قفصة

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
البرج البيزنطي قفصة

قفصة مدينة بالبلاد التونسية تقع في الجنوب الغربي على بعد 335 كيلومتر من مدينة تونس، و205 كيلومتر من القيروان و146 كيلومتر من قابس، وهي مركز ولاية تعدّ 324.100 نسمة، (تعداد 2004) وأهمّ ما يوجد في أرضها من الثروات مناجم الفسفاط بالمظيلة والمتلوّي والرديّف وأمّ العرائس، وقد اكتشفت مدّخراتها في سنة 1885. وتحتوي واحة قفصة على قرابة 100.000 شجرة من النخيل تمورها ضعيفة الجودة، تضاف إليها بساتين البرتقال واللّيمون والمشمش والتين وكروم العنب، والزيتون وبعض غروس الفستق. والرّيّ بها مضمون بفضل عيون المياه الغزيرة المتدفّقة داخل المدينة نفسها وبفضل الآبار الارتوازيةّ الفواّرة. ثمّ إنّ قفصة باعتبارها أولى الواحات على الطريق الرابطة بين القيروان ومنطقة الشطوط، وباشتمالها على آثار من العصور القديمة وما قبلها من شأنها أنّ تشدّ إليها الزوّار، قد أنسَتْ في نفسها استعدادا لاقتحام مجال السياحة. وقد استطاعت بفضل هذه الخصيصة أن تحصل على بعض الخدمات والمرافق مثل ترميم "المسابح الرّومانيّة" وإصلاح قصبة المدينة وجامعها الكبير، وإعادة بناء جزء من الأسوار البيزنطية على الشكل القديم، وغير ذلك كما أدخلت على الصناعات التقليديّة بها بعض الحركيّة، وهي بالخصوص نسج الأغطيّة والبسط ذات الزخارف الهندسية والألوان الزاهية.

تاريخ المدينة

كلمة قفصة هي الصيغة العربيّة للتسمية اللاّتينيّة وهي "كبصا" Capsa. وانطلاقا من هذا الاسم عمد الباحث ج. مورغان J.Morgan منذ سنة 1909 إلى ابتكار لفظة "كبصي" capsien لتسمية الحضارة المنتسبة إلى العهد الحجري القديم أو إلى العهد الحجري الأوسط، تلك التي كانت هذه المنطقة من أهمّ مراكزها، كما تشهد بذلك "حقول الحلزون" الكثيرة وغيرها من آثار المناشط التي ترجع إلى فترة ما قبل التاريخ. لكنّ ماضي مدينة قفصة يبقى متسّما دائما بالغموض حتّى عندما ندخل العصور التّاريخيّة. من ذلك بالخصوص أنّنا لا نعلم بدقّة متى أسّست المدينة ومن أسّسها.

