«محمد الخضر حسين»: الفرق بين المراجعتين

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
 
(مراجعة متوسطة واحدة بواسطة نفس المستخدم غير معروضة)
سطر 1: سطر 1:
 
[1293 - 1377هـ/1876 - 1958م]
 
[1293 - 1377هـ/1876 - 1958م]
 
[[ملف:محمد الخضر حسين 2.jpg|تصغير|محمد الخضر حسين]]
 
[[ملف:محمد الخضر حسين 2.jpg|تصغير|محمد الخضر حسين]]
ينحدر الشّيخ [[محمد الخضر حسين]] شقيق [[محمد المكي بن حسين]] من أسرة عريقة في العلم والدين والشّرف، إذ ينتمي إلى التّصوف والدين والعلم، ومن أجل هذا كان لشيوخها، في عصرهم، مكانة مرموقة بين معاصريهم. ويعود أصل أسرته إلى جنوب الجزائر، وإلى بلدة "طولقة" بالذّات. وهي تبعد زهاء الأربعين كلم عن مدينة بسكرة الواقعة في جنوب القطر الجزائري. وهي تابعة اليوم لولاية قسنطينة.
+
ينحدر الشّيخ [[محمد الخضر حسين]] شقيق [[محمد المكي بن الحسين|محمد المكي بن حسين]] من أسرة عريقة في العلم والدين والشّرف، إذ ينتمي إلى التّصوف والدين والعلم، ومن أجل هذا كان لشيوخها، في عصرهم، مكانة مرموقة بين معاصريهم. ويعود أصل أسرته إلى جنوب الجزائر، وإلى بلدة "طولقة" بالذّات. وهي تبعد زهاء الأربعين كلم عن مدينة بسكرة الواقعة في جنوب القطر الجزائري. وهي تابعة اليوم لولاية قسنطينة.
 
ويبدو أنّ أسرته هاجرت من جنوب الجزائر إلى بلاد الجريد في منتصف القرن التاسع عشر واستقرّت ببلدة نفطة، إثر الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م، وكان بين أفرادها الشيخ الحسين والده.
 
ويبدو أنّ أسرته هاجرت من جنوب الجزائر إلى بلاد الجريد في منتصف القرن التاسع عشر واستقرّت ببلدة نفطة، إثر الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م، وكان بين أفرادها الشيخ الحسين والده.
 
ولد محمد الأخضر بن الحسين في بلدة نفطة بمنطقة الواحات في الجنوب الغربي التّونسي، يوم 26 رجب 1293هـ/26 جويلية 1876م.
 
ولد محمد الأخضر بن الحسين في بلدة نفطة بمنطقة الواحات في الجنوب الغربي التّونسي، يوم 26 رجب 1293هـ/26 جويلية 1876م.
وفي عام 1306هـ/1888م انتقل محمّد الأخضر الذي نعت فيما بعد بالخضر، وهو في الثّالثة عشرة من عمره، مع والده وأسرته إلى العاصمة حيث أتمّ دراسته الابتدائيّة وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع الزّيتونة في العام الموالي 1307هـ/1889م فواصل دراسته إلى شهادة التطويع. وكانت معظم العلوم المقرّرة يومئذ علوما دينية ولغوية. تتلمذ على عدد من الشّيوخ البارزين الذين كان لهم في نفسه أثر محمود ظلّ يذكرهم بالثّناء والتّقدير إلى آخر حياته. ولعلّ أهمّ هؤلاء الشيوخ [[سالم بوحاجب]] و[[عمر بن الشيخ]] و[[محمد النجار|محمد النّجار]] وقد درس التفسير على الأخيريْن، ودرس صحيح البخاري على الشيخ [[سالم بوحاجب]].
+
وفي عام 1306هـ/1888م انتقل محمّد الأخضر الذي نعت فيما بعد بالخضر، وهو في الثّالثة عشرة من عمره، مع والده وأسرته إلى العاصمة حيث أتمّ دراسته الابتدائيّة وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع الزّيتونة في العام الموالي 1307هـ/1889م فواصل دراسته إلى شهادة التطويع. وكانت معظم العلوم المقرّرة يومئذ علوما دينية ولغوية. تتلمذ على عدد من الشّيوخ البارزين الذين كان لهم في نفسه أثر محمود ظلّ يذكرهم بالثّناء والتّقدير إلى آخر حياته. ولعلّ أهمّ هؤلاء الشيوخ [[سالم بوحاجب]] و[[عمر بن الشيخ]] و[[محمد النجار|محمد النجار]] وقد درس التفسير على الأخيريْن، ودرس صحيح البخاري على الشيخ [[سالم بوحاجب]].
  
