محمد المنصف باي

من الموسوعة التونسية
نسخة 11:50، 24 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

مولده ونشأته[عدّل]

محمد المنصف باي

محمّد المنصف بن محمد النّاصر بن المشير الثاني محمد باي، ولد في 4 مارس 1881 وكان آخر أمير حسيني مولود قبل فرض "الحماية الفرنسية" على تونس في 21 ماي 1881. ولمّا بلغ سنّ الدّراسة ألحقه والده في سنة 1888 بالمعهد الصادقي بصفة مقيم بمبيت المدرسة، لتمكينه من الاختلاط بأبناء الشّعب منذ الصغر. وقد استرعى انتباه أساتذته وأقرانه حسنُ سلوكه وتواضعه وإقباله على طلب العلم. ثم غادر المعهد قبل إتمام دراسته الثانوية مثل الكثيرين من أبناء جيله، ولكنّه اكتسب زادا مُفيدًا من الثقافة الأساسية باللغتين العربية والفرنسية.وإلى جانب الدروس النّظامية بالصّادقية كان الأمير يتلقّى بالقصر في أيام الراحة دروسا خاصة في اللغة الفرنسية على يدي الأستاذ خير الله بن مصطفى وفي اللغة العربية والعلوم الشرعية على أيدي الشيوخ محمود بيرم والطّاهر جعفر والصّادق الشاهد ومحمّد جعيّط.

ولمّا اعتلى الناصر باي العرش سنة 1906، جعل من الأمير محمد المنصف مستشاره الخاص وأمين سرّه بصفته أكبر أنجاله. وكان يمثّل والده في المواكب والحفلات الرسميّة وقد رافقه في سفره إلى البلاد الفرنسية سنة 1912 عندما قام الناصر باي بردّ الزيارة لرئيس الجمهورية أرمان فاليار. وكان المنصف باي وإخوته (الهاشمي وحسين ومحمد) متّصلين بزعماء حركة الشّباب التونسي بوساطة بعض أفراد الحاشية، وهم:

  • خير الله بن مصطفى الذي كان يحظى برعاية زوجة النّاصر باي الأميرة قمر، وقد عيّنه الباي سنة 1919 مديرًا للتّشريفات خلفا للجنرال محمد ابن الخوجة المعروف بولائه لحكومة الحماية.
  • والشاب الشاذلي حيدر، وهو من أبناء المماليك تبنّته الأميرة قمر واسترعت انتباه الإقامة العامة وقتئذ أفكاره المناهضة لنظام الحماية.

لكنّ الشّخص الذي كان له تأثير بالغ في الأمير المنصف باي وغرس فيه الروح الوطنية منذ عهد الشباب هو الشاعر محمّد الشاذلي خزنه دار الضابط في سلك الحرس الملكي. وقد اعترف هو نفسه بما قام به من دور لحمل المنصف باي على الانضمام إلى الحركة الوطنية، في الرّسالة التي وجّهها إليه في سنة 1947,، لمّا كان مقيما في المنفى بمدينة بو الفرنسيّة لاعلامه باعتزامه نشر الدعوة الاسلامية، وقد جاء فيها بالخصوص ما يلي: "هذه بشارة أزفّها إليك... وأنا الذي عرفت من ذي قبل مبلغ قوّة إيمانك، وأنا الذي دعوتك من قبل لخدمة وطنك بالسّياسة واستحلفتك على الكتاب المقدّس مرتين وقد بررت بيمينك، فها أنا اليوم أدعوك، ليس لخدمة وطنك فقط، بل لخدمة الأوطان كلّها باسم الدين المحمّدي".

انضمام المنصف باي إلى الحركة الوطنية[عدّل]

فلا غرابة حينئذ في أن يكون الأمير المنصف باي في طليعة المتعاطفين مع الحزب الحرّ الدستوري التونسي منذ انبعاثه في سنة 1920. فهو الذي فتح باب القصر الملكي بالمرسى في وجه وفد الأربعين الذي زار الباي يوم 18 جوان 1920 برئاسة الشيخ الصادق النيفر وقدّم إليه العريضة الدستورية. ولم يكتف المنصف باي بهذا الموقف الذي أثار غضب السّلط الاستعمارية بل بادر إلى الانخراط في الحزب. وقد نشر السيد المنجي خزنه دار صورة من بطاقة انخراط الأمير في الجزء الثالث من ديوان والده، الذي نشره في جوان 1991 تحت عنوان "المنصفيّات".