أمّا العرب فإنّهم يرون أنّ مؤسّس المدينة هو شنتيان غلام النمرود ملك الكلدانيّين الأسطوري العجيب (البكري، المسالك، ص 47 / 100). وفي الحقيقة فإنّ الباعث على إقامة المدينة - وإن بقيت أصولها غامضة - هو ما يتّسم به موقعها من ميزات جغرافيّة. وكما يقول غزال Gsell (التّاريخ، ج 6، ص 279) "فقد كان يوجد هناك ملتقى عدد من الطرق الطبيعيّة المؤديّة إلى كلّ من واحات الشّطوط، وقابس، ومقاطعة المزاق ومكثر وتبسّة". ومن الجائز أنّ يكون البونيّون قد استقرّوا بهذا الموقع المناسب لتجارتهم. وفي فترة لاحقة أصبحت المدينة جزءا من مملكة يوغرطة الذي كان يسعى إلى إبقائها دومًا تحت حكمه بمعاملتها معاملة خاصّة ومحاباة أهلها، ذاهبا في ذلك إلى حدّ إعفائها من دفع الضرائب والجبايات. وقد دفعت المدينة بعد ذلك ثمنا غاليا عن هذه الحظوة بسبب ما كان فيها من معنى الاخلاص والوفاء للملك النوميدي. فقد قام كايوس ماريوس، الذي أوكلت إليه روما مهمّة إخضاع يوغرطة، بحملة شرسة مفاجئة على المدينة وجعلها فريسة للنّيران (سنة 107ق.م). لكنّها استطاعت أن تنهض من تحت الرّماد وأن تعود إلى سالف حياتها. فأصبحت في عهد الإمبراطور تراجانوس (98 - 117) مدينة ذات نظام بلدي يسهر على إدارتها قضاة على الطريقة القرطاجيّة، وفي هذا دليل على وجود تنظيم بونيّ قديم احتفظ به في الإمبراطورية. ثمّ حلّ عهد الإمبراطور ديوقليسيانوس Diocletianus(305 - 284)، فعمد البربر إلى ركوب المزيد من مظاهر العدوان والتحرّش. ولم يكن بوسع روما إلاّ أنّ تجلي رجالها وتتخلّى تدريجيا عن المنطقة. وتواصل تراجع الدخلاء وانحسارهم في عهد الوندال، وبمجرد موت ملكهم جنسريق (428 - 477) أصبحت "كبصة" عاصمة لإمارة بربريّة. ثمّ عادت إلى حظيرة بيزنطة فاحتضنتها من جديد في عهد الامبراطور يوسطينيانوس Justinianus(565 - 527) الذي كان قد أعاد بناء وحدة الإمبراطورية وأرجع إليها سالف مجدها. بل إنّ "كبصة" أصبحت عندئذ عاصمة لمقاطعة المزاق. وفي سنة 540 حصّنها الامبراطور صالومون بسور جديد وأطلق عليها اسم "كبصة اليوسطينيانيّة" Capsa Justiniana.

المسابح الرومانية بقفصة

ولم يبق بڨفصة من معالم ماضيها القديم الفخم سوى بعض الآثار القليلة النادرة، مثل "الأحواض الرومانيّة" وبعض الأساطين والسواري وتيجان الأعمدة، وموادّ أخرى أعيد استعمالها في بناء المسجد الجامع بوجه خاصّ، وكذلك في غيره من مباني المدينة القديمة. على أنّ قفصة حافظت حتّى القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي، على ملامحها وطابعها باعتبارها مدينة عتيقة، وعلى استعمال لغة مشتقة من اللاّتينية للتخاطب. يقول البكري (المسالك، ص 47 / 100) : "وقد كان يكتب في أواسط القرن الخامسه./الحادي عشر م، أنّ المدينة كانت كلهّا مبنيةّ على أساطين وطيقان من رخام "وأنّ سورها القديم كان من السلامة والكمال بحيث "تخال أنّه قد فرغ من بنائه بالأمس القريب". وبعد مرور قرن على ذلك يأتي الإدريسي ليؤكّد أيضا (النزهة، ص 75) أنّ معظم سكاّنها من البربر وأنّ الأغلبية منهم تتخاطب "باللّسان اللاّتيني الإفريقي".