 
ويظهر أنّ الشّابّ محمّد الخضر كان محبّا للأسفار. فقد حاول السفر إلى الشرق عن طريق ليبيا، ولكنّه لم يتجاوز مدينة طرابلس ثمّ عاد ليتطوّع في العام الموالي لتخرّجه، للتّدريس في الجامع الأعظم. ولكن لم يكن يتسنّى لأيّ متخرج زيتوني من أبناء (الآفاق) أن يشقّ طريقه بسهولة ولا أن يفوز بأيّ منصب يتقدّم إليه أبناء الأسر "التقليدية".
 
ويظهر أنّ الشّابّ محمّد الخضر كان محبّا للأسفار. فقد حاول السفر إلى الشرق عن طريق ليبيا، ولكنّه لم يتجاوز مدينة طرابلس ثمّ عاد ليتطوّع في العام الموالي لتخرّجه، للتّدريس في الجامع الأعظم. ولكن لم يكن يتسنّى لأيّ متخرج زيتوني من أبناء (الآفاق) أن يشقّ طريقه بسهولة ولا أن يفوز بأيّ منصب يتقدّم إليه أبناء الأسر "التقليدية".

المراجعة الحالية بتاريخ 07:34، 25 فبفري 2017

[1293 - 1377هـ/1876 - 1958م]

محمد الخضر حسين

ينحدر الشّيخ محمد الخضر حسين شقيق محمد المكي بن حسين من أسرة عريقة في العلم والدين والشّرف، إذ ينتمي إلى التّصوف والدين والعلم، ومن أجل هذا كان لشيوخها، في عصرهم، مكانة مرموقة بين معاصريهم. ويعود أصل أسرته إلى جنوب الجزائر، وإلى بلدة "طولقة" بالذّات. وهي تبعد زهاء الأربعين كلم عن مدينة بسكرة الواقعة في جنوب القطر الجزائري. وهي تابعة اليوم لولاية قسنطينة. ويبدو أنّ أسرته هاجرت من جنوب الجزائر إلى بلاد الجريد في منتصف القرن التاسع عشر واستقرّت ببلدة نفطة، إثر الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830م، وكان بين أفرادها الشيخ الحسين والده. ولد محمد الأخضر بن الحسين في بلدة نفطة بمنطقة الواحات في الجنوب الغربي التّونسي، يوم 26 رجب 1293هـ/26 جويلية 1876م. وفي عام 1306هـ/1888م انتقل محمّد الأخضر الذي نعت فيما بعد بالخضر، وهو في الثّالثة عشرة من عمره، مع والده وأسرته إلى العاصمة حيث أتمّ دراسته الابتدائيّة وحفظ القرآن الكريم، ثم التحق بجامع الزّيتونة في العام الموالي 1307هـ/1889م فواصل دراسته إلى شهادة التطويع. وكانت معظم العلوم المقرّرة يومئذ علوما دينية ولغوية. تتلمذ على عدد من الشّيوخ البارزين الذين كان لهم في نفسه أثر محمود ظلّ يذكرهم بالثّناء والتّقدير إلى آخر حياته. ولعلّ أهمّ هؤلاء الشيوخ سالم بوحاجب وعمر بن الشيخ ومحمد النجار وقد درس التفسير على الأخيريْن، ودرس صحيح البخاري على الشيخ سالم بوحاجب.

