محمد الدغباجي

من الموسوعة التونسية
نسخة 12:29، 21 نوفمبر 2016 للمستخدم Admin (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب' [1885 1924م] محمد بن صالح بن زمزم الدغباجي أصيل بلدة الحامة بالجنوب الشرقي (ولاية قابس حاليا) ينح...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1885 1924م]

محمد بن صالح بن زمزم الدغباجي أصيل بلدة الحامة بالجنوب الشرقي (ولاية قابس حاليا) ينحدر من قبيلة الخرجة وهي فخذ من الأفخاذ الأربعة التي تكوّن قبيلة بني زيد السليميّة، ولد بوادي الزيتون سنة 1885 ولم تتعدّ دراسته حفظ بعض السّور من القرآن. لكن كيف أوتي لهذا القبلي أن يصبح قائدا عسكريا مهيب الجانب؟ لا شك في أنّ هناك أحداثا مفصليّة في حياة الرجل أبرزت الوجه الاخر من شخصيته وفجّرت جوانب من قدراته. ولئن ركّزت جلّ الكتابات الاهتمام على العوامل الاقتصاديّة والسياسيّة في فهم طبيعة هذا المقاوم وهذا منطقي، فإنّ ذلك لا ينفي وجود نواحٍ أخرى أساسيّة تمكّننا من استيعاب خصائص هذا القائد العسكري ضمن المشهد العسكري لعصره (1915 1924م).

لئن كان التجنيد إجباريا، إذ وضعت المؤسسة العسكريّة الفرنسيّة عدّة قوانين يُنتقى بمقتضاها، في كلّ جهة، الأبناء من ذوي القدرات البدنية مع إعفاء أبناء الميسورين مقابل دفع تعويضات مالية، فإنّ المؤهلات البدنية الجيّدة للدغباجي ودخل عائلته المحدود إذ كانت أسرة فلاحية تعتمد على تربية الماشية أساسا يجعل تجنيده أمرا حتميا، هذا بالاضافة إلى أنّ التحاقه بالجنديّة لم يكن بمعزل عن الحالة الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصّعبة السائدة في بلدة الحامة التي انتمى إليها. فقد عاشت هذه القرية منذ مولد الدغباجي على وقع التحولات العميقة التي حدثت بالجنوب التونسي بفعل التدخّل الاستعماريّ وما انجرّ عنه من أزمة بنيويّة ألمّت بالمجتمع القبلي وهياكله القديمة.

وفي الوقت نفسه استفحلت أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة بالجهة قبيل اندلاع الحرب العالميّة الأولى، كان من مظاهرها انتشار الأوبئة والجوائح الطبيعيّة، كلّ ذلك خلق لحظات انعطافيّة مهمّة في تاريخ قبيلة بني زيد التي لم يجد أبناؤها أمثال الدغباجي من حلّ سوى الانخراط في صفوف الجيش الفرنسي. التحق الدغباجي بالجنديّة سنة 1907 وعمره 22 سنة ولمّا أتمّ السّنوات الثلاث المطلوبة سنة 1910، رجع إلى العمل بالجيش متطوّعا بدافع من الحاجة سنة 1913 وكان الظرف ينذر بنشوب الحرب العالميّة الأولى.

وفي أثناء عودته كان الدغباجي من عناصر النجدة التي عيّنتها السلط الفرنسيّة على الحدود التونسيّة الليبيّة لمنع تسرّب الأهالي والانضمام إلى معسكر خليفة بن عسكر النالوتي الذي كان يقاوم الطليان في ليبيا: فقد قدم الدغباجي في صائفة 1915 رفقة فرقة عسكريّة إلى حصن ذهيبة بهدف حمايته من هجمات الثّوار و"المنشقّين".

وقد مكّنته هذه المهمّة من مواكبة مجمل الأحداث الحاصلة بالمنطقة الحدوديّة مباشرة.

ولعلّنا لا نجازف إذا قلنا أنّ الدغباجي كان على اتصال بالسكان إذ كان يسمع أنباء المقاومة خاصة بعد أن تعددت اجتماعات أهالي الحامة ومشائخها الذين قرّروا إعلان الثورة ضدّ السلطة الاستعماريّة متأثّرين بالانتصارات التي حققها كلّ من خليفة بن عسكر وبعض زعماء الحركة السنوسيّة شرقيّ طرابلس وجنوبها ضدّ الحضور الايطالي. ورغم فشل انتفاضتهم سنة 1915 لتواطؤ خليفة الحامة محمد الزواري (بو دبّوس) مع السلط الاستعماريّة إذ أعلم المراقب المدني بقابس بأطوار الاعداد لتلك الانتفاضة وهو ما عرّضهم إلى حملة اعتقال واسعة النطاق، فإنّ ذلك لم يثن أهالي بني زيد عن الالتحاق بالجبال والاصرار على مقاومة الفرنسيين، وكلّ ذلك سيؤسّس مرحلة جديدة في حياة الدغباجي.

لمّا هاجم خليفة بن عسكر القوات الفرنسيّة في حصن ذهيبة في 17 سبتمبر 1915 حاول القائد الفرنسي لهذا الحصن أن ينتقم من سكان وازن بالتراب الليبي حيث يقيم المقاومون التونسيون. وقد وجد الدغباجي نفسه في أثناء هذه الواقعة يقاوم إخوته في الدين و"الوطن"، فقرر الفرار من الجيش الفرنسي صحبة خمسة من رفاقه والالتحاق بصفوف المجاهدين جنديّا بسيطا يهاجم معهم الحصون الفرنسيّة بالحدود ويرجع إلى مركز قيادة خليفة بن عسكر بنالوت.

