«محمد المازري»: الفرق بين المراجعتين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
(أنشأ الصفحة ب' [453 - 535هـ/1061 - 1141م] == النّشأة == هو أبو عبد اللّه محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري نسبة...')
 
سطر 1: سطر 1:
[453 - 535هـ/1061 - 1141م]
+
[453 - 535هـ/1061 - 1141م]
  
 
== النّشأة ==
 
== النّشأة ==

مراجعة 13:48، 13 ديسمبر 2016

[453 - 535هـ/1061 - 1141م]

النّشأة

هو أبو عبد اللّه محمد بن علي بن عمر بن محمد التميمي المازري نسبة إلى مازر وهي مدينة على الساحل الجنوبي من جزيرة صقلية تقابل شمال البلاد التونسية. ومازر بفتح الزاي حسب ياقوت، وقد تكسر كما أثبته الصفدي وتكون بالوجهين، واختلفت المصادر في تحديد المكان الذي ولد فيه المازري لغموض النّشأة الأولى. فالقاضي عياض المعاصر للمازري لم تمكّنه تلمذته بالاجازة من معرفة ميلاده ولا من معرفة مكان هذا الميلاد، لهذا اقتصر على القول: الامام أبو عبد اللّه مستوطن المهدية، وإشارة كهذه لا تساعدنا على الجزم أنّه من مواليد مازر. وابن فرحون الذي صرّح بعبارة:

"نزل المهدية من بلاد إفريقية" لا نشكّ في صحة معلوماته فيما يخصّ المذهب المالكي، لكنّ ما أصدره في شأن أصل المازري لا تدعمه النصوص، فما وصلنا من كتبه، واستطعنا الاطّلاع عليه لا ينصّ على سفر، ولا انتقال ولا ركوب للبحر أو حتّى يوحي به، بل حتى الحجّ عدل عنه لوعورة الطريق. ولعلّ الأقرب إلى التفسير ما رواه حسن حسني عبد الوهاب من أنّه ولد بالجهة الساحلية، ويؤيد هذا مزاولته التعليم بإفريقية وأخذه عن شيوخها، ولو أخذ عن شيوخ بلده، لذكرهم واستشهد بهم وذلك لحرصه على ذكر شيوخه في كثير من المسائل الفقهية.

لقد ظلّ هذا الغموض سائدا حول مكان ولادته ونشأته الأولى، حتى عثرنا على نصّ ذكره المازري عرضا في إحدى فتاويه، يتحدث فيه عن حادثة وقعت له وهو صبي راهق الحلم حسب تعبيره. "ولقد أذكر أنّي كنت صبيا حين راهقت الحلم بين يدي إمّامي في الأصول رحمه اللّه، وكان أوّل يوم من رمضان، وبات الناس بغير عقد نيّة في الصيام فقلت: إنّ هذا اليوم ما نقضيه على مذهب بعض أصحاب مالك في رواية شاذة، فأخذ بأذني أستاذي وقال لي: إذا قرأت العلم على هذا فلا تقرئه، فإنّك إن اتّبعت فيه بنات الطريق جاء منك زنديق". والذي يستخلص من النص أنّ رمضان الذي يتحدّث عنه المازري بهذه الصفة غير موجود في بلاد مازر المدّعى ولادته فيها، وأنّ أستاذه في الأصول الذي عبّر عند بكلمة إمامي، والذي لم يذكر اسمه، كان موجودا حين الحادثة في بلد إسلامي في إفريقية.

وكلمة صبي الّتي استعملها المازري، وأردفها براهقت الحلم، تفيد أن ّ عمره يتراوح بين العاشرة والثانية عشرة، زد على هذا حركة معلّمه الماثلة في إمساكه لأذن المازري توبيخا له عمّا صدر منه من الاعتماد على قولة شاذة في مذهب الامام مالك، تفيد صغر سنّه، وجرأته على المسائل الفقهية.

ولعلّ هذا الجوّ العلمي الذي عاش فيه المازري من صباه، واحتكاكه بأساتذته، ومعرفته لامامهم في الأصول مع صعوبة المادة يبعد عنّا افتراض أن ّ المازري ولد بمازر، وجاء إلى إفريقية صغير السنّ من صقلية أثناء الفتنة التي أدّت إلى سقوطها في يد النّرمان سنة 464هـ/1071م.

