قرطاج

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
قرطاج

اسم زاخر بالمعاني والرموز.

لئن جرت العادة بأن تبدأ كل المؤلفات التاريخية بالحديث عن قرطحدش أي عن قرطاج عليسة وأتباعها فإن أطلس ما قبل التاريخ للبلاد التونسية أشار إلى العثور على أدوات من الصوان وأحجار زجاجية ذات اللون الأسود تعود إلى مجموعات بشرية استقرت على نحو أو آخر في هذه الرّبوع قبل مجيء عليسة. وشيئا فشيئا نشأت قرطاج البونية وأشعّت على كامل المتوسط، إشعاعا انتهى بدخول الرومان أولئك الذين طمسوا معالم المدينة البونية وأنشؤوا على أنقاضها عاصمتهم أفريكا قبل أن تصبح قرطاج فيما بعد وعلى امتداد ثلاثة قرون مسيحية إلى غاية الفتح الاسلامي. لقد تركت هذه الأحداث شواهد تاريخية وأثرية موزّعة على نحو غير متساو في مساحة ميدان تمتد أطرافها داخل ما يسمى قديما شبه جزيرة قرطاج وينحصر اليوم بين سيدي بوسعيد والمرسى شمالا ولا يتعدى ضاحية الكرم جنوبا. على أن جلّ الحضارات تركت جزءا مهمّا من إنجازاتها في هذا الفضاء نفسه الذي يشتمل على سهل ساحلي هو سهل درمش تحميه شمالا وغربا مرتفعات برج جديد وسانت مونيك وجونون وبيرصا.

قرطاج البونية

قرطاج

نتيجة لغياب النصوص البونيّة تبقى المعلومات عن هذه المدينة منذ لحظة تأسيسها سنة 814ق م إلى لحظة سقوطها سنة 146ق م مستمدّة مّما كتبه اليونانيّون والرّومان عنها من أمثال سترابون (Strabon) وأبيان (Appien) وبوليب (Polype) وتيت ليف (Titelive). لقد راهنت تونس الحديثة بإيعاز من بعض الدّول المتقدّمة، على إعادة اكتشاف هذا الموقع الأثري. وذلك منذ ما لا يقلّ عن القرنين. وقد اضطلع بالمحاولات الأولى الكتّاب الأثريّون. ثم جاء من بعدهم ضباط وقناصل ورجال كنيسة. ومن جهة أخرى بادرت منظمة اليونسكو في آخر المطاف بإدراج الموقع ضمن التراث العالمي، ونظّمت لفائدته حملة إنقاذ أسهمت فيها عدّة دول طيلة عشرين عاما. وقد افتتحت قرطاج البونية سجل الملاحظات ابتداء من الأسبار التي أنجزها بولي سنة 1859 على هضبة بيرصا وكشف بواسطتها عن عينات من حريق المدينة الذي اندلع إبان سقوط المدينة. لكن التوثيق الأهم الذي أسهم في اكتشاف مجتمع المدينة هو الذي أنجزه دو سانت - ماري بين سنتي 1873 و1875 وصادقت عليه أكاديمية النقائش بباريس. وهو يتجسّد في اكتشاف الأنصاب النذرية أو ما تبقّى منها. وهي التي احتفظ بها السهل الساحلي مبعثرة ومتداخلة مع الأنقاض الرومانية غير البعيدة عن الإطار الميداني الذي صنعت من أجله والذي عثر عليه بعد خمسين سنة.

