قابس

من الموسوعة التونسية
نسخة 07:47، 7 مارس 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

تقع قابس على ساحل الخليج المسمّى بالاسم نفسه (وهو المعروف في العصور القديمة بسيرتا الصغرى)، على مسافة 404 كم جنوبي مدينة تونس، وعلى بعد 146 كم من مدينة قفصة، وهي بمنزلة القاعدة الإدارية لولاية تضمّ 300 343 نسمة - حسب إحصاء سنة 2004. وتتكون قابس المدينة - التي قسّمت منذ سنة 1957 إلى أربع دوائر من البلدتين القديمتين المعروفتين ب"المنزل" في عالية وادي قابس، و"جارة" بسافلة هذا الوادي. وقد كانت توجد بين هذين الربضين نزاعات بسبب قسمة الماء. وقد انضاف إلى هذين التجمّعين، منذ انتصاب الحماية الفرنسيّة، حيّ عصري جديد أطلق عليه اسم باب البحر قابس الميناء، ويقع في أدنى المدينة، ومبان أخرى أحدث عهدا تمتد في اتجاه الجنوب. وقد حلّ الدمار بكلّ من المنزل وجارة في سنتي 1959و 1962 من جراء الفيضانات الجارفة بوادي قابس، وأمكن اليوم إيقاف هذه السّيول بقناة تحويلية متفرعة عن مجراه تجرف ما زاد على الحدّ الطبيعي من مياهه وتصُبّها مباشرة في البحر، ذلك أنّ مدينة قابس تقع بأسفل منخفض يحيط به شمالا أحد منعطفات الوادي وتحدّه جنوبا مرتفعات سيدي أبي لبابة حيث يوجد مقام الرجل الصالح شفيع المدينة وحاميها، وهو من صحابة الرسول - ومشارف "المنارة" ذات المشهد الشامل البديع، حيث كان ينتصب في العصر الوسيط برج بأعلاه منارة، وحيث أقيم بعد سنة 1962 حيّ شعبي يؤوي المتضرّرين من الفيضانات السابقة.

مقام سيدي أبي لبابة الأنصاري

ويوجد بواحة قابس، حسب ما يؤكده الباحث عبيد البشراوي، عدد من الأشجار يساوي 1.400.000 أصل، منها 650.000 من النخيل (وهي ذات تمور غير جيدة)، أي ما يعادل نسبة 47% من المجموع. وتأتي بعد ذلك 107.000 من أصول الرمان من النوع الممتاز تحتلّ بها قابس المرتبة الثانية في الانتاج التونسي، ثمّ أشجار الخوخ وكروم العنب وأشجار المشمش، أمّا الزيتون فلم تثمر زراعته إلاّ بجهات كتّانة وطبلبو ووذرف والمطويّة. وتبلغ أشجار الموز مرحلة الإثمار والنضج، لكنّ عددها قليل. أمّا الزراعات على وجه الأرض فهي الحبوب، بمقدار قليل، والأعلاف وخاصّة البرسيم، ثمّ التبغ والحناء والخضر والبقول، ومنها "السّكوم" أو الهليون، الذي دخل المنطقة حديثا. وأماّ الماشية فعددها قليل إذ أنّ تربية الحيوان تتّسم في الغالب بطابع عائليّ أو تكميلييّ من حيث القيمة. والبحر على سواحل قابس - على قلّة عمقه وكثرة أسماكه يكاد يكون غير مستغلّ. هذا وقد بلغ توسّع الواحة أقصى حدوده بحكم ارتباطه بطاقة الرّي، ذلك أنّ الطبقة المائية الجوفية المستغلة فوق طاقتها وإمكاناتها (قرابة 60 بئرا عميقة من 1890 إلى اليوم، قد قاربت حدّ النّفاد).

وقد اختيرت أخيرا مدينة قابس لتكون مركزا لتنمية الجنوب التونسي، فبني في هذا الاطار ميناء يتسع لايواء سفن تبلغ حمولتها 50.000 طنّ، وركّزت معامل الصناعات الكيميائية المغربيّة ضمن شركة متخصّصة في صناعة الأسمدة الآزوتية، وينقل إليها الغاز عبر أنبوب يربط بينها وبين حقل البُرمة ويزوّد بالطاقة معمل الاجر والمولّد الكهربائي المركزي. هذا وتوفر الصناعات التقليدية والسياحة لمدينة قابس نشاطا إضافيا قابلا لأن يزداد توسعا ونموّا.

التاريخ[عدّل]