ولعلّ والده علي بن عمر هو الذي هاجر من صقلية عند اختلال الأحوال فيها، وقبيل استيلاء النّرمان عليها، ولهذا السّبب نفسه فارق كثير من المسلمين صقلية جزيرتهم، والتجؤوا إلى إفريقية لقربها من موطنهم. ولو ولد المازري بصقلية، أو أخذ عن شيوخها لذكرت المصادر ذلك، كما ذكرت الشيء نفسه في شأن أبي عبد اللّه محمد بن مسلم القرشي المازري، الذي قيل عنه إنّه درس النحو والأدب بصقلية على أبي القاسم ابن القطّاع كما ذكر نزوحه إلى إفريقية.

أمّا ميلاده فما استطعنا استخلاصه إلاّ بطرح سنوات عمره الذي هو ثلاث وثمانون سنة من تاريخ وفاته وهو سنة 536هـ/1141م، فتكون النتيجة أن ّ ميلاده كان سنة 453هـ/1061م تقريبا، كما أنّ سنة الوفاة فيها محلّ اتّفاق بين جلّ المصادر التي ترجمت له.

والمازري لا يتحدّث أبدا عن مراحل حياته، فهو ليس من صنف العلماء الذين يستغلّون المناسبات المختلفة للحديث عن حياتهم الخاصة، وتسليط الأضواء على بعض الأحداث التي منها يستنتج الباحثون كثيرا من المعلومات، التي تعكس مراحل مهمة من حياة الشّخص. إنّه لم يتحدث البتة عن حياته العائلية، وأقصى ما استطعنا معرفته، هو أنّ له حفيدًا وهو "عبد الله بن عبد الحق الأنصاري" من أهل المهدية، ويكنى أبا محمد، أخذ عن مشيخة بلاده، وانتقل إلى المغرب، وولي قضاء الجماعة بإشبيلية، وتوفّي بقصر عبد الكريم وكان منصرفه من حضرة السلطان بمراكش سنة 589هـ/1193م، "حكى لي ذلك ابن سالم، وقال بلغني أن ّ لأبي عبد الله المازري عليه ولادة".

واختلاف الاسم يدل ّ على أن ّ حفيده من جهة البنت، ولو كان من جهة الابن لكان لقبه المازري. وحتى قضية الحفيد هذه لم تأت عن طريقه، وإنّما أفادنا بها ابن الأبّار في التّكملة.

ولكنّ رغم هذا الغموض استطعنا استخلاص بعض الملاحظات تخصّ مراحل حياته، وبالمقارنة بين ميلاده وتاريخ وفاة شيوخه. فهو عندما توفّي اللّخمي سنة 478هـ/1085م، كان له من العمر خمس وعشرون سنة، وحين داهم الرّوم المهدية وزويلة ونهبوا الأموال سنة ثمانين وأربعمائة، كان له سبع وعشرون سنة. وقد كثرت الخصومات في البلد مع المرتهنين والصنّاع، فأفتى أهل العلم بتكليف المرتهن والصنّاع البيّنة، وأفتى المازري بتصديقهم، وكان القاضي يعتمد على فتواه، وتوقّف العلماء حتّى جاء عدلان لدى القاضي وشهدا أنّ شيخ الجماعة أبا القاسم السيوري أفتى بما أفتى به المازري. والحادثة تدلّ على مكانة المازري رغم صغر سنّه، واحترام قضاة وقته لارائه واتّباعهم لفتاويه.

