة لم يقتصر على التعليم اللغوي والديني، إذ أنّه مثل رفاعة رافع الطهطاوي، كلّف طلبته بنقل بعض كتب الفنون العسكريّة من اللّغات الأوروبية إلى اللغة العربيّة، بمساعدة كاليغاريس صاحب ترجمة نابليون التي نقلها الطالب حسين (الجنرال حسين لاحقا) إلى اللغة العربية بإشراف الشيخ قابادو. وفي مقدّمة ترجمة كتاب حول الفنون العسكريّة أعرب محمود قابادو عن وجهة نظره فيما يخصّ ضرورة اتّجاه المسلمين نحو العلوم والفنون الحديثة المنتشرة في الأقطار الأوروبية، حتى يبلغوا درجة راقية من الازدهار والثراء. وتلك هي بالضبط النقطة الأساسيّة من التفكير السياسي التونسي، التي سيتناولها بالدرس أصدقاء الشيخ محمود قابادو وتلاميذه، نخصّ بالذكر منهم الجنرال خير الدين والشيخ سالم بوحاجب. ذلك أنّ الشيخ قابادو، بالاضافة إلى دروسه في مدرسة باردو، كان يدرّس أيضا في جامع الزيتونة منذ سنة 1855. وهكذا أمكنه إدخال أفكار جديدة في جامعة ظلّت مدّة طويلة من الزمن معارضة لأيّ تفكير إصلاحي. وسيكوّن الشيخ في هاتين المؤسستين أتباعا يحاولون مواصلة تفكيره ونشر أفكاره. ففي مدرسة باردو، حيث كان يدرّس "الأجروميّة" في النحو و"مقامات الحريري"، كان يحرص على الحفاظ على الصلة التي تربط طلبته بالاداب والحضارة العربية الاسلامية، في حين كان يسعى في جامع الزيتونة إلى تمكين تلاميذه من إدراك ما يمكن أنّ يجنوه من مزايا من دراسة علوم أخرى غير العلوم الدينية، وضرورة تفتّحهم على العالم الخارجي، وخصوصا العالم الأوروبي الذي تمكّن في آخر الأمر من معرفته من رحلات معاصريه، ومعاشرة رجال الدولة الذين عرفوا تلك الأقطار، أو بوساطة ما تمكّن هو ذاته من جمعه من وثائق، انطلاقا من المنشورات الأجنبيّة، عندما كان مكلّفا بتحرير افتتاحيّات جريدة "الرائد التونسي" التي كانت الجريدة الرسميّة التونسيّة، لكنّها لم تكن تقتصر مع ذلك على نشر النصوص التشريعية أو الرسميّة، بل كانت تتضمّن أخبارا مختلفة عن بعض الاختراعات والأحداث المتعلّقة بالعالم الغربي.

التلاميذ والتابعون

كان للشيخ محمود قابادو تلاميذ مشهورون في مدرسة باردو وجامع الزيتونة، واصل ربط علاقات حميمة ومتينة بهم بعد أن أتمّوا دراساتهم وأصبحوا يحتلّون مناصب سامية في الادارة التونسية، في مختلف الميادين. ولئن لم يكن خير الدين من تلاميذه، فقد تعرّف إليه في مدرسة باردو وربطته به علاقات وديّة للغاية. ذلك أنّ الرجلين كانا من مؤيّدي الأفكار التحديثيّة الاصلاحية التي دافع عنها خير الدين في كتابه أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك. وكان قابادو متحمّسا لدعوته الاصلاحيّة المستلهمة من التراث السياسي الغربي الحديث. أمّا الجنرال حسين فقد تتلمذ لقابادو في مدرسة باردو، وهو الذي حرّضه على نقل بعض الكتب الفرنسيّة إلى اللغة العربيّة. وقد كان حسين مثل خير الدين يعرف جيّدا الأقطار الأوروبيّة التي تحوّل إليها للقيام ببعض المهامّ الرسميّة. ولذلك كان يستطيع إحاطة الباي علما بالحالة التي كانت عليها تلك الأقطار وبما بلغته من تطوّر. وقد عيّن في سنة 1858 رئيسا لبلديّة مدينة تونس، ثم أصبح في سنة 1874 وزيرا "للمعارف والنافعة" (التعليم والأشغال العامة)، لمّا أصبح خير الدين وزيرا أكبر. ولمّا تولّى مسؤوليّة إدارة جريدة "الرائد" عند ظهورها سنة 1860, عهد برئاسة تحريرها إلى شيخه قابادو.