قابس هي التسمية العربيّة للمدينة التي كان يطلق عليها في العصور القديمة اسم تاكاب Tacap أو تاكابا Tacapa أو تاكابي Tacapae بصيغة الجمع. واللفظة العربية مستمدّة من الصيغة المتداولة للكلمة في حالة المفعولية، وهي تاكابس Tacapas، مع إسقاط أداة التعريف اللوبية البربرية (تا). وقد كان موقع قابس معمورا منذ العهد الحجري الجديد، كما نتبيّن ذلك من الآثار المتعددة. وبعد ذلك كان الفينيقيون، على أقرب الظنّ، هم أوّل من أسس بذلك الموقع وكالة تجارية متخصّصة في المبادلات مع بلاد نوميديا وفي التجارة عبر الصحراء. وقد تحوّل هذا المصرف التجاري إلى مرفإ قرطاجي ثمّ أصبح فيما بعد مستعمرة رومانية. وقد توفرت لدينا منذ ذلك الحين بعض المعلومات المدققة عن المدينة. ومنذ عهد الإمبراطور الروماني تيبريوس (14 - 37 للميلاد) بدأت أشغال إحياء المنطقة على نحو شامل منظم، كما تشهد بذلك عملية التقسيم المئوي. وقد رُبطت تاكابس بقرطاج بالدّرب الساحلي الكبير. وفي سنة 14 فتحت طريق إستراتيجية جديدة تصلها، عن طريق قفصة بتلابت وحيدرة حيث كان يرابط الفيلق الثالث "أوغسطا". وبفضل ما كان البونيون قد بذلوه من جهود تمهيدية، ولكنّ أيضا بفضل هذه الشبكة من الطرق التي نشّطت حركة الميناء، وأخيرا بفضل مياه وادي قابس الغزيرة، حقّقت المدينة ازدهارا كبيرا يختلف الباحثون في تقدير مداه الحقيقي. وكان محورها يوجد بلا شك فوق الهضبة التي يحتلها اليوم مقام سيدي أبي لبابة. ثمّ أصبحت في الفترة المسيحية مركزا لأسقفية. لكنّها لم تخصّ إلاّ في زمن متأخرّ جدّا. ويقول ش. ديل (Ch.Diehl)، في كتابه إفريقيا البيزنطية، ج1.، ص 229, ما يلي: "كانت قابس إلى أواسط القرن السادس على الأقل لا تزال دون أسوار". وقد كانت حمايتها تقتصر على وجود قلعة (Castellum) تسد الطريق في وجه الزحف والهجوم عليها، وهي طريق البرزخ أو المعبر الذي يربط ليبيا بالمزاق ويمرّ بين ساحل البحر وشط الفجاج. وفي هذا الموقع بالذات أصيبت الجيوش البيزنطية بهزيمة مرّة سنة 547م في صراعها مع قبيلة الأشتريكس (Astrices). ولا شكّ في أنّ مدينة قابس القديمة (Tacapas) قد حُصّنت على إثر هذه الهزيمة بسور بقي قائما إلى القرن السادس عشر على أقلّ تقدير. هذا ولا تحتفظ قابس اليوم بأي معلم من معالم ماضيها القديم... وقصارى ما يمكن ذكره في هذا الباب بقايا "السدّ الروماني" على وادي قابس، وبعض الأساطين والتيجان المعاد استعمالها في جامع سيدي إدريس أو في مقام سيدي أبي لبابة، وبعض مواد أخرى أقل أهميّة استعملت في عدد من مباني الأحياء القديمة.

أمّا الظروف التي دخلت فيها دخول قابس في حضيرة الإسلام فهي محفوفة بالغموض. لكنّه من الثابت مع ذلك، ورغم تأكيدا الوزير السراج المتأخرة العهد (الحلل ج1.ص 344)، أنّ عبد اللّه بن سعد لم يحاصرها في أثناء غزوته لبلاد المزاق سنة 27هـ 647 / 648م... فلم تُفتح إلاّ بعد ذلك بسنوات، إثر الحملات التي قادها معاوية بن حديج أو خلفه عقبة بن نافع بين سنتي 34 و50هـ 654 / 670م. ثمّ انجلى عنها بعد انهزام عقبة وموته ب"تاهُودَا" (حوالي سنة 64هـ/684م) فاستقر كسيلة القائد البربري المنتصر بالقيروان. ومن هناك بسط نفوذه، حسبما يذكره ابن عبد الحكم (الفتوح، ص 70 / 71) على المناطق المجاورة ومنها منطقة "باب قابس". ومن هذا الباب طردت جيوش الكاهنة المجاورة سنة 74هـ/693 - 694م حسان بن النّعمان الذي جاء بنيّة استرجاعها خارج البلاد. لكنّه عاد فدخل هذه البلاد من الباب نفسه بعد بضع سنوات. ومنذ ذلك الوقت دخلت قابس نهائيا في الاسلام. ولم تسلم بالخصوص من الحركة الخارجية التي هزّت أركان إفريقيّة بأكملها بين سنتي 122 و155هـ 740 / 772م. ففي سنة 123هـ 741م، استولى عكاشة بن أيوب الفزاري - وهو من قبيلة زناتة ومن أتباع مذهب الصفرية - على قابس، وأصبح خطره يهدّد القيروان حتى هزم (سنة 125هـ 743م). وبعد ذلك ببضع سنوات في ولاية عبد الرحمان بن حبيب، سقطت المدينة من جديد في يد الإباضية هذه المرّة. وقد استرجعت مرّة أخرى وتمّ هزم اسماعيل بن زياد النفوسي حوالي سنة 131هـ748 / 749م وكان اغتيال عبد الرحمان بن حبيب (سنة 137هـ/755م) مؤذنا باندلاع قلاقل أخرى واشتعال نار حركة خارجية جديدة بقيت المدينة في أثنائها ممزّقة بين ممثلي الاتجاهات والمذاهب المتصارعة. فقد استولى عليها أبو الخطاب الإباضي في أوائل سنة 141هـ/وسط سنة 758م. وخلّصها ابن الأشعث سنة 144هـ/761م، قبل أنّ تفلت من يد العرب مرّة أخرى. وفي خاتمة المطاف دخل المدينة يوم 20 جمادى الأولى من سنة 155 / 28 أفريل 772 الوالي يزيد بن حاتم المهبلي واضعا بذلك حدّا، طيلة ربع قرن، للاضطرابات الدامية التي عمّت المنطقة على امتداد عشرات السنين.

