محمد شنيق

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1889 - 1976م]

ولد السياسي ورجل الأعمال محمد شنيق بمدينة تونس سنة 1889, وبعد أن اجتاز مرحلة التعليم الابتدائي التحق بالمعهد الصادقي سنة 1904. ولكنّه ما لبث أنّ غادره قبل إتمام دراسته الثانوية، كالكثيرين من أبناء جيله. وكان مولعا منذ نعومة أظفاره بالشؤون الاقتصادية، فما إن بارح الصادقية حتى التحق بمعهد الجمعية الخلدونية حيث تابع دروس الأستاذ عبد الجليل الزاوش في العلوم التجارية، وإثر ذلك دخل معترك الحياة، فاشتغل في المطحنة العصريّة لعبد الجليل الزاوش، ثم عيّن مديرا لشركة "الاتحاد التجاري" التي أسسها جمع من التجار "الجرابة" (نسبة إلى مدينة جربة بالجنوب التونسي) منذ سنة 1906. وإثر انهيار هذه المؤسسة في مطلع العشرينات، ترأس محمد شنيق "بنك التعاضد المالي" الذي مكّنه من احتلال مركز مرموق في الميدان التجاري ومن أداء خدمات مهمّة للاقتصاد التونسي بوجه عام والصناعات التقليدية بوجه خاص. إساهمه في الحركة الوطنية لم تمنعه شواغله المهنيّة من الاهتمام بقضية بلاده الرازحة تحت نير الاستعمار. فمنذ خروجه من الصادقية انضمّ إلى حركة الشباب التونسي التي أسسها الزعيم علي باش حانبه في سنة 1907. وانتمى إلى نزعة من نزعات تلك الحركة كانت تولي الشؤون الاقتصادية أهمّية بالغة وتسعى إلى بعث مؤسّسات مالية واقتصادية وطنية للنهوض بالاقتصاد التونسي. وكان يمثّلها على أحسن وجه عبد الجليل الزاوش الذي تفرّغ للنشاط الصناعي والتجاري رغم حصوله على الاجازة في الحقوق. ولمّا ركدت الحياة السياسية في البلاد حين أبعدت السلطة الاستعمارية زعماء حركة الشباب التونسي سنة 1912, ثم اندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914, انقطع محمد شنيق إلى نشاطه المهني. ولمّا وضعت الحرب أوزارها سنة 1918 أسهم في انبعاث الحركة الوطنية من جديد، فشارك في الاجتماعات التي عقدها الوطنيون لضبط المطالب المزمع تقديمها إلى الحكومة الفرنسية، كما أسهم في إحياء جمعية قدماء الصادقية التي تعطل نشاطها طوال فترة الحرب، وانتخب عضوا في هيئة الجمعية التي تشكلّت برئاسة العلاّمة حسن حسني عبد الوهاب في 13 جوان 1919. أسهم محمد شنيق في تأسيس الحزب الحرّ الدستوري التونسي الذي أعلن عن نفسه يوم 15 جوان 1920 وعيّن عضوا في وفد الأربعين الذي زار الناصر باي بقصره بالمرسى يوم 18 جوان 1920 برئاسة المدرّس الشيخ محمد الصادق النيفر وعرض عليه المطالب الوطنية التي قدمها الشيخ عبد العزيز الثعالبي في اليوم نفسه إلى الحكومة الفرنسية بباريس.

انتخابه رئيسا للحجرة التجارية التونسية

انضم محمد شنيق إلى الحجرة التجارية التونسية التي أنشأها المقيم العام إيتيان فلادان بمقتضى أمر مؤرخ في 6 مارس 1920. وينقسم أعضاء هذه الحجرة إلى 3 أصناف: 8 أعضاء يختارهم المقيم العام من 16 مترشحا تنتخبهم المجموعات الحرفية، و6 أعضاء ينتخبهم التجار المسلمون على نحو مباشر و6 أعضاء آخرين ينتخبهم التجار اليهود. وأمّا الأعضاء المسلمون الذين انتخبوا مباشرة، فقد أحرز المترشّح محمد شنيق دونهم على أكبر عدد من الأصوات، فقد انتخب بالاجماع أوّل رئيس للحجرة التجارية التونسية. وقد كانت صلاحيات هذه المؤسسة في أوّل الأمر محدودة وحريّتها مقيّدة، فسعى بالتعاون مع صديقيه الأخوين حمدان ومحمد بدرة إلى تطويرها وتشجيع التجار والحرفيين التونسيين على الالتفاف حولها، إلى أنّ أصبحت مؤسسة وطنية عتيدة،كما توفّق إلى توحيد كلمة التجار المسلمين واليهود وبثّ الروح الوطنية في نفوسهم. وقد تولّى محمد شنيق رئاسة الحجرة التجارية التونسية فترات طويلة، ثم عوّضه على رأسها، إثر انتهاء الحرب العالميّة الثانية، صديقه الحميم محمد بدرة الذي عهد بإدارتها إلى المناضل الكبير الباهي الأدغم، وحوّلها إلى قلعة من قلاع الحركة الوطنية.