وعندما توفّي ابن الصائغ سنة 486هـ/1093م كان للمازري ثلاث وثلاثون سنة. وشيخه ابن الصائغ هو الّذي كتب إليه، وقد خطرت له فكرة الحجّ عن طريق البحر، بتعذر الطّريق في البرّ، بسبب الاضطرابات والحروب. فنصحه بالصّبر حتّى يظهر الطريق. ورغم أنّ فكرة السفر للمشرق قد راودت المازري منذ شبابه، لكنّه لم يتمكّن من تنفيذها طول عمره، رغم شهرته الواسعة الّتي بلغت الافاق. على أنّ النشاط العلمي الذي كان للمازري، وإشعاعه وعنايته بما يحدث في المشرق، واهتمامه بكتب المشارقة، وإقباله عليها، تدلّ على رغبته في السفر، وحاجته إلى التنقل، حتى يحصل التّلاقح الّذي فقدناه، دائما بين أقطاب العلم بالمشرق، وزملائهم بالمغرب. وحتى المدن التي ذكرها المازري، جاءت عرضا عن طريق أسئلة وجهت إليه، ولم يثبت أنّه زار واحدة منها. فقد ذكرت مدينة قفصة في قضية اليهودي الذي جاء بحرير مخبل واتّهم به وشهد أهل قفصة بثقة اليهودي، وبعده عن مثل هذه المغامرات. ثمّ يذكر المازري قفصة بمناسبة جوابه عمن أعمر زوج ابنته التي في حجره في مالها دوام الزّوجية ثمّ طلّقها، وهي عادة أهل قفصة. أمّا المنستير فقد ذكرت مرّة واحدة، لمّا سئل عن مخازن القصر الكبير، وكيفية التصرّف في محلاّتها. وأكثر الأماكن ذكرا عند المازري جزيرة صقلية، التي كانت بينها وبين إفريقية علائق تجارية مكثّفة، ثمّ العلائق الروحية التي كانت توجد بين سكّانها وهم من بقايا المسلمين فيها، وأهل إفريقية، فقد ذكرت مرّات منها: السؤال عن اكتراء قارب من صقلية واستجلاب الأقوات منها. وعدا هذه الملاحظات، فليس هناك في النّصوص ما يشير إلى شيء ذي أهميّة في حياة المازري سوى بعض تواريخ الفتاوى كسنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، أي عندما كان للمازري من العمر اثنتان وسبعون سنة. وكذلك المهدية التي كانت ضرورة المنبت والأصل، فقد ذكرت مع زويلة لأنّها ضاحية من ضواحيها في الفتوى التي وجهت إلى المازري سنة 480هـ/1087م. وجاء ذكر تونس في فتاوى المازري التي يدعو لها بقوله: حماها اللّه، ولعلّها كانت مهدّدة في عهده بخطر ما، ولعلّها مضايقات الأعراب. والفتوى هي السؤال الذي ورد عليه من تونس: هل يسوغ الأخذ بقول سعيد بن المسيب في المبتوتة. وذكرت كذلك في فتاوى المازري أماكن أخرى عرضا كمدن قابس، وتوزر، وطرابلس، والاسكندرية، وبجاية، وجبل نفوسة، وسوسة التي ذكرت عند الكلام على سوق الغزل، ومراسلاته مع ابن الصائغ، وأخيرا الأندلس. ولعلّ ذكر هذه الأماكن، دون الاشارة إلى ما يفيد المعرفة أو الزيارة يبرز أن ّ المازري لا يتحدثّ عن أسفاره وتنقّلاته بإفريقية.

لهذا لا نجد في النّصوص المختلفة التي ألّفها المازري معلومات جغرافية ولا تاريخية تستعرض بالمناسبة عند الكلام على مكان ما. وهذا الاقلاع عن السفر من المازري، وحتى أساتذته لم يكن نتيجة الخوف فقط، أو انعدام الأمن في الطريق لاختلال الأوضاع نتيجة لهجوم الأعراب، وإنما هو راجع إلى عدم الرغبة في التنقل، وربّما الثقة في النفس والاكتفاء من المعلومات بما هو موجود.

على أن ّ الشهرة التي بلغها المازري في علمه وتقواه قد أحيطت بهالة من التعظيم والتّقدير والتّقديس، تحوّلت إلى حكايات شعبيّة، فيها الكرامات وخوارق العادات، التي انتشرت في كامل السّاحل التونسي، وغنّى المنشدون ألحانا دينيّة فيها إشادة بفضائل المازري وتنويه بمقامه، وسمّى الناس أبناءهم باسمه. وينقل ح. ح. عبد الوهاب أن ّ هناك عائلة بمدينة سوسة تدّعي أنّها تنحدر من المازري.

أمّا وفاته فقد اتّفقت المصادر على السّنة وهي 536هـ/1141م، وكذلك الشّهر وهو ربيع الأوّل، غير أنّ عياضًا يحدد اليوم بيوم السبت الثالث من الشهر نفسه، وابن خلكان يحدده بالثامن عشر منه وينقل عنه ذلك اليافعي والمقري. ويحدد عبد الوهاب الوفاة بيوم السبت الثامن من ربيع الأوّل (12 أكتوبر 1141) في مدة آخر الأمراء الصنهاجيين الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز، ويضيف أنّ جثمانه نقل من الغد في زورق من المهدية إلى المنستير حيث مدفن الصّالحين والعلماء. ولا أعلم ما هي المصادر التي استمدّ منها عبد الوهاب هذه المعلومات ولعلّه استخلصها ممّا كان شائعا في ذلك الوقت من الرغبة في دفن العلماء في رباط المنستير.

وفي القرن الثاني عشر خيف على قبره من البحر فأمر الأمير الحسيني علي باي الثاني بن حسين بن علي بنقل رفاته إلى مقامه المشهور به الان بالمنستير. وكان ذلك ليلة الأحد الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة 1176هـ/1762م.