وقد لامست الموجات الأولى من الفتوحات الاسلاميّة أسوار مدينة قفصة منذ سنة 27هـ/647م، أي بعد الانتصار في سبيطلة وموت البطريق جرجير Grégoire. وبعد مرور عقدين من السّنين استولى عقبة بن نافع على المدينة عنوة. ثمّ خرجت بعد ذلك من يد المسلمين مع كامل إفريقيّة حتّى جاء حسّان بن النّعمان فاسترجعها نهائيا حوالي سنة 78هـ/697 - 698م. وفي أواخر القرن الثاني للهجرة/الثامن للميلاد، وأوائل القرن الثالث/التاسع للميلاد. كانت منطقة قفصة عامرة بالخصوص بالخوارج من قبائل لواتة وزواغة ومكناسة. وقد اشتركوا سنة 224هـ/839م، في الثورة التي هزّت منطقة قسطيليّة، فعاقبهم الأمير الأغلبيّ أبو عقال على ذلك عقابا شديدا. ويذكر الشمّاخي (في السّيَر، 203) أنّ الإمام عبد الوهاب (168 - 208هـ/784 - 823م) كان له بڨفصة "عامل". وينبغي أنّ ندرك أن ّ المقصود بذلك هو الجابي الذي كان يجمع الصدقات الشرعيّة من أتباع المذهب الإباضي ويتوجّه بها إلى تاهرت بقدر متفاوت من السريّة والكتمان، وذلك لأنّ مدينة قفصة لم تكن يوما داخلة في حكم الدولة الرّستميّة.

وبعد أن خضعت قفصة لسلطان الفاطميّين، ثمّ الصنهاجيّين من بعهدهم، أصبحت طيلة أكثر من قرن (445 - 554هـ/1053 - 1159م) عاصمة لدويلة مستقلّة بذاتها. فعمد عبد اللّه بن محمد بن الرّند عامل المدينة من قبل الصنهاجيّين إلى إعلان استقلاله واستئثاره بالحكم (445 - 465هـ/1053 - 1073م)، كما فعل كثير غيره، ودفع الجزية للأعراب البدو (ولا سيما منهم قبيلة رياح)، وتحالف معهم فرسّخ بذلك أسس نفوذه. وجاء إثر ذلك عهد الموحّدين الذين جمعوا في حكمهم بين كامل أنحاء المغرب، واضعين بذلك حدّا لانفراد قفصة بأمرها. وقد فتح عبد المؤمن بن علي سنة 554هـ/1159م المدينة عنوة بعد حصار شديد. ومنذ ذلك الحين دحلت قفصة مرحلة اتسمت بالاضطراب ككل مناطق الجنوب من إفريقيّة. ونازع الموحّدين عليها أحد المغامرين من أصل أرمني يدعى قراقوش، كما نازعتهم بالخصوص دولة بني غانية. ولم يذعن بنو الرّند لما حلّ بهم ولم يقبلوا بتنحيتهم عن السّلطة، فأعاد الأمير ابن المعزّ هذه الدولة إلى الحكم فوثبوا عليه وقتلوه. فخرج الخليفة أبو يعقوب يوسف من مرّاكش وجاء بنفسه سنة 575هـ/1180م لمحاصرة المدينة، التي لم يدم خضوعها زمنا طويلا، فلم تلبث أنّ سقطت في قبضة بني غانية. فاضطرّ المنصور، إلى محاصرتها على رأس جيش عتيد (سنة 583هـ/1187 - 1188م)، وفي هذه المرّة أنزل بڨفصة شديد العقاب فدكّت أسوارها من الأساس، ولم يسمح لسكّانها بالاحتفاظ بأراضيهم إلاّ على أساس اعتبارهم مزارعين بالشّراكة.

ولم تكن حياة المدينة أقلّ اضطرابا من ذلك في عهد الدّولة الحفصيّة. فقد استحوذ عليها في سنة 681هـ/1282م الدعيّ ابن أبي عمارة (681 - 683هـ/1282 - 1284م). ثمّ استرجعت بعد ذلك استقلاليتها المعهودة في ظلّ حكم دويْلة محلية، وهي دولة بني العابد الذين كانوا يدّعون النسب العربي. أمّا الأمير الحفصي أبو بكر الذي اتّسم أوّل عهده بشدة الاضطراب وانشقاق مقاطعات الجنوب، فقد حاصر قفصة في سنة 735هـ/1335م، واسترجعها ثمّ عهد بولايتها إلى ابنه أبي العبّاس. وقد سعى في الوقت نفسه، إلى تمتين الروابط بينها ودولته. لكنّها لم تلبث مع ذلك، بعد فترة قصيرة من السيطرة المرينية عليها (748 - 750هـ/1348 - 1350م) أن استعادت حرّيتها من جديد تحت سلطة أحمد بن عمر بن العابد، ثمّ ابنه محمّد من بعده. وقد اضطرّ السلطان الحفصي أبو العبّاس (772 - 796هـ/1370 - 1394م) إلى استرجاع ملكه بحدّ السّلاح. فضرب الحصار على قفصة في سنة 780هـ/1378م، ودمّر واحتها لارغام أهلها على الاستسلام، ثمّ ولّى عليها ابنه أبا بكر. وبعد ذلك، وفي خضمّ الاضطرابات التي أعقبت موت الوالي (سنة 793هـ/1391م)، أعيد الحكم من جديد إلى دولة بني العابد، مستأثرا به لنفسه.

