محمد محيي الدين القليبي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
محمد محيي الدين القليبي

[1899 - 1954م]

نشأته وانضمامه إلى الحركة الوطنية

ولد السياسي محمد محيي الدين القليبي حوالي سنة 1899 وهو ينحدر من أسرة عريقة انتقلت من مدينة قليبية في الوطن القبلي إلى العاصمة التونسية في أواخر القرن الثامن عشر. وكان والده الشيخ محمد بن عبد القادر القليبي يعمل موظّفا بالبلاط الملكي بالمرسى فى عهد الأمير الحسيني علي باي الثالث (1882 - 1902). وعندما بلغ الطفل محيي الدين سنّ الخامسة من عمره التحق بالكتّاب، فحفظ القرآن الكريم وتعلّم المبادئ الأولى للّغة العربية، ثم وجّهه والده إلى جامع الزيتونة لطلب العلم، فأخذ ينتقل بين حلقات الدرس للاستماع إلى نخبة من علماء ذلك العصر، أمثال المشايخ محمد النخلي ومحمد الطاهر بن عاشور ومحمد بن يوسف وأحمد النيفر. وقد فضّل طريقة الانتساب الحرّ على الانخراط المنظّم، لأنّه كان يحبّذ الاحتفاظ بحرية الاختيار ولم تكن غايته القصوى إحراز الشهادات التي لا بدّ منها لمن يرغب في الحصول على إحدى الخطط أو الوظائف الإدارية. بل كان همّه التزوّد بنصيب من الثقافة الأساسية قبل دخول معترك الحياة. وقد استهوته الحياة الفكرية والسياسية التي بدأت تنتعش بتونس غداة الحرب العالمية الأولى، إثر انبعاث الحزب الحر الدستوري التونسي (1920). وتأثّر على وجه الخصوص بما كانت تنشره الصحافة العربية من مقالات وفصول قيّمة للدفاع عن المطالب الوطنية والردّ على حملات الصحافة الاستعمارية أو المواليّة لها الموجهة ضدّ الوطنيين التونسيين وحزبهم.

فدفعه ذلك إلى المساهمة بقسطه في هذا العمل. واستهلّ نشاطه بنشر مقال في جريدة "الاتحاد" حول الميزانية التونسية، تهجّم فيه على إدارة المال ومديرها الفرنسي، مندّدا بالاجراءات المتّخذة لفائدة المحظوظين الفرنسيين، على حساب دافعي الضرائب من أبناء البلاد. وعندما اطّلع رئيس الحزب الدستوري الشيخ عبد العزيز الثعالبي على هذا المقال أعجب به وسعى إلى التعرّف على كاتبه ودعوته إلى الانضمام إلى صفوف الحزب، فلبّى دعوته دون تردّد.

نشاطه الصحفي

لقد شجّعت الشاب محيي الدين القليبي محاولاته الصحفية الأولى الناجحة في هذا الميدان. فما لبث أنّ انضم إلى أسرة تحرير الصحف المتعاطفة مع الحزب الدستوري التي أخذ عددها يزداد يوما بعد يوم، منذ صدور قرار رفع الحجْر عن الصحافة التونسية في شهر فيفري 1920. وكانت أشدّها صلة بالحزب جريدة "الصواب" لصاحبها محمد الجعايبي، عضو اللجنة التنفيذية. وإثر تعطيلها يوم 5 أفريل 1922، من أجل نشرها لخبر تنازل الناصر باي عن العرش، أخذت مكانها جريدة "الاتحاد" التي احتجبت بعد ذلك بمدة قليلة من تلقاء نفسها، بتأثير السلط الاستعمارية، فعوضتها جريدة "الأمة" التي كان يصدرها الحاج علي بن مصطفى ويرأس تحريرها محيي الدين القليبي. ولذلك كانت تعتبر اللسان الشبيه بالرسمي للحزب الدستوري، إلى أنّ تمّ تعطيلها بقرار وزاري. وهكذا كلّما أوقفت الحكومة جريدة عوّضها الحزب بجريدة أخرى ناطقة باسمه، وهي "المبشّر" و"العصر الجديد" و"إفريقيا". هذا بقطع النظر عن الصّحف الأخرى المتعاطفة مع الحزب، مثل "النديم" و"الزهو" و"المشير" ثمّ "الوزير" و"الجامعة" و"مرشد الأمة"، ولم تبق على الحياد إلا جريدة "الزهرة"، لصاحبها عبد الرحمان الصنادلي.