وقد أظهر الدغباجي منذ انضمامه إلى مجموعات "سيّد نالوت" كفاية حربيّة عالية، إذ كان يجتاز الحدود مع عصابات صغيرة إلى داخل البلاد التونسيّة، فيتصل بالسكّان في جبال تطاوين وغمراسن ومطماطة. وفي أثناء مشاركته في عدّة وقائع حدوديّة، اشتهر بحسن رمايته وهو ما جعله ينال حظوة خاصة لدى القائد خليفة بن عسكر.

وقبل التطرّق إلى مظاهر المقاومة وأهمّ المعارك التي شارك فيها الدغباجي لا بدّ من البحث في الأسباب الحقيقيّة التي دفعت بهذا القائد إلى الفرار من الجنديّة والانضمام إلى حركة المقاومة اللّيبيّة. فما هي خلفياته؟ لماذا قرّر التمرّد وإعلان العصيان على الفرنسيين؟ ما هي أبعاد الانضمام إلى مجموعة خليفة بن عسكر؟ يجدر التذكير بأنّ فشل انتفاضة بني زيد (1915) وإصرارهم رغم ذلك على المقاومة قد تزامن مع فرار ابنهم الدغباجي من الجنديّة (سبتمبر 1915) وهو ما يجعلنا نستنتج دون مبالغة أنّ قرار الدغباجي لم يكن له سمات العمل الفردي المعزول عن واقعه. فانقلاب الدّغباجي على الجيش الفرنسي هو تأييد ضمني لما قرّرته عشيرته من مواصلة الكفاح ضدّ المستعمر.

كذلك شأن انظمام الدغباجي إلى صفوف القائد الليبي خليفة بن عسكر النالوتي لا يمكن فهمه إلاّ في إطار خيار رسمته قبيلته يقضي بالانضواء تحت لواء هذا القائد. لكن هل يكفي هذا العامل لتفسير هذه النقلات النوعية في

شخص الدغباجي؟

تبدو المسألة على غاية من التعقيد دون التذكير ببعض المعطيات التاريخيّة والأحداث التي كان لها تأثير بالغ في منطقة مثلت مسرحا لتحرّكات القبائل الثائرة وموطنا لبروز زعامات عملت على تأطير هذه الأشكال من ردود الفعل المحليّة ضدّ الحضور الاستعماري، كما أنه ليس من اليسير فهم انخراط الدغباجي وتزعّمه حركة المقاومة دون استيعاب التحوّلات التي طرأت داخل محيطه، حول انضمام بعض قبائل الجنوب إلى مجموعة القائد خليفة بن عسكر.

لمّا اندلعت الحرب العالميّة الأولى وانضمّت الامبراطوريّة العثمانيّة إلى ألمانيا اعتمد الأتراك الدعاية كآلية لاضعاف عدوّهم (فرنسا وبريطانيا) في مجالات نفوذه بشمال إفريقيا، فقد كانت ترسل البرقيات من إستانبول إلى شمس الدين باشا نائب السلطان العثماني بطرابلس تحثّه على مقاومة كلّ من بريطانيا وفرنسا وروسيا. وقد تميّزت هذه الفترة بإصدار الفتاوى المحفّزة على الجهاد كما أرسل السلطان محمد رشاد خان إلى زعماء طرابلس الغرب منشورا يهمّ مسلمي تونس والجزائر والمغرب يحثّهم فيه على الثورة على فرنسا وعدم القتال في جيوشها.

وأمام تحكّم الاستعمار الفرنسي وسيطرته على أغلب المجال الجغرافي بالجنوب التونسي بمدّ شبكة مواصلات واتصالات جعلت قيام أيّ تمرد مهما كانت طبيعته أمرا عسيرا، فقد كانت حركة المقاومة اللّيبيّة متنفسا لكثير من القبائل (الودارنة، بني زيد...) التي رأت في الأراضي الليبيّة المجاورة جسر امتداد يسهّل عمليات الهجوم على الحاميات الفرنسيّة الحدوديّة ثم العودة بأمان إلى قواعدها.

ومن ناحية أخرى كان زعماء حركة المقاومة اللّيبيّة همزة الوصل بين الامبراطوريّة العثمانيّة الواعدة بتقديم الدعم العسكري وبقيّة حركات المقاومة بشمال إفريقيا. ولم تكن قبائل الجنوب التونسي بمعزل عن الوعود التركية التي علقت عليها آمالا كبيرة وأصبحت شرطا من شروط استمراريّة المقاومة. ولمّا كان المناخ العام بطرابلس مشجّعا إذ تكثفت الاتصالات منذ سنة 1915 بين القادة الأتراك المقيمين بطرابلس وبعض الزعامات القبلية بجهة الجبل الغربي من ناحية، وسكان الجنوب التونسي من ناحية أخرى، "عبّر هؤلاء عن تحرّقهم للتحرّك المسلح ضدّ فرنسا شرط حصولهم على السلاح والذخيرة الحربيّة التي طلبوها من الأتراك". ومن ثمّة فإنّ الهجرة إلى التراب الليبي والاقتراب من حركة الجهاد باتا حتميين لانتظار الدعم العثماني وقد أرّخوا لذلك بعام الهجرة نحو القبلة أو الجنوب.

تضافر إذن عاملان أساسيّان لانضواء بعض قبائل الجنوب التونسي تحت لواء خليفة بن عسكر النالوتي، أوّلهما تشدد المراقبة الاستعماريّة وسيطرتها على مجال النفوذ لتحرّكات القبائل وهو ما عرقل ردود أفعالها.

