قرون المسيحية في تونس

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث

من الصعب أن نحدّد تاريخ دخول المسيحية لتونس ولكن نعرف مقابل ذلك أنّ وجود طائفة يهودية في المواني التجاريّة كان عامل تفتّح وانتشار للدين الجديد. والدليل القاطع على هذه الفترة المسيحيّة الأولى هو بلا شك ما تعرّض إليه شهداء الدين الجديد في قرطاج سنة 180 وسنة 203 عندما سلّمت للوحوش في المسرح شهيدتان إفريقيتان مشهورتان (Sainte Félicité) و (Sainte Perpétue). إنّ معرفتنا النسبيّة لهذه الفترة مستمدّة أساسا من كتابات ترتوليانوس (Tertullien) المتوفى في قرطاج سنة 220 وهو يعتبر من أوّل الكتّاب المسيحييّن الذين كتبوا باللغة اللاتينية. إنّ تغلغل المسيحيّة وانتشارها السّريع عبر البلاد التونسية الحالية عرفا بفضل محاضر جلسات المجامع الدينيّة كالذي انعقد في قرطاج سنة 265 بإيعاز من القديس قبريانوس (Saint Cyprien) الذي جمع أكثر من ثمانين أسقفًا وفدوا من عدّة مدن إفريقية. هذا العدد يعدّ ضخما بالنسبة إلى تلك الفترة إذا قارنّاه بعدد أسقفيات الغرب. فقبريانوس الذي أسندت إليه كنيسة في قرطاج قتل شهيدا سنة 258 والاضطهادات التي تواصلت هناك وفي بقيّة الامبراطورية ربّما ولّدت تيّارا انشقاقيّا زعزع البلاد على مدى أكثر من قرن وهو الذي يدعي بالدوناتيّة.

مرّة أخرى صار من الممكن التعرّف إلى هذه الفترة المضطربة بفضل مؤلف إفريقي يدعى القديس أوغسطينوس)Saint Augustin((354 - 430) وهو أحد آباء الكنيسة اللاتينيّة وكان له وقع عظيم لا على إفريقيا بل على المسيحيّة جمعاء. فكتاباته العديدة مكّنتنا من التعرّف أكثر إلى مجتمع إفريقيا في ذلك القرن، كما أنّه يعتبر ممن هيّؤوا اجتماع قرطاج الذي انعقد في سنة 411م والذي كان يهدف بالأساس إلى إدانة الدوناتيين وهي مهمّة كلّلت بنجاح باهر. والضربة القاضية لهذا التيار جاءت في بداية غزوات الفندال الذين دخلوا قرطاج سنة 439م مع ملكهم جنسريك (Genséric). منذ ذلك التاريخ عادت الاضطهادات ومصادرة أموال الكنيسة الكاثوليكيّة وتمّ إقصاء عدد من الأساقفة الأفارقة.

لكنّ المملكة الونداليّة التي كانت مهدّدة من القبائل البربريّة اضطرت إلى التصدّي سنة 539م للجيوش البيزنطيّة التي كان يقودها بليزار (Bélisaire) والذي استسلم له آخر ملك جرماني لافريقيا وهو جليمر (Gélimer). فكان ذلك إيذانا بميلاد إفريقيا البيزنطيّة الذي رافقته فترة انعدام أمن ومواجهات مستمرّة مع نفس القبائل التي زعزعت المملكة الونداليّة. هذا ما يفسّر دون شكّ البناء السريع للعديد من التحصينات مثل حصن حيدرة أو (Thelepte). وفي نفس الفترة واجهت الكنيسة هرطقات جديدة مجلوبة من الشرق عمّقت الهوّة بينها وبين السلطة التي كانت هي الأخرى تعاني من مشاكلّ مالية. كلّ هذه الاعتبارات أدّت إلى انهيار إفريقية البيزنطيّة سنة 647م. وفي نفس السنة وجّه والي مصر أوّل غزواته إلى البلاد، وكانت في ذلك الوقت تحت حكم البطريق جرجير (Grégoire) الذي أعلن استقلاله عن السلطة المركزيّة البيزنطيّة. لقد اكتفت معركة واحدة دارت بسبيطلة لانهاء السيطرة البيزنطيّة وفتح عهد جديد في تاريخ المنطقة.