وكان محيي الدين القليبي ينشر مقالاته في جميع الصحف ويمضيها تارة باسمه الصريح وطورا بأسماء مستعارة مثل: مؤمن - مسلم - وطني - دستوري - عصام. ولمّا سأله صديقه حسين الجزيري صاحب "النّديم" عن سبب ذلك، أجابه بقوله: "أنا أيها الصديق - كما تعلم - لا أكتم اسمي خوفا من المسؤولية الأدبية أو غيرها، ولا أنتحل الأسماء خشية الانتقاد، وإنّ كنّا آمنين على أنفسنا منه لأنّه لم يخلق بيننا بعد. وإنّما في النفس ميل إلى الانزواء، ويظهر أثره في ذلك التستّر. أنا لا أكتب لارضاء الناس أو لاكتساب ما يمنّ به بعضهم على الكاتبين من فخم الألقاب والشكر والثناء. لكنني أكتب لأمثل عواطفي وأصوّر آرائي فيما يعرض من الحوادث التي أراها ذات أهميّة على الخصوص".

وقد كانت كتابات القليبي تتّسم بالحماسة الفياضة وحرارة الايمان، وتمتاز بوضوح الحجّة وقوّة البيان. فكان المثقفون ورجال السياسة على اختلاف نزعاتهم يتهافتون على قراءتها، اعتبارا لمستواها الأدبي الرفيع، وما كان يتميّز به أسلوب صاحبها من متانة ودقّة مع شيء من الحدّة أحيانا. وقد حلّل الشيخ محمد الفاضل بن عاشور تحليلا دقيقا أسلوب القليبي في الكتابة، فقال:

"كانت مقالاته فيها توجيهات ذات أثر بعيد في حياة الحزب، وكانت خطته في الكتابة خطة الدعوة الاقناعية، يبتدئ بالمقدمات العامة ويسرع إلى إدراج موضوعه تحت كليّة المقدمة، ثمّ يسترسل في توسيع نقطة الموضوع على المنهج الجدلي، يلمّ بأطرافه من غير تفصيل ولا تحليل، بل في حبك وانسجام يسوقه الارتباط الواقعي أكثر من الارتباط العقلي، وتمتلكه الحجة الخطابية دون الحجة المنطقية، في تعبير سلس يستسيغه عموم القراء، وجمله سهلة التركيب قوية الروح الحماسي تغترف من لغة السياسة وتعتمد التأسيّ بالأساليب الصحفية الرائجة". أمّا البشير الفورتي صاحب جريدة "التقدم" فقد رسم لنا بأسلوب فكاهي، في عدد من أعداد "النّديم" الممتازة، صورة مصغّرة لبعض الصحافيين التونسيين "المشتغلين بالتفكير والتحرير"، منهم القليبي الذي قال عنه ما يلي: "إيمان الكاتب في شقّ قلمه، وهو يكتب على الشقّين ويحارب بسيفين، لا يرفع يده على خصمه حتى ينزل عليه بالأخرى، وكلّما مال به القلم إلى المزح أو الفكاهة أو رام أحد أخلاّئه منه ذلك، تهدّجت عواطفه ولوى عنان القلم إلى وصف الدواء وتشخيص الألم، فهو أحرى به لو كان طبيبا من أنّ يكون كاتبا أو أديبا. ولكنّ الخوف من أنّ يبري الأحباب، ويقبر الأعداء في التراب".

محاكمة محيي الدين القليبي

كانت الصحف التي تقدم على نشر مقالات القليبي تتعرّض لشتّى المضايقات والضغط وينتهي بها الأمر إمّا إلى التعطيل بقرار وزاري أو إلى الاحتجاب بمحض إرادتها. وقد علّق الشيخ سليمان الجادوي صاحب "مرشد الأمة" على هذه الظاهرة مازحا، قال: "محيي الدين القليبي مثل السرطان للجرائد، ما التصق بجريدة إلا عطّلتها الحكومة أو أوقفها صاحبها بإيعاز منها". وفي هذا السياق نشر القليبي في جريدة "العصر الجديد" الصادرة بصفاقس (العدد المؤرخ في 16 فيفري 1924)، مقالا بعنوان: "على حسابنا أو مظاهر الضعف في سياسة الحكومة" جاء فيه بالخصوص ما يلي: "سلكت الادارة طريقة لاتّهامنا بالتآمر ضدّ أمنها مع أعدائها، فروعت العائلات بمهاجمة الديار وتفتيش المساكن وسجن الأبرياء وتهديد القادة والزعماء، إلى غير ذلك من وسائل الارهاب التي استعملتها وما أجدتها نفعا، بل أبانت على مقدار ثبات الوطنية وتمكّن العقيدة الملّية من نفوسهم، حتى إنّهم كانوا إزاء أعمالها تلك كالرواسي لا تزعزعها أعاصير السياسة." فكان ردّ "حكومة الحماية"، لا تعطيل الصحيفة فحسب، بل أيضا إحالة كاتب المقال ومدير الجريدة أحمد حسين المهيري ورئيس تحريرها محمّد معلّى على محكمة "الدريبة" (المحكمة الابتدائية بتونس) التي أصدرت حكمها على مدير الجريدة بثمانية أيام سجنا، وعلى كاتب المقال ورئيس التحرير بستة أسابيع سجنا.