والاخر هي الدعاية والوعود التركية والوساطة الليبيّة في ذلك. فكان الانضمام، بعد الهجرة، إلى مجموعات خليفة بن عسكر من قبيل التحالف الاستراتيجي لمواجهة عدو مشترك ما فتئ الأتراك يحرّضون حركة الجهاد اللّيبيّ وزعماءها على مقاومته. ولم يكن البعد الجهادي سوى غطاء وحّد بين الطرفين في إطار قاعدة مشتركة. وقد توطّد هذا الحلف خاصة بعد انضمام إيطاليا رسميّا إلى المعسكر الفرنسي البريطاني الروسي (أفريل 1915) ورغبتها في بسط نفوذها على منطقة فزان التي لا تزال خارجة عن سيطرتها.

ومثلما أشرنا سابقا، لم يكن الدغباجي رغم عمله بالجنديّة، غائبا عن مسرح الأحداث بحكم اتصالاته بأهله من سكان الحامة، ومن ثمّة فإنّ هروبه من الجيش الفرنسي يبدو مجّرد مساندة لما قررته قبيلته (بني زيد) بعد فشل انتفاضتها (1915)، إلاّ أنّ ذلك لا يجعلنا نهمل عوامل ذاتيّة تزامنت مع التحوّلات التي طرأت على المشهد القبلي وكان لها تأثير في نفسيّة الدغباجي باعتباره أحد المجنّدين.

ولئن أفادت التقارير الفرنسيّة أنّ مشاعر سكّان الجنوب التونسي كانت متجاوبة مع ما يجري في العالم الاسلامي، فإنّ الملازم بار (مخص) المسؤول الفرنسي عن حصن ذهيبة يشير إلى أنّ المجنّدين التونسيين في الجيش الفرنسي كانوا متأثرين بتطور الحرب العالمية الأولى وكلّ ما له علاقة بالأتراك. وتبدو مشاعرهم منحازة للخليفة العثماني، إذ ظهرت عليهم أمارات الحزن والأسى لأخبار الهزائم التي لحقت الجيوش العثمانيّة...

ولا نستبعد أن يكون الدغباجي من الجنود الذين تأثروا بالدعاية التركية الألمانية مثلما حصل لبني عشيرته الذين وصل بهم الأمر إلى الهجرة نحو طرابلس لتلقّي الدعم العثماني، كما لا ننفي تأثير التكوين العسكري في شخصيّة الدغباجي الذي أصبح يتطلّع إلى أن يصبح زعيما وقائدا منظما "للمجاهدين" التونسيين المقيمين بنالوت، فكان لا بدّ أن يلتحق هو ذاته بمجموعات خليفة بن عسكر.

وإذ نقرّ أنّ التحاق الدغباجي بقبائل الجنوب المهاجرة كان نتيجة رغبة تضامنية ذات أبعاد "وطنية" فإنّ طبيعة العلاقة بين الدغباجي الذي أصبح أحد المقاومين البارزين وخليفة بن عسكر النالوتي ستكشفها لنا المرحلة التي قضاها الدغباجي إلى جانب "سيد نالوت" خاصة بعد قراره الاستقرار نهائيّا بطرابلس منذ سنة 1920.

أهمّ الوقائع الحربيّة التي شارك فيها الدغباجي

لئن لم يكن لمحمد الدغباجي وقائع مشهورة منذ التحاقه بطرابلس (1915) إلى حدّ دخوله التراب التونسي خفية (صائفة 1918)، إذ غاب ذكر اسمه وطمس الرواة مشاركته وسط مقاومين أكبر منه وأشدّ تمرّسا بالحرب، فإنّ ذلك لا يعني غياب محمد الدغباجي عن أهمّ المعارك التي خاضها ابن عسكر ضدّ الايطاليين مثل معركة ذهيبة (18 23 سبتمبر 1915) وحصار مركز أم صويغ (2 9 أكتوبر 1915) وحصار ذهيبة للمرّة الثانية (20 25 جوان 1916) ثم حصار رمادة (26 27 جوان 1916)، إلاّ أنّ عدّة عوامل خارجيّة وأخرى داخليّة كانت وراء عودة الدغباجي إلى الجنوب التونسي. لكن هل تكشف عودة الدغباجي عن طبيعة علاقته بخليفة بن عسكر؟ هل يمكن القول إنّ التحالف كان ظرفيا وإستراتيجيا إذ كان رهين الدعم العثماني؟ فبمجرّد انهزام تركيا تراجعت إيديولوجيا "الجهاد" والجامعة الاسلامية. كذلك هل تعكس عودة الدغباجي بداية تحسّسه لخلفيات خليفة بن عسكر الذي خذل قبيلة الودارنة سنة 1916 بعد أن حرّضهم على المقاومة ثم بدأ يتقرّب منذ أواخر 1918 إلى السّلطات الايطاليّة وهو ما حصل في بداية 1919 مع إبرام صلح؟ هل يعني رجوعه رغبة منه في تزعّم المقاومة بالجنوب بمعزل عن حركة المقاومة اللّيبيّة؟ هل يعكس ذلك فشل هذه الحركة خاصّة بعد تكوّن الجمهوريّة الطرابلسيّة في 16 نوفمبر 1918؟

تتحدّد العوامل الخارجية التي أشرنا إليها في استسلام الامبراطوريّة العثمانيّة في الحرب العالمية الأولى (هدنة مودروس، 30 أكتوبر 1918) وهو ما يعني للزعامات الطرابلسيّة وحلفائها قطع المدد، وبذلك انحسرت المقاومة بطرابلس وبدأ "المجاهدون" في التفرّق. كما لا يفوتنا أنّ نهاية الحرب العالمية الأولى شكّلت منعرجا في حركة المقاومة، ومنذ تكوّن الجمهوريّة الطرابلسيّة غدت الأسبقية للمبادرات السياسيّة. أمّا العوامل الداخليّة فقد تجسّدت في إصدار السّلطات الفرنسيّة قانونا (أواخر 1918) تعلن فيه العفو العام عن كلّ المشاركين في حركات التمرّد والعصيان، في أثناء الحرب.