انضمامه إلى المجلس الكبير

لئن لم يثر انتماء محمد شنيق إلى الحجرة التجارية أي مشكلة، فإن ترشحه لعضوية المجلس الكبير أثار جدلا حادّا في الأوساط الدستورية، ذلك أنّ هذا المجلس الذي تأسس بمقتضى الأمر المؤرخ في 13 جويلية 1922 يندرج في إطار الاصلاحات التي أقرّها المقيم العام الجديد لوسيان سان إثر وفاة الناصر باي واعتلاء محمد الحبيب باي العرش. وكان الحزب الدستوري يعارض هذه الاصلاحات ويقاومها على صفحات جرائده وفي أثناء الاجتماعات العامة، وتسبّب ذلك في حصول انشقاق في صفوف الحزب، فقد انفصل عنه حسن قلاّتي ورفاقه الذين أسسوا الحزب الاصلاحي، ثم انفصل عنه ممثله بباريس فرحات بن عيّاد الذي أسس الحزب الدستوري المستقلّ بالتعاون مع بعض قدماء الدستوريين منهم الشاذلي المورالي والطيب بن عيسى. ثمّ انفصل عن الحزب أيضا بعض المناضلين الذين رأوا أنّ من مصلحة البلاد دخول المجلس الكبير للدفاع عن المصالح التونسية بوجه عام، ومصالح التجار والحرفيين والفلاّحين بوجه خاص، وذلك رغم الأمر الذي أصدره الحزب الدستوري بمقاطعة انتخابات هذا المجلس. وخالف هذا الأمر عدد من الدستوريين أمثال الطاهر بن عمّار ومحمد شنيق والطاهر التوكابري والجيلاني بن رمضان. فأثار ذلك حفخة الشيخ عبد العزيز الثعالبي وأنصاره، رغم أنّ بعض القادة الاخرين لم يستنكفوا من تشجيع بعض الوطنيين عن الترشح للمجلس الكبير في إطار سياسة الاندساس داخل المؤسسات الاستعمارية. وانتخب محمد شنيق بوصفه ممثل الحجرة التجارية رغم انتمائه إلى الحزب الدستوري، فقد غضّت السلطة الفرنسية الطرف عنه معتبرة أنّه لم يقم بدور بارز في هذا الحزب واقتصر نشاطه فيه على حضور بعض الاجتماعات. والملاحظ أنّه تولّى رئاسة القسم التونسي للمجلس الكبير مدّة طويلة بعد أنّ اضطلع بتلك المهمّة في فترة قصيرة النائب عمر البكوش الذي انفصل عن الحزب الدستوري وأصبح يحظى بثقة الادارة.