وتجدر الإشارة إلى الدور البارز الذي قام به المنصف باي لما هدّد والده يوم 3 أفريل 1922 بالتنازل عن العرش، إذا لم تستجب الحكومة الفرنسية لمطالب الشعب التّونسي المشروعة. وبعد وفاة الناصر باي في 10 جويلية 1922، اعتزل ابنه محمّد المنصف الحياة السياسية وفضّل أن يراقب من بعيد الأحداث التي جدّت بالبلاد التونسية طوال مدّة الأمير الحبيب باي (1922 - 1929) الذي كان أداة طيّعة بين يدي المقيم العام لوسيان سان، والأمير أحمد باي (1929 - 1942) الذي لم يسمح له تكوينه التعليمي المحدود بإدراك أبعاد تلك الأحداث. وكان المنصف باي يقضي أوقات فراغه في المطالعة والاتّصال ببعض رجال الحركة الوطنية الذين كانوا من روّاد مجلس أخيه الأمير حسين باي بقصره في سيدي بوسعيد، أمثال محمد الشاذلي خزنه دار وصالح فرحات وعلي كاهية والصّادق الزّمرلي. وبفضل تلك الاتّصالات تمكّن من الاطّلاع على تطوّر الأوضاع السياسية بتونس منذ وفاة والده إلى تاريخ تعيينه وليّا للعهد، حسب نظام الوراثة على العرش الحسيني، وذلك يوم 26 أفريل 1942. وبعد أقلّ من شهرين توفّي أحمد باي يوم 19 جوان 1942، وخلفه ولي عهده الأمير محمد المنصف.

الفترة الأولى من ولايته (جوان - نوفمبر1942)[عدّل]

حين اعتلى المنصف باي العرش كان الشّعب التّونسي يئنّ تحت وطأة الاجراءات القمعيّة المسلطة عليه منذ حوادث أفريل 1938. وسرعان ما رجع الأمل إلى النّفوس وارتفعت معنويّات الشّعب وتهافتت الوفود الشعبية القادمة من جميع أنحاء المملكة إلى قصر السّعادة بالمرسى لتهنئة العاهل الجديد الذي أظهر من أوّل وهلة من سلوكه المستقيم ومواقفه المشهودة، أنّه لم يخيّب الامال المعلّقة عليه. من ذلك أنّه ألغى بعض العادات البالية مثل عادة تقبيل يد الباي التي عوّضها بالمصافحة. ولم يستنكف عن الاتّصال المباشر بالشّعب واستقبال ممثّليه والاستماع إلى مطالبهم، وقد كان يحثّهم على الكدّ والجدّ ونبذ الخلافات والتمسّك "بالوحدة القوميّة" الكفيلة وحدها بالنّهوض بالشّعب وتحقيق مطامحه.

وقد أشار الدكتور محمود الماطري أحد كبار رجالات الحزب الحر الدستوري الجديد في مذكّراته إلى الانطباع الذي تركه في نفسه استقباله من لدن المنصف باي إثر اعتلائه العرش، فقال: "في اليوم الموالي لتوليته استقبلني في بيته بالمرسى، وبعد أن عاتبني بلطف على عدم زيارته بالأمس مع بعض الشّخصيات التي أتت لتهنئته، خاطبني قائلا: "أتريد أن تقطع صلتك بي لأنّي اعتليت العرش؟ أبدا لن أتركك تبتعد عنّي، فقد قرّرت منذ الان تعيينك كبير أطبائي، لكنّ مهمّتك لن تقتصر على ذلك، فأنت بالخصوص صديق أضع كامل ثقتي في شخصك، بل إنّك أكثر من صديق إنّك أخي في مقام سيدي الهاشمي وسيدي حسين وسيدي محمّد، وسوف ترى أنّي لست مثل سائر البايات. إنّي وطني غيور مثلك". قال ذلك ثم وضع قفا يده على رقبته وأضاف قائلا: "إني مستعدّ للتّضحية بهذه الأصابع الأربعة (أي بحياته) في سبيل سعادة شعبنا". وقد بلغت نبراته من الصّدق ما أثّر في نفسي تأثيرا بالغا حتى إنّي أخذت يده لأقبّلها، فسحبها منّي بسرعة، قائلا بلهجة العتاب: "يا عزيزي سي محمود لقد انتهت عادة تقبيل اليد التي ألغيتها، فأصبحنا كلّنا إخوانا".