وأمّاّ تلميذ الشيخ محمود قابادو الاخر بالمدرسة الحربيّة، فهو الجنرال رستم الذي شجّعه أستاذه على دراسة العلوم الدقيقة باعتبارها أحسن وسيلة، لتخليص المسلمين من الانحطاط وتمكينهم من النهوض، على غرار الأمم الأوروبية. وسيكون الجنرال رستم، مثله مثل خير الدين وحسين، وزيرا للداخلية في سنة 1865 ووزيرا للحرب في سنة 1870. وإلى جانب تلاميذه من المماليك، كان للشيخ قابادو تلامذة من أهل البلاد منهم محمد بن الحاج عمر، أصيل مساكن، إحدى قرى الساحل. فهو الذي عوّض الضابط الفرنسي دي تافرن على رأس المدرسة الحربيّة، لما توفّي سنة 1862. وبالاضافة إلى مدرسة باردو كان للشيخ قابادو تلامذة بجامع الزيتونة، منهم الشيخ سالم بوحاجب، رمز الجيل الذي عاش في الفترة التي سبقت الحماية الفرنسية. وهو الذي نشر في الوسط الزيتوني، بالاشتراك مع محمد السنوسي ومحمد بيرم الخامس، الأفكار الاصلاحية التي بثهّ ا الشيخ محمود قابادو. وسيكونون كلّ حسب طريقته الأعوان الذين أدخلوا إلى حيّز التطبيق الأفكار التي كان قابادو يعتبرها نظريّة. هذا وإن ّ الطلبة الزيتونييّ ن وقدماء تلامذة مدرسة باردو الذين أصبحوا أصدقاء الشيخ قابادو والمؤتمنين على أسراره، حاولوا تطبيق ما يمكن أنّ نسمّيه وصيّة أستاذهم الأدبية، وقد كان يرى أن لا خلاص للأمّة إلاّ باكتساب العلوم والفنون الحديثة، حتى لو كانت مقتبسة من الغرب، بشرط أنّ لا تمسّ بأصول المجتمع الاسلامي الدينيّة. وكما رأينا فإنّ هذا التيّار الاصلاحي التونسي لم يكن حالة معزولة. فهو ينتمي إلى حركة الاصلاح في مصر أو في تركيا العثمانيّة. وقد كان التونسيّون يعلمون ذلك من الرحلات التي كانوا يقومون بها أو من الكتب التي كانوا يطالعونها أو من اتّصالاتهم المباشرة عهدئذ. وهكذا فقد اجتمعوا بأحمد فارس الشدياق قبل نشر كتابه بباريس: "الساق على الساق فيما هو الترياق". وكان الاصلاحيون التونسيّون يعرفون أيضا كتابه: كشف المخبّا عن فنون أوروبا الذي كان بيرم الخامس قد طالعه "و أحال عليه لمعرفة عادات الانڨليز". وهؤلاء الاصلاحيّون أنفسهم كانوا يعرفون أيضا مؤلّفات المصري رفاعة رافع الطهطاوي. من ذلك أنّ بيرم الخامس قد اقتبس بعض الأفكار من تخليص الابريز في تلخيص باريز ونقلها في كتابه صفوة الاعتبار، كما اقتبس منه خير الدين في كتابه أقوم المسالك. وسيجد الزيتونيّون وقدماء تلامذة مدرسة باردو أنفسهم ملتفّين حول خير الدين عندما سيعيّن وزيرا أكبر سنة 1873.