دور شنيق في المجلس الكبير

حاول محمد شنيق وجماعته الأعضاء في المجلس الكبير اغتنام جميع الفرص للتخفيف من وطأة الكابوس الاستعماري والدفاع عن مصالح التونسيين من تجار وحرفيين وفلاحين. ومع ذلك تعرّضوا للحملة الشعواء التي شنّتها عليهم الصحف الدستورية رغم ضعف الحزب الذي انفصل عنه عدد كبير من المناضلين، وغادر زعيمه الشيخ عبد العزيز الثعالبي البلاد في جويلية 1923. وحمي وطيس المعركة في مطلع الثلاثينات، وتزعّم محيي الدين القليبي وحسين الجزيري ومحمد الجعايبي الحملة على شنيق واعتبروه خصمهم السياسي. ففكّر في ردّ الفعل والدفاع عن نفسه وعن جماعته بإنشاء جريدة ناطقة باسمهم. ولكنّ الأوامر التي أصدرها لوسيان سان لم تكن تسمح بصدور أيّ جريدة تونسية جديدة. فتمكّن محمد بدرة من استئجار جريدة "الزمان" التي أصدرها محمد بنّيس منذ 26 فيفري 1929 وخصّصها للاشهار ونشر الاعلانات التجارية واستطاع تحويلها إلى جريدة أدبية وسياسية ملتزمة تناصر حركة التجديد السياسي والأدبي والاجتماعي وتأخذ بأيدي الأدباء الشبان. ثم تحوّل إلى باريس واتّصل بالأديب المصري التونسي الأصل محمود بيرم الذي كان يعيش في المنفى وأقنعه بالقدوم إلى تونس ليتولى رئاسة تحرير "الزمان"، فقدم إليها في شهر ديسمبر 1932 واضطلع بمهمّة رئاسة التحرير للجريدة ابتداء من 2 جانفي 1933, وشرع في نشر فصوله التي كانت تطغى عليها روح النقد اللاذع والسخرية والتهكّم. وتصدّى لمقاومة صاحب "النديم" حسين الجزيري أكبر خصوم محمد شنيق والناطق باسم المحافظين. ثم توجه بيرم بالنقد لزعماء الحزب الدستوري الذين كان يسميهم "قدماء بني آدم". وفي الوقت نفسه الذي كانت فيه المعركة دائرة بين "الزمان" و"النديم" تغيّر موقف محمد شنيق تجاه حكومة "الحماية" التي لم تحرّك ساكنا تجاه الأزمة المالية العالمية وقد ظهرت انعكاساتها على الاقتصاد التونسي. وتحوّل ذلك الموقف من المجاملة والمهادنة إلى النقد الصريح، وانتقاما منه فكّرت حكومة "الحماية" في اتّخاذ إجراءات ضدّ بنك التعاضد الذي كان يشرف على حظوظه، منذ عدّة سنوات، بكفاية فائقة. فتصدّت جريدة "العمل التونسي" (الناطقة بالفرنسية) للدفاع عن محمد شنيق، خاصة والمؤسسات التونسية التي تسعى حكومة الحماية إلى القضاء عليها عامّة. ونشر الحبيب بورقيبة - في إطار تعميق التناقضات بين الاستعمار والرجال الذين يعوّل عليهم - فصلين متتاليين في هذه الجريدة بتاريخ 21 و22 فيفري 1933, قائلا بالخصوص: "لقد اتّضح أنّ التعاون الصادق والنزيه مع الحكومة أمر مستحيل. هذا ما عبّر عنه اليوم بكل شجاعة وبعبارات قطعيّة الرجل الذي كان يمثّل سياسة التعاون أحسن تمثيل. وإذا وجدنا اليوم هذا الرجل معنا في مواجهة خصمنا المشترك في إطار كفاحنا من أجل الدفاع عن مؤسساتنا، فإنّنا لا نرى مانعا من مدّ يدنا إليه لنخوض معا المعركة الموفّقة". ولئن حظي هذا الرأي بموافقة أغلبية الأعضاء في هيئة تحرير الجريدة وهم الدكتور محمود الماطري ومحمد بورقيبة والطاهر صفر فإنّه أثار احتجاج عضوين آخرين هما علي بوحاجب والبحري قيڨة اللّذان استقالا من هيئة التحرير. على أنّ موقف الحبيب بورقيبة ورفقائه شجّع محمد شنيق على الاستمرار في معارضة السياسة الاستعمارية أكثر فأكثر. بل ذهب به الأمر إلى دعوة زملائه في المجلس الكبير إلى عدم التعاون مع الحكومة في الدورة الاستثنائية التي عقدها المجلس يوم 12 أفريل 1933, وبإيعاز منه ومن زميله الطاهر بن عمار، رفض القسم التونسي من المجلس الكبير للمرّة الأولى التصويت على الميزانية المعروضة عليه بأغلبية ساحقة وذلك على خلفية رفضهم "تقرير تاردي" (Tardy) الذي حمّل مسؤولية الأوضاع الصعبة للتجار والفلاّحين والحرفيين التونسيّين - ôللأزمة الاقتصادية العالمية - وإنما لهؤلاء المنتجين التونسيّين أنفسهم (تبذيرهم، عدم تحسبهم للمستقبل...) . وكان ذلك بداية الجفوة بين أغلب النواب التونسيين وحكومة "الحماية"، إلى أنّ اندثر المجلس الكبير تماما في مطلع الخمسينات، في عهد وزارة شنيق الثانية.