ولئن اضطرّ المنصف باي، بإشارة من مستشاريه إلى إبقاء وزراء سلفه في مناصبهم حقبة من الزّمن، فإنّه أبعد من بلاطه بعض الأشخاص المعروفين بولائهم لنظام "الحماية"، وألّف مجلسا خاصّا بإشراف أخيه حسين باي لمساعدته على تدبير شؤون الدولة، يضمّ نخبة من الشّخصيات الوطنية أمثال محمد شنيق رئيس القسم التونسي بالمجلس الكبير، والدكتور الماطري رئيس الحزب الدستوري الجديد سابقا، و محمد العزيز الجلولي الذي عيّنه شيخا لمدينة تونس خلفا للجنرال محمد سعد الله المعروف بعلاقته الوثيقة بالسلطة الاستعمارية، والجنرال الصادق الزمرلي الذي عيّنه مديرا للتشريفات عوضا عن المدير السابق محمد التركي، ومحمد علي العنابي رئيس جمعية قدماء الصادقية. وخلافا للعادة المألوفة في العائلة الحسينيّة، قرّب إليه وليّ عهده الأمير محمد الأمين باي وأشركه في تسيير شؤون البلاد. وبعد الاستماع إلى مطالب ممثلي الأمة وأخذ رأي مستشاريه، استقبل الأميرال إستيفا المقيم العام يوم 8 أوت 1942، وسلّم إليه رسالة لابلاغها إلى رئيس الدولة الفرنسية المارشال بيتان، تتضمّن المطالب المستعجلة التي يرى العاهل التونسي من الضروري تحقيقها فورا في إطار المعاهدا ت المبرمة بين البلدين، من أهمّها تكوين مجلس تشريعي تونسي، وتمكين نوّاب الشعب التونسي من المشاركة في المجالس البلدية، وقبول التونسيين في كل الوظائف والمساواة في المرتبات بينهم وبين الموظفين الفرنسيين، وإقرار إجبارية التعليم ونشر اللغة العربية في جميع معاهد التعليم وإلغاء الأمر المؤرخ في 1898 والمتعلّق بالتفويت في أراضي الأوقاف لفائدة المعمّرين، وتأميم جميع المؤسسات ذات المصلحة العامة، كما طالب بإطلاق سراح كلّ المساجين السياسيين التونسيين، سواء منهم المعتقلين بتونس أو المعتقلين بفرنسا والجزائر.

وفي انتظار الإجابة عن هذه المطالب أدّى الأمير زيارات رسميّة إلى بعض ضواحي العاصمة، وكان في نيّته زيارة بعض المدن التونسية الأخرى وفي مقدّمتها القيروان، ولكن العمليات الحربية للحرب العالميّة الثانية التي امتدّت إلى البلاد التونسية حالت دون إنجاز هذا المشروع. وهكذا قد زار على التوالي أريانة، يوم 22 أوت، ومنّوبة يوم 4 سبتمبر والكرم يوم 9 سبتمبر. وفي منّوبة أهدى إليه الشيخ مصطفى الباهي رئيس الشعبة الدستورية مصحفا، فأخذ المصحف وأقسم عليه بأعلى صوته وسط هتافات الجماهير قائلا: "أقسم بالله العظيم وبالقرآن الكريم أني أخلص لكم وأحبّكم وأعطف عليكم كأبنائي، وأضحّي من أجلكم بكل شيء، حتى بنفسي". ثم خصّص شهر رمضان المعظم (سبتمبر 1942) لزيارة بعض أحياء العاصمة بمناسبة إشرافه على مواكب ختم الحديث الشريف في أهمّ جوامع تونس إثر صلاة العصر. وكان يحظى في كل زيارة باستقبال وحفاوة بالغة من قبل الجماهير الشعبية. وفي شهر أكتوبر تفقّد سير الدروس بجامع الزيتونة ودعا التلامذة إلى بذل مزيد الجهد في طلب العلم. وأشرف على حفل افتتاح السنة الدراسية بالمعهد الصادقي وأذن بالاستغناء عن المستشرقين الفرنسيين المكلّفين بتدريس اللغة العربية، وتعويضهم بمدرّسين تونسيين. وزار المجلس الشرعي وأوصى رجال الشرع بالاسراع بفضّ القضايا المعروضة عليهم قائلا لهم: "إن حقوق الناس بين أيديكم، فاتّقوا الله في الأيامى واليتامى والفقراء والمساكين الذين قد يضيّع عليهم فقرهم حقوقهم بطول المدّة وكثرة التردّد ". وبمناسبة عيد الفطر استقبل المنصف باي يوم 12 أكتوبر 1942 بقصر باردو المقيم العام الذي قدّم إليه وفود المهنّئين من كبار الموظفين، ولما استغرب غياب العنصر التونسي من بعض الوفود الإدارية، أجابه الأميرال إستيفا بلهجة حادّة فوجّه إثر إنتهاء الحفل برقية احتجاج إلى المارشال بيتان طالب فيها بإعفاء المقيم العام من مهامّه وتعويضه بموظف آخر. وهدّد بالتنازل عن العرش إذا لم تستجب الحكومة الفرنسية لطلبه. فأرسل إليه رئيس الدولة الفرنسية برقية عبّر له فيها عمّا يكنّه لشخصه ولبلده من مودّة وتقدير ورجاه أن يواصل سياسة التعاون مع فرنسا "في هذه الظروف التي تمرّ بها".