وفي عهد الإمارة الأغلبية أصبحت قابس مركزا لمقاطعة كاملة ومقرّا لواليها، وقد ذهب الظنّ ببعضهم، استنادا إلى قول الشماخي (السّير، ص 203) الذي يشير إلى أنّه كان يوجد بالمدينة "عامل" للإمام عبد الوهاب (168 - 208هـ/784 - 823م) - أنّ قابس كانت تابعة للدولة الرستمية. وفي حقيقة الأمر لم يكن هذا "العامل" إلاّ جابيا يجمع الصدقات من الإباضيين المستقرّين بمنطقة تلك "العمالة" ويوجّهها بطريقة تغلب عليها السّريّة والكتمانُ إلى تاهرت. ذلك لأنّنا نعلم على نحو قطعي أنّ المدينة لم تخرج قطّ طوال القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، عن سلطة القيروان السياسية. وقد كانت تلك الفترة بالنسبة إلى قابس عهد سلام شامل لم يكدّر صفوه سوى المعركة التي سحق فيها الأمير إبراهيم الثاني في سنة 283هـ/896م غير بعيد عن أسوار المدينة حركة الإباضيين من قبيلة نفوسة. وفي القرن الرابع هـ/العاشر م، انتقلت المدينة إلى سلطة الفاطميين الذين ولّوا عليها بني لقمان من قبيلة كتامة.

أمّا في عهد الدولة الصنهاجية فقد كانت قابس أقلّ سكينة وهدوءا وافتُتح هذا العهد بحركة قام بها الإباضية اكتُسحت فيها المدينة وألحقت بأرباضها وضواحيها اضرارا جسيمة. وقد حكم المدينة باسم الصنهاجيين بنو عامر، ثم إبراهيم أحد أشقاء باديس (386 - 406هـ/996-1016م)، وخلفه عليها منصور بن مواس. وآخر من حكمها من ولاة المعزّ الصنهاجي (407 - 454هـ/1016 - 1062م) ابن ولميّة، ثم خرجت المدينة عن حكم الصنهاجيين. وفعلا، في منطقة قابس وبموقع حيدران مُني الصنهاجيون بالهزيمة التي ألقت بقيادة إفريقيّة بأسرها إلى بني هلال. وينبغي الاعتراف بأن الهلاليين لم يلحقوا أي ضرر بالمدينة التي كانت محاطة بأسوار حصينة ولا بواحاتها، رغم فقدانها كلّ حماية. وقد تمّ الاهتداء إلى نوع من الاتفاق على التعايش بين الغزاة ووالي المدينة مقابل دفع مبلغ من المال في شكل جزية. ومنذ سنة 445هـ/1053 - 1054م، لجأ عدد من أفراد الأسرة المالكة الصنهاجية إلى قابس وقد جاؤوا يطلبون لأنفسهم النجاة في تلك المدينة التي أصبحت بمنزلة واحة أمن واطمئنان. ولم تبادر قابس إلى قطع صلتها فورا بعاصمة المهدية.

ذلك أنّ واليها المعزّ بن محمد بن ولميّة لم يتخاصم مع الأمير الصنهاجي، الذي أغضبه سوء معاملته لأخويه إبراهيم وقاضي، ولم يعلن استقلاله بأمر المدينة تحت حماية مؤنس بن يحيى، إلاّ حوالي سنة 454هـ/1062 - 1063م. وقد كان ذلك، فيما يذكر التجاني (الرحلة، 96 ص), "أوّل عهد المدينة باحتلال الأعراب من بني هلال". وقد خلف إبراهيم أخاه، ثمّ جاء دور قاضي الذي ضجّ أهل قابس بظلمه وطغيانه فانتفضوا عليه وقتلوه (سنة 489هـ/1096م). وقد أدّى هذا الاغتيال إلى استيلاء بني جامع المنتسبين إلى قبيلة رياح الهلالية عن طريق بني دهمان على الحكم. أجل، إنّ بعض المؤرخين يؤكدّون أنّ الخليفة الفاطمي المستنصر (427 - 487هـ/1036 - 1094م)، حين رمى إفريقية بجموع بني هلال، جعل كلا من طرابلس وقابس من نصيب بطن "زغبة". لكنّ هؤلاء الزغبيين اكتفوا في الواقع بطرابلس، في حين أسّس دهماني من رياح يدعى مكّي بن كامل بن جامع (رحلة التجاني ص 71 - 97) إمارة بڨابس، بعد القضاء على أحد أشقاء الأمير الصنهاجي تميم (454 - 501هـ/1062 - 1108م)، وهو عمر بن المعزّ الذي كان أهل قابس المتمردون قد عهدوا إليه بمقاليد الحكم في بادئ الأمر. وقد خلف مكّيا هذا ابنه رافع، وخلف رافعا عمّه رشيد بن كامل بن جامع (حوالي515 - 541هـ/1121 - 1147م) ثمّ خلف رشيدا، بعد فترة قصيرة من حكم المولى المغتصب يوسف ابنه محمّد بن رشيد، ثمّ مدافع ابن رشيد.