ولكنّ السلطة الاستعمارية لم ترض عن تلك الأحكام التي اعتبرتها خفيفة، فأسرعت إلى إصدار قانون جديد يقضي بإحالة القضايا الصحفية والسياسية على المحاكم الفرنسية، كما أصدر المقيم العام لوسيان سان في جانفي 1926 عدة أوامر قمعية أخرى، منها الأمر المتعلّق بتحديد حرية الصحافة. على أنّ جميع هذه الاجراءات التعسّفية والعراقيل الادارية لم تنل من عزيمة محيي الدين القليبي الذي استمرّ إلى آخر رمق من حياته في الكفاح باللسان والقلم للذود عن القضية الوطنية وفضح المخططات الاستعمارية الرامية إلى القضاء على الذاتية التونسية وإدماج التونسيين في البوتقة الحضاريّة الفرنسية، ولم يغفل عن توجيه الانتقادات اللاذعة إلى مواطنيه الذين لم يترددوا في التعاون مع السلط الاستعمارية لتمكينها من اغتصاب سيادة الأمة والقضاء على كيانها.

نضاله السياسي

لقد أظهر القليبي منذ انضمامه إلى صفوف الحزب الدستوري من النشاط والانضباط والتفاني في خدمة القضية الوطنية، ما أهلّه لاحراز ثقة رفاقه الذين انتخبوه عضوا في اللجنة التنفيذية في مؤتمر الحزب المنعقد في 29 أكتوبر 1922. فاشتدّ ساعد الدستوريين بهذا العضو البارز الذي أصبح يناضل مع المناضلين الشبان المتّسمين بالوطنية الخالصة والاندفاع والاستعداد للتضحية بالنفس والنفيس في سبيل الوطن، بقيادة زعيم الحزب الشيخ عبد العزيز الثعالبي.

وقد تفطّن المقيم العام لوسيان سان (1921 - 1929) المشهور بدهائه إلى خطر هذه المجموعة على نظام الحماية، فسعى إلى تشتيت شملها وإحباط مشروعاتها، مهما كانت التكاليف. وبدأ في تطبيق مخططه إثر وفاة الناصر باي في جويلية 1922 وتعويضه بولّي عهده الأمير محمد الحبيب باي (1922 - 1929) الذي تنكّر للدستوريين وأصبح أداة طيّعة في أيدي رجال الحماية يأتمر بأوامرهم ولا يحيد عنها قيد أنملة. وعندئذ أجبر لوسيان سان رئيس الحزب على مغادرة أرض الوطن والهجرة إلى المشرق يوم 26 جويلية 1923. وقبل مبارحة تونس، عهد الثعالبي بإدارة الحزب إلى الشاب محيي الدين القليبي الذي قبل تلك المهمّة، واضطلع بها على الوجه الأكمل، رغم الظروف القاسية التي كانت سائدة في البلاد آنذاك، وذلك بفضل ما كان يتحلى به من روح وطنية عالية وإخلاص وعزم ورباطة جأش. وقد وجد نفسه مضطرا إلى خوض غمار الكفاح على واجهات متعددة:

  • تركيز هياكل الحزب داخل البلاد والاتصال بالدستوريين في مراكزهم، لتوعيتهم وتوضيح مواقف الحزب تجاه مختلف الأحداث السياسية، لا سيما منها الاصلاحات المزعومة التي أقرها المقيم العام وصادق عليها الباي الجديد إثر ارتقائه إلى العرش.
  • التصدّي إلى المنشقين من أتباع الحزب الاصلاحي الذي أسسه حسن قلاتي منذ سنة 1921 وأعضاء المجلس الكبير الذين اغتروا بإصلاحات لوسيان سان.
  • مقاومة تلك الاصلاحات التي لم تكن لها من غاية سوى ترسيخ قدم الاستعمار في تونس والسير بالأمة نحو الابتلاع والادماج.
  • الردّ بقوّة على الصحف الاستعمارية التي انتهزت فرصة الاصلاحات المزيّفة للتهجّم على الحزب الدستوري وقادته.

وبالإضافة إلى ذلك اسهم القليبي إسهاما بعيد المدى في جميع الحملات التي شنّها الحزب الدستوري ضدّ الاستعمار في تلك الفترة الحالكة من تاريخ تونس المعاصر، نخص بالذكر منها:

قضية التجنيس (ديسمبر 1923)

صادق محمد الحبيب باي على الأمر المؤرخ في 20 ديسمبر 1923 الذي عرضه عليه المقيم العام، والقاضي بفتح أبواب الجنسية الفرنسية في وجه التونسيين الراغبين في ذلك وتمكين المتجنّسين من جميع الامتيازات المادية التي يتمتّع بها الفرنسيون. وقد عارض الحزب الدستوري هذا القانون وشن عليه حملة شديدة شارك فيها محيي الدين القليبي الذي نشر عدة فصول ومقالات في الصحافة العربية وأصدر كتابا بالاشتراك مع رفيقيه أحمد توفيق المدني وعثمان الكعاك، للتنديد بذلك المشروع الأثيم الرامي إلى القضاء على الذاتية التونسية.