هذا المكان هو الذي يطلق عليه اسم التوفيت. وهو حرم غير مغطّى يسمّى قدش بالبونية أو قوداش أي المكان المقدّس كما ذكر ذلك في نقيشة مستخرجة من هذا المعبد الذي كانت تقدم فيه القرابين نذرا للإله بعل حمون والإلهة تانيت. وإذا كانت نصوص الأنصاب شاهدة على الموضوعات والأشخاص فإنّ محتوى القرابين وكيفيّة دفنها بعد مراسم تقديمها يمكن قراءتهما مباشرة في الطبقات الأثرية التي يعود أقدمها إلى القرن الثامن ق م لأنها احتوت على فخاريات إغريقية مستوردة تعود إلى تلك الفترة. يكتشف عالم الاثار في المقابر - وهذا ما تمليه العادات الجنائزية - ما يرشده إلى بقيّة أنواع الصّناعات اليدويّة المستخرجة من موادّ زجاجيّة وطينيّة ومعدنيّة وعاجيّة. وهي صناعات حذقها البوني وسوّقها محليّا وخارجيّا وحافظ على جزء منها لتصاحب صانعها أو مستهلكها في مثواه الأخير. وممّا لا شكّ فيه أنّ المرتفعات المحيطة بالمدينة لم تكن عائقا أمام استعمالها مدافن. بل كانت ملاذا لأولئك الأموات ومتاعهم الجنائزي.

وقد حفرت قبورها في عمق يصل إلى ثلاثين مترا. وهذا يفسّر بقاءها بعيدة عن أنظار الرّومان ومن جاء بعدهم إلى أن وصلت إلى الأب ديلاتر الذي اكتشفها سنة 1930 ودرسها بكلّ ما أوتي من وسائل تنقيب متواضعة ماديّا وبشريّا. وربّما لن نعثر في المستقبل على القلعة المحصنة للمدينة من أعلى نقطة أي قمّة بيرصا. لكن بقايا من أقدم جزء منها (القرن 5ق م) كشف عنه من جانب الشّاطئ. ولن نكشف أيضا عن معبد سكولاب في المكان نفسه، لأنّ هذين المعلمين وُجدا في قلب المعركة سنة146 ق م. لكن هذه المعركة لم تمحهما تماما، كما أن أشغال الرّومان لاحقا، لم تمح أيضا بعض المساكن على سفح بيرصا الّتي تعود إلى القرن الثاني ق م وقد وصلت إلينا بكلّ مكوّناتها السفلية تقريبا.

في هذا الشّأن تجدر الإشارة إلى أن أقدم شواهد للسكن تعود إلى أواخر القرن الثامن ق م وقد كشف عنها في السّهل السّاحلي. وإلى القرن نفسه تعود أيضا مقبرة بير مسعودة وهكذا وفّقت حملة قرطاج الأخيرة بين ما جاء في العادة التّاريخيّة من أن المدينة أسّست سنة 814 ق م وبين ما توصلت إليه الحفريّات من نتائج.

قرطاج الرّومانيّة

آثار قرطاج

لم تبرز المدينة الرّومانيّة إلاّ عندما وضع لها المهندسون تخطيطا متعامدا يرتكز على دوكيمانوس. وهو طريق يتجه من الغرب إلى الشّرق وعلى الكاردو. وهو طريق ثان يتجه من الشمال إلى الجنوب. ومعدّل عرض الأنهج سبعة أمتار أمّا طولها فهو 1400 متر. ونحن نعرف أسماء بعض هذه الأنهج دون أماكنها مثل فياسال وتاريا. ونعرف أسماء بعض الأحياء مثل حي فيكوس ساتورني. إنّ احتلال المدينة أمر به قيصر إثر حرب تابسوس أو أصبحت تعرف ابتداء من سنة 42 - 43م بكولونيا يوليا كرتاقو عاصمة لأفريكا. أسست البرتيكا - وهو الميدان الزّراعي - وجلب له 3000 معمّر من روما. والهدف من إحداثه هو جعل أفريكا مطمورة لروما باستغلال ثرواتها الفلاحيّة.