فاضطرّ أبو العبّاس إلى التدخّل مرّة أخرى. وفي أواسط سنة 795هـ/ربيع سنة 1393م، حاصر المدينة من جديد وخرّب واحة نخيلها، ومني ببعض الهزائم. ولم يتمكّن من السيطرة نهائيا على هذا الأمر - قبيل موته بأشهر - إلاّ بمشقّة وعناء. ولم يدم ذلك طويلا، إذ أفل نجم بني العابد بالمدينة من جديد في عهد خلفه أبي فارس (796 - 837هـ/1394 - 1434م، الذي أجبر هو أيضا على محاصرة المدينة وافتتاحها عنوة (سنة 802هـ/1400م) ثمّ هدّم أسوارها من الأساس فقضى بذلك نهائيا على دولة المتمرّدين. وبعد انقضاء بضعة عقود من السّنين، زار السلطان أبو عبد اللّه محمّد المنتصر (837 - 839هـ/1434 - 1435م) المدينة ورمّم القصبة التي أقام بها سلفه.

ومنذ ذلك الوقت لم يرد ذكر قفصة كثيرا في معرض الأحداث. فبعد محاولة غير ناجحة سنة 1530م، أمكن للقائد التركي درغوث الذي أوكل إليه السلطان العثماني سليمان القانوني (1520 - 1566م) حكم طرابلس أنّ يفتتح المدينة عنوة يوم 20 ديسمبر 1556م. لكنّ الاحتلال التركي لم يرجع إليها سالف ازدهارها. فقد استنزف خيراتها كلّ من البدو الرّحّل والحكومة المركزيّة العاجزة عن حمايتها فلم تفتأ تتدهور وتتقهقر حتّى أصبحت بلدة صغيرة مغمورة احتلّتها الجيوش الفرنسيّة دون عناء (يوم 20 نوفمبر 1881) إبّان انتصاب الحماية بالبلاد.

الجغرافيا التاريخية

قفصة مدينة من مدن السهوب تقوم بين جبال عرباطة بالجنوب الشرقي، وجبال أصاله وابن يونس بالشمال والشمال الغربي، على مرتفع يبلغ علوّه 345 مترا، وفي موقع اتسم في مختلف عصور التاريخ بمظهره المقفر الموحش، وقد كانت دوما مثالا للحاضرة العظيمة الشأن التي يعود نجاحها وازدهارها إلى ما يوجد بها من رصيد مائي وسط منطقة يغلب عليها الجفاف والجدب، وإلى موقعها الممتاز الذي يجعل منها، حسب عبارة ش. تيسو (Ch.Tissot) "بابا من أبواب الصّحراء ومفتاحا من مفاتيح التلّ معا وفي الوقت نفسه" (الجغرافيا المقارنة... ج 2، ص 668). أمّا سالسطس(Salluste)(35 - 86 ق.م) فقد وصف قفصة بأنّها "مدينة كبيرة وعتيدة"، لكنّه كان يلحّ منذ ذلك العهد على ما ينشأ عن وجود الفيافي والقفار الشاسعة المحيطة بها من مناعة للمدينة، وصعوبة على الجيوش الغازية في الوصول إليها.