ومن منتصف القرن الخامس هـ/الحادي عشر م إلى منتصف القرن السادس هـ/الثاني عشر م وسواء تعلق الأمر بعهد الولاة المستقلين بإشراف بني رياح، أو بفترة الحكم المباشرة للأمراء من بني جامع كان تاريخ قابس يتّسم بالاضطراب الشديد. ففي الداخل نشب صراع حامي الوطيس من أجل الاستئثار بالحكم وفي الخارج غلبت عليه السياسة التوسعية التي سلكها ملوك النورمان الحاكمون بصقلية، وقد كانوا يسعون إلى السيطرة على سواحل إفريقية. وبالرغم من عمليات حصار متعددة وغير مثمرة (في سنوات 474هـ/1081 - 1082م، 479هـ/1086 - 1087م، و486هـ/1093 - 1094م، وحوالي سنة 511هـ/1117-1118م) فإنّ المدينة لم تسترجع من أخلاف المعزّ (سنة 489هـ/1096م)، لكنّهم تمكّنوا من ذلك سنة 542هـ/1147م) وإن على نحو عابر وقصير جدا. وقد توخّت قابس في مواجهة هؤلاء الحكام الصنهاجيين سياسة تتسم بالعداوة الصريحة، ففتحت أبوابها لايواء أعدائهم، ودفعت بجيوشها المنفردة أو المتكتّلة مع غيرها من الحلفاء، في مهاجمة عاصمتهم (سنة 476هـ/1083 - 1084م، وسنة 493هـ/1099 - 1100م، وحوالي سنة 511هـ/1117 - 1118م)، ولم تكتف بالتحالف ضدهم مع بني هلال بل تحالفت أيضا مع نصارى النورمان من رعايا روجار الثاني الذي وجّه إلى الدعيّ المغتصب يوسف بطلب منه رسما بالتّولية مطابقا للتراتيب الجارية بمملكته وعددا من الأوسمة النصرانية، ثمّ سُمّي محمدا بن رشيد خلفا له بعد أنّ احتلّ المهدية (سنة 543هـ/1148م) وكامل منطقة الساحل. ورغم كل ّ هذه الصراعات فإن المدينة لم تتعرض إلى أضرار كبيرة فيما يبدو، بل إنّها ازدانت بقصر فخم هو قصر العروسين الذي شرع في إقامته، على الأرجح، الوالي ابن ولميّة، وأتمّ بناءه رافع بن جامع الذي استأثر بشرف تشييده، ولنذكر أيضا أنّ رشيدا قد ضرب في قابس السكة باسمه إمعانا منه في تأكيد استقلاله.

وجاء إثر ذلك الموحدون فوضعوا حدا لذلك الاستقلال. وكانت قابس قد فقدت بعد حريتها عمليا منذ سنة 541هـ/1146 - 1147م، بدخولها تحت حكم النورمان بما فيه من سيطرة فعلية رغم ما كان يتسم به في الظاهر من السعة والتسامح. وقد ثارت المدينة على النورمان في سنة 553هـ/1158 - 1159م. ثمّ افتتحها أبو محمّد عبد اللّه بن عبد المؤمن بن علي سنة 554هـ/1160م. ولم تدم فترة السلام تلك إلاّ بضعة عقود من السنين. فسرعان ما نازع الموحدين عليها خصمان كانا يتحالفان تارة ويختلفان طورا، وهما قراقوش صاحب طرابلس آنذاك وبنو غانية. وقد اضطر المنصور (580 - 596هـ/1184 - 1199م) إلى القدوم بنفسه إلى إفريقية التي كانت على وشك الافلات منه، فانتصر على أعدائه بالحامة (سنة 583هـ/1187 - 1188م). وتمكن من استرجاع مدينة قابس التي كان قراقوش حليف بني غانية قد اتخذها قاعدة محصنة. ولم يلبث قراقوش أن عاد إلى الانتصاب بها، لكنّه دخل إثر ذلك في نزاع مع حلفائه السابقين فأضاع المدينة من جديد، فعاد إليها الموحدون الذين اغتنموا تلك الفرصة السانحة.

ثمّ عمد يحيى بن غانية الذي خلف في الأثناء أخاه عليّا إلى محاصرة قابس (سنة 591هـ/1195م) بعد أن تمكن من القضاء على قراقوش واغتصب طرابلس من يده. وأتلف يحيى واحة قابس لاجبار أهلها على الخضوع. ثمّ دخلها واتخذها عاصمة لملكه وبسط نفوذه على كامل إفريقية بما في ذلك مدينة تونس التي استولى عليها عنوة سنة 600هـ/1203م. واضطر الناصر (596 - 609هـ/1199 - 1213م) إلى افتتاح كامل الجزء الشرقي من مملكته من جديد، وأنزل بيحيى بن غانية هزيمة قاضية بالقرب من قابس (في ربيع الأوّل من سنة 602/أكتوبر 1205), واسترجع المدينة التي بقيت منذ ذلك العهد على وفائها لدولة الموحّدين. لكنّ عهد هذه الدولة بإفريقية كان قد أشرف على النهاية. فقد كان أبو زكريا يحيى (625 - 647هـ/1228 - 1249م) مؤسّس الدولة الحفصية واليا على قابس عندما سمّاه الخليفة الموحدي المأمون (624 - 629هـ/1227 - 1232) أميرا على كامل إفريقية.