لقد انتعشت المدينة اقتصاديّا ونمت ديمغرافيا على نحو متزايد في القرون الثلاثة المسيحية الأولى. وقد أضحت المعلومات عن تاريخها أدقّ منذ القرن التاسع عشر حين خصص لها اودولن أطروحة دكتوراه سنة1901، وأطلعت حفريّات القرن 20 عما تزخر به من فسيفساء وفخاريّات ونّقائش وتّماثيل. أمّا سوماني فقد شخّص مكوّنات المدينة العموميّة منها والخاصة. ت فالعموميّة صنّفت إلى سياسيّة منها السّاحة الكبرى ودينيّة عقائديّة منها الكنائس بأنواعها، وترفيهيّة منها ملعب المصارعة والمسرح والمركض وصحيّة اجتماعيّة منها حمّامات أنطنيوس واقتصاديّة منها المواني وصهاريج المعلّقة. على أنّ إثبات هذه المعالم لا يخلو من إشكاليات، إذ لم تبق إلا شواهد قليلة عن تخطيط السّاحة الكبرى فوق قمّة بيرصا. أمّا الكابيتول فربّما شيّد في المكان الّذي اختاره الاباء البيض لاقامة كنيسة لويس التاسع وكذلك المعبد الكبير والمكتبة التّي تحدث عنها أبولي هذه المعالم الّتي شيّدت بين سنتي 150 و170 وهي تجسّد برنامج التّعمير لعائلة أنطونيوس وتعدّ إضافة إلى العمران الذي ازدهر فترة أغسطس.

قرطاج المسيحيّة

في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد أصبحت قرطاج المدينة الثّانية للإمبراطوريّة. لكن عندما سقطت روما بين أيدي الأريك والقوط سنة 410 أصبحت قرطاج ملجأ للنّبلاء. في سنة 425 شيّد تيودوس الثاني حصنا لحماية المدينة. غير أنّ هذا الحصن لم يمنع جنسريق والوندال من دخول لقرطاج سنة 439.

تقسّم النّصوص تاريخ المدينة المسيحيّة إلى فترتين. الأولى من أواخر القرن الرابع إلى بداية القرن الخامس والأخرى هي ما تسمى فترة النّهضة البيزنطيّة. لقد أُحصي 35 معلّما دينيّا بالمدينة نذكر منها المصيدفة، داموس الكرّيطة وسيبريانوس. فقد أبقت هذه الفترة المركز السّياسي في بيرصا مجسما في الكنيسة العدليّة أو القضائيّة الّتي تجاور السّاحة الكبرى. وفي السّهل السّاحلي هناك ساحة أخرى تسمّى بلاتيا مريتيما. وهناك ثماني كنائس جنائزيّة تعبّديّة داخل الأسوار، وخمس كنائس جنائزيّة خارج الأسوار. وإلى أواخر القرن الرابع بقي الوجود المسيحي الرّسمي محدودا داخل المدينة. لكنّه كان مهمّا خارجها، شمالا وجنوبا وهو يتجسّد خاصّة في انتشار الكنائس الجنائزيّة.

أما مظاهر الوثنيّة فقد أثبتتها شواهد وجدت في دهليز منزل عائلة من الأثرياء بدرمش نذكر منها تماثيل وفسيفساء. وابتداء من القرن الخامس نظّمت هناك الحياة الكنسيةّ حسب المناطق مثلما هو الحال في روما. وأخيرا لا تفوتنا خصوصيّة حمّامات أنطنيوس وهي تعدّ من أكبر المعالم في الامبراطوريّة، إذ جعل الرّومان من حجمها رمزا لعظمتهم. فخصّصوا لها ثلاثة هكتارات. ووفّروا لها المبتكرين والحرفيين. وجلبوا لها كلّ ما تحتاجه من موادّ وشيّدوا لها صهاريج وخزانات. وأتوا إليها بالماء بوساطة حنايا من منطقة زغوان. والجدير بالذّكر أنّ الامبراطور حدريان عاين بنفسه هذه الأشغال.