موقفه من الحزب الدستوري الجديد

لا غرابة في أن يؤيّد محمد شنيق الحزب الدستوري الجديد الذي بعثته مجموعة "العمل التونسي" في أثناء مؤتمر قصر هلال المنعقد في 2 مارس 1934, ولا غرابة أنْ يتعاطف محمد بدرة، صديق محمد شنيق، مع زعماء الديوان السياسي الذين كانوا زملاء له في الدراسة بالمدرسة الصادقية وبفرنسا. ولا نشاطر رأي من يدّعون أنّ شنيق هو الذي أوعز إلى مجموعة "العمل التونسي" بالانفصال عن الحزب الدستوري وتكوين حزب جديد، لا سيما أنّ هذا الرأي صدر عن خصوم الحبيب بورقيبة وفي مقدمتهم محيي الدين القليبي مدير الحزب الدستوري القديم الذي أشار إلى ذلك في فصلين منشورين بجريدة "الارادة"، الأوّل بعنوان "المنشقّون ومحمد شنيق"، والثاني بعنوان "شنيق والمأمورون". وقد عبّر عن مثل هذا الرأي بعض موظفي الاقامة العامة الذين أصبحوا مناهضين لمحمد شنيق، وحاولوا اغتنام الفرصة لتوريطه لدى بعض الأوساط الحكومية والبرلمانية بفرنسا. وكلّ ما في الأمر أنّ شنيق مدّ يد المساعدة إلى زعماء الحزب الدستوري الجديد، والدليل على ذلك أنّ رئيس الديوان السياسي الأوّل، الدكتور محمود الماطري، الذي سبق له أن انتقد سياسة شنيق الموالية للحكومة، أشاد في مذكراته بالجهود التي بذلها الرجل لمساعدة الحزب الدستوري الجديد، لا سيما في أيام المحنة إثر اعتقال زعمائه ومناضليه في 3 سبتمبر 1934, إذ تحوّل خصّيصا إلى باريس في صائفة سنة 1935 للمطالبة بإطلاق سراح المبعدين في برج البوف، كما أشار إلى المساعي التي قام بها محمد شنيق لدى المسؤولين الفرنسيين في تونس وفي باريس، إثر حوادث 9 أفريل 1938 لطلب الافراج عن المساجين والمبعدين الدستوريين. وذكر أيضا المقابلة التي جرت بين شنيق ورئيس الحكومة الفرنسية دلاديي عند زيارته إلى تونس من 3 إلى 5 جانفي 1939. وقد اغتنم رئيس القسم التونسي بالمجلس الكبير هذه الفرصة لتذكير فرنسا بأن مهمّتها في تونس ينبغي أنْ تكون مهمّة تقدّم وحرية. ولذلك وصف الدكتور الماطري في مذكراته محمد شنيق "بالوطني وصديق الحزب الدستوري الجديد الوفيّ". ورغم ذلك فإن الصحف المتعاطفة مع الحزب الدستوري الجديد التي صدرت منذ سنة 1936 إثر حذف الرقابة في عهد المقيم العام أرمان غيّون لم تتردّد في انتقاد أعضاء المجلس الكبير، بمن فيهم محمد شنيق وجماعته. فقد كتب محمود بيرم في جريدة "الشباب" التي أصدرها ابتداء من 10 أكتوبر 1936 ما يلي: "لا نعرف مصيبة نزلت بتونس أعظم وأفدح من المجلس الكبير، ولا نعتبر من اشترك في عضويته إلاّ أحد رجلين: إمّا أبله يتكالب على ضخامة اللقب ولا يدري ماذا يريد من وجوده في المجلس. وإمّا خبيث يعرف المقصود ويتغافل عنه في سبيل منفعته". ونشر في العدد الصادر في 26 نوفمبر 1936 من "الشباب" صورة كاريكاتورية تمثّل تونس وقد وجّهت مدفعا نحو المجلس الكبير وهي تقول: "لا بدّ من هدم هذه البؤرة كما هدّم الأحرار الفرنسيون سجن الباستيل".