وقد نجح في افتكاك تونس من يد أخيه المخلوع بمساعدة عبد الملك ابن مكّي، وهو صاحب ضياع وأراض وأكبر أعيان مدينة قابس تأثيرا ونفوذا. ومنذ ذلك الحين بدأ نجم بني مكّي في الصعود. وقد تكوّنت من سنة 681 إلى 796هـ/1282 - 1394م إمارة بتلك الجهة، وكانت تتمتع بحكم ذاتي واسع،. وقد كان أبعد رجال هذه الأسرة الحاكمة صيتا وأقواهم شخصية وأثرا عبد الملك بن مكّي وأخوه أحمد الذي حكم بالخصوص جزيرة جربة بل استطاع أن يبسط نفوذه مدة من الزمن على طرابلس. وقد كان هذان الرجلان الشقيقان، المنتسبان إلى قبيلة لواتة، على جانب من العلم والثقافة، فكانا يحبّان تكلّف هيئة الفقهاء وتصنّع سلوكهم.

وكانا أيضا من ذوي الفطنة والحكمة في التصرف، فاستطاعا في كثير من الأحيان أنّ يوجّها سياسة الحفصيين إلى ما يخدم مصالحهم وأغراضهم الذاتية، وكان لهما في تحديد هذه السياسة مساهمة نشيطة ودور فعال. وفي شهر رجب من سنة 681هـ/أكتوبر 1282م، فتح عبد الملك أبواب مدينة قابس للدعيّ المغتصب ابن أبي عمارة (1282 - 1284م)، وأعانه على الاستيلاء على الحكم بتونس. ومن باب ردّ الجميل اتخذه ابن أبي عمارة وزيرا ومكّنه بالخصوص من سلطات ماليّة واسعة. لكنّ حكم ابن أبي عمارة لم يدم طويلا، فرجع عبد الملك إلى منطقة نفوذه بڨابس، وفي سنة 1286م قام الأمير أبو زكرياء الثاني بمحاصرة المدينة وبإتلاف واحتها ونخيلها. ولم يبق عبد الملك مكتوف الأيدي في الاضطرابات التي تلت ذلك - فساند سنة 1287 - 1288م، ولكن دون جدوى في هذه المرة - الدعيّ ابن أبي دبّوس القائم ضدّ الأمير أبي حفص (683 - 692هـ/1286-1293م). وفي سنة 693هـ/1294م، أعلن الخروج عن طاعة حكّام تونس والولاء لحكم بجاية، إذ عمد أحدُ أحفاد أبي زكرياء الأوّل الذي كان حاصر قابس سنة 1286م، إلى المطالبة بميراث جده في الحكم. وفي سنة 732هـ/1332م، وجد لديه عبد الواحد اللحياني، وهو أحد المطالبين بالحكم أيضا، العون والمؤازرة ضدّ الأمير أبي بكر (718 - 747هـ/1318 - 1346م). وقد شهدت السنوات التالية بلوغ بني مكّي أوج قوّتهم.

ونجحوا انطلاقا من سنة 751هـ/1350م، بما كانوا يتميزون به من مناهضة للحاجب ابن تفراجين المشهور بقوّته وبشدّة مكره ودهائه، في توسيع منطقة نفوذهم وترسيخ دعائم سلطانهم وقد بلغوا من المكانة وذيوع الصيت حدّا دفع بدولة البندقية حوالي سنة 1355م إلى إبرام معاهدة منفصلة معهم كان لهم فيها غُنم كبير. وفي نطاق عدائهم المتواصل لحكام تونس زحف بنو مكّي بمؤازرة بني مرين في مرة الثانية على البلاد (سنوات 752 - 757هـ/1352 - 1356م) بقيادة السلطان أبي عنان. وبعد عقود من السنين كان حلول عهد حكم الأمير أبي العبّاس (772 - 796هـ/1371 - 1394م) مؤذنا لكلّ مدن الجنوب بنهاية استقلالها. ولم يتيسر مع ذلك استرجاع مدينة قابس بصورة هيّنة. وفي شهر ذي القعدة من سنة 781/فيفري مارس 1380، تمّ الاستيلاء على المدينة وسمّي يوسف بن الأبّار واليا عليها لبني حفص. وبمجرد حلول السنة الموالية استولى أحد أحفاد عبد الملك بن مكّي - ويدعى عبد الوهاب - على كامل المدينة وقتل واليها. فاضطر أبو العباس إلى محاصرتها بنفسه سنة 789هـ/1387م، وقام بقطع نخيلها لحملها على الاستسلام، ممّا أدّى - حسب قول ابن خلدون - إلى تطهير مناخها وصحة هوائها "بعد أنّ كانوا يستوخمونه لاختفائه بين الشجر وفي متكاثف الظلال وما يلحقه بذلك من التعفن". عند ذلك أعلن عبد الوهاب الطاعة وقدم أحد أبنائه رهينة في يد السلطان الحفصي ودفع له غرامة كبرى. لكنّ عبد الوهاب قُتل في سنة 792هـ/1390م، على يد عمه يحيى بن عبد الملك ابن مكي الذي استبد بأمر قابس. وفي سنة 796هـ/1393 - 1394م، ظفر الأمير عمر ابن السلطان أبي حفص بيحيى فضرب عُنقَه، وانقرض أمر بني مكّي وانتهت فترة استقلال قابس وانفرادها بأمرها. ومنذ ذلك العهد لم تلفت المدينة الانتباه إليها إلاّ نادرا، وقد أفلتت من جديد، مثل كامل جنوب البلاد، من يد آخر ملوك بني حفص الذين دخلوا في حماية الاسبان، قبل أنّ تنضوي مع كامل البلاد التّونسيّة التي منحت نظام ولاية "باشاليك" (سنة 1574) تحت حكم الأتراك، وقام عثمان داي، الذي بذل جهودا كبرى من أجل إعادة السلم إلى ربوع البلاد، بتركيز جالية من "الكُولُغْليّة" - أي من الخلاَسيّين المولّدين من آباء أتراك وأمّهات من أهل البلد - بناحية "جارة" من مدينة قابس.