القضية النقابية (1924 - 1925)

ساندت اللجنة التنفيذية في أوّل الأمر الزعيم النقابي محمد علي الحامّي الذي أسس في 12 أكتوبر 1924 جامعة عموم العملة التونسية، وقد كان في مقدمة المؤيدين لحركة محمد علي، محيي الدين القليبي والطاهر الحداد وأحمد توفيق المدني. ولكنّ بعد اعتقال محمد علي ورفقائه، تخلّى الحزب الدستوري عن التضامن معهم، خشية اتهامه بالتحالف مع الشيوعيين، وقد أدّى هذا التراجع إلى الحكم على محمد علي وجماعته بالنفي. فاحتجّ الطاهر الحداد على هذا الموقف بشدّة.

نصب تمثال الكردينال لافيجيري (نوفمبر 1924)

شنّ الحزب الدستوري بقيادة محيي الدين القليبي حملة عنيفة ضدّ إقدام بلدية تونس على إقامة تمثال الكردينال لافيجري في مدخل المدينة العربية، بمناسبة الاحتفال بالذكرى المائوية لولادته. ونظّم مظاهرات شعبية للاحتجاج على هذا الصنيع المستفزّ لمشاعر السكان المسلمين، فألقت السلطة القبض على عشرة متظاهرين منهم الشيخ عبد الرحمان اليعلاوي، أحد قادة الحزب، الذي كانت قد أبعدته إلى الجزائر، بدعوى أنّه من أصل جزائري، وبتلك التعلّة نفسها كانت قد أبعدت يوم 6 جوان 1925 أحمد توفيق المدني، الأمين العام المساعد للحزب. وعندئذ لم تبق من المجموعة التي ألّفها الشيخ عبد العزيز الثعالبي قبل مغادرته أرض الوطن، سوى محيي الدين القليبي الذي أصبح يواجه جميع التحديات الاستعمارية بمفرده تقريبا، لأنّ أعضاء اللجنة التنفيذية الاخرين أمثال أحمد الصافي وصالح فرحات والطيب الجميّل لم يكونوا متفرّغين مثله للعمل الحزبي.

المؤتمر الافخارستي (ماي 1930)

عقد رجال الكنيسة بقرطاج في شهر ماي 1930 المؤتمر الافخارستي العالمي الذي أراد أنّ يؤكد على نحو مفضوح الحضور المسيحي بشمال إفريقيا، فعارض الشعب التونسي بشدّة هذا التحدّي الصارخ لشعور المسلمين، ونظم الطلبة والشبان والعمال عدة مظاهرات صاخبة للاحتجاج على انعقاد ذلك المؤتمر المسيحي في هذه الرقعة من البلاد الإسلامية. واعتبرت السلطة الفرنسية محيي الدين القليبي المسؤول الأوّل عن تنظيم تلك المظاهرات، وهدّدته باتخاذ عقوبات ضدّه، كما ثبت فيما بعد أنّه هو الذي حرّر نشرية أصدرها "مكتب الأخبار التونسية" بالقاهرة، للتنديد بالمؤتمر الافخارستي.

مشاركته في الحياة الثقافية والاجتماعية

المعارك الفكرية

أسهم القليبي إسهاما لافتا في المعارك الفكرية التي دارت رحاها في آخر العشرينات بين الكتّاب الدستوريين المحافظين وأصحاب الأفكار التجديدية. فانتقد في مجلة "العالم الأدبي" انتقادا لاذعا المحاضرة الشهيرة التي ألقاها الشاعر الشاب أبو القاسم الشابي في نوفمبر 1929 بعنوان "الخيال الشعري عند العرب"، على منبر النادي الأدبي لقدماء الصادقية. "وهاجمت الصحف الدستورية المحاضر الذي ادّعى أنّ الأدب العربي خال من الخيال، وتعرّضت لنظرياته بالاستخفاف والتهكم والتشهير". وفي السّنة الموالية ظهر كتاب الطاهر الحداد امرأتنا في الشريعة والمجتمع، فأثار حملة استنكار في جميع الأوساط الدينية والسياسية. وتزعّم محيي الدين القليبي تلك الحملة التي شارك فيها بالخصوص بعض الكتّاب الدستوريين المحافظين أمثال راجح إبراهيم وحسين الجزيري وسليمان الجادوي. ولئن عارض القليبي بشدّة الاتّجاهات التجديديّة المتطرفة، باعتبارها، حسب رأيه، عاملا من عوامل إضعاف الشخصية التونسية العربية الاسلامية التي كان الاستعمار يسعى إلى تقويضها، فإنّه أيّد بلسانه وقلمه حركة إصلاح التعليم بجامع الزيتونة. كما قاوم، مثل الشيخ عبد العزيز الثعالبي، حركة "الطرق الصوفية" والزوايا، التي اعتبرها منافية لروح الدين الاسلامي الحنيف ودعا المسلمين إلى تخليص عقيدتهم ممّا علق بها من أوهام وخرافات.