تلقيه العلم وأخذ الناس عنه

إن ّ قضية شيوخ المازري من القضايا المعقدّ ة التي يندر أنّ تعترضنا عند بحثنا عن مشيخة أيّ عالم من علماء المسلمين، إذ المصادر لا تنسب إليه سوى شيخين هما: أبو الحسن اللّخمي وعبد الحميد بن الصائغ، رغم تكاثر المراكز العلمية في هذا العصر، وخاصة القيروان وسوسة والمهدية وصفاقس. وسكوت المصادر عن غير هذين الشيخين راجع إلى عدم معاصرتها للمازري، إذ المشكلة أنّ الرّجل لم يؤرخ له أحد من تلاميذه المباشرين الذين لازموه، وأخذوا عنه، واستفادوا منه، وحتى القاضي عياض أقدم مترجم للمازري كان من تلاميذه بالاجازة، واقتصر على ذكر شيخيه مضيفا عبارة "وغيرهما" التي لا تضيف معلومات جديدة. ويبدو أن ّ قلةّ شيوخ المازري ترجع إلى سببين:

  • السبب الأوّل، هجمة الأعراب على إفريقية واحتلالهم لمدينة القيروان سنة 449هـ/1057م. فقد تفرّق العلماء واستقرّوا في أمّاكن أخرى بعيدة عن فوضى الأعراب، توفّر لهم الأمن والرّاحة والاستقرار. وحين كانت مدينة القيروان وبلاد إفريقية بوجه عام ترزحان تحت سيطرة الأعراب، ولد المازري سنة 453هـ/1061م تقريبا. وفي السنة التي توفّي فيها الخليفة الصنهاجي المعز بن باديس أي بعد أربع سنوات فقط من بدء اجتياح الأعراب، وهذا طبعا يقلّل من طول ملازمة التلميذ لشيوخه، كما يحدث في فترات الازدهار واستتباب الأمن والاستقرار الحضاري.
  • السبب الثاني: التزام المازري بذكر شيخيه هذين فقط، رغم أنّه أكثر من التصريح بلفظ شيوخنا، وهو ما يفيد أخذه من أكثر من شيخين، فهو في سياق حديثه يردّد كثيرا عبارة "قال بعض أشياخي" أو هو اختيار شيوخنا الحذاق أو هو الذي رأيت أشياخي يفعلونه.

ورغم هذا الالتزام الذي أصرّ عليه المازري، وهو ذكره لشيخين فقط، وسكوته عن مدينة أخذ عن علمائها، فإنّ بعض إشاراته، مضافة لبعض افتراضاتنا، كشفت لنا عن شيوخ آخرين.

وأوّل إشارة يسوقها المازري هي حديثه عن إمامه في الأصول الذي عنفه وأخذ بأذنه لأنه أبدى رأيا فقهيا حسب قول شاذ في مذهب مالك ورغم وصف المازري لأستاذه وشيخه في الأصول لكنّه لم يذكر اسمه.

وفي نطاق محاولة العثور على شيوخ آخرين للمازري يمدّنا حسن حسني عبد الوهاب بشيخ آخر للمازري وهو أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه المالكي، الّذي بقيت مشيخته للمازري غير مسلّمة حتى عثرت على إشارة للمازري تؤكّدها هذه القضية وهي قوله: وعن الشيخ أبي بكر المالكي، وقد شاهدنا من دينه وفضله وجلاله وعلمه بالأخبار ما يقويّ ثقتنا في ما يحكيه "أنّ يحيى بن عمر كان يسمع بزقاق الرّوم وهو في طريقه إلى جامع قوما يكبّرون أيام العشر، ويرفعون أصواتهم بالتكبير فنهاهم عن ذلك وقال: هذه بدعة الخ". والنص واضح من معاينته لفضل أبي بكر المالكي ودينه وجلاله وعلمه، وأخذه عنه في سنّ يدرك فيه المازري قضية الثقة في الأخبار، وعدالة المخبر، وتقواه في النقل واحتمال أنّ يكون حدّثه غيره في فضائل المالكي بعيد لأنّ عبارته تفيد المشاهدة والأخذ والاطمئنان.

وحسب تاريخ وفاة المالكي الذي نقله عبد الوهاب وهو سنة 474هـ/1081م قد أدركه المازري وأخذ عنه وبذلك يفترض أن يكون تاريخ ميلاده سنة 453هـ/1061م قبل سنّ الحادية والعشرين وهو سنّ مناسب للأخذ والافادة، وهذا ما يجعلنا نرجحّ أن ّ المازري انتقل للقيروان، وأخذ عن شيوخها الذين بقوا فيها بعد احتلالها من الأعراب سنة 449هـ/1057م. لكنّه لم يبق كثيرا في القيروان لظروف غامضة، ولعلّها قلّة الأمن والطمأنينة، وهذا ما دفعه إلى الانتقال إلى المهدية وسوسة وصفاقس والأخذ عن شيوخها وعلى رأسهم أبو الحسن اللخمي وعبد الحميد ابن الصائغ.