وبحكم عمران المدينة بالحضر من السكان مع وجودها على مشارف الصحراء، فقد تضررت أكثر من غيرها من المدن الأخرى من جراء حالة الفوضى التي سادت البلاد قبيل الاحتلال الفرنسي. وكان يتلاقى على استنزافها كل ّ من البدو الذين كانوا يُغيرون عليها من الصحراء أو يلوذون بالأراضي الليبية عند اقتراب العساكر النظامية - والأعوان التابعين لسلطة البايات. لذلك لم تسلم المدينة من حركة ثورة علي بن غذاهم (1864م)، رغم أنها لم تكن في قلب ذلك الصراع. وفي سنة 1870م، نهب مصطفى خزندار المدينة نهبا كاملا. وإبّان انتصاب الحماية الفرنسيّة حدث نزاع بين البلدتين المتنافستين اللتين تتألف منهما المدينة بخصوص الموقف الذي ينبغي اتخاذه، فاختار ربض "جارة" الخضوع، ومال ربض "المنزل" إلى المقاومة، إذ بدأ احتلاله يوم 24 جويلية 1881 ولم يستكمل إلا في آخر شهر نوفمبر بعد تدمير التحصينات تدميرا كاملا. وفي أثناء الحرب العالمية الثانية أقيم خطّ دفاعي بمارث (جنوبي مدينة قابس)، وهو ما عرّض المدينة إلى القصف العنيف بالقنابل وألحق بها جسيم الأضرار، دون أن يجنبها كلّ ذلك السقوط في قبضة المحتلين الألمان (19 نوفمبر 1942). ثمّ استرجعتها القوات البريطانيّة والفرنسيّة يوم 29 مارس 1943.

الجغرافيا التاريخية[عدّل]

عُرفت قابس بأنّها "واحة بحرية"، وهو تعريف ملائم. وقد اقترن ازدهارها على اختلاف العهود بخصب زراعاتها الغزيرة النموّ وبنشاط مرفئها باعتباره منفذا طبيعيا للتجارة الصحراوية. وقد وصفها المؤرّخ سترابن (Strabon) الذي عاش حوالي سنة 58ق. م، إلى حوالي سنة 25 بعد الميلاد بأنّها "سوق عظيمة" يتبادل الناس فيها البضائع الواردة من المناطق الصحراوية والسلع الموجهة نحو نوميديا. ويتحدث المؤرّخ بلينوس الأكبر Pline l'Ancien (79-23م.) عن اقتسام مياه الرّيّ بالعدل بين السكان على أساس نسبة محددة - وهو نظام مازال قائما إلى اليوم - وعن ازدهار الزراعات المصنفة إلى ثلاث درجات من الارتفاع: أشجار النخيل، ثمّ أشجار الزيتون والتين والرّمان وكروم العنب ثمّ زراعة الحبوب والبقول والخضر. ولعلّ أوّل إشارة إلى قابس في العهود الإسلاميّة جاءت في مسالك ابن خرداذبه التي جاء فيها "مدينة الأفارقة الأعاجم" (المسالك، ص 6 / 7). وفي هذه العبارة ما يوحي بأنّ "الأفارقة" أي الأعقاب المنحدرين من اليونان والرومان وكذلك من البربر الذين غلب عليهم الطابع اللاتيني والعقيدة المسيحية كانوا يشكلون العنصر الأساس الغالب من سكان المدينة. وهؤلاء "الأفارقة" هم دون شك أولئك الذين أطلق عليهم اليعقوبي (المتوفى حوالي 282 - 292هـ/895 - 905م) اسم "العجم"، مضيفا أنّ سكان المدينة كانوا "كثيري الاختلاط" وأنّه قد كان فيهم أيضا العرب والبربر. ويذكر اليعقوبي أيضا أنّ قابس كانت "مدينة ذات شأن وازدهار" وأنّها "كثيرة الأشجار والثمار".

وفي منتصف القرن الرابع هـ/العاشر م، يذكر ابن حوقل أنّ أغلب أهلها من البربر ويشير إلى وجود جالية من اليهود بها كانوا يخضعون لضريبة خاصة، كما يذكر أنّ من منتجاتها الكثيرة المتنوّعة، الزيت والصوف، وكميات كبيرة من الحرير الجيد الممتاز، والجلود الناعمة اللمس الزكيّة الرائحة التي تصدّر إلى أنحاء المغرب كافّة.