وبالرّغم من استثناء هذا القانون الفارين من الجنديّة فإنّ ذلك لم يمنع الدغباجي من الاصرار على اجتياز الحدود والاتصال بأهله مكوّنا بذلك مجموعات من المحاربين بعد أن انضمّ إليه إخوته عبد الله وخليفة إلى جانب رفيقه عمر كريد الحامدي من حوامد طرابلس.

الدغباجي يستمرّ في المقاومة

ما إن تفطّنت السلطة الاستعماريّة إلى تحرّكات الدغباجي حتى أصبحت تطارده من الحدود إلى جبال قفصة إلاّ أنّ الدغباجي اتّصل بالثائر البشير بن سديرة الهمّامي وهو أيضا من الفارّين من الجنديّة وانتقلا معًا منذ بداية 1919 إلى قابس، وحوصرا بخنقة عيشة وحدثت معركة بين عصابة الدغباجي والفرقة الفرنسيّة من فرسان الصبايحيّة انتصر فيها الدغباجي ورفاقه وغنموا كميات كبيرة من الأسلحة وأربعة من الخيل.

وقد كان هذا الانتصار مؤشرا لسلسلة من المعارك الأخرى. لكن قبل التطرق إلى أهمّ هذه الوقائع والأشعار التي خلدتها، يجدر بنا الاجابة عن سؤال يطرح نفسه وهو: بماذا نفسّر تحالف الدغباجي من بني زيد المنتمية إلى صفّ شداد مع البشير بن سديرة من قبيلة الهمامة المنتمية إلى صفّ يوسف رغم ما عرفت به هاتان القبيلتان من عداء متبادل تاريخيا؟ هل يعني ذلك تجاوز عقلية الصف الموروثة عن الفترة السابقة للاحتلال وما حتمته من تضامن بين القبائل؟ أم هل هناك عوامل أخرى؟

لئن أجمعت أغلب الدراسات على تجاوز القبائل التونسيّة لخلافاتها منذ دخول الاستعمار الفرنسي (1881) فإنّ ما شجّع محمّد الدغباجي على الاتصال بالمقاوم البشير بن سديرة الهمامي هو تشابه أوضاعهما، إذ ألحق بن سديرة سنة 1914 بالجنديّة غصبا ونُقل إلى حامية القيروان لكنّه بعد مرور شهرين فرّ بسلاحه إلى جبال جلاص ثم استقرّ بجبال قفصة، حيث التحق به الدغباجي ومن ثمّة فإنّ القانون الصادر في صائفة 1918 والقاضي بالعفو على المشاركين في حركات التمرّد في أثناء الحرب الأولى لا يشمل بن سديرة ولا الدغباجي وهو ما جعله يطمئنّ إليه، "فتصادقا واشتركا معا في بعض الوقائع".

هذا وتجدر الاشارة إلى أنّ بعض الأفراد من قبيلة الهمامّة فرع أولاد عبد الكريم قد هاجروا مثلهم مثل بني زيد إلى طرابلس منذ 1881 معارضين انتصاب الحماية على البلاد التونسيّة. ومن أشهر المعارك التي خاضها القائدان معًا إضافة إلى واقعة "خنقة عيشة" المذكورة سابقا معركة جبل بوهدمة سنة 1919 التي انتصرا فيها بعد مصادمات دامت ثلاثة أيّام مع جنود الحماية الذين التحقوا بهما في موقعين "خلوة بورملي" و"جهة السّقي" (بين قفصة ونفزاوة) فتمكّنا من الفرار وشاركا في عدّة وقائع أخرى مثل واقعة سيدي عيش وجبل العنق وجبل القطار وجبل أولاد بوسلامة وماجل بلعباس، ولكن تبقى من أهمها واقعة المحفورة (1919) وهي مكان يقع بجهة قفصة. ورغم مقتل رفيقه البشير بن سديرة في ماي 1919 من قبل أحد المتعاونين مع الاستعمار الفرنسي وهو بلقاسم الأقرع فقد واصل الدغباجي هجماته على الفرنسيين.

واقعة الزلوزة (جانفي 1920)

توجد الزلوزة بالقرب من جبل "حديفة" (الجهة الشمالية الغربيّة من الحامة)، وسبب هذه المعركة أنّ أحد أعوان الديوانة الفرنسيّة بالحامة البريقاديي بولو كان يضطهد الناس بتعلّة مطاردة المهربين لمادّة الملح. وقد شاءت الصدف أن التقى به الدغباجي بدوار "الزلوزة" وهو يفتش الأهالي ويتوعّدهم بتسليط غرامات مالية عليهم فأطلق عليه الرصاص مع ثلاثة من أعوانه فأرداهم قتلى (1 جانفي 1920). وكان من نتائج ذلك أن قامت السلط الفرنسيّة بحملات تمشيط استهدفت بني زيد وسجنت بعضهم بتهمة مساعدة أو مشاركة الدغباجي في هذه الواقعة وإخفائه. ولمّا كان خليفة الحامة على اتصال بالدغباجي إثر هذه الحادثة بوساطة أقاربه فقد طلب منه الرجوع إلى أهله، واعدا إيّاه بالعفو، فأجابه برسالة مؤرّخة في 16 فيفري 1920

قائلا:

"... حركتنا تمتدّ من فاس إلى مصراتة وليس هناك أحد يستطيع إيقافنا، إنّنا رعايا حكومة أقوى من الحكومة التي تأتمرون بأمرها..." لئن رأى محمد المرزوقي في هذا الردّ اعتزاز الدغباجي بحركة الجهاد الطرابلسي التي يعتبرها حركة إسلاميّة مقدّسة فإنّ هذه الرسالة لا تقف عند حدّ الاعتزاز بحركة الجهاد، بل أضحت رهانا بالنسبة إلى الدّغباجي الذي رأى من الضروري أن يمتدّ إشعاعها إلى بقيّة البلدان المغاربيّة رغم فشلها بطرابلس منذ نهاية الحرب الأولى. وربّما كانت عودته إلى طرابلس ثانية حوالي شهر ماي 1920 تحمل نفسا جديدا لاحياء هذه الحركة.