عملهم من أجل تعليم جديد

كان جميع قدماء تلامذة قابادو أو أصدقائه يؤيّدون تطبيق إصلاحات مؤسّسيّة وإداريّة للنهوض بالتونسيين ماديّا وأدبيّا. وكانوا كلّهم مقتنعين، مثل أستاذهم، بأنه لا يمكن بلوغ هذا الهدف إلا بنشر العلوم والفنون، على غرار الأمم الأوروبية لتطوير الانتاج، وانطلاقا من ذلك خلق الازدهار. على أنّ الازدهار لا يمكن تحقيقه إلاّ إذا كانت الحريّة محترمة، وأصبح الأمير وأعوانه غير قادرين على ممارسة التعسّف. وبناء على ذلك لا بدّ من إصلاح المؤسّسات السياسيّة والادارة، وذلك بإقامة نظام ملكي دستوري في الحالة الأولى، وتكوين أطر إداريّة جديدة من الطراز الحديث، أي مقتبسة من المثال الأوروبي في الحالة الثانية. وقد أطنب خير الدين في بسط هذه الحجّة في كتابه أقوم المسالك، ملحّا بالخصوص على ضرورة نشر التربية. لذلك ما إنّ تقلّد السلطة حتى ألّف لجنة تحدّدت مهمّتها في إصلاح التعليم بالزيتونة، ولكن أيضا وبوجه خاصّ، في بعث تعليم جديد بإنشاء مؤسّسة مدرسيّة جديدة، ستكون المعهد الصادقي في سنة 1875. وفي إطار القسم الثالث من المعهد الصادقي نظّم تعليما من النوع الأوروبي يحتلّ فيه تعليم اللغات الأجنبية (الفرنسية والايطالية والتركية) والعلوم الكونية مكانة مرموقة إلى جانب التعليم الديني والأدبي التقليدي. وهكذا، مثلما كان الشأن في تركيا حيث أنشئ معهد غلطة سراي (المعروف بالمكتب السلطاني) سنة 1868, أصبح التعليم العصري في تونس، أي التعليم من النوع الأوروبي، منذ ذلك التاريخ، جزءا من النظام المدرسي الوطني، إلى جانب التعليم الاسلامي، مثلما كان التعليم بجامع الزيتونة قائم الذات إلى جانب التعليم في مدرسة باردو. وقد كان قدماء تلامذة مدرسة باردو ورجال الاصلاح بالزيتونة سببا في بعث هذا التعليم الجديد. وسيسهر فيما بعد على نشر هذا التعليم في الفترة الاستعماريّة الجيل الأوّل من قدماء تلامذة الصادقية، ورجال الاصلاح بجامع الزيتونة، بمن في ذلك أصدقاء خير الدين القدامى وتلاميذ الشيخ محمود قابادو، مثل محمد السنوسي، وبالخصوص سالم بوحاجب. وقد قاموا بهذا الدور في جريدة "الحاضرة" (1888) ثمّ فيما بعد في إطار الجمعية الخلدونية (1896). وقد كان سالم بوحاجب هو الذي ألقى الدرس الأوّل في موكب افتتاح الجمعيّة، وحاول أنّ يبيّن فيه، على إثر الشيخ محمود قابادو، أنّ العلوم الحديثة لا تتنافى أبدا مع الاسلام. ودخل تدريس العلوم الكونيّة والمعارف الحديثة بوساطة الخلدونية بفضل تطوّع نخبة من قدماء تلامذة المدرسة الصادقية المتكوّنين في الجامعات الفرنسيّة إلى جامع الزيتونة، حيث لا يريد تغيير نظام التعليم القائم الذات، لا أصحاب السلطة الاستعماريّة ولا الشيوخ المحافظون. ولم يفرض في آخر الأمر ذلك التعليم العصري إلاّ بتضافر جهود المدرّسين، والمنظمّات الطلابيّة الزيتونية. ففي أكتوبر 1951 أنشئت رسميّا بجامع الزيتونة شعبة عصرية، حيث درّست اللغات الأجنبيّة والعلوم الدقيقة، وهو ما سمح لعدد من قدماء تلامذة الزيتونة بمواصلة دراستهم العليا بالجامعات العربيّة أو الأوروبيّة. وقد انبثقت عن هذا النوع الجديد من التعليم، كما كان يلقّن بالمعهد الصادقي، نخبة سياسيّة وثقافية جديدة، عرفت كيف تستلهم من أفكار قابادو وخير الدين الاصلاحية، ثم عرفت كيف تضعها موضع التنفيذ لمّا تقلّدت السلطة في فترة قصيرة من الزمن. وهذه النخبة التي تزعّمت الحركة الوطنية فيما بعد، كانت هي التي تسلّمت مقاليد الحكم إثر استقلال البلاد، وحاولت أنّ تمدّد التعليم الصادقي المزدوج اللغة وتوسّع نطاقه ليشمل كلّ المعاهد المدرسيّة التونسيّة، وذلك باستنباط إصلاح التعليم الأوّل وتطبيقه بداية من 1958. وتبدو لنا هذه العمليّة مثاليّة بتواصلها وديمومتها. ذلك أن ّ هذه المثافقة التطوعّ يةّ، المتعّرضة لمخاطر السياسة الاستعماريّة التي فرضت عليها معاييرها وأهدافها الذاتيّة، قد نجت في الجملة من تلك المخاطر، كما أن ّ ما دعا إليه الشيخ محمود قابادو من نشر للتعليم واكتساب للمعارف الجديدة، قد أيّده تلاميذه وطبّقوه، مسهمين بذلك في نحت العقلية التونسيّة الراهنة.