وبفضل هذه المؤهلاّت الكثيرة للنجاح، أمكن لڨفصة أن تحافظ إلى نهاية العهود التّاريخيّة القديمة، ورغم تقهقر منطقة المزاق، على ما كان لها من أهميّة وازدهار، وبعد الفتح العربي ازدادت انطلاقتها قوّة وثباتا. فقد أسلفنا القول إنّها حافظت طويلا على مظهرها وأسلوب حياتها العتيقين. وفي أواخر القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي يصف لنا اليعقوبي مدينة قفصة على النحو التّالي - وقد كان أوّل جغرافيّ عربيّ يترك لنا بعض الملاحظات الشّخصيّة المفصّلة حول المدينة - فيقول: "مدينة حصينة يحيط بها سور مبنيّ بالحجارة. وبداخل المدينة ينابيع ماء جارية، وسككها مفروشة بالبلاط، وأحوازها كثيرة الخصب وثمارها مشهورة" (البلدان، ص 212). وفي أواسط القرن الرابعه/العاشر م، يذكر ابن حوقل الذي كان موجودا بالقيروان سنة 336هـ/947م (صورة الأرض، ص 94) أن ّ مدينة قفصة كانت "مستقلةّ " وأن ّ ازدهارها كان كبيرا قبل سنة 330هـ/942م، وهي السنة التي خرّبها فيها أبو يزيد النكّاري (صورة الأرض ص 92). وقد نهضت من نكبتها بسرعة فيما يبدو، إذ أنّ المقدسي (المتوفّى سنة 378هـ/988م) يذكرها في أواخر القرن الرابعه/العاشر م، من جملة أمصار إفريقيّة وحواضرها الكبرى. وفي منتصف القرن الخامسه/الحادي عشر م يقدّم لنا البكري (المتوفّى سنة 487هـ/1094م) - ولم يكن قد زار البلاد بنفسه وإنّما كان ينقل أخباره عادة عن المؤرّخ الإفريقي الورّاق (المتوفّى سنة 363هـ/973 - 974م) - وصفا تمتاز قفصة فيه بكلّ المحاسن. وهذا الوصف الذي يعدّ من أكثر ما بلغنا عن المدينة تفصيلا في العصر الوسيط، يتحدّث بإطناب عمّا كان فيها من معالم من عهود الأوّلين لا تزال على أحسن حال، ومن عيون فوّارة تزوّد بوفير المياه بساتينها الغنّاء التي كانت تنتج، فيما تؤتيه من الثمار، كميات وافرة من الفستق يصدّر إلى كلّ أنحاء إفريقيّة، بل إلى مصر وسجلماسة والأندلس. ويضيف البكري أنّه كان يوجد بها تمر في حجم بيض الحمام، وكان بضواحي المدينة وبجوارها ما لا يقلّ عن المائتين من القرى الصغيرة، تسمّى "قصور قفصة" ويعمّها الازدهار والرخاء. وآخر ما كانت تتميّز به من qzôeo الثراء الذي لا مجال للشكّ فيه أنّ خراجها من الجبايات التي تدفع إلى الدولة كان لا يقلّ عن خمسين ألف دينار حسب ما يؤكده لنا الرواة. ومن الثابت أن ّ هذا الوصف كان يصوّر أوج ما بلغته المدينة من مراتب الازدهار. والأرجح أنّ ذلك كان في زمن الورّاق، أي في آخر القرن الرّابع الهجري/العاشر للميلاد. وبقيت المدينة مزدهرة حتّى أواسط القرن السادسه/الثاني عشر م، وهو العهد الذي كان يكتب فيه الادريسي، وقد وصف قفصة بأنّها "مدينة حسنة" بسورها السليم المتكامل ومياهها الغزيرة وأسواقها النشيطة النافقة التي تغصّ بالتّجار، وصناعاتها "القائمة" وواحتها الفسيحة ذات التمور "العجيبة" وأرباضها العامرة وبساتينها وأجنّتها ومزارعها المتنوّعة التي كانت تنتج فيما تنتج الحنّاء والقطن والكمّون وهي من الموّاد التي كان الناس يتهافتون عليها في العصر الوسيط.