ونظرا إلى هذا الموقف المعتدل، قرّر المنصف باي عدم التنازل عن العرش، واستقبل يوم 26 أكتوبر 1942 المقيم العام الذي أعرب له عن مشاعر إخلاص كلّ الموظفين لشخصه، وتحادث معه حول الاصلاحات التي يمكن إدخالها على النظام السياسي القائم في البلاد. وبينما كان الطرفان يستعدّان للدخول في مفاوضات رسميّة حول هذه الاصلاحات، إذ جدّ الحادث الذي غيّر معطيات القضية التونسية رأسا على عقب، هو نزول قوّات المحور بتونس يوم 10 نوفمبر 1942.

الفترة الثانية من ولايته (نوفمبر - ديسمبر1942)[عدّل]

وهكذا وجد المنصف باي نفسه مضطرّا إلى اتخاذ موقف رسمي من الدول المتحاربة، لا سيما بعد أن تلقّى رسالة موجّهة إليه من الرئيس الأمريكي روزفلت يلتمس فيها السماح للقوّات الأمريكية بعبور التراب التونسي بحرية للتصدّي لقوات المحور، وبعد درس الوضع مع مستشاريه ومجلسه الخاص استقرّ الرأي على اتخاذ موقف محايد، لم يحد عنه الأمير رغم جميع الضغوط التي سلّطت عليه لحمله على الانضمام إلى صفّ المحور. من ذلك أنه عارض مشروع تعبئة العمال التونسيّين لفائدة القوّات الألمانية والايطالية المرابطة بتونس، ودافع دفاعا مستميتا عن رعاياه اليهود الذين تعرّضوا إلى ألوان شتّى من الاضطهاد والتعسّف، وامتناعه عن استنكار قصف العاصمة وبعض المدن التونسيّة الأخرى الذي أقدمت عليه طائرات الحلفاء. وقد كان شغله الشاغل وقتئذ التخفيف من آثار الحرب التي أصابت جميع فئات الشعب التونسي. ذلك أنه بالاضافة إلى الغارات الجوية التي ذهب ضحيّتها عدد كثير من المدنيين التونسيين، كانت البلاد تشكو فقدان المواد الغذائية الأساسية وانتشار السوق السوداء ومضاربات المحتكرين. فأمر الباي بتأسيس لجان اقتصادية لتنظيم مسالك التوزيع وتشديد الرقابة على المحتكرين، كما شمل برعايته جمعية الهلال الأحمر التونسي التي بعثها جمع من الوطنيين لاسعاف ضحايا الغارات الجوية ومدّ يد المساعدة إلى المنكوبين.

ومن ناحية أخرى بذل المنصف باي قصارى جهده للافراج عن المساجين السياسيين، وانتهز فرصة الحرب لمطالبة السلط الفرنسية بالاسراع باطلاق سراحهم. واضطر المقيم العام في آخر الأمر إلى الاستجابة لرغبة الباي، فأمر يوم أول ديسمبر 1942 بالافراج عن جميع المساجين الدستوريين المعتقلين في السجن المدني بالعاصمة، إثر الانتفاضة التي قاموا بها وأسفرت عن مقتل أربعة منهم. واستقبل المنصف باي في قصره بحمام الأنف وفدا من المناضلين يتركب من الدكتور الحبيب ثامر و الطيب سليم والرشيد إدريس و حسين التركي، وأعرب لهم عن عزمه على "تسخير حياته لخدمة القضية الوطنية وقبول نتائج أعماله ولو أدى به ذلك إلى السجن أو الاستشهاد".