النشاط الثقافي والاجتماعي

لقد اهتمّ القليبي اهتماما بالغا بالجمعيات الثقافية والاجتماعية، باعتبارها عاملا من عوامل الحفاظ على الروح الوطنية وتمكين الفكرة الدستورية من الدوام، في انتظار تحسّن الأوضاع السياسية، فأسهم في نشاط الجمعيات القائمة الذات مثل الخلدونية وقدماء الصادقية والجمعية الخيرية الاسلامية، وسعى إلى تأسيس جمعيات جديدة. من ذلك مثلا أنّه دعا في شهر مارس 1928 إلى إنشاء "جمعية التونسيين" لنشر الروح الوطنية في أوساط الشباب، ولا سيما منهم الطلبة. وعندما رفضت السلط الفرنسية قيام تلك الجمعية، سعى في أكتوبر 1928 إلى تأسيس جمعية أخرى باسم "جمعية الشبان المسلمين"، تهدف إلى الاصلاح الاجتماعي والديني ومقاومة البدع والنهوض بالمسلمين وحملهم على اتّباع تعاليم الدين الاسلامي الحنيف. ورغم رفض السلط الفرنسية الموافقة على إحداث هذه الجمعية أيضا، فقد ظهرت إلى الوجود في شهر ماي 1929، باعتبارها فرعا تابعا للجمعية الخلدونية ولم تصبح مستقلّة بذاتها إلا سنة 1934. وكان محيي الدين القليبي قد ساهم قبل ذلك في تأسيس "الرابطة القلمية" التي تتركّب هيئتها المديرة على النحو التالي:

  • محيي الدين القليبي: كاتب

وينصّ الفصل الأوّل من النظام الأساسي لتلك الجمعية على ما يلي: "يلتزم الكتّاب والمفكرون المنضوون إلى هذه الجمعية أنّ يجعلوا أقلامهم وقفا على خدمة الحركة الملية ببلادهم ونفع شعبهم والسعي في رفع مستواه العلمي والسياسي والاجتماعي". وفي أثناء إقامته بدمشق، أنشأ القليبي مؤسّسة للتأليف والترجمة والنشر سمّاها "دار الفكر الاسلامي". وقد تولّت نشر مختلف الكتب التي ألّفها للتعريف بالقضية التونسية وقضايا العالم العربي الإسلامي. وأسّس أيضا ناديا في القاهرة وآخر في دمشق، أطلق عليهما اسم "بيت تونس"، وكان يستقبل الطلبة التونسيين القادمين إلى المشرق، ويقدّم لهم يد المساعدة ويسعى إلى ترسيمهم في الجامعات العربية.

موقفه من الحزب الدستوري الجديد

تميّزت الحياة السياسية في آخر سنة 1933 بظهور حركة انشقاق في صفوف الحزب الدستوري، إذ انفصلت مجموعة "العمل التونسي" عن اللجنة التنفيذية وسعت إلى تنظيم مؤتمر خارق للعادة للحزب في بلدة قصر هلال يوم 2 مارس 1934, أفضى إلى انقسام الدستوريين إلى شقّين، شقّ الديوان السياسي أو الحزب الدستوري الجديد وشقّ اللجنة التنفيذية أو الحزب الدستوري القديم. ودخل الشقّان في معركة سياسية كبرى دارت من جهة بين الدستوريين القدماء والجريدة المتكلّمة باسمهم "الإرادة" التي ظهرت في سنة 1934، ومن جهة أخرى بين الدستوريين الجدد وجريدتهم الناطقة باللغة العربية "العمل" التي ظهرت في تلك السنة نفسها. وحمي وطيس المعركة خاصة بين مدير الحزب الدستوري القديم محيي الدين القليبي والكاتب العام للحزب الدستوري الجديد الحبيب بورقيبة. ولكن رغم ما اتّسمت به تلك المعركة من حدّة، فما إنّ ألقى المقيم العام بيروطون القبض على الدكتور الماطري والحبيب ومحمد بورقيبة، يوم 3 سبتمير 1934 وأبعدهم إلى الجنوب التونسي، حتى هبّ القليبي إلى الدفاع عنهم والتّنديد بالاجراءات التعسفية المتّخذة ضدهم، فكان ردّ فعل بيروطون الأمر بإلقاء القبض عليه وإلحاقه برجال الديوان السياسي المبعدين ببرج البوف، رفقة الدفعة الثانية من زعماء الحزب الدستوري الجديد، الطاهر صفر والبحري قيڨة وصالح بن يوسف، وذلك إثر المظاهرة التي انتظمت بجامع الزيتونة يوم 1 جانفي 1935.