كذلك نستطيع أنّ نفترض أنّ المازري الذي التقى بالمالكي وهو أحد العلماء الذين بقوا بالقيروان، ربّما أخذ عن علماء آخرين بقوا بالمدينة نفسها كأبي عبد اللهّ محمد بن العباس الخواص وأبي عبد اللّه الحسين ابن عبد اللّه الأجدابي.

أمّا تلاميذه فمن أغرب الأشياء عند المازري أنّه بقدر قلّة شيوخه الذين تلقّى عنهم كانت كثرة تلاميذه الذين أخذوا عنه بالمهدية أو راسلوه طلبا للاجازة والاستفادة، فمنهم الافريقيون أبناء سوسة والقيروان والمهدية، ومنهم المغاربة الذين اجتمعوا به أو راسلوه لنيل إجازته، وأخيرا الأندلسيون وفيهم من حضر المهدية أو اكتفى بالاجازة عن طريق المراسلة. ونظرا إلى ضيق المكان نقتصر على أشهر تلاميذه.

ومن أشهرهم تلميذه بالاجازة القاضي عياض بن موسى ابن عياض بن عمرو بن موسى بن عياض اليحصبي، سبتي الدّار والميلاد، أندلسي الأصل ولد سنة 476هـ/1083م وتوفي سنة 544هـ/1149م.

قال عنه عياض: كتب إليّ من المهدية يجيزني في كتابه المسمّى في شرح مسلم ويضيف ابن فرحون: وغيره من تآليفه. ولعلّ إجابة المازري لطلب عياض كانت نتيجة لرغبة في الحصول على الاجازة وهو ما يدلّ على المكانة الّتي بلغها المازري في عصره، وقد توثّقت هذه التلمذة وتأصّلت فكانت نتيجتها إعجاب عياض بكتاب المعلم، وإقدامه على تكميله في كتابه إكمال المعلم. ويجعل الشّيخ محمد الفاضل ابن عاشور تخرّج عياض على القاضي أبي بكر ابن العربي وأبي بكر بن عطيّة منحه أسلوب الفقه المبني على الكلام والأصول وهي طريقة إمّام الحرمين الّتي وصلها بالفقه المالكي أبو عبد اللّه المازري، ورغم قرب الوفاة بين عياض والمازري، إذ أنّ الأوّل توفّي سنة 544هـ/1149م والاخر سنة 536هـ/1141م إلا أنّ الميلاد يفصل بينهما. فإذا كان المازري ولد تقريبا سنة 453هـ/1061م فعياض كان مولده سنة 476هـ/1083م. فعندما ولد عياض كان للمازري ثلاث وعشرون سنة.

وللمازري تلاميذ أندلسيون أخذوا عنه مباشرة عددهم يفوق طلبته الافريقيين والسّبب معروف هو قلّة الأمن بإفريقية، وازدهار الحياة الثّقافية بالأندلس، ثمّ إنّ الطالب الأندلسي كأّنّه تعوّد أنّ يأخذ عن أقطاب العلماء في المدن الأندلسية المختلفة، ثمّ يرحل إلى الحجّ، وفي طريق أداء المناسك يزور مدنا بإفريقية ومصر والحجاز ويأخذ العلوم المختلفة عن كبار العلماء، ولم تقتصر هذه العادة على الطّلبة الأندلسيين بل مارسها كذلك الطلبة المغاربة، وقليل من التّونسيين. ولقد اشتهرت في هذا العصر مدن حرص الطّلبة على زيارتها في الصّدور والورود كالاسكندرية، لزيارة أبي بكر الطرطوشي، والمهدية للأخذ عن أبي عبد اللّه المازري. ولعلّ إشعاع المازري لعب دورا كبيرا في استجلاب عدّة طلبة أندلسيين. والمقري يتحدث عن بعض طلبة الأندلس وفدوا على المهدية، وحضروا مجلس المازري، فدخل شعاع الشمس من كوّة ووقع على الشيخ المازري فقال: هذا شعاع منعكس فذيّله الطّالب بنظم متزن (مجزوء الرّجز).

هذا شعاع منعكس لعلّة لا تلتبس لما رآك عنصرا من كلّ علم ينبجس أتى يمدّ ساعدا من نور علم يقتبس ولعلّ هذه الحكاية توحي إلينا بمدى العناية التي كان يحيط بها المازري طلبته الأندلسيين، والجوّ النفسي المرح الّذي كان يسود دروس الشّيخ.