قرطاجنة العربيّة الإسلامية

عندما تغلّب حسّان بن ثابت على البحرية البيزنطيّة في ما بين سنتي 698 و699م دخل قرطاج. ولكنّه لم يستقرّ فيها. وقرّر تأسيس مدينة جديدة هي مدينة تونس. في خضمّ هذه الأحداث لم تخل قرطاج تماما من الحياة رغم أنّ سكّانها من الأغنياء لجؤوا إلى جزر سردانيا وصقليّة. وقد أشارت الحفريّات الأخيرة إلى حضور أموي، كما أشارت أيضا إلى أنّ الكنيسة واصلت ممارسة نشاطها حتّى القرن الحادي عشر م. لم تعد قرطاج بين القرنين الثامن والعاشر م عاصمة ولا مركزا حضاريا. والدليل على ذلك أن ابن حوقل لم يذكر في القرن العاشر إلاّ غلالها. يجب انتظار البكري في القرن الحادي عشر م لنتعرّف إلى الموقع بالتّفصيل. ومن الخصوصيّات الّتي شدت انتباهه "رخامه" وقد قال في شأنه: "رخام قرطاجنّة لو اجتمع أهل إفريقيّة على نقله واستخراج جميعه ما أمكنهم ذلك لكثرته".

ولم تبق قرطاج في تلك الفترة منعزلة، فقد ربطها مؤسّسو تونس بقنال اصطناعي. وهو قنال حلق الوادي الذي مكّن من جلب موادّ جاهزة من الموقع الأثري لاعادة توظيفها في مدينة تونس. وأقيمت في الشّريط السّاحلي الممتدّ من قصر الأمير بحلق الوادي إلى قصر جبل المنار بسيدي أبي سعيد قصور محصّنة لصدّ هجمات الأساطيل المسيحيّة. من أهمّ هذه القصور قصر قومش قرب المواني البونيّة بضاحية صلامبو حاليّا وقصر رباط أبي سليمان، وقصر رباط قمّرت في الشّمال.

ويعود قصر رباط جبل المنار الّذي كان يعلوه برج مراقبة إلى الفترة الأغلبيّة ثم أصبح مقرّا لأشهر المتصوّفين في العهد الحفصي نذكر منهم آبا سعيد الباجي (1236م) الّذي سميّت المنطقة باسمه وسيدي ظريف (1385م). وفي القرن 16 ذكر الوزّان أسوارها وخزاناتها وحدائقها. وقد وصل اسم قرطاجنة إلى سكان أواخر القرن التاسع عشر حسب شهادة الأب ديلاتر إذ خصوا به آنذاك حي المواني (صلامبو حاليا). وتسترجع قرطاج مكانتها في العالم بإعادة اكتشافها شيئا فشيئا بداية من القرن 19 م. وقد انفتحت على باقي المدن بفضل وسائل النّقل الحديثة وخاصة السّكك الحديديّة. واسترجعت الإعمار السّكّاني الّذي انقطع لمدّة قرون. وأنتجت إعادة البحث التّاريخي والأثري طوال القرنين نهضة علمية وأصبحت المدينة بفضل نتائج هذا البحث في قلب الساحة الثقافية. وقد اختارها بعض أعيان البايات ووزرائهم مقرا لسكناهم. وجعل منها آخر هؤلاء مقرّ الحكم الرسميّ من 1943 إلى 1957. وها هو المسرح النصف الدائري يقدم عروضا منذ 50 سنة مثلما فعلت الجالية الأوروبية في أوائل القرن 20م التي اقتفت بدورها على خطى أجدادها من الرومان في استعمالهم للموقع.

ببليوغرافيا

  • Brisson JP,Carthage ou Rome,Paris,1973
  • Fantar M.H,Chartage,La prestigieuse ville d'Elyssa,Tunis,1970
  • Gilbert Charles-Picard, Le monde de Carthage,éd Buchet/Chastel,Paris,1956