تعيينه وزيرا أكبر في عهد المنصف باي

توقّف كلّ نشاط سياسي منذ حوادث 9 أفريل 1938, ولم تنتعش الحياة السياسية في البلاد إلاّ إثر وفاة أحمد باي واعتلاء المنصف باي العرش في 19 جوان 1942. وقد كان العاهل الجديد معروفا بوطنيّته الصادقة، ومازال التونسيون يتذكرون الدور المتميّز الذي قام به لما هدّد والده محمد الناصر باي (1906 - 1922) بالتنازل عن العرش يوم 5 أفريل 1922 إذا لم تستجب الحكومة الفرنسية للمطالب الوطنية. ومن الاجراءات الأولى التي اتخذها المنصف باي تأليف مجلس خاص بإشراف أخيه الأمير حسين باي لمساعدته على تسيير شؤون الدولة، كان يضمّ بالخصوص محمد شنيق ومحمود الماطري ومحمد العزيز الجلولي ومحمد بدرة ومحمد علي العنابي. وكان المنصف باي قد تعرّف إلى محمد شنيق من قبل وقدّر مشاعره الوطنية ومواقفه في المجلس الكبير للدفاع عن المصالح التونسية. وللتعبير عمّا يكنّه للرجل من مودّة، زار معمل النسيج "ستوفيت" الذي كان قد أنشأه قبل ذلك بسنة بالاشتراك مع صديقيه محمد العزيز الجلولي ومحمد بدرة. وإثر الزيارة قلّده الصنف الأكبر من وسام الافتخار. وبرز دور شنيق وأصدقائه في القصر إثر نزول قوات المحور بتونس يوم 10 نوفمبر 1942 وورود رسالة الرئيس الأمريكي روزفلت إلى العاهل التونسي، يلتمس فيها السماح للقوات الأمريكية بعبور الأراضي التونسية. وقد أعرب شنيق وجماعته من أوّل وهلة عن تعاطفهم مع الحلفاء، في حين عبّر الشقّ المتألف من الوزراء وأعضاء الحاشية عن ضرورة الاقتداء برئيس الدولة الفرنسية المارشال بيتان المتضامن مع دول المحور، وبعد أخذ وردّ اقتنع المنصف باي باتخاذ موقف محايد إزاء المتحاربين. أسهم شنيق في تحرير رسائل في هذا المعنى إلى رؤساء دول الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. ونظرا إلى الظروف العصيبة التي كانت تمرّ بها البلاد قرّر المنصف باي يوم أوّل جانفي 1943, دون الحصول على موافقة المقيم العام الأميرال أستيفا تعيين وزارة جديدة تضمّ محمد شنيق وزيرا أكبر، والدكتور محمود الماطري وزيرا للداخلية وصالح فرحات وزيرًا للعدلية. ورغم الصعوبات الجمّة التي واجهتها الوزارة الجديدة، فقد أقنعت المنصف باي باتّخاذ الاجراءات التالية:

  • تحقيق المساواة في المرتّبات بين الموظفين الفرنسيين والتونسيين.
  • إلغاء الأمر المؤرخ في سنة 1898 والقاضي بوضع مساحات معيّنة من أراضي الأوقاف على ذمّة وزارة الفلاحة كلّ سنة لتوزيعها على المعمّرين الفرنسيين.
  • إنشاء وزارة للأوقاف في مارس 1943 وتعيين شيخ المدينة محمد العزيز الجلولي على رأسها.
  • تأسيس لجان اقتصادية لتنظيم مسالك التوزيع وتشديد الرقابة على المحتكرين.
  • إسعاف ضحايا الغارات الجوية ومدّ يد المساعدة للمنكوبين.