وبحلول عهد دولة الموحّدين تغيّر الوضع تغيّرا كاملا. فقد كانت مدينة شديدة التعلّق باستقلالها. وكثيرا ما تمرّدت على الحكّام وخرجت على السلطة المركزيّة، فدفعت ثمنا باهظا. وقد هدمت أسوارها وحصونها مرارا - كما أسلفنا - من الأساس وخُرّبت واحة نخيلها. ومنذ ذلك العهد بدأ تدهورها وتراجعها الاقتصادي. ففي القرن السابعه/الثالث عشر م، يقتصر ياقوت (574 - 626هـ/1178 - 1229م)، بعد التّذكير بسالف محاسنها، على وصفها بأنّها "بلدة صغيرة على تخوم إفريقيّة... وسط أرض سبخاء قاحلة" (معجم البلدان، ج 4، ص 382). أمّا قراها وضواحيها التي كانت أكثر تعرّضا لمخاطر الاكتساح والتدمير، فقد آل أمرها إلى الاندثار. ففي زمن ابن الشباط (618 - 681هـ/1221 - 1282م) - فيما نقل عنه الوزير السرّاج، (الحلل، ج1، ص 437) - "لم يبق منها إلاّ القليل". وفي أواسط القرن السادس عشر يقول الحسن بن محمد الوزّان (المعروف بليون الافريقي) بعد الاشارة إلى ما أمر به المنصور من تهديم وتخريب: "واليوم عمرت قفصة من جديد بالسّكان، لكنّنا لا نجد فيها سوى مبان متواضعة باستثناء بعض الجوامع، وسككها في غاية الاتّساع وهي مفروشة كلّها بالبلاط الأسود كشوارع نابولي وفيرنزا. وأهلها متحضرّون متّسمون بحسن المعاشرة، إلاّ أنهم فقراء لكثرة ما يثقل كواهلهم من الضرائب والجبايات التي يدفعونها لملك تونس" (وصف إفريقيا، ج2، ص 444). ثمّ يستمرّ الكاتب في كلامه متحدثا عن فساد مناخها ومثنيا على ما تنتجه من أنسجة وأواني فخّار وتمور، ومادحا ما بها من بساتين برتقال وحقول زيتون "زيته في غاية الكمال طعما ولونا". وعلينا بعد ذلك أنّ ننتظر حلول القرن التاسع عشر، ورحلات غيران (Guérin) وزاكّون (Zaccone) وماييه (Mayet) لكي نظفر بأخبار أخرى عن المدينة وبوصف جديد لها، بعد أنّ أصبحت مجرّد قرية صغيرة.

ببليوغرافيا

  • الجويني خالد، قفصة وجهتها خلال الفترة الوسيطة، تونس، 2010.
  • Abdelwahab H .H, "Les steppes tunisiennes région de Gamouda pendant le moyen âge",les cahiers de la Tunisie ,no5, 2éme trimestre,1954,P5-15.
  • Ben Baaziz S, "les sites archéologiques de Gafsa" ,113ème congrés des sociétés savantes,Strasbourg,1988.IVème colloque sur l’histoire archéologique de l’Afrique du Nord ,tome II,1991,pp535-548
  • Younes A,Boukhtr M,Ben Salem M S,"Étude préliminaire sur l’alimentation en eau des agglomérations antiques et médiévales dans le secteur d'Essned,Eau et peuplement au Maghreb durant l' antiquité et le moyen âge",IIIè colloque international 15-17novembre 2007,Tunis,pp143-184