اجتهاده

لقد أكّد عياض اجتهاد المازري قائلا : "إمام بلاد إفريقية وما وراءها في المغرب وآخر المشتغلين من شيوخ إفريقية بتحقيق الفقه ورتبة الاجتهاد ودقّة النّظر. ونفس العبارة الدّالة على بلوغه رتبة الاجتهاد نقلها بنصّها عن عياض ابن فرحون والحطاب وجمع من المحدّثين.على الرغم شبه الاجماع على بلوغ المازري درجة الاجتهاد، فإنّه ما ادّعاه، ولا صرّح به ممّا حمل الشّيخ تقي الدين ابن دقيق العيد على الاستغراب في قوله : ما رأيت أعجب من هذا يعني المازري لأيّ شيء ما ادّعى الاجتهاد.

يظهر أن ّ المازري كان ينتمي إلى صنف أولئك العلماء الّذين ساروا في طريق العلم، وركّزوا قواعده، وتعمّقوا في دراسته، ولا غاية لهم سوى مرضاة اللّه، وحلّ إشكالات العلم، وفتح مجالات الفقه أمام الحائرين الباحثين عن الحلول الّتي تساير الحياة، وتسهّل لهم سبل العيش في نطاق الشريعة السّمحة، همّهم الوحيد الارتقاء بالفقه، وبذل الجهد لتحقيق تفتّحه على الحياة، وملاءمته لمقتضيات العصر. والمتأمل في فقه المازري يلاحظ أنّه كان يسير بسرعة فائقة، مغطّيا طلبات النّاس، متشابكا مع مستلزماتهم، وليس له المجال ولا الوقت ولا التّفكير في علمه وفقهه هل بلغ بهما درجة الاجتهاد أو هل هو دون هذه الدرجة، أو هل تفوّقه فات به علماء عصره أو هو مازال دون مستواهم؟ لهذا ترك المازري تقويم اجتهاده للاخرين، كما فعل كبار الأيمّة الذين سطّروا المناهج، وقعّدوا الأصول، وتركوا للزّمن الحكم لهم أو عليهم.

كتبه

لم يكن وضع الكتب من مقاصد المازري في حياته العلمية وإنّما حرص طلبته على حفظ وتسجيل ما تلقّوه منه جعل هذه الاملاءات كتبا.

ورغم اختلاف القصد بين التأليف والتّدريس، فقد اشتهرت هذه الاملاءات، وأشاد بها العلماء ونهجوا على منوالها. وإذا ما أردنا تنظيم كتب المازري، وترتيب تسلسلها، لاحظنا أنّ كتابه "المعلم" هو أولّ تآليفه تقريبا، ضرورة أن ّ كلّ المصادر المشرقية تقريبا صدّرَت به قائمة تآليفه. ثمّ هو يشير إليه في شرح التّلقين، ويذكره بالمعلم عند الكلام عن مسائل سبق أنّ تناولها في المعلم، فاستعاض عن ذكرها في شرح التّلقين.

وثاني تآليف المازري حسب افتراضنا هو "إيضاح المحصول من برهان الأصول"، لكنّه أقلّ ذكرا في المصادر من "المعلم"، وقد ذكر كذلك في شرح التّلقين عند حديث المازري عن مسألة فقال: ذكرنا حكمها في كتابنا المترجم بكشف المحصول من برهان الأصول وهي تسمية تبدل كلمة إيضاح بكشف، ولعلّ التسمية الثانية أصحّ لذكرها من طرف الشارح.

وثالث تآليف المازري: هو "شرح التّلقين" ثمّ كتب رسائل عدّة، كلّما حدثت مشكلة حرّر رسالة أو فتوى.

وصف القاضي عياض شرح التّلقين بقوله:

ليس للمالكية كتاب مثله وذكره ابن خير في تعداد الكتب التي أجازه بها المازري ولعلّه لم يطّلع عليه. وورد ذكره عند الصفدي الّذي أشار إلى أجزائه العشرة، وهو الوحيد من المصادر المشرقية القديمة التي ذكرت الكتاب، وعدد أجزائه. ويقول ابن فرحون: "ولم يبلغنا أنّه أكمله". وإشارته صحيحة يؤيدها ما أثبته الشّيخ الشّاذلي النّيفر عند مقارنته بين نسخة التّلقين المخطوطة التي يمتلكها، ونسخ شرح التّلقين من أنّ ثلث الكتاب لم يشرح. أمّا بقية المصادر والمراجع وهي مغربية فهي تشير إلى الكتاب فقط دون أن تضيف إليه شيئا من مميزاته الفقهية بالنّسبة إلى المذهب المالكي.