ويظهر أنّ الشّابّ محمّد الخضر كان محبّا للأسفار. فقد حاول السفر إلى الشرق عن طريق ليبيا، ولكنّه لم يتجاوز مدينة طرابلس ثمّ عاد ليتطوّع في العام الموالي لتخرّجه، للتّدريس في الجامع الأعظم. ولكن لم يكن يتسنّى لأيّ متخرج زيتوني من أبناء (الآفاق) أن يشقّ طريقه بسهولة ولا أن يفوز بأيّ منصب يتقدّم إليه أبناء الأسر "التقليدية". غير أن الشيخ الذي لم ينل لدى هؤلاء من الاعتبار والمكانة ما هو جدير بهما، نال شهرة واسعة وتقديرا عاليا لدى طلاّب الزّيتونة، وفي الأوساط العلميّة والأدبيّة خارج الجامع، وهو حَمَلَهُ على الدّخول في الحياة العامّة على نحو بارز وبأسلوب جديد. فقد أسّس أوّل مجلّة صدرت بتونس عام 1904 هي مجلة "السّعادة العظمى" التي أصدرها نصف شهرية، وتتابعت أعدادها إلى رقم 21 أي قرابة العام. ويبدو أنّه تخلّى عنها ليتولّى منصب قاض شرعي ببنزرت عام 1905م كما تولّى الخطابة والتّدريس بجامعها الكبير. "على أنّ هذه الوظائف لم تكن لتقيّده عن القيام بواجباته الاجتماعيّة والاصلاحية والمجاهرة بالدّعوة إلى الاصلاح الدّيني والوطني. لذا نراه يلقي أوّل محاضرة علنيّة بتونس عن الحرية، وهي المحاضرة التي ألقاها في نادي قدماء الصادقية عام 1906 بعنوان "الحرّية في الإسلام" والتي طبعت في كتاب مستقلّ. وهي من الأعمال الأولى الدّالة على شجاعته ووطنيته وحبّه لبلاده.

وعاد بعد ذلك للعاصمة ليلقي دروسه العلمية تطوّعا في جامع الزّيتونة. وهنا بدأت إدارة الجامع تهتمّ به فكلّفته - ضمن لجنة - بوضع فهارس لمكتبات جامع الزيتونة. ثم شارك في مناظرة للتدريس من الطبقة الثانية ففاز بها في عام 1325هـ/1907م ثم عين أستاذا في العام الموالي بالمدرسة الصّادقية. وبين تولّيه لهذين المنصبين عرضت عليه سلطات القضاء الاستعماري أن يكون عضوا في المحكمة المختلطة التي يكون فيها أحد الطرفين المتقاضيين أجنبيا، فرفض الشّيخ أن يكون قاضيا أو مستشارا في محاكم يهيمن عليها المستعمر. وفي سنة 1907 انتدبته الجمعية الخلدونيّة ليلقي دروسا في الآداب والانشاء على طلاّبها. وكان إلى جانب هذه المهام التدريسية الثّلاث في الزّيتونة والصّادقية والخلدونية يواصل إلقاء المحاضرات ونظم القصائد، وكتابة المقالات في مختلف شؤون الحياة التّونسية. فمن محاضراته على منبر الخلدونية وقدماء الصّادقية محاضرة عنوانها "حياة اللغة العربية" وأخرى بعنوان "حياة ابن خلدون" وثالثة عن "الدعوة إلى الاصلاح"...