ورغم محافظة المنصف باي على موقفه الحيادي فقد قرّرت السلطة العسكرية الفرنسية، بعد دخول قوّات الحلفاء إلى تونس يوم 7 ماي 1943 إرغامه على التنازل عن العرش، بدعوى التعاون مع المحور. وحاول محمد شنيق وزملاؤه دون جدوى تفنيد هذه التهمة الباطلة وتبرير موقف الباي وحكومته في فترة الاحتلال، لكنّ الجنرال جوان، المقيم العام بالنيابة، أصرّ على تطبيق الأمر الصادر له من قائد القوات الفرنسية بشمال إفريقيا، الجنرال جيرو. ولما رفض المنصف باي التنازل عن عرش آبائه وأجداده بمحض إرادته، خُلع قهرا يوم 14 ماي 1943, وأُبعد إلى الأغواط في جنوب الجزائر، حيث أجبر على إمضاء وثيقة التنازل عن العرش تحت الضغط. وإثر ذلك نقل إلى مدينة تنّس الواقعة في الساحل الجزائري، ومن هناك نقل إلى مدينة "بو" بجنوب فرنسا، في سنة 1945. واستمرّ محمد شنيق طوال السنوات التي نفي فيها الملك الشرعي في القيام بالمساعي اللازمة لدى الحكومة الفرنسية والأوساط الحزبية والبرلمانية لرفع تلك المظلمة، وذلك بالتعاون مع وزراء المنصف باي وأعضاده ومع كلّ المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية المنضوية تحت لواء ما أصبح يسمّى "الحركة المنصفية" والمطالبة بإرجاع المنصف باي إلى عرشه، إلى أنّ أدركته المنيّة بالمنفى يوم أوّل سبتمبر 1948. وبالاضافة إلى نضاله في سبيل قضية المنصف باي، انضمّ محمد شنيق منذ دخول الحلفاء إلى تونس، إلى "الجبهة الوطنية" المتألفة من مختلف الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنيّة، والمطالبة بمنح تونس الحكم الذاتي، كما ساهم في مؤتمر ليلة القدر الذي انعقد مساء يوم 23 أوت 1946 وصادق بالاجماع على لائحة تطالب بالاستقلال التام وانضمام تونس إلى الجامعة العربية ومنظمة الأمم المتّحدة.

