محمد الحليوي

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1907 - 1978م]

هو الأديب محمد بن عبد السلام بن أحمد بن الشّيخ علي بن الحاج قاسم الحليوي. ولد بالقيروان في 3 أوت سنة 1907 وتوفّي بها في غرّة سبتمبر 1978. تردّد في طفولته على الكتّاب بمسقط رأسه وحفظ القرآن الكريم. ثمّ انتقل إلى المدرسة القرآنيّة، وأتمّ دراسته الابتدائيّة بالمكتب العربي الفرنسي وحصل منه، سنة 1924, على الشّهادة الابتدائيّة التي كانت تعفي من الخدمة العسكريّة. واجتاز في السنّة نفسها بنجاح مناظرة مدرسة ترشيح المعلّمين بتونس العاصمة حيث أمضى بالقسم الاسلاميّ منها ثلاث سنوات. وتخرّج معلّما لتدريس اللّغة العربيّة بالمدارس الابتدائيّة. ولئن كان يعسر الكشف عن سرّ الموهبة التي تجعل من الانسان كاتبا مبدعا وأديبا مجلّيا فإنّ عوامل التّكوين وأسباب تنمية تلك الموهبة قد تبسّط الحليوي في تحليلها في أكثر من مناسبة في الرّسائل والمجلاّت وتناولها بالذّكر أو بالدّرس بالخصوص أصدقاؤه والباحثون بوجه عام. فقد عرف عن الحليوي أنّه كان ميّالا إلى العزلة. فهو قليل المغادرة لمنزله بعد عناء العمل وفي أوقات فراغه. بل إنّه كان، كما يذكر ابنه الأستاذ عبد الرّزّاق الحليوي، "يتراجع بعد أن يعزم على الخروج... وكان يجد في الكتب أنسا وسلوى فيحشر نفسه وفكره بين أوراقها ; ويحكم إغلاق مكتبته ليحاور في صمت القانتين نبغاء الفكر وعظماء الشعر". ولم يكن راضيا عن هذه النّزعة فيقول: "نعم لقد أغلقت باب مكتبتي حتّى لا تدخل إليّ ضجّة العالم، ولكنّني بإغلاقه انعزلت عن العالم، وأصبحت لا أعرف من الحياة إلاّ ما عرّفتنيه الكتب. والكتب تفسّر الحياة ألف تفسير، وتذهب فيه ألف مذهب، ولا تفيد إلاّ الحيرة واضطراب الفكرة". ولكنّه في الواقع، وإن تأثّر بالكتب في اتّجاهه الرّومنسي، فقد كان إفرازا موضوعيّا لتكوينه في أثناء الدّراسة ولتأثّره ببيئته التّونسيّة عامّة والقيروانيّة خاصّة.

كانت الدّراسة في جيله غير موحّدة المشارب ولا المناهج والأهداف. فإلى جانب التّعليم الزّيتونيّ التْقليديّ المرتكز على تعليم اللّغة العربيّة وآدابها والتّبحّر في الاسلام دينا وحضارة، نجد المدرسة الصّادقيّة بتعليمها العصريّ وتأثّرها بالمنهج الفرنسي ومحافظتها قدر الامكان على تلقين اللّغة وأدبها، فهي " لم تسلم كل السلامة ولا أصيبت كل الاصابة" على حدّ قول محمود المسعدي. وكذلك معهد كارنو وما شابهه بتكوينه الفرنسي البحت واقتصاره فيما يخصّ التونسيين على تلقين اللغة العربية لغة ثانية. ولكن قل أن أشيد بالقسم الاسلامي من مدرسة ترشيح المعلمين بتونس الذي خرّج، بفضل دروس مشايخ من جامع الزيتونة مثل أبي الحسن النجار وأبي الحسن بن شعبان ومحمد البشير النيفر، نخبة كان لها تأثير في الحياة العامة إسهام مهمّ في الساحة الأدبية في أثناء الثلاثينات والأربعينات وما بعدها من أمثال محمد البشروش ومحمد زيد وأحمد اللغماني وعلي بن هادية وفرج الشاذلي، وكان أبرزهم محمّد الحليوي الذي تجاوزت سمعته تونس إلى المشرق العربي بمقالاته في مجلة "أبولو" وبعض الجرائد المصرية وانتصاره لعباس محمود العقاد في