وممّا يلاحظ في هذا المجال أن ّ المازري له تحرير فقهي صيغته إنشائية محبّبة للنفس غير مملّة لم يشاركه فيها أحد، والتزمها فحول الفقهاء من بعده كمحمد بن عبد السلام الهواري، ومحمد بن محمد بن عرفة الورغمّي، وخليل بن إسحاق، الّذي استفاد من معلومات المازري، لكنّه لم يستفد من طريقته في عرض المسائل الفقهية، بل ضيّقها واختصرها في عبارات قليلة الكلام، كثيرة المعاني في الفقه ومسائله. ولو استمرّت طريقة المازري لكان إقبال الشّباب على الفقه أعظم، واستفادتهم أضمن. والمازري استطاع أن يحافظ على التّراث الفقهي، وأن يكون وسيلة نقل أمينة من القيروان إلى المهدية دون ضياع أو إتلاف، رغم التّخريب الّذي أصيبت به إفريقية، وضياع الكتب والمجلدات، وتفرّق العلماء، وهو كذلك رغم التزامه لمذهب مالك، واستمداده فتاويه منه، لكنّ هذا لم يمنعه من الرّجوع إلى الأصول، واستلهامها وبناء نظرياته الفقهية على نصوصها وما تقتضيه من تأويل. وهو لا يقدّس الأقوال، ولا يمنحها تلك المبالغة التي اشتهرت عند بعض الفقهاء. فقيمة النّص الفقهي عند المازري لا علاقة لها بمن قاله من الأئمّة، فهي تناقش وتقوم بهدوء ولين وعمق وموضوعية، ولم يكن المازري يقصد الشرح كما هو معروف عند متأخري الفقهاء، أي شرح المتن والتزام كلماته، بل قصد إيجاد طريقة مبتكرة منطلقها كلام القاضي عبد الوهاب مع التّوسع والتحليل، وعرض ثقافته الفقهية الموسوعية.

على أنّ هناك سؤالا يطرح نفسه، وهو لماذا لم يقبل المغاربة على شرح التّلقين إقبالهم على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، أو تهذيب البرادعي؟ لقد انصبّ اهتمام الفقهاء بإفريقية والمغرب بوجه عام منذ القديم على مدوّنة سحنون، يشرحون ألفاظها، ويحققونها، ويصححون الرّوايات، ووجوه الاحتمالات. لهذا لا نعجب إذا وجدنا الدراسات الفقهية بعد ذلك لا تخرج عن إطار المدونة، وما أصّله فيها سحنون من المذهب المالكي، فاختصرها عبد اللّه بن أبي زيد القيرواني في كتاب سمّاه المختصر، وهذّبها البرادعي في كتاب التهذيب الذي اعتمده فقهاء إفريقية، وأخذوا به، وتركوا ما سواه. وجمع كذلك ابن أبي زيد ما في الأمهات من المسائل والأقوال في كتاب النوادر والزيادات على المدونة. وتقاصر الناس عن الرحلة للمشرق، واستغنوا بما هو موجود بإفريقية. وفي القرن السابع وصل إفريقية مختصر ابن الحاجب الفقهي، جلبه أبو علي ناصر الدين الزواوي المشذالي. وامتاز هذا المختصر بحصر أقوال العلماء في كلّ مسألة، وتلخيص طرقهم في كلّ باب من أبواب الفقه، فتداوله الفقهاء، وحرصوا على دراسته، واعتنوا بشرحه. لهذه الأسباب لم يأخذ شرح التلقين للمازري مكانته بين كتب الفقه المدونة بإفريقية. ثمّ إنّ التلقين جاء مخالفا للطريقة القيروانية التي تعتمد الألفاظ، والروايات، وبيان وجوه الاحتمالات، موافقا للطريقة البغدادية، المشرقية، التي لا تعتمد الكتاب في حدّ ذاته، وإنّما تعتني بمسائل المذهب وتفريعاتها، واستعراض الأدلّة.

والمازري أطنب كثيرا وأطال مباحث شرحه على التّلقين، وفرّع كثيرا وأصّل المذهب إلى حدّ أن جعل الهمم تتقاصر عنه.

والطلبة في العصور المتتالية أعرضوا عن الأدلّة، اكتفاء بنصوص المذهب، وانغلق الفقه بالاقبال على المتون، والمختصرات، وخاصة المختصر الخليلي، فهم لا يرغبون في معرفة الخلاف داخل المذهب فضلا عن الخلاف خارج المذهب. كلّ هذه العوامل أبعدت الناس عن تآليف المازري الفقهية فلم تشتهر ولم يتبع طريقتها الفقهاء.