وبعد الافراج عن المبعدين في آخر سنة 1936،عاد الدستوريون القدماء والجدد يتراشقون بالتهم ويتنابزون بالألقاب على صفحات الجرائد، بسبب ميل الديوان السياسي إلى التفاوض مع حكومة الجبهة الشعبية بفرنسا وممثلها بتونس المقيم العام الجديد أرمان قيون. وزاد الخلاف حدة إثر رجوع الشيخ عبد العزيز الثعالبي إلى تونس في شهر جويلية 1937 وفشله في إصلاح ذات البين بين الدستوريين، ولم تهدأ الخصومة إلا بعد حوادث 9 أفريل 1938 واعتقال زعماء الحزب الدستوري الجديد وإعلان حالة الحصار. فقد ركدت الحياة السياسة في البلاد من ذلك التاريخ إلى تاريخ نزول القوات الايطالية والألمانية بتونس في شهر نوفمير 1942. ومن مواقف محيي الدين القليبي تدخّله لدى يونس بحري المذيع العربي بإذاعة برلين، طالبا منه السعي لدى السلط الألمانية إلى إطلاق سراح الحبيب بورقيبة ورفاقه المعتقلين آنذاك في جنوب فرنسا. فقد روى يونس بحري في مذكراته ما يلي: "لما سلّمت فرنسا وألقت السلاح أمام الفوهرر كان زعماء تونس العربية معتقلين في سجن فور سان نيكولا في مرسيليا داخل المنطقة غير المحتلّة من قبل القوات الألمانية.وذات يوم تسلمت كتابا وردني من تونس خلوا من التوقيع والاسم يصف به الكاتب العنت والارهاق الذي يلقاه زعماء تونس ويخبرني فيه بأن زعماء تونس ومعهم بورقيبة لا يزالون في السجن. وعرفت من أسلوب الكتاب وخطّ الكاتب أنّه مرسل من زعيم حزب الأحرار الدستوريين التونسي محيي الدين القليبي. فعجبت من هذا الوفاء النادر وقدّرت هذه الوطنية الدّالة على التآخي والتعاون بالرغم عما كان يعتور سياسة الزعيمين من التفاوت والتنافر... فالزعيم القليبي كان يدير سياسة حزبه المعارضة لسياسة حزب الدستور التونسي الجديد، ومع ذلك أقدم الزعيم القليبي على الكتابة إلىّ للسعي لدى الألمان لاطلاق سراح الحبيب بورقيبة وصحابته زعماء تونس...".

نشاطه بعد الحرب العالمية الثانية

استأنف الدستوريون نشاطهم السياسي بعد انسحاب القوات الألمانية والايطالية من تونس يوم 7 ماي 1943، وعاد الوفاق بين القدماء والجدد الذين انضمّوا إلى جبهة وطنية موحّدة في فيفري 1945 تطالب بالحكم الذاتي وإرجاع المنصف باي إلى العرش، وكانت القوات الفرنسية قد خلعته يوم 14 ماي 1943. وإثر تأسيس الجامعة العربية في 22 مارس 1945 وهجرة الزعيم الحبيب بورقيبة إلى القاهرة في 26 أفريل 1945، انعقد بتونس "مؤتمر ليلة القدر" في 26 رمضان 1365 / 23 أوت 1946، بمشاركة كلّ المنظّمات والأحزاب التونسية باستثناء الحزب الشيوعي، وطالب بالاستقلال التام وانضمام تونس إلى جامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة.

وقد ابتهج محيي الدين القليبي بكلّ هذه الاحداث المنعشة، واستأنف نشاطه السياسي بحماسة أشدّ من ذي قبل، لا سيما بعد إلغاء الرقابة على الصحافة في أوائل سنة 1947، فكتب في جريدة "لسان العرب" لصاحبها عبد العزيز الشابي، مقالا بتاريخ 23 مارس 1947، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الثانية لجامعة الدول العربية، جاء فيه خاصّة ما يلي: "تحقّقت الوحدة الطورانية للأتراك وبقيت الوحدة العربية أملا يتنقّل بالتلاقيح من دماغ إلى دماغ ومن جيل إلى جيل". وأضاف قائلا: "وإذا لم يقدر للمسلمين أنّ ينهضوا تحت لواء جامعة إسلامية، فقد صار في إمكانهم النهوض جماعات، كلّ جامعة على حدة. ثم نترك للظروف والحوادث أمر تكتّل هذه الجماعات واجتماعها تحت لواء واحد، إذا حكمت الظروف بذلك، وإلا ففي تبادل المصالح والعواطف متّسع لحياة وسعادة الجميع". وبمناسبة إحياء ذكرى تمركز "الحماية الفرنسية" على تونس في 12 ماي 1881، كتب في نفس تلك الجريدة بتاريخ 12 ماي 1947, مقالا بليغا، جاء فيه بالخصوص قوله: "في مساء يوم 12 ماي 1923 أوّل اجتماع دستوري في طرنجة بدار السيد الحاج عبد اللّه بن يحيى، وضعت على باب الدار لافتة كتب عليها "تونس للتونسيين".