معركته ضد مصطفى صادق الرافعي. ولم يقتصر محمّد الحليوي على هذا التكوين بل انضمّ بعد تخرّجه في مدرسة ترشيح المعلمين إلى المدرسة العليا للّغة والاداب العربية في عهد إدارة المستشرق الشهير وليام مرسي. ولكنه كان متبرّما من الترجمة فقد شكا إلى صديقه أبي القاسم الشابي "الانكباب على كتب الترجمة والاندماج في حماقاتها المضنية". وهو وإن تبرّم من ذلك فقد تمكّن من النفاذ إلى أسرار اللغتين، بعد أن تجذّر في لغته الأم. والترجمة كما يقال هي أن تتعلّم لغتك ثانية. ولكنه غنم في هذه المدرسة دروس الشّاعر والرّاوية محمّد العربي الكبادي الذي أقرأ مريديه أمّهات الأدب العربي مثل الكامل للمبرّد، والمثل السائر لابن الأثير، والعمدة لابن رشيق، والبيان والتبيين للجاحظ، والصناعتين وديوان المعاني للعسكري، وغيرها من الكتب العالية. وكان يعقب تلك الساعة بساعة أخرى في فقه المعاملات. كان إذن تكوين محمّد الحليوي متينا في اللّغة العربيّة وآدابها يعضده في ذلك حذقه للّغة الفرنسيّة. فأكسبه هذا بعدا تميّز به، في هذا الباب، عن أصدقائه من أمثال أبي القاسم الشابي فأفادهم وأفاد السّاحة الأدبيّة بالتّعريف بكبار الكتّاب الأوروبيّين وخصوصا الرّومنسيّين منهم. كما كسب كثيرا من نشأته بالقيروان واحتكاكه بشعراء أفذاذ أمثال صالح سويسي والشّاذلي عطاء اللّه ومحمّد الفائز، المعروفين بحماستهم في الذّود عن مقوّمات الهويّة الوطنيّة. إنّ هذه العوامل كلّها جعلت محمّد الحليوي يخضع للمضمونيّة الوطنيّة التّجديديّة مثل البشروش والشّابّي وغيرهما. وهي المحدّدة أساسا للأغراض الأدبيّة الّتي سيخصّص الحليوي حياته كلّها لطرقها بمختلف الأساليب والتّفريعات شعرا ونثرا. لكنّ شيوع الرّومنسيّة في تلك الفترة على أيدي كتّاب المهجر من أمثال جبران خليل جبران، وولع الحليوي بهم - وهو الذي قاده إلى الاطّلاع على الرّومنسيّين الأجانب في اللّغة الفرنسيّة - كان عاملا آخر من العوامل التي كيّفت إنتاج الحليوي. والرّومنسيّة تلتقي مع الأهداف الوطنيّة في عدّة أغراض وأهداف. وبالطّبع فإنّ مهد الرّومنسيّة كان في أوروبّا. وكانت أغلب أقطارها، عند شيوع هذا الاتّجاه، تناضل من أجل قوميّاتها. فكانت "بلدانها المستعبدة ليس لها من صوت إلاّ أدبها الذي يوحي لها بكيانها ذاته، ويؤجّج الحماس في ضميرها ويسمح لها بالتّعبير عن طموحاتها في فترة معيّنة من تاريخها". وهو وضع شبيه بالوضع السّائد في البلدان الرّازحة تحت نير الاستعمار ومنها تونس. "وإذا حاول الرّومنسيّ التّحرّر والوقوف على أرض صلبة فإنّه يرفض بقوّة تقليد القدامى الذين كان، قبل ذلك العهد، يأخذهم مثالا يحتذى، هذا يصحّ على الأقلّ في البلدان الّتي عرفت الكلاسيكيّة. وبما أنّه يصبح عدوّا للتّقاليد فهو يريد أيضا أن يكون كما هو، متفرّدا، صادقا قلبا وقالبا ; ويبدأ ترحاله بحثا عن ذاته، منطويا على نفسه وعلى عالمه الخاصّ، ليتسنّى له النّظر إلى نفسه وإلى الطبيعة الانسانيّة في كل مظاهرها. وهكذا يقدّم إلينا الرّومنسي طريقة جديدة في الاحساس والتّفكير والتّعبير وفي تصوّر الواقع تصوّرا جديدا وفي الوقوف تجاه الحياة موقفا جديدا".