الفترة الثالثة من ولايته (جانفي - ماي 1943)[عدّل]

نظرا إلى الظروف الحرجة التي كانت تجتازها البلاد عهدئذ، قرّر المنصف باي أن يمسك بنفسه بزمام الأمور، فأمر الوزراء المباشرين لمهامهم منذ عهد سلفه (وهم الهادي الأخوة الوزير الأكبر و الحبيب الجلولي وزير القلم وعبد الجليل الزاوش وزير العدلية) بالاستقالة من مناصبهم لفائدة المصلحة العامة. وعوّضهم يوم أول جانفي 1943 بوزراء جدد، دون الحصول على موافقة المقيم العام، وهم محمد شنيق، وزيرا أكبر ومحمود الماطري، وزير داخلية وصالح فرحات، وزير عدل. والتحق بالتشكيلة في شهر مارس الموالي محمد العزيز الجلولي بصفة وزير للأوقاف. ورغم ظروف الحرب، فقد توفّقت الوزارة الجديدة، بهدي من المنصف باي إلى اتّخاذ عدّة تدابير مهمّة هي:

  • تحقيق المساواة بين الموظّفين التّونسيين والفرنسيين في المرتّبات.
  • إلغاء الأمر الصادر في سنة 1898 والقاضي بتمكين المعمّرين الفرنسيين من الاستحواذ على أراضي الأوقاف.
  • إنشاء وزارة للسهر على شؤون الأوقاف.

ومن ناحية أخرى، شهدت الحياة السياسية بالبلاد في تلك الفترة انتعاشة ملحوظة. فاستعاد الحزب الدستوري الجديد نشاطه بقيادة الدكتور الحبيب ثامر، وأصدر جريدة يومية ناطقة باسمه، هي "إفريقيا الفتاة". وتعدّدت مناشط الجمعيّات الوطنيّة مثل الشبيبة الدستورية وجمعيّة الهلال الأحمر، والجمعية الخيريّة وجمعيّات الكشّافة والشّباب والرياضة.

وفي شهر أفريل 1943 تمكّن الزعيم الحبيب بورقيبة ورفقاؤه الذين كانوا مسجونين بفرنسا من العودة إلى أرض الوطن عبر إيطاليا. فأجريت اتّصالات بين الحزب الدستوري الجديد والقصرلتأليف حكومة وطنية جديدة يكون بين أعضائها الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف. إلاّ أن تلك المساعي لم تكلل بالنجاح، بسبب معارضة السلط الفرنسية والألمانية، وتوقّع الوصول الوشيك لقوّات الحلفاء إلى تونس من حين لاخر.

خلع المنصف باي وردود الفعل التونسية[عدّل]