وفي نهاية القرن السادس هـ/العاشر م، يقول عنها المقدسي إنّها مدينة "أصغر من طرابلس"، وإنّها "مبنيّة بالحجارة واللبن، كثيرة النخيل والعنب والتفاح" (أحسن التقاسيم، 12 / 13)، وإنّ "أراضيها الخلفية آهلة بالبربر" وإنّ بسورها "ثلاثة أبواب". أمّا الوصف الذي يقدمه لنا البكري عن المدينة - وقد أخذه عنه الجغرافيون اللاحقون في الغالب - فهو الأكثر تفصيلا. كانت المدينة آنذاك لا تزال قائمة داخل سورها العتيق المبني بالحجر المنحوت الذي يحدق به خندق تتدفّق فيه المياه عند الانذار بالخطر. لكنّ المدينة قد تطوّرت على نحو لافت منذ عهد ابن حوقل. فقد أحاطت بها عدة أرباض بالجنوب والشرق بدل الربض الوحيد وعدد من الأسواق والفنادق، وهو ما يدلّ على نشاط تجاري واسع، وقد ازدانت بجامع فخم وأصبح بها عدّة حمّامات. أمّا النقص الوحيد الذي كان بها، فهو الفساد الذي طرأ على مناخها، وهو فساد حادث لم يعهد فيها من قبل بسبب إتلاف طلسم عثر عليه في أثناء التنقيب عن بعض الكنوز، وأسطورة الطلسم هذه تشير دون شكّ إلى هدم معالم قديمة عتيقة كانت تقع داخل المدينة على مرتفعات سيدي أبي لبابة المشهورة بطيب هوائها وسلامة مناخها، ثمّ إلى بناء الأرباض ابتداء من منتصف القرن الرابع هـ/العاشر م في المنخفض الذي يحدق به منعطف الوادي. وفي نهاية القرن الخامسه/الحادي عشر م، كان أبعد الأرباض عن السور القديم - وهو الذي كان يحتل موقع حيّ "جارة" الحالي - قد مُدّن تماما كما تشهد بذلك مساجد سيدي إدريس وسيدي الحاج عمر وسيدي ابن عيسى، التي ينسب ج.مارسي G.Marçais بناءها إلى أسرة بني جامع (الهندسة المعمارية، 78 - 77 ص)، والتي نجدها متجمّعة كلّها في هذا الحيّ. وقد لاحظنا إعادة استعمال بقايا من معالم الماضي في بناء هذه المساجد وغيرها من المباني القديمة، فمنذ منتصف القرن الخامسه/الحادي عشر م، بدأت المدينة العتيقة تخلو من السكان لتزول نهائيا فيما بعد، تاركة المجال للأرباض، وقد أدّى ذلك إلى فساد الهواء ورداءة المناخ، وهو ما شهّر به كلّ الرحالة والجغرافيين انطلاقا من البكري في حين لم يذكره أحد من قبل.

وكان سكان المدينة، فيما يذكره البكري، ينقسمون إذ ذاك إلى عرب و"أفارقة"، وهو ما يشير إلى أنّ عمليّة امتزاج الأجناس والعناصر لم تبلغ بعد حدّها النهائي. وقد كان البربر يسكنون الأخصاص ويقيمون في الأكثر بالمناطق الخلفية من ضواحي المدينة. وهم يتكوّنون أساسا من قبائل لُواتة ولماية ونفوسة ومزاتة وزُواغة وبعض مجموعات أخرى أقل أهمية وشهرة. وكانت واحة قابس تنتج كميات كبيرة من الموز ومن قصب السكر وكلّ أصناف الثمار التي كانت تزود بها مدينة القيروان. وكانت تنفرد في بلاد إفريقية بغابة واسعة من شجر التوت تسمح لها بإنتاج كميات وافرة من الحرير الجيد الممتاز.

ولنذكر في هذا الصدد أنّ وثائق "الجنيزة" Geniza تثبت أنّ إفريقية كانت في القرن الخامسه/الحادي عشر م من بين مصدّري الحرير. لكنّ س. د. غُويتاين لم يعثر فيها على أيّ إشارة واضحة محددة إلى مدينة قابس. ويشير البكري في خاتمة كلامه إلى أنّ مرسى المدينة كان مُعْلَما عليه بمنارة طالما تغنّى الشعراء بروعتها - وهي منارة لم يبق منها اليوم سوى الموقع فوق مرتفع لا يزال يُطلق عليه اسم المنارة - وأنّ هذا الميناء يستقبل السفن والمراكب "من كلّ أنحاء الدنيا". وفي منتصف القرن السادس هـ./الثاني عشر م، يتحدث الإدريسي كذلك عن "الأفارقة" عرضا. ولا شكّ في أنّ أولئك الأفارقة لم يعودوا يشكلون في ذلك العهد مجموعة مهمّة فعلا ومتميزة عن بقية سكان المدينة. ويضيف الإدريسي أنّ أهل المدينة "ينقصهم اللطف والرقة لكنّ لباسهم مقبول ونظيف" (النزهة، 77 ص)، ولا تزال المدينة آنذاك في أوج ازدهارها ونهضتها. ويمدح الإدريسي بالخصوص إنتاجها من الرّطب، وهو ضرب من التمور المعسّلة يدّخر في جرار ضخمة. وكانت تنتج الزيت "وتُصدره بوفرة في كل ّ صوب"، إلاّ أنه طرأ عليها بعض التغيير: فقد أصبح ميناؤها صعب الإرساء بسبب ارتفاع الرواسب وقلّة عمق المياه وشدة الرياح بعد أنّ كان من قبلُ، حسب ما يرويه البكري، مزدحما بالمراكب، ولم نعد نجد ذكرا للمنارة البحرية. أمّا صناعة الحرير المتدهورة فقد لجأت إلى قرية "قصر سجّة" بمنبع الوادي. وعلى عكس ذلك فقد احتلّت صناعة الجلد المكانة الأولى. وقد كان ابن حوقل قد نوّه بها من قبل في حين سكت عنها البكري.