وانطلاقا من الموهبة الّتي هي أساس كلّ نبوغ يمكن الجزم بأنّ تضافر هذه العناصر كلّها، في سياق الأهداف الوطنيّة، وانسياقا إلى موجة الرّومنسيّة الغالبة في ذلك العصر، وتأثّرا بأدباء المهجر وقادة التّجديد في مصر من أمثال محمود عبّاس العقّاد وكبار الأدباء من جامع الزّيتونة في تونس العاصمة، وأساطين الأدب في العالم، وتفاعلا مع البيئة الأدبيّة القيروانيّة، كان إنتاج محمّد الحليوي الأدبيّ زاخرا بقضايا عدّة، معبّرا عن خصوصيّته المتفرّدة، الضّاربة في عمق الأنا، فردية وعاطفة جيّاشة، وشعورا بالألم والحزن والكآبة، وميلا إلى الانزواء والخفي من المشاعر المبهمة ونزوعا إلى التمرّد على القديم، ونشدانا للتقدّم والتّجديد والرّفعة. ولكنّ هذه الخصوصيّة لم تقعده عن الالتحام بشعبه، والرّجوع إلى المنابع القوميّة، والايمان برسالة الشاعر والفنّان إلى حد النّبوّة. ويجدر التنبيه إلى أنّ محمّد الحليوي واكب فترات عدّة من حياة الشّعب التونسي سياسيّا وفكريّا وأدبيّا. وكان دائما حسّاسا لما يحدث من مستجدّات في جميع الميادين. لذا كان يراجع نفسه في عدّة قضايا منها قضيّة الالتزام وخصوصا بعد استقلال البلاد. فكانت مشاركاته تدلّ على وعي عميق بدور الأديب والنّاقد والشّاعر. فهو يعتقد أن "ثقافة المستقبل بالنسبة إلى تونس يجب أن تكون... قوميّة أي تونسيّة عربيّة اللّغة، إسلاميّة الرّوح، لكنّها متّسعة الأفق، شامخة، تمقت الانزواء والانطواء، وتتطّلع إلى ما عند الأمم من ثروات روحيّة وفكريّة... ونحن ننعت الثقافة بالقوميّة وإن كان من طبعها الاتّساع والشمول والاطلاق، كي نحمي المثقّف التونسي... من أن تكون ثقافته ضربا من التلفيق والترف العقلي الذي لا يصلح نفسا، ولا يكيّف فكرا، ولا يهذّب سلوكا...". وهو وإن كان مجدّدا، مؤمنا بالتقدّم فهو لا ينفكّ يوصي بالحذر حتّى لا يختلط الحابل بالنّابل. فهو عندما يعلن عن ضرورة تطوّر اللّغة العربيّة ويرى وجوب تحديثها يغار عليها ويخاف "أن يفهم من تعطيهم الحريّة لكي يعقلوا اللّغة ويعوها الوعي الكامل أن يسيئوا الفهم والوعي وتمتلئ علينا الدّنيا بالأدعياء". وكان الحليوي مثل البشروش والشّابي يدافع دفاعا مستميتا عن الأدب التونسي سواء في الثلاثينات أو بعد الاستقلال، عندما عاد ليتحدّث عن اتّجاهات الشعر التونسي. يقول: " إنّ واجب الوفاء لأدبنا التّونسي يحتّم علينا أن نجنّد أقلامنا كلّ في ناحية اختصاصه لخدمة هذا الأدب وإبراز شخصيّته وخصائصه، والبحث عن اتجاهاته... ثم التفكير الجدّي في مسألة تيسير النشر. فنبدأ بنشر ما هو مطوي في بطون الصحف والمجلاّت من شعر ونثر... ولعّله إذا أصبحت لنا مجموعة من الكتب والدواوين المنشورة أمكن لمن ينكر وجود الأدب التونسي والقرائح المنتجة أن يعدل عن رأيه...". وإذا لم تبرز البحوث القليلة الخاصّة بالحليوي مكانته في النّقد الأدبيّ حتّى يعدّ مدرسة للنّقد قائمة الذّات، فإنّ له منهجه الخاصّ به ومقاييسه التّطبيقيّة ومعاركه ضدّ القدامى منتصرا للتّجديد والمجدّدين، خائضا لقضايا النّقد الّتي شغلت معاصريه على مدى ما يناهز الخمسين سنة مثل "الأدب القوميّ"، ولصوصيّة الشّعر، والالتزام وغيرها. وممّا يضفي على كتابات الحليوي النّقديّة أهمّيّة كبرى تجعله أحد أساطين النثر في الأدب التّونسيّ الحديث "انفراده بأسلوب يذكّر بأسلوب الأدباء الّذين كانوا يملؤون الدّنيا في الثلاثينات وبالأخص في مصر. فأسلوبه جزل لا ركاكة فيه ولا سقامة بل ينمّ على تمرّس وجهد تقف خلفهما خلفيّة لغويّة ثريّة، مستقاة من الطواف الكبير بين الشعراء والكتّاب العرب إبّان العصور الزّاهية". وإذا كان محمّد الحليوي معروفا في الساحة الأدبيّة ناقدا أبدع في نثره وتميّز عن غيره فإنّه كان شاعرا أيضا. ولكنّه لم يكن "يعدّ نفسه من الشعراء. ويشبه شعره بشعر العقّاد في كثير من التواضع، إلاّ أنّ قرض الشّعر ساعده على إتقان صناعة النّقد، إذ أنّ الناقد الذي لم يجرّب القريض ولم يعرف معنى المعاناة يبقى فهمه للشّعر قاصرا وتذوّقه له محدودا". ذلك أنّ تصوّر الحليوي للشّاعر الحقّ ولما سمّاه فيما بعد بالشّعر الفنّي صعب المنال. "فالشّاعر الحقّ هو الذي يكون في الطّليعة يدلّ الأمّة على طريق الحريّة ويهبّ إلى مقاومة الظّلم والظّالمين". والشعر الفنّي عنده هو "الذي تكون فيه كلّ كلمة قد وضعت لغرض إيحائي أو تكون محمّلة بشحنة شعوريّة صادقة تترجم عن حالة نفسيّة أو صورة شعريّة بارعة تدلّ على عمق النّظرة وسعة الخيال، أو تعبير جديد مبتكر يبرز شخصيّة الشّاعر".