وطيلة هذه الفترة كان يحثّ الطّلاب على المطالبة بإصلاح التعليم الزيتوني وعلى تنظيم صفوفهم في جمعية طالبية. وبالفعل حاول الطلبة الزّيتونيّون تأسيس أوّل منظمة لهم في تونس عام 1907، وشرعوا يطالبون بالاصلاح بإيعاز منه وتوجيهه الخفيّ لهم، حتى تطوّر الأمر إلى إعلان أوّل إضراب عن التّعليم قام به طلاب الزّيتونة يوم 16 أفريل 1910 وكان عددهم يومئذ زهاء السّبعمائة طالب. وقد فطن الاستعمار إلى أنّ المحرّك الحقيقي للطّلاب إنّما هو داعية الاصلاح الشيخ محمد الخضر حسين، فأصبحت سلطة الاحتلال تنظر إليه بريبة وترى فيه، رغم ما يظهر عليه من هدوء واعتدال، خطرا جسيما يهيّء للاستعمار أجيالا من الثّائرين والمشاغبين. ورغم أنّ الشّيخ الخضر لم يكن منخرطا في أيّ تشكيل حزبي، فإنّه بنزعته الإسلامية وما يجيش في نفسه من حبّ للحرّية وتعلّق بها حثّ مواطنيه في قصيدة مطوّلة على مساندة الجهاد الليبي بل دعاهم إلى القيام بعمل مُمَاثل في بلادهم، غير أنّ الشّيخ الخضر لم يعد يطيق الحياة في تونس، بعد أن أعلنت الأحكام العرفية فيها، وعطّلت الصّحافة الوطنية دفعة واحدة، وبعد أن نفي أو سجن معظم القادة والمفكرين الوطنيين. بعد كلّ هذا وجد الشّيخ الخضر نفسه يعيش في جوّ مكبوت ومكفهر ومشحون بالمؤامرات الاستعمارية فحاول التنفّس خارج حدود الوطن، وقام بعدة سفرات متوالية إلى الخارج، كانت أولاها إلى الجزائر عام 1327هـ/1909م حيث لقي من أهلها وعلمائها ترحيبا. فطاف في عدد من المدن الجزائرية وألقى فيها الكثير من المحاضرات والدّروس الدينيّة. ثمّ عاد إلى تونس، فكانت هذه الرّحلة بداية جديدة لحياة جديدة شرع الشّيخ الخضر في بنائها لنفسه ولأفكاره وميوله الاصلاحيّة. ولم يلبث، إلا قليلا بعد عودته حتى شرع يعدّ نفسه للقيام برحلة طويلة، عبر البلاد العربيّة والاسلاميّة التي تعيش تحت ظلّ الخلافة العثمانيّة. وحدث الحادث الحاسم في عام 1330هـ/1912م حين شارك الشّيخ الخضر في مناظرة للتّدريس من الطبقة الأولى بجامع الزيتونة، وكان هو في الطبقة الثّانية، فحرم من نجاح كان يَسْتَحقّه "بما أبدى من الكفاءة والتفوّق". لكنّ لجنة المناظرة، وهي مكوّنة من شيوخ تقليديين قدّمت عليه أحد أبنائها رغم تفوق الشيخ الخضر عليه علما وأدبا ومقدرة في إلقاء درس المناظرة بالذّات، فحزّ في نفسه أن تكون سياسة الظلم والمحاباة مسيطرة على الحياة العلمية بتونس، وعلى علماء الزّيتونة الكبار بالذّات. ويظهر أنّ الشيخ الخضر بدأ منذ هذه الحادثة يفكّر جديّا في الهجرة نهائيا إلى الشّرق، ولكنّه فضّل القيام برحلة استطلاعيّة لمعرفة الأحوال هناك، فسافر في العام نفسه إلى الاستانة مارّا بمصر والشام، وقد دوّن لنا الشيخ الخضر وصفا أدبيا واجتماعيا لهذه الرحلة نشره تباعا في جريدة "الزهرة". وعقب عودته في 2 أكتوبر 1912 منع من التّدريس بالمدرسة الصادقية لأسباب واهية للغاية، فأدرك الشّيخ أنّ الاستعمار والرجعية قد تحالفا ضدّه وأنّ الأمور قد تَطَوّرت إلى ما هو أسوأ، فقرّر الهجرة نهائيا إلى الشّرق. وارتحل في السّنة نفسها، وكان معه إخوته الأربعة، ومنهم أخواه العالمان الشّيخ المكي بن الحسين، وأخوه زين العابدين الذي توفّي في دمشق سنة 1957. وبسفره إلى الشّرق بدأت المرحلة الثانية، من حياته، مرحلة التنقّل والاكتشاف. وزار الشّيخ الخضر الجزائر ومصر والشام والحجاز والاستانة وألبانيا ومعظم بلاد البلقان التي كانت خاضعة للحكم العثماني، ثم استقرّ بدمشق مع عائلته. وكانت سوريا يومئذ تحت الحكم العثماني. وقد عيّن الشّيخ الخضر، عقب استقراره بدمشق، أستاذا في المدرسة السلطانية وبها مكث إلى عام 1336هـ/1917م. وكان في أثناء إقامته بدمشق مثابرا على النّشاط العلمي والاصلاحي نفسه الذي كان يقوم به في تونس، فكان يكتب المقالات ويلقي المحاضرات والدّروس الدّينية والأدبيّة واللّغوية، ويدعو إلى التّضامن العربي التّركي في ظلّ الخلافة الاسلاميّة.