وكان ذلك اليوم الفاصل بين سياسة المشاركة المعروفة إذّاك والسياسة الوطنية المحضة، فترك الناس الباطل الذي دسّ لهم وأقحم في أفكارهم، وأقبلوا على حقهم الصراح "تونس للتونسيين"، معارضين بها كلمة ميلران: "تونس مرتبطة بفرنسا إلى الأبد"، وكلمة الاستعمار "تونس الفرنسية" و"إمبراطوريتنا وممّالكنا فيما وراء البحار". ولما تمحّضت الوطنية التونسية وخلصت من كلّ الشوائب، شنّ الاستعمار عليها غارته. واليوم تعاد هذه الذكرى، ولكن لا من حزب بمفرده، ولا في دار أحد السراة، ولكن من الأمة بأكملها وفي كلّ الوطن التونسي ومن كلّ التونسيين. "تونس للتونسيين"، لم تعد شعارا مرسوما على لوحة أو مرقوما على راية يحملها المتظاهرون أو يقرؤه المحتفلون،بل أصبح قرارا للأمة أقرّته في مؤتمرها العتيد الذي مثل كافة الطبقات وهيآتها، وأيّدته بمظاهراتها وإضراباتها بعده بثلاثة أيام كاملة..."

نشاطه بالخارج

منع القليبي من حضور المؤتمر الاسلامي الأوّل بالقدس

تلقّى محيي الدين القليبي رسالة من مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني مؤرخّة في 21 جمادى الثانية 1350 / 2 نوفمبر 1931، يدعوه فيها إلى حضور المؤتمر الاسلامي العام المقرر عقده بالقدس الشريف يوم 27 رجب 1350 / 7 ديسمبر 1931. وقد جاء في خاتمة تلك الرسالة ما يلي: "لقد بعثنا لحضرتكم الدعوة لحضور المؤتمر الاسلامي القادم، راجين شرف التعرّف على سيادتكم، وليكون لاخواننا المسلمين في المغرب ممثلون في هذا المؤتمر، أخذ اللّه بيدنا وهو الهادي إلى أقوم السبيل". ولكنّ السلط الفرنسية منعت القليبي من مغادرة البلاد التونسية. فوجّه بعض الدستوريين إلى سماحة مفتي فلسطين خطابا مؤرخا في 25 جمادى الثانية 1350 / 6 نوفمبر 1931، جاء فيه بالخصوص ما يلي: "إنّ الشعوب الاسلامية مجمعة على تأييدكم في مشروعكم الجليل، والشعب التونسي واحد منها. وكفاه تأييدا بانتداب زعيمه ونافخ روح الحياة فيه، مولانا الاستاذ عبد العزيز الثعالبي ممثّلا له في المؤتمر. وكذلك قراره بشأن إيفاد السيد محيي الدين القليبي السكرتير العام للحزب الحر الدستوري التونسي، ليكون معه في خدمة المؤتمر. ولكنّ الاستعمار الغاشم أبى أن يدع الأسد يخرج من عرينه فتأخّر، وقد بعثت لكم الأمة التونسية شكواها من سوء صنيع الحكومة الفرنسية، بهذا المنع وستسمعونها من فم زعيمها الأكبر".

رحلته الأولى إلى الشرق

إثر انبعاث مكتب المغرب العربي بالقاهرة في 16 فيفري 1947، قرّر محيي الدين القليبي التحوّل إلى مصر لتمثيل الحزب الدستوري القديم في تلك الهيئة، فغادر تونس متعلّلا برغبته في أداء فريضة الحج، وعهد بإدارة الحزب إلى رفيقه في الكفاح الحبيب شلبي. وفي طريقه إلى البقاع المقدسة، أدّى زيارة إلى طرابلس، حيث سعى إلى توحيد صفوف الوطنيين الليبيين الذين كانوا يتأهّبون آنذاك للحصول على استقلال بلادهم. وبعد أداء مناسك الحج سافر إلى القاهرة واستقرّ بها مدة سنة ونيف للمساهمة مع الدستوريين المقيمين هناك، في تعريف الرأي العام العربي بالقضية التونسية. وقد ركّز نشاطه على الدفاع عن قضية المنصف باي، فأصدر كتابين الأوّل بعنوان "مأساة عرش" والآخر بعنوان "ملك تونس"، وعيّن عضوا في "جبهة الدفاع عن شمال إفريقيا" التي يرأسها الشيخ محمد الخضر بن الحسين، وعضوا في "لجنة تحرير المغرب العربي" التي أنشأها الأمير عبد الكريم الخطابي بعد فراره إلى القاهرة. لكن اشتغاله بقضايا المغرب العربي لم يمنعه من الاهتمام بالقضايا العربية والاسلامية، بوجه عام، فقد قام بنشاط ملحوظ في صفوف جمعية الاخوان المسلمين وتوطّدت علاقاته بمرشدها العام الشيخ حسن البنّا. وإثر حلّ تلك الجمعية (8 ديسمبر 1948) واغتيال رئيس الحكومة المصرية النقراشي باشا (28 ديسمبر 1948)، قررت الحكومة الجديدة التي ترأسها إبراهيم عبد الهادي باشا إبعاد محيي الدين القليبي الذي غادر القاهرة يوم 27 جانفي 1949 عائدا إلى بلاده. وقد كتب المناضل العربي محمد علي الطاهر مقالا بعنوان: "إبعاد مجاهد تونسي كبير عن مصر" صدر في جريدة "الانشاء" بدمشق بتاريخ 10 فيفري 1949, جاء فيه بالخصوص ما يلي: "غادر الاستاذ محيي الدين تونس حاجّا، ثم ربض في القاهرة أكثر من سنة يحارب الاستعمار الفرنسي ويصليه نارا بقلم بليغ شاف للغليل.