هذه قائمة كتب المازري الموجودة سواء المطبوع منها كالمعلم أو المخطوط كشرح التّلقين وإيضاح المحصول من برهان الأصول.

وللمازري رسائل عدّة ككشف الغطاء عن لمس الخطإ وتعليقه على المدونة وتثقيف مقالة أولى الفتوى وتعنيف أهل الجهالة والدّعوى والرسالة الحاكمة في الايمان اللازمة وهي رسائل فقهية.

وللمازري مؤلفات أخرى تغلب عليها النزعة الكلامية كالكشف والانباء على المترجم بالاحياء وهو رد على إحياء علوم الدين للغزالي وإملاءات على رسائل إخوان الصّفا، انفرد بذكرها المقري وهي إملاءات سأله عنها السلطان الزيري تميم بن المعز (454 - 501هـ/1062 - 1108م).

وعدم ذكرها إلاّ من المقري، ومن أخذ عنه، دليل على أنّها لم تعرف. وأقصى ما استطعنا تحصيله من معلومات حول معرفة المازري برسائل إخوان الصّفا، هو إشارته إلى الغزالي عندما قال فيه:

وعرّفني بعض أصحابه أنّه كان له عكوف على رسائل إخوان الصّفا وهي إحدى وخمسون رسالة، ومصنفها فيلسوف قد خاض في علم الشرع والعقل، فمزج ما بين العلمين، وذكر الفلسفة وحسنها في قلوب أهل الشرع بأبيات يتلوها عندها، وأحاديث يذكرها.

كذلك للمازري رسالة سمّاها النقط القطعية في الرّد على الحشوية ذكرها المقري وتابعته المراجع الحديثة. وله كذلك الواضح في قطع اللّسان النّابح: وهو من الكتب الّتي لم تشتهر، ولهذا لم تذكر إلا في مصادر قليلة. ذكره ابن عرفة في تفسيره رواية البسيلي والبرزلي في فتاويه والأبيّ في إكمال الاكمال، وبعض المراجع الحديثة التي نقلت عمّا ذكر.

والمازري يسمّيه في شرحه على التّلقين قطع لسان النابح في المترجم بالواضح. وفي النص المنقول عن الأبيّ عن المازري يسمّى الكتاب:

الواضح في قطع لسان النابح. ومصادر العهد الحفصي المتقدّمة الذكر تسمّيه بزجر النائح في الردّ على الكتاب المترجم بالواضح ويسميه البرزلي قطع لسان النابح في الرّد على الكتاب المترجم بالواضح.

ومناسبة تأليف الكتاب أنّ المازري سمع برجل وصف نفسه بأنّه كان من علماء المسلمين ثمّ ارتدّ وأخذ يؤلف القوادح في الاسلام، ويطعن في القرآن، وطرق جمعه. فردّ عليه المازري وتقصّى الموضوع، وأشبع القول في كلّ مسألة.

وإذا كنّا لا نعرف شيئا عن الكتاب الان فانّ اسمه كان مشهورا في العهد الحفصي، وأبو اسحاق بن عبد الرفيع قاضي الجماعة بتونس، والامام الخطيب بجامع الزيتونة، عرفه من إحالات المازري في شرح التلقين، وفي المعلم فتشوّقت نفسه إلى الوقوف عليه، فما وجده بإفريقية، فأرسل إلى المشرق، فبعث له بكتاب النصراني، دون ردّ المازري فعزم على الردّ، وسلك خطّة ذكر الايات المشكلة في الظاهر وتفسيرها تفسيرا يدفع الاعتراض، ولا يذكر لفظ المعترض تنزّها عنه ثمّ يذكره بعد ذلك بجملته. ويذكر البرزلي أنّه يملك ردّ ابن عبد الرفيع.

وللمازري كذلك نظم الفرائد في علم العقائد، وهو من كتبه التي لم تشتهر، ولهذا لم يذكر في المصادر المشرقية القديمة. وابن فرحون يضيف هذا الكتاب إلى قائمة كتب المازري ويقول: وذكر الحافظ النحوي أبو العباس أحمد بن يوسف الفهري النّبلي في مشيخة التجيبي أنّ من شيوخه أبا عبد اللّه المازري، وأنّ من تآليفه عقيدته التي سماّ ها نظم الفرائد في علم العقائد. وتنقل عنه المراجع الحديثة نفس المعلومات.

ولعلّ المازري يقصدها عندما يقول: لأنّا بينّا في كتاب علم الكلام. وأمام فقدانها نفترض أنّ اتجاهها أشعري كما عودّنا بذلك المازري.