إنّ الدلائل الخاصّة بالعهود المسيحيّة في تونس لا تعتمد فقط على المكتوب بل على الآثار وهي مئات الكنائس التي حافظت في بعض الأحيان على معمودياتها وتبليطاتها المغشّاة بالفسيفساء الحاملة للتزويق المسيحي والخزف الحامل لزخارف توراتية ذات مواضيع فريدة من نوعها. وهذا دليل واضح على التحمّس الشعبي للدين المسيحي عند الأفارقة.

من ناحية أخرى، تجدر الاشارة إلى أنّ الجيوش الإسلاميّة التي فتحت بلاد المغرب الحالي لم تقم بهدم منظّم للمعابد المسيحيّة. فأغلبيّة هذه البناءات تركت وتحوّل بعضها إلى مساجد للمسلمين. وبهذه الطريقة وصلتنا مئات الكنائس التي تكتظّ أحيانا بأثاثها الطقسي وزخرفتها وفسيفسائها. ثمّ إنّ الحفريات التي أُجريت في قرطاج أخرجت أكثر من عشر معابد أقدمها يرجع إلى أواخر القرن الرابع.

وفي مكان آخر وعلى بعد أكثر من مائتي كم عن العاصمة تقع سبيطلة وهي Sufetula القديمة وحيدرة Ammaedara وفي كلّ واحدة منهما كنيستان على الأقل يمكن اعتبارهما مركّبا أسقفيا حقيقيا. وأحسن مثال على ذلك المركّب الذي عرف باسم Vitalis ونورفوذوم بسبيطلة والمكوّن من كاتدرائيّة وكنيسة ومن معمودية مع حوض مغشى كليّا بالفسيفساء وسكرستيّات مصلّى وسلسلة من بيوت الكهنة ومركّب صغير للاستحمام خاص بهم. وعلى بعد عشرين كلم من هذه المدينة القديمة في الوسط التونسي وبالتحديد في هنشير البارود (وهي Thagamuta القديمة) نجد نفس البناء الديني. إنّ هذه الكنائس وما يتبعها تقع في أغلب الأحيان على بنايات عموميّة كانت تحتلّها معابد وثنيّة كسبيطلة أو جبل الوسط المشهور بالفسيفساء، كما كان يسمح لأتباع الدين القيام بطقوسهم في حمّامات مهجورة بعد تهيئة جانب منها في مكثر (Mactaris القديمة) أو في الكاف (Sicca Veneria القديمة).

حوض تعميد

واذ استثنينا بعض الكنائس التي ترجع إلى العهد البيزنطي والتي تحتوي على تصميم طريف فيه محاربان يتقدّمان وجها لوجه عند غلق جانبي الجناح الوسطي للكنيسة. فالنموذج العادي هو المبنى البازيليكي الذي يمكن مشاهدته على الفسيفساء المشهورة التي اكتشفت في طبرقة (Thabraca القديمة) على الساحل الشمالي لتونس وهي في الواقع فسيفساء جنائزيّة تحمل النقش Exclesia Mater (أي الكنيسة الأم) مصحوبة باسم الفقيدة، ويرجع تاريخها على ما نظن إلى القرن الرابع. يبدو من الصعب القيام بعرض شامل لكلّ ما يشهد على تطوّر المسيحيّة في تونس القديمة، ولكن ما لا شكّ فيه أنّه في غضون سبعة قرون كان لاقليم الامبراطوريّة في هذه الربوع دور هامّ في تاريخ المسيحيّة بفضل شهدائه وأدبائه وما اتّسم به من طرافة فنيّة.