وبالفعل فقد دخلت قوّات الحلفاء المنتصرة إلى العاصمة يوم 7 ماي 1943، وفي اليوم نفسه اقتحم الجنود البريطانيون قصر حمام الأنف وأجبروا المنصف باي على التحوّل إلى تونس، ولم يفلت من قبضتهم إلاّ بفضل تدخّل الكاتب العام للحكومة التونسية بينوش. وفي يوم 13 ماي طلب الجنرال جوان الذي عيّن مقيما عاما بالنيابة من المنصف باي التنازل عن العرش بمحض إرادته، فرفض ذلك الطلب، بعد أخذ رأي وزرائه. ومن الغد خلع عنوة بمقتضى قرار صادر عن الجنرال جيرو القائد الأعلى للجيوش الفرنسية لشمال إفريقيا وعوّض بوليّ عهده محمد الأمين باي. وفي اليوم نفسه نقل على متن طائرة حربية إلى مدينة الأغواط بالجنوب الجزائري حيث فرضت عليه الإقامة الجبريّة. وفي 6 جويلية 1943 أجبر تحت الضغط على إمضاء وثيقة التنازل عن العرش ونقل إلى مدينة تنّس الواقعة على الساحل الجزائري. وإثر تحرير البلاد الفرنسية من القوّات الألمانية في سنة 1945, نقل إلى مدينة "بو" بالجنوب الفرنسي، فبقي هناك في الاقامة الجبرية إلى أن أدركته المنيّة. وقد ظلّ طوال مدّة الابعاد محافظا على العهد، مؤمنا بحق وطنه في الحريّة والاستقلال، مناضلا عنه بلسانه وقلمه إلى آخر رمق في حياته. ففي رسالة موجّهة إلي الأمين العام للجامعة العربية عزّام باشا، قال بالخصوص ما يلي: "نحن نعتقد أن البلاد التونسية المعتزّة بعروبتها سوف تتحرّر من قيود الاستعمارالفرنسي، بفضل جهاد شعبها الكريم وزعمائها الأبرار، وستلتحق بجامعتكم لتساهم في العمل والسير بالأمة العربية نحو الصلاح والقوّة والمجد...". وجاء في الرسالة التي وجّهها في أفريل 1945 إلى محمد الخامس ملك المغرب إثر خطابه الشهير بمدينة طنجة: "لقد أهابت بي لحمة الجنس ووحدة الالام والامال، واتّفاق الأهداف والوسائل، إلى الاعراب عمّا تولاّني من مزيد الغبطة بقيادتكم لحركة شعبكم القومية، حتى يكون الدافع الاستقلالي الذي هان علينا الملك في سبيله، شاملا في المغرب العربي المستقل الموحّد...".

والجدير بالذكر أن السلط الفرنسية علّلت خلع المنصف باي بتهمة التعاون مع المحور، إلاّ أن الحجج الدامغة أثبتت على نحو لا يقبل الدحض بطلان هذه التّهمة. فقد اعترف الجنرال جوان ذاته فيما بعد "بأن حكومة الجزائر المزعومة هي التي تتحمل مسؤولية ذلك الاجراء الأخرق المتّخذ ضدّ ملك مستقيم السلوك دوما وأبدا، لا يمكن مؤاخذته بارتكاب أيّ عمل بالغ الخطورة"، وفي الواقع كان ذنبه الوحيد، في نظر الفرنسيين، هو جرأته على معارضة سلط الحماية والمطالبة بتحقيق رغبة الشعب التونسي المشروعة في الحريّة والاستقلال.

وقد تأثر جميع التونسيين بالغ التأثر بإقدام السلطة العسكرية الفرنسية على خلع الملك الشرعي رمز السيادة التونسية. وأجمعت على المطالبة بإرجاعه إلى عرشه كلّ التيارات السياسية التونسية باستثناء الشيوعيين. وتألفت هيئة وطنية تحمل اسم "لجنة الدفاع عن المنصف باي"، وتضمّ ممثلين عن الحزب الدستوري الجديد والحزب الدستوري القديم والحركة الزيتونية ووزراء المنصف باي وأعضاده، وعددا من أمراء العائلة الحسينية.

وأصبح التعلّق بشخص المنصف باي نزعة تعرف باسم "الحركة المنصفية" وازدادت هذه الحركة إشعاعا بعد نقله إلى مدينة "بو" والسماح له باستقبال أفراد عائلته وأصدقائه ووزرائه السابقين وبعض المناضلين الدستوريين. ولقد أصدر العابد بوحافة سنة 1946 بالاشتراك مع محمد بدرة نشريّة باللغة الفرنسية بعنوان "الكتاب الأبيض" لتسليط الأضواء على الأحداث التي سبقت خلع ملك البلاد الشرعي والمطالبة بإرجاعه إلى عرش آبائه وأجداده. وأصدر محيي الدين القليبي بالقاهرة، قبيل وفاة المنصف باي كتابا باللغة العربية للغرض نفسه يحمل عنوان "مأساة عرش". وقد تواصلت هذه الجهود والمساعي التي كادت أن تكلّل بالنجاح، إلى أن توفّي المنصف باي يوم أول سبتمبر 1948. فنقل جثمانه إلى تونس يوم 5 سبتمبر وأعلن الحداد في كامل البلاد، ونظّمت له جنازة وطنية عظيمة، شاركت فيها جموع غفيرة من التونسيين الذين أبوا إلاّ أن يشيّعوه إلى مثواه الأخير بمقبرة الجلاّز، اعترافا له بالجميل ووفاء لروحه الزكيّة.