واقعة المغذية (غربي هنشير سيدي مهذب بصفاقس)

حلّ الدغباجي وجماعته بدوار الغرايرة من المكان المسمّى المغذية يوم 6 أفريل 1920 وقد داهمتهم قوّات الأمن وأمطرتهم بوابل من الرصاص. ولئن قتل اثنان من الجانب الفرنسي كما قتل بعض المتعاونين معه (بلقاسم بن عمّار العمامي ومحمّد بن سعيد الفطناسي) فقد قتل من جماعة الدغباجي أحمد بن المرزوقي الغيلوفي وجرح كلّ من الدغباجي في ذراعه وإبراهيم بن حفيظ وحسين الجماعي ومحمد بن عمّار.

وإثر هذه المعركة فرّ الدغباجي واتّجه نحو الجنوب سالكا سلسلة جبال مطماطة وكانت السلطات الفرنسيّة جندت عددا مهمّا من أعوانها لمطاردته ورفاقه (12 نفرا).

وقد خلدت الأشعار هذه الواقعة إذ وردت قصيدة بعنوان "تلاقوا ملقى شين" على لسان الشاعر مبارك بن عمر الزيتوني (من شعراء الحمارنة ببلدة زركين الواقعة بين مارث وقابس) يقول فيها:

هابل ع الزين * مسقّط في الجيب عقالين حلف الدغباجي بيمين * عاتي ورزين واقعة الجلبيانة (غربي بني خداش) اندلعت هذه المعركة يوم 12 أفريل 1920 وقد تبادل في أثنائها الطرفان إطلاق النار، ومن اللحظة الأولى سقط خمسة من الجانب الفرنسي وفرّ الخمسة الباقون، أمّا جماعة الدغباجي فلم يصب أحد منهم بأذى. وتخليدا لهذه الذكرى قال الشاعر محمد الخف (من شعراء غبنتن بمدنين) في قصيد بعنوان: سي الكيلاني ولد حمودة (من الأفراد الذين قتلوا في الصف الفرنسي وهو أصيل مدنين) قائلا:

الدغباجي بيّت فيهم روده * وصدروا منه أعطاش
كثحهم بعمارة مجحوده * بالحربي نواش

ومهما يكن من أمر فإنّ عودة الدغباجي إلى الجنوب التونسي في صائفة 1918 لا يعني أنّ علاقته بخليفة بن عسكر كانت من قبيل التحالف الظرفي بل هي تضامنية. وقد أدّى "الجهاد" باعتباره رابطة روحية دورا مهمّا في توطيد العلاقة بين الطرفين، ولئن ضعفت هذه الرابطة بعد هزيمة الامبراطوريّة العثمانيّة فإنّها لم تضمحلّ.

اللجوء ثانية إلى طرابلس

بعد انتهاء معركة الجلبيانة (12 أفريل 1920) اخترق الدغباجي وبعض رفاقه الحدود التونسية باتجاه طرابلس وكان ذلك في أواخر النصف الأول من سنة 1920. وذهب بعضهم إلى أنّه أقام إلى جانب قبيلة الحوامديين وتزوّج للمرّة الثانية بمسعودة بنت أحمد بن بلقاسم العوني الدبابي.

وفي أثناء إقامته مع قبيلة الحوامد كانت تصله أخبار جهته وبالتحديد الحامة التي كان سكّانها يتعرّضون منذ آخر واقعة شارك فيها الدغباجي ضد الفرنسيين إلى قمع واضطهاد من قبل السلطات الفرنسيّة. وبادر بتوجيه رسالة إلى محمد بلخوجة عامل الأعراض (أواخر جوان 1920) يذكر فيها "أنّه فرّ من بلده نتيجة الظلم وأنّ أهله ليس لهم به علم ولا أيّ اتصال وأنّ الانصاف يقتضي عدم التعرّض لهم بسوء ما داموا ليست لهم أيّة علاقة به".

وكان هدف الدغباجي من وراء ذلك تخفيف حملة التمشيط التي أصبح أهل الحامة عرضة لها بحكم انتماء الدغباجي إليها ولا شكّ في أنّ لأبناء عشيرته ضلعا في "انشقاقه". ويبدو أنّ هذه الرسالة وجهها الدغباجي قبل اتّصاله ثانية بخليفة بن عسكر وهو ما يدعونا إلى التساؤل:

لماذا اللّجوء ثانية إلى المقاوم خليفة بن عسكر رغم عزم الدغباجي على العودة إلى الجنوب التونسي بعد فشل "الجهاد" الليبي وتكوّن الجمهوريّة الطرابلسيّة في نوفمبر 1918 هذا بالاضافة إلى انقطاع الدعم العثماني بعد هزيمة تركيا في الحرب الأولى؟ هل كان الدغباجي على دراية بأنّ الزعامات الطرابلسيّة وعلى رأسها خليفة بن عسكر قد أبرمت صلحا منذ مطلع 1919 مع الفرنسيين والايطاليين واشترط هذا الصلح وقف الأعمال العدوانيّة وفتح الأسواق الحدوديّة وحركة التجارة وتبادل الأسرى إذ أطلق سراح عائلة زعيم نالوت المعتقلة بمحتشد قبلي منذ أواخر 1914 وتسلّم الفرنسيون حوالي 400 أسير قبض عليهم سنة 1916 بقلعة جانيت، وأهم شرط كان التزام خليفة بن عسكر بمنع تسلل المنشقين التونسيين المقيمين بالمنطقة الحدوديّة إلى داخل التراب التونسي من أجل تنفيذ عمليات الاغارة والسلب؟ هل تغافل الدغباجي عن النقطة الأخيرة وبات متشبثا بجدوى "الجهاد" الطرابلسي؟ بل أبعد من ذلك، هل قرّر الاتصال بخليفة بن عسكر لاقناعه بالدسائس الاستعماريّة؟ كيف قبل خليفة بن عسكر أن يتصل به الدغباجي رغم التزام الأول في صلحه مع القوات الاستعماريّة الفرنسيّة والايطاليّة بعدم مساعدة التونسيين بالخصوص في عملياتهم المعادية لفرنسا؟ هل فهم الدغباجي الصّلح على أنه مناورة في نهاية المطاف من خليفة بن عسكر لفرض شروطه وحمل السلط الفرنسيّة على العمل بها؟ تبدو المسألة في غاية من التعقيد. والأرجح أنّ الدغباجي اتّصل بخليفة بن عسكر في بداية النصف الثاني من سنة 1920 فلم يكن زعيم بني زيد غير مواكب لتطوّر العلاقة بين القائد النالوتي والسلط الايطاليّة وما طرأ عليها من تغيير في المشهد الجغراسياسي الطرابلسي ومن ثمّة تبدّل في مواقف بن عسكر.

ومهما يكن من أمر فإنّ هذه العلاقة مرّت بطورين أساسيين من الضروري التذكير بهما لفهم التقارب من جديد بين الدغباجي وخليفة بن عسكر في ظرف تاريخي معيّن دون غيره.

الطور الأول: 1919 أوت 1920

بعد الاعلان عن قيام الجمهوريّة الطرابلسيّة في 16 نوفمبر 1918 والتوقيع على الصلح بين الايطاليين والفرنسيين من ناحية والزعامات الطرابلسيّة من ناحية أخرى في غرّة جويلية 1919 سادت فترة من السّلم الظرفي، إلاّ أنّه منذ بداية 1920 بدأت الخلافات تطفو على السّطح بين الطرفين. وقد مثّلت علاقة خليفة بن عسكر بالايطاليين منذ هذا التاريخ استثناء مقارنة ببقيّة الزعامات الطرابلسيّة فقد كانت تتوطّد حينا، وتتعثّر حينا آخر. وتمثّل نجاح هذا التقارب في البداية في استجابة خليفة بن عسكر لمطالب الايطاليين (زيارة الوالي الايطالي لطرابلس) إلى حدّ أن أصبح مجرّد موظف (قائمقام نالوت) لدى الحكومة الايطاليّة التي تعهّدت، طبقا لما نصّت عليه اتفاقيّة الصلح، بدفع مرتبي متصرفي المناطق الاداريّة. وقد سمح خليفة بن عسكر للايطاليين في 28 نوفمبر 1919 بفتح مكتب للشؤون الأهلية في نالوت.

لكنّ تعثّرا في بدايته طفيفا بات يسم هذه العلاقة مع رفض خليفة بن عسكر تركيز جيوش إيطاليّة بنالوت كأحد أبرز نقاط الجبل الغربي، فقد عارض يوم 21 جانفي 1921 وصول فرقة عسكريّة إلى منطقته. وقد تكرّرت هذه المعارضة في فيفري مارس 1920 بل استولى على ما كان بحوزة الماجور الايطالي، ضابط الاتصال بنالوت من أسلحة ومعدّات. وكان ردّ فعل الايطاليين أن أوقفوا مرتبه، ولم يتغيّر موقف خليفة بن عسكر إلاّ بإيعاز من سليمان الباروني الذي رافقه إلى طرابلس في جويلية 1920 لتوضيح بعض الأمور وتطويق الخلاف وهو ما تمّ فعلا في أوت 1920 إذ عين زعيم نالوت متصرّفا على منطقة الجبل الغربي، إلا أنّ هذا المنعطف التاريخي قد حمل في طيّاته أطوارا جديدة أسهمت في تدهور العلاقة بين خليفة بن عسكر والايطاليين.

يمكن أن نجزم بأنه في هذه المرحلة لم يتصل بعد الدغباجي ببن عسكر رغم وجوده بطرابلس على الأقل منذ أواخر ماي بداية جوان 1920 وذلك لتذبذب مواقف خليفة بن عسكر الذي أصبح ولاؤه علنيا للايطاليين خاصة بعد أن عين متصرفا في أوت 1920 على نالوت، وقد بلغ به الأمر، لخهر ولاءه التام وصرامته في تطبيق بنود الصلح، أن تطوع لحماية "جفارة" ضدّ اعتداءات التوازين والودارنة بتجنيد 300 رجل. هذا وتجدر الاشارة إلى أنّه أمر "المنشقّين الودارنة" بالكفّ عن شنّ هجمات داخل التراب التونسي انطلاقا من المجالات الخاضعة لسلطانه وإلاّ تعرّضوا للعقاب. كلّ هذه المواقف تبدو غير مشجعة للدغباجي على الاتصال بخليفة بن عسكر، لكن في الفترة نفسها التي عيّن فيها متصرّفا (أوت 1920) طفت على السطح معطيات جديدة حفزت الدغباجي على الاتصال به.