ورغم ما كان عليه الشّيخ الخضر من اعتدال في كلّ شيء فإن جمال باشا الحاكم التّركي لبلاد الشام الذي كان يحمل أفكارا عنصرية معادية لكل جنس غير الجنس الطوراني، قد زجّ به في السّجن، إثر حركة القمع الواسعة التي قام بها في سوريا ولبنان، والتي أعدم فيها عدّة وطنيّين ومفكّرين في كلا البلدين، وكانت التهمة الموجّهة إلى الشّيخ الخضر هي أنّه كان على علم بالحركة السّرية المعادية للأتراك والتي كان الأحرار من زعماء سوريا ينظّمونها ضدّ الاحتلال والحكم التّركي لبلادهم. ومكث الشّيخ الخضر في السّجن مدة ستة أشهر وأربعة عشر يوما "وكان في زنزانة واحدة هو والأستاذ سعدي بك الملاّ، الذي تولّى رئاسة الحكومة اللّبنانية بين الحربين العالميتين"، ثمّ قدم للمحاكمة فثبتت براءته وأطلق سراحه.

وخرج الشّيخ الخضر من السّجن (1917) فعاد إلى عمله السّابق، ويظهر أنّ الاستانة قد علمت بحادثته هذه، فعطفت عليه واستدعته إليها، وألحقته منشئا عربيّا بوزارة الحربيّة. وقد يكون هذا التّعيين جرى نتيجة سعي منه للخروج من جحيم دمشق وحكم جمال باشا المكنّى بالسّفاح، كما يحتمل جدّا، أن يكون الزعيم علي باش حانبه ورفاقه بالاستانة هم الذين سعوا في هذا التّعيين ليكون الشّيخ الخضر قوّة تعاضدهم في العمل من أجل تحرير المغرب العربي. وكان علي باش حانبه وأخوه محمد، والشّيخان صالح الشريف وإسماعيل الصّفائحي وغيرهم يعملون بالاستانة وفي أوروبا على إعداد حملات تحريرية مسلّحة ضدّ الاحتلال الايطالي والفرنسي في المغرب العربي. وكانوا يتحرّكون على نحو مكثّف بين العواصم، ولهم اتّصالاتهم السرّية المنظّمة وأنصارهم في تونس وليبيا والجزائر. وقد نجحوا فعلا في تنظيم حركات ثورية مسلّحة بالجزائر وتونس وليبيا.

وما كاد الشّيخ الخضر بن الحسين يستقرّ بالاستانة في منصبه الجديد بوزارة الحربيّة، حتى كلّف بمهمّة في ألمانيا التي كانت في حالة حرب مع فرنسا، وكان أبناء الشّمال الافريقي، خاصّة الجزائر وتونس، المجنّدون في الجيش الفرنسي وفي واجهات القتال بالخصوص يزيدون على المائتي ألف. وكان هدفه بثّ الدّعاية في صفوف المغاربة داخل الجيش الفرنسي، وبين أسراهم في ألمانيا، لحملهم على القتال ضدّ فرنسا وليس معها، لأنّ مصلحة بلادهم في هذا الموقف، كما كانت هذه الحملة ترمي إلى إقناع الجنود المغاربة والأسرى منهم خاصّة بالتطوّع في الحركات الجهادية التي كان يقودها علي باش حانبه ورفاقه، والتي كانت الدّولة العثمانية تساندها معنويّا وماديّا. وقد حلّ الشيخ الخضر بألمانيا في بعثة من العلماء المسلمين منهم الشيخ صالح الشريف التونسي، ومكث في ألمانيا زهاء تسعة أشهر تعلّم في أثنائها اللغة الألمانية، وقام بمهمّته أحسن قيام، ثم تردّد بين الاستانة وبرلين إلى أواخر الحرب العالمية الأولى حيث أقام مرّة أخرى زهاء السّبعة أشهر. وما إن عَادَ إلى الاستانة حتّى استسلمت الحكومة العثمانية إلى الغزاة المحتلّين الذين اقتسموا عاصمتها كما اقتسموا أمبراطوريتها فلم يجد بدّا من النّزوح عنها والعودة إلى دمشق بعد أن تحرّرت سوريا من الحكم العثماني وأصبحت فيها حكومة عربية بقيادة الأمير فيصل بن الحسين. وقد أحسّ الشيخ الخضر وهو في طريقه إلى دمشق بمرارة الفراق للوطن، وبمحن الاغتراب عنه وكثرة تنقّلاته وقلّة استقراره.لكنّه ما كاد يستقرّ في دمشق عقب الحرب العالمية الأولى، حتى عيّن مدرّسا بثلاثة معاهد دفعة واحدة، وهي المدرسة العثمانية، والمدرسة العسكريّة، والمدرسة السلطانيّة التي كان بها قبيل سفره الأخير إلى الاستانة. وفي منتصف 1919 تأسّس بدمشق المجمع العلمي العربي، وانعقدت جلسته الأولى يوم 30 جويلية من العام نفسه، وفي هذه الجلسة عُيّن محمّد الخضر عضوا عاملا في إحدى لجان المجمع، وقد مارس هذه العضوية طيلة إقامته بدمشق، ثم أصبح عضوا مراسلا للمجمع، بعد اضطراره إلى النّزوح عن دمشق، وقد احتفظ بعضويته هذه إلى آخر أيام حياته. ورغم حبّه الخاصّ لدمشق، وتعلّقه الشّديد بها، وحنينه الدّائم إليها، فإنّ الاستعمار الفرنسي الذي كان قد حارب آماله الوطنية والاصلاحية بتونس، والذي أصدر على محمّد الخضر حسين حكم الاعدام غيابيا في أثناء قيامه في ألمانيا بتحريض المغاربة والتّونسيين منهم خاصة على الثّورة ضدّ المستعمر الذي أصبح حاكما لسوريا كلّها عقب انتصاره على الجيش العربي في موقعة ميسلون قرب دمشق يوم 24 جويلية 1920.