وزارة شنيق الثانية

بعد سنتين من وفاة المنصف باي دعي محمد شنيق مرّة أخرى إلى رئاسة الوزارة التونسية التي شكّلها محمد الأمين باي يوم 17 أوت 1950, بالاتّفاق مع الحكومة الفرنسية وممثّلها بتونس المقيم العام لويس بيريي (Louis Périllier) من جهة، والحزب الدستوري الجديد ورئيسه الزعيم الحبيب بورقيبة من جهة أخرى. وكلّفت هذه الوزارة بالتفاوض مع الحكومة الفرنسية باسم الباي "حول الطرق الكفيلة بالسير بتونس نحو الاستقلال الداخلي". ولم يستنكف شنيق من قبول هذه المهمّة والعمل تحت سلطة محمد الأمين باي الذي كان يعتبره قبل وفاة المنصف باي مغتصبا للعرش، وذلك بعد أن ضمن مشاركة الحزب الدستوري الجديد الذي يعتبر أكبر قوّة سياسية في البلاد، ممثلا في شخص أمينه العام صالح بن يوسف. أمّا الحزب الدستوري القديم فقد رفض كاتبه العام صالح فرحات المشاركة في هذه الوزارة، لأن ذلك يتنافى في نظر حزبه مع مبدإ الاستقلال التامّ الذي صادق عليه مؤتمر ليلة القدر. وضمّت الوزارة الجديدة، بالاضافة إلى شنيق وابن يوسف، وزيرين اختارهما الوزير الأكبر، هما الدكتور محمود الماطري ومحمد بدرة، ووزيرا اختاره الباي وهو صهره الدكتور محمد بن سالم، ووزيرين آخرين اختارهما المقيم العام، هما محمد سعد الله ومحمد الصالح مزالي. ورغم ما يبدو من تنافر في هذه التشكيلة، فقد أبدى جميع أعضائها تضامنا تاما، ووافقوا بالاجماع على كلّ القرارات التي اتّخذتها الحكومة التونسية لمقاومة جميع أنواع الضغوط المسلّطة عليها. ولما تعثّرت المفاوضات التونسية الفرنسية في تونس، تحوّل محمد شنيق في شهر أكتوبر 1951 إلى باريس صحبة ثلاثة من زملائه: صالح بن يوسف ومحمد بدرة ومحمد سعد الله، لاجراء محادثات مع الحكومة الفرنسية في أعلى مستوى. انتهت تلك المحادثات بمذكّرة 15 ديسمبر 1951 التي وجّهها وزير الشؤون الخارجية الفرنسي روبار شومان إلى العاهل التونسي عن طريق وزيره الأكبر محمد شنيق. وكانت هذه المذكّرة بمنزلة الاعلان عن فشل التجربة التونسية الفرنسية ودخول حركة الكفاح التحريري مرحلتها الحاسمة، ولمّا رجع محمد شنيق من باريس محمّلا بها صحبة زملائه، تصدّى بشجاعة لسياسة القمع التي توخّاها المقيم العام الجديد دي هوتكلوك، منذ وصوله إلى تونس يوم 13 جانفي 1952. ولم يتردّد في إمضاء الرسالة الموجّهة إلى الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة للمطالبة بإدراج القضية التونسية في جدول أعمال الجمعية العامة المنعقدة آنذاك في باريس، وتحوّل إليها في اليوم نفسه الذي وصل فيه المقيم العام إلى تونس، الوزيران صالح بن يوسف ومحمد بدرة لابلاغ تلك الرسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة. أمّا الحكومة الفرنسية فقد طلبت مرارا إقالة وزارة شنيق وسحب الشكوى التونسية من المنظمة الأمميّة. ولما رفض الباي هذا الطلب رغم الضغوط المسلّطة عليه وإجراءات الترهيب المتّخذة ضدّه، أحال المقيم العام جميع السلط إلى الجنرال غرباي قائد قوّات الاحتلال الذي أمر يوم 26 مارس 1952 باعتقال محمد شنيق وزملائه: محمود الماطري ومحمد بن سالم ومحمد الصالح مزالي، وإبعادهم إلى قبلّي، وبنقل الزعيم الحبيب بورقيبة من طبرقة التي كان مقيما بها تحت الحراسة منذ يوم 18 جانفي 1952, إلى رمادة في أقصى الجنوب التونسي. فأصبح محمد الأمين باي في عزلة تامة، ولم يُفرج عن الوزراء إلاّ يوم 15 ماي 1952, بعد أنّ تمكن المقيم من فرض وزارة جديدة على رأسها صلاح الدين البكّوش. فتفاقم الوضع في البلاد ولم يستتبّ الأمن رغم إعفاء دي هوتوكلوك من مهامّه وتعويضه بمقيم عامّ جديد هو بيار فوازار في سبتمبر 1953. وتمكّن هذا المقيم من استمالة الباي لتشكيل وزارة جديدة على رأسها محمد الصالح مزالي، وأصدر إصلاحات 4 مارس 1954 التي لم تستجب لرغائب الشعب التونسي. فحذّر الزعيم الحبيب بورقيبة من منفاه في جزيرة جالطة التي نقل إليها منذ يوم 7 ماي 1952 من سياسة فوازار المخادعة، واتّسع نطاق الثورة الملحّة التي تحوّلت إلى حرب عصابات في الجبال، فاضطرّ مزالي وبقيّة الوزراء إلى الاستقالة من مناصبهم، ولم يتجاسر أحد على تعويضهم، وحصل فراغ في هياكلّ الدولة لم يسبق له مثيل. وفي هذا الظرف بالذات تحوّل رئيس الحكومة الفرنسية منداس فرانس إلى تونس يوم 31 جويلية 1954 وألقى في قصر قرطاج أمام الباي خطابا أعلن فيه باسم الحكومة الفرنسية عن الاعتراف باستقلال تونس الداخلي. جرت انتخابات عامة في البلاد يوم 25 مارس 1956, فآنتُخب أعضاء المجلس القومي التأسيسي ونجحت قائمات الجبهة القومية المتكوّنة من الحزب الدستوري الجديد وبعض المستقلين والمنظمات القومية: الاتحاد العام التونسي للشغل، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والاتحاد العام للمزارعين التونسيين. وانتُخب محمد شنيق نائبا في المجلس التأسيسي في قائمة الجبهة القومية وحصل له شرف رئاسة الجلسة العامة الافتتاحية يوم 8 أفريل 1956 باعتباره أكبر الأعضاء سنّا. وانتخب المجلس إثر ذلك الزعيم الحبيب بورقيبة رئيسا له، وشرع يوم 13 أفريل في وضع الدستور التونسي وصادق على الفصل الأوّل الذي ينص ّ على "أن ّ تونس دولة حرةّ مستقلة دينها الاسلام ولغتها العربية". وبعد أن انتهت مهمّة محمد شنيق النيابية في آخر سنة 1959, اعتزل النشاط السياسي، وتفرّغ لشؤونه الخاصة، إلى أنّ توفّي يوم 20 نوفمبر 1976.