الطور الثاني: أوت 1920 ديسمبر 1921

لقد شكّل تعيين خليفة بن عسكر متصرّفا على نالوت في أوت 1920 ما يشبه الشرارة التي أشعلت فتيل حرب أهليّة، إذ رفضت القبائل العربيّة (الرجبان والزنتان) تعيين زعيم "جبالي إباضي" على منطقة الجبل الغربي. وانتهت هذه الحرب بهزيمة خليفة بن عسكر ضدّ التحالف القبلي في ديسمبر 1921 ولم يبق أمامه سوى الفرار إلى التراب التونسي.

وممّا يؤكّد حضور الدغباجي إلى جانب خليفة بن عسكر في هذه الفترة أنّه لمّا طلب بعد هزيمته اللّجوء إلى تونس لقي معارضة من قبل المقاومين التونسيين المنتمين إلى قبائل ورغمّة وبني زيد بتعلّة أنّهم مطالبون من القضاء لا سيّما الدغباجي الذي لم يكن يجهل الاجراءات التي سنّتها السلط الاستعماريّة ضدّه في إطار تضييق الخناق عليه وهذه الاجراءات هي : محاصرة الدغباجي بتونس (1921)، تجريده من أرزاقه، والحكم عليه بالاعدام غيابيا.

لم تكن السلط الفرنسيّة بمعزل عمّا جدّ من أحداث بطرابلس واتصال الدغباجي بخليفة بن عسكر، لذلك عمل المراقب المدني الفرنسي بقابس على إقناع السلطة العليا بتجريد الدغباجي وعصابته من أملاكهم، وهو ما تمّ إثر صدور قرار بالرائد الرسمي بتاريخ 8 جانفي 1921، بل أكثر من ذلك تطرّقت المحكمة العسكريّة بتونس يوم 27 أفريل 1921 إلى قضيّة مساجين واقعتي الزلوزة والمغذية. وقد استمرّ النظر في هذه القضية 6 أيام وانتهت يوم 2 ماي 1921 بالحكم بالاعدام غيابيا على الدغباجي و11 شخصا آخرين متهمين بجرائم قتل وتكوين عصابات. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو:

هل تغيّرت طبيعة العلاقة بين الدغباجي وخليفة بن عسكر لمّا اتصل به للمرة الثانية في النصف الثاني من سنة 1920؟

إذا كان التحالف الأول (1915 1918) تضامنيا إلى حدّ ما، إذ وطد "الجهاد الاسلامي" بين حركات المقاومة المناهضة للحضور الاستعماري وهو ما جمع بين القائدين، فإنّ طبيعة العلاقة إثر عودة الدغباجي إلى طرابلس بين الدغباجي والقائد النالوتي في الفترة (1920 1922) أضحت من قبيل التحالف الاستراتيجي والظرفي. وقد حاول الدغباجي الاستفادة من ضعف التقارب الذي حصل منذ 1919 بين خليفة بن عسكر والسلط الايطاليّة، كما وظف الدغباجي الصراعات بين الجبالية والتحالف القبلي بطرابلس مساندا خليفة بن عسكر. وإذا كانت نوايا القائد اللّيبي الحصول على المدد الايطالي وتوجيهه في النهاية ضدّ الايطاليين أنفسهم فإنّ الدغباجي أراد في غمرة هذه الفوضى الحصول على أسلحة وشنّ بعض الهجمات على الفرنسيين وتتجلى نوايا المقاوم الدغباجي هناك لما حضر مع خليفة بن عسكر لتجديد أسلحة الثوّار التقليديّة.

هذا ولا ننسى أنّ الدغباجي إضافة إلى قناعته بجدوى "الجهاد الاسلامي" ونجاعته في إطار مغاربي ورغم انقطاع الدعم العثماني وقد تجلّى ذلك في الرسالة التي جاء بها إلى خليفة الحامة بتاريخ 16 فيفري 1916 فقد راهن على مواقف خليفة بن عسكر إذ كانت الثّقة بين القائدين متبادلة. ورغم "تواطؤ" القائد النالوتي وإبرامه الصلح مع الايطاليين فإنّ ذلك لم يغيّر من نوايا خليفة بن عسكر الذي اعتبر أنّ الايطاليين مهما كانت علاقته بهم استعماريون وأنّ مقاومتهم واجبة وما الصلح المبرم إلاّ لطمْأنة السلطات الايطاليّة. وقد تجلّت نوايا ابن عسكر لما أصبح مناورا بعد جانفي 1921 رغم دعم الايطاليين له.

محاصرة الدغباجي في طرابلس: الدوافع والنتائج (جانفي ماي 1922)

أمام رفض السلط الفرنسيّة السّماح لخليفة بن عسكر اللجوء إلى تونس والمعارضة التي لقيها من قبل التونسيين لم يبق من حلّ أمامه سوى مهادنة الايطاليين الذين عملوا على تغذية هذا الصراع بين الجبالية والتحالف القبلي، وقد زوّدوه بالمدد لتأمين الدفاع عن مجال نفوذه، إلاّ أنّهم تفطنوا في نهاية المطاف إلى مناورته الماثلة في ربطه علاقات سريّة لزعماء التحالف القبلي وتحويل وجهة الصراع ضدّهم. وقد تزامن تفطّن السلط الايطاليّة إلى دسائس خليفة بن عسكر مع إلحاح فرنسا على إلقاء القبض على الدغباجي وتسليمه للسّلط الفرنسيّة بتونس.

وفي إطار إعداد مخطّط لذلك شجّع الايطاليون المجاهدين التونسيين بطرابلس على مواصلة ثورتهم على الفرنسيين وذلك لابعاد شبح تخوّفهم من الايطاليين. وفي الوقت نفسه عملوا على إثارة النزعة القبلية لاضعاف الصّراع بين التحالف القبلي والجبالية وذلك بوعد كلّ طرف بإمداده بالسّلاح. وقد أوهم خليفة بن عسكر بأنّ الحكومة الايطاليّة قرّرت تعويض أسلحته القديمة بأخرى جديدة، فحضر بذلك صحبة بعض قواده ومنهم محمد الدغباجي، وفي الحين طوّقت هذه المجموعات "المتمرّدة" بعد أن جرّدتها من أسلحتها، وألقى القبض على كلّ من خليفة بن عسكر والدغباجي يوم 28 ماي 1922.