وهكذا لم يكن أمام الشيخ الخضر إلاّ أن يترك دمشق، وأن يفرّ من الطّغاة المستعمرين حتّى لا ينفذوا فيه حكم الاعدام ويشفوا غليلهم منه.فارق دمشق وفارق أهله فيها وانطلق إلى مصر، أمله الأخير وهدفه القديم. وبذلك بدأت المرحلة الثّالثة والأخيرة من حياته. وفي مصر بدأ حياته من جديد معتمدا على أصدقائه من الوطنيين المصريين الذين تعرّف إليهم في دمشق والأستانة وفي أوروبا، وعلى مواهبه وكفاياته الأدبية والعلمية والدينية العالية. وليس غريبا أن يظلّ في مصر مغمورا بعض الوقت، ريثما يتعرّف إلى أحوالها ورجالاتها، ويدرك أهلُ الشّأن فيها مكانته وقيمته. وكان العلاّمة البحاثة أحمد تيمور، أوّل من قدّر في شيخنا علمه وأدبه، فأمدّه بكلّ رعاية ومساعدة. وقد ظلت العلاقة وثيقة بينهما إلى آخر أيام تيمور الكبير عام 1930، وبقيت بعد ذلك بين شيخنا وبين عائلة تيمور، ويكفي دليلا على ذلك أنّ محمّد الخضر لمّا توفّى في القاهرة مطلع عام 1958 دُفن في تربة آل تيمور بوصيّة منه وباتفاق سابق مع أسرة تيمور.