أمّا ياقوت، الذي كان عاش في أوائل القرن السابع هـ/الثالث عشر م، فهو لا يفيدنا بجديد، مكتفيا بنقل ما كتبه البكري حرفيّا. ويصف ابن الشباط (618 - 681هـ/1221 - 1282م) قابس، فيما نقله عنه الوزير السراج، بأنّها "مدينة كبيرة" ويؤكّد أنّه يمكن تصنيف أهلها إلى ثلاثة عناصر: عرب وبربر و"عجم" أي "أفارقة". وهذه آخر مرة نجد فيها إشارة إلى انقسام سكانها إلى هذه العناصر الثلاثة. وفي أواخر القرن السابع هـ./الثالث عشر م، خرج العبدري من عبوره المدينة في طريقه إلى الحجّ بارتسام سيّء.

أمّا ما يذكره عنها التجاني الذي أقام بها أربعة أيام في أواسط جمادى الأولى من سنة 706/أواخر نوفمبر 1306 فهو مغاير تماما، إذ يصرح بإعجابه قائلا: "هي مدينة جميلة بحرية وصحراوية، وهي جنّة على الأرض، وهي بعبارة أوجز دمشق الصغرى" إلاّ أنّ تحولا عميقا كان بصدد الحدوث. فقد كان السور القديم لا يزال قائما دون شكّ، لكنّ محور النشاط انتقل نحو "الأرباض الواسعة التي كانت تُؤوي أكثر الأسواق" (الرحلة، ص 86 - 87). وفي قلب المدينة كانت مئذنة المسجد الجامع قد فقدت توازنها ومالت ميلا منذرا بالخطر. أمّا قصبة المدينة وقصر بني جامع وهو "قصر العروسين العجيب الذي لا مثيل له في الدنيا" فقد أصبحا خرابا (الرّحلة، 94 - 95). وكان هواء المدينة أوخم ما يكون، ووجوه الناس مصفّرة، والأوبئة متفشّية متواترة بسبب نبات الدّفلى الذي يلوّث المياه، فيما يذكره التجاني، باستثناء منبعي "عين الأمير" و"عين سلام".

ثمّ يجب بعد ذلك انتظار أوّل القرن السادس عشر، أي ما ذكره الحسن بن محمد الوزّان (المعروف بليون الافريقي: الذي زار البلاد التونسيّة في سنة 1517) للاستفادة بتفاصيل أخرى حول تطور مدينة قابس. فهي لا تزال، "مدينة عظمى"، وكانت "الأسوار العالية القديمة" لا تزال تحيط بالمدينة العتيقة، وإن تشتت سكانها في أنحاء الواحة. "وكانوا سُود البشرة، بائسين فقراء، يشتغلون بفلاحة الأرض أو بصيد السمك، وقد تلاقى على استنزاف ما بيدهم من النّزر القليل كلّ من أعراب البادية وملك مدينة تونس" (الوصف، ج. 2، ص 398). وبعبارة أوجز قد بلغت المدينة إذ ذاك حدّ الانهيار الكامل والافلاس التامّ، فلم نعُد نسمع شيئا عن ثمارها الوفيرة ولا عن صناعاتها وصادراتها نحو كلّ الجهات. ولا ترد أيّ إشارة إلى نشاط مرفئها ولا إلى حركة أسواقها. فقد قضى اختلال الأمن وانعدامه على حركة البيع والشراء والمبادلات بما في ذلك التجارة عبر الصحراء التي كان لها ذلك الأثر العميق نتيجة التزوّج بالجواري السود من الرقيق في لون بشرة سكان المدينة.

وفي منتصف القرن التاسع عشر لم يتمكّن ف. غيران من العثور على أي أثر للسور العتيق، ولم تبق سوى تلك المساكن المتداعية بمنطقتي "المنزل" و"جارة" التي لا تكاد تستحقّ اسم البيوت، حسب رأي لافيت وسرفوني (F.Laffite et I.Servonnet) وكانت "المنزل" تعدّ عندئذ 3.500 ساكن في حين تعد "جارة" 4.000 ساكن، وذلك من عدد جملي لكامل سكان الواحة يقدر ب10.000 نسمة تقريبا. وفي سنة 1873 خطرت ببال القبطان رودار (Roudaire) فكرة إيجاد بحر داخلي بإغراق منطقة "الشطوط" بواسطة قنال يربط بينها وبين خليج قابس. لكنّ الدراسات كشفت عن استحالة تطبيق ذلك المشروع عمليّا.

ببليوغرافيا[عدّل]

  • الأكحل ياسين، مدينة قابس و ناحيتها حتى سنة 555هـ/1160، مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة في التاريخ الوسيط،كلية العلوم الإنسانية والإجتماعية بتونس، السنة الجامعية 2002-2003.
  • المرزوقي محمد، قابس جنة الدنيا، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1962.