ولئن أعدم بن عسكر في شهر جوان 1922 فقد أسّر الدغباجي وسلّم إلى السلط الفرنسيّة. وقد كان لهذا الخبر أثر سلبي جدّا في نفوس المقاومين التونسيين بطرابلس وأفراد قبيلته بالخصوص. وقد قال شاعر الحمارنة الحاج علي الوحيشي لمّا أسر الدغباجي في إحدى قصائده عنوانها: ماذا واجعني الدغباجي:

ماذا واجعني الدغباجي * قالوا لي جابوه
مدروك مسلسل ويلاجي * في تونس ربطوه

إرسال الدغباجي إلى السّلطات الفرنسيّة: من السّجن إلى تنفيذ الاعدام (1922 1924)

في ظلّ غياب وثائق رسميّة تمدّنا تحديدا بالتاريخ الذي سلّمت فيه السّلطات الايطاليّة المقاوم الدغباجي للفرنسيين بتونس يبدو أنه سُلّم مباشرة بعد اعتقاله يوم 28 ماي 1922 إلى سلط الحماية التي ألحّت منذ 1920 على إلقاء القبض على هذا "المنشقّ". ومهما يكن من أمر فإنّنا نعتبر أنّ الأيام الأولى من شهر جوان 1922 (بعد إعدام خليفة بن عسكر) هي تاريخ تسليم الدغباجي أسيرا. وقد قدمت به سيّارة خاصّة محروسة إلى مدنين ثمّ نُقل إلى وادي الزاس (بين مدنين وقابس) وهناك تسلّمته فرقة أخرى تابعة لقابس، ومنها نقل إلى مارث على متن القطار إلى تونس العاصمة ليحاكم حضوريا أمام المحكمة العسكريّة باعتباره جنديا فارّا من الجيش الفرنسي إضافة إلى مشاركته في عدّة وقائع بالجنوب التونسي انتهت بمقتل شخصيات فرنسيّة. وقد أكّد الدغباجي إثر هذه المحاكمة التهم الموجّهة إليه كالفرار من الجنديّة والمشاركة في مقاومة الفرنسيين...

ولتبرير شرعيّة إعدامه حضرت هذه المحاكمة أرملة البريقاديي بولو قتيل واقعة الزلوزة من قبل الدغباجي، مطالبة بالانتقام منه، وقد صدر الحكم بإعدام الدغباجي بالرّصاص في بلده ترهيبا لأهله وعشيرته.

أرجع المقاوم محمد الدغباجي إلى قابس على متن القطار ثمّ نقل إلى بلده الحامة لينفذ فيه حكم الاعدام، ولم يكن لتدخل عدّة أطراف لدى الباي تأثير يذكر في قرارات السلط الاستعماريّة. وبطلب من الحاج علي الوحيشي الحمروني خليفة الحامة تمكّنت زوجة أبيه من مقابلته وقد أعلمها أنه ترك بنتا بطرابلس وطلب جلبها إلى بلده بعد موته.

وفي صباح يوم 1 مارس 1924 اقتيد إلى ساحة السّوق واصطفت الفرّقة العسكريّة ببنادقها وأطلقت الرصاص عليه فسقط مضرّجا بدمائه.

وقد رثاه شعراء عصره أمثال الشاعر بلقاسم كانون الذي قال في قصيدة بعنوان "الدغباجي ماذا واجعني":

الدغباجي ماذا وجعني * صقر ال ما ينهان
في كنيني ناره تليعني * كرساع الفرسان

وقال الشاعر فيه بلقاسم الختال في قصيد بعنوان "عليه فضوا الجلسات ":

الدغباجي خوك يا عبد الله * عليه فضوا الجلسات
صادر فيه الحكم من الله * وفّى أيامه مات

وفي قصيدة أخرى بعنوان: "طفا قنديل التشعل ناره":

طفا قنديل ال تشعل ناره * ضوّه ولّى ظلام
وبيه عكسوا ليّام

وقال الشاعر مبارك بن عمر الزيتوني في قصيد بعنوان "تمم فرحه دام":

الدغباجي حضرو له ناسه * تمّم فرحه دام
صدروا فيه أحكام
ضربوه بموزر ورصاصه * عبّاد الأصنام

وقال فيه شاعر المرازيق عمر بن العربي المرزوقي في إحدى قصائده بعنوان: "بعد الدغباجي وخليفة":

بعد الدغباجي وخليفة * وفت هجرة الاسلام
سنين شدّه والناس ضعيفة * باي مسبح تنقام

تقويم عام لنضال الدغباجي وبعض صفاته

لئن بدت الصفات التي أطلقها الشعراء بالخصوص غير كافية لمعرفة هذا القائد القبلي الريفي فإنّه عرف بالمروءة والشجاعة والنضال من أجل الوطن والدين لا غير، ولعلّ هذه السّمات جعلت منه أنموذجا متفرّدا واستثنائيا في المقاومة المحليّة بالبلاد التونسيّة للاستعمار الفرنسي. وقد لا نبالغ إذا اعتبرنا الدغباجي من المقاومين الأوائل الذين أرسوا الأسس الأولى للمقاومة في بعدها المغاربي، فلم يعترف بالحدود التي رسمها الاستعمار، مقتنعا بأنّ الظاهرة الاستعماريّة لا يمكن التصدّي لها إلاّ في إطار تضامن حركات المقاومة المغاربيّة.