في القاهرة بدأ حياته معتمدا على نفسه فاشتغل مصحّحا بدار الكتب المصرية، وهي وظيفة ذات دلالة خاصّة، إذ لا يكلّف بها إلا من تثبت مقدرته العلمية وكفاءته الأدبيّة واللّغوية. وقد توجّه اهتمامه منذ البداية إلى تنظيم شؤون الجالية المغربية في مصر فأسّس عام 1923 "جمعية تعاون جاليات شمال إفريقيا"، وكان يرأس هذه الجمعية بنفسه، وهدفها رفع مستوى تلك الجاليات من النّاحيتين الثقافيّة والاجتماعيّة. وفي عام 1925 صدر في مصر كتاب أثار فيها وفي العالم العربي ضجّة كبرى هو كتاب الاسلام وأصول الحكم للشّيخ علي عبد الرازق. وكان هدف هذا الكتاب إبعاد منصب الخلافة عن الملك فؤاد ملك مصر يومئذ، فوجد محمّد الخضر حسين فرصته المنتظرة، وتصدّى للردّ عليه بكتاب سماه نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم. وقد بادرت هيئة كبار العلماء الأزهريين إلى طرد الشيخ علي عبد الرازق من صفوفها، كما حوكم الكتاب وصودر من الأسواق. وفي عام 1928 تولّى مشيخة الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي فسعى إلى قبول الشّيخ الخضر أستاذا في كلّيات الأزهر، وكان الشّيخ الخضر قد اجتاز امتحان شهادة العالمية بتفوق ومنح الجنسيّة المصريّة، وأصبح بذلك أحد شيوخ الأزهر وعلمائه البارزين. وكان قبل هذا التعيين مدرّسا في معاهد الأزهر الثانوية. وقد تقدّم الشّيخ محمّد الخضر حسين - فيما بعد، وعلى التّحديد عام 1950 - إلى هيئة كبار العلماء طالبا قبوله عضوا بينهم، وكانت العضوية لا تكون إلا بشروط منها شهادة العالمية، وتقديم بحث علمي ممتاز، فقدّم الشيخ الخضر بحثا مطوّلا عن القياس في اللّغة، فقبل بالاجماع. وأصبح من كبار علماء الأزهر، ابتداء من عام 1370 / 1950. في عام 1928 أسّس جمعية "الهداية الاسلاميّة"، وتولّى رئاستها وإدارة مجلّتها والتحرير فيها، كما تولّى رئاسة تحرير كثير من المجلاّت الدينية التي أصدرها الأزهر، مثل مجلّة "نور الاسلام" ومجلّة "لواء الاسلام". وكان أيضا من مؤسّسي جمعية "الشّبان المسلمين"، وهي جمعية تهتمّ بإصلاح أخلاق الشبّان وتهذيبهم وتكوينهم دينيا وبدنيا وثقافيا. وفي ديسمبر عام 1932 تأسّس في القاهرة مجمع اللّغة العربيّة بمرسوم من الملك فؤاد. ثم صدر مرسوم ثان في أكتوبر من العام الموالي يقضي بتعيين أعضاء المجمع المصريين وغير المصريّين، فكان الشّيخ محمد الخضر حسين أحد هؤلاء الأعضاء. وقد كان يوم صدور هذا المرسوم أستاذا في قسم التخصّص بكلية أصول الدين في الجامعة الأزهرية. وظلّ دائما يدافع عن المغرب العربي، ويشيد برجال العلم والكفاح من أبنائه، بل ويفاخر الشّرق بهم أحيانا، كما كان يحمّل الشّرق مسؤولية عدم مناصرته العلمية للحركات التحريرية في أقطار المغرب العربي وهو ما أدّى ببعضها إلى الفشل. وقد بلغ في سبتمبر عام 1952 قمّة مجده الديني والعلمي حين أصبح شيخا للأزهر، فكان أوّل عالم غير مصري يتولّى هذا المنصب منذ قرون عدّة. وكان اختياره لهذا المنصب من قبل اللّواء محمد نجيب ومجلس وزرائه، وقد زاره في بيته ثلاثة وزراء وأعلموه بهذا القرار. وكان الشّيخ الخضر حسين حين تولّى هذا المنصب قد شارف الثمانين من عمره، ورغم تقدّمه في السّن فقد تحمّل أعباء هذه المسؤولية.

ولكن، لما أبعد اللّواء محمّد نجيب عن الحكم، ونفي إلى مكان مجهول يوم 20 أوت 1953, شعر الشيخ الخضر بأن عليه أن يتنحّى باختياره قبل أن يحدث شيء آخر. فاستقال من منصبه في جانفي 1954 بحجة مرضه وحاجته إلى العلاج والاستجمام. وزار فعلا شقيقه الشيخ زين العابدين المقيم في دمشق ثم عاد إلى مصر حيث أقام إلى أن توفّي في رجب/فيفري 1377 / 1958، ودفن في تربة آل تيمور.

من مؤلفاته المطبوعة

  • أسرار التنزيل.
  • بلاغة القرآن.
  • محمد رسول اللّه وخاتم النبيين.
  • رسائل الاصلاح.
  • محاضرات إسلامية.
  • القاديانية والبهائية.
  • دراسات في الشريعة الاسلامية.
  • مجلة السعادة العظمى.
  • الرحلات.
  • تراجم الرجال.
  • دراسات في العربية وتاريخها.
  • دراسات في اللغة.
  • نقض كتاب "في الشعر الجاهلي".
  • نظرات في "الاسلام وأصول الحكم".
  • الخيال في الشعر العربي.
  • نقض كتاب "الاسلام وأصول الحكم".
  • أحاديث في رحاب الأزهر.
  • خواطر الحياة، ديوان شعر.
  • تعليقات لغوية على كتاب "شرح القصائد العشر" للخطيب التبريزي.
  • تعليقات على كتاب "الموافقات" لأبي اسحاق الشاطبي.
  • ردّ على "مستقبل الثقافة في مصر" لطه حسين.