فقد ملأ أوساط الشرق العربي، بالدعاية الشديدة ضدّ فرنسا وفظائعها، فخطب وكتب ونشر ما يملأ مجلدات ومنها كتابه مأساة عرش وكتابه الثاني تونس وكتابه الثالث ملك تونس وكتابه الرابع تونس والحماية الفرنسية. وهناك مقالات وتقارير ونشرات شتّى عن تونس نشرها بالعربية والفرنسية والانڨليزية وأرسلها إلى هيئة الأمم المتحدة في أمريكا وقصر شايو بفرنسا وإلى مؤتمر اليونسكو بلبنان وإلى جميع أنحاء العالم. لذلك طلبت فرنسا من الحكومة المصرية أن تشلّ هذا الجهاد وأن تعطّل حركته بإبعاد المحرّك عن البلاد المصرية، ففعلت، وهو أمر يدعو إلى شدّة الأسف والاستنكار من الجميع". رجع القليبي حينئد إلى تونس في شهر فيفري 1949، فاستأنف نشاطه السياسي والثقافي، وتولّى بالخصوص إلقاء سلسلة من المحاضرات العامة على منبر "معهد البحوث الاسلامية" التابع للجمعية الخلدونية، حول حاضر العالم الاسلامي، تلبية لدعوة الشيخ محمد الفاضل بن عاشور رئيس الجمعية.

رحلته الثانية إلى المشرق ووفاته

وفى أوائل سنة 1952 سافر محيي الدين القليبي إلى باريس على رأس الوفد الذي عيّنته اللجنة التنفيذية لمتابعة أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة المنعقدة بقصر شايو، ومؤازرة الوفد الوزاري التونسي المكلّف بعرض القضية التونسية على منظّمة الامم المتحدة، بعد فشل المفاوضات التونسية الفرنسية. ومن باريس تحوّل القليبي مرّة ثانية إلى القاهرة للتعريف بالقضية التونسية وما طرأ عليها من تطور، وذلك عن طريق المحاضرات والمقالات الصحفية والاتصالات الرسمية، واستأنف نشاطه في صلب "لجنة تحرير المغرب العربي". وتوجّه إثر ذلك إلى فلسطين للمشاركة في أعمال المؤتمر الاسلامي الثاني بالقدس، وقد انتخب عضوا في المكتب الدائم للمؤتمر، فاستقرّ بالقدس وركّز نشاطه على القضية الفلسطينية، وشارك مع بعض قادة "جمعية الاخوان المسلمين" في تكوين مجموعات من الفدائيين الفلسطينيين للقيام بعمليات فدائيّة داخل الأراضي العربية المحتلّة. فتضايق الملك عبد اللّه عاهل الأردن من هذا النشاط وأوعز إلى القليبي بمغادرة القدس حالا، لتحاشي إثارة المشكلات مع إسرائيل، فارتحل إلى دمشق واستقرّ بها إلى أنّ أدركته المنية يوم أوّل ديسمبر 1954، بعد أنّ اطمأن على مصير القضية التونسية، إذ بلغه - وهو على فراش المرض - نبأ زيارة رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس إلى تونس يوم 31 جويلية 1954 وإعلانه على رؤوس الملإ عن اعتراف فرنسا باستقلال تونس الداخلي.

وحالما علم الزعيم الحبيب بورقيبة الذي كان مقيما آنذاك بباريس تحت الاقامة الجبرية بنبإ وفاة محيي الدين القليبي، وجّه إلى الأستاذ صالح فرحات الكاتب العام للحزب الدستوري القديم، برقية مؤرخة في 14 ديسمبر 1954، جاء فيها: "سمعت اليوم وبكلّ أسف بوفاة المجاهد محيي الدين القليبي بدار الغربة، وهو مصاب مكدّر بالنسبة إلى وطني نذر حياته لتحرير وطنه. أريد اليوم أنّ أتذكّر كفاح الرفيق الذي شاطرني المحنة في المنفى ببرج البوف، والذي كان كافح وقاسى الالام لمبدإ العدالة والحرية نفسه، والذي سقط في المعمعة وقد ترك تونس للتونسيين درسا ومثالا". وبمناسبة إحياء الذكرى الثلاثين لحوادث أفريل 1938, يوم 9 أفريل 1968 أرجعت رفات الفقيد إلى تونس مع مجموعة من المناضلين التونسيين الذين وافهم الأجل المحتوم في ديار الغربة.