علي الناصف الطرابلسي

من الموسوعة التونسية
نسخة 09:35، 20 فبفري 2017 للمستخدم Bhikma (نقاش | مساهمات)

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

[1948 - 2008م]

ولد الفنّان علي الناصف الطرابلسي سنة 1948 بصفاقس. شغل حتى آخر حياته خطة أستاذ لفنّ الخط العربي وفنّ النسيج بالمعهد العالي للفنون الجميلة بتونس. وكان قد حصل على الأستاذية في التصميم الصناعي من أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد، ثم على شهادة الكفاءة في البحث من المعهد التكنولوجي للفنون والهندسة المعمارية والتعمير بتونس سنة 1983. شارك في عدة تظاهرات فنية منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي بكلّ من تونس والخارج. من ذلك الخليج العربي وتركيا وفرنسا وبركينا فاسو وألمانيا وبلجيكا واليابان، فضلا عن المعارض الفردية التي أقامها الفنان منذ 1987 بكل من صفاقس وتونس والقيروان والرياض ومرسيليا. يعتبر علي الناصف الطرابلسي من الفنانين القلائل بتونس الذين تميزوا بمقاربة عضويّة وحيّة في التعاطي مع المسألة التشكيلية، إذ يرجع إليه الفضل في فتح آفاق الشكل الفني التراثي على مجالات حيوية شديدة الصلة بالحياة اليومية مثل فن المنسوجة وفن التصميم وفن النحت وتصميم الفضاء والابتكار في الصناعات الحرفية.

وسواء تعلق الأمر بالرسم على الزجاج أو بالمنسوجات الحائطية أو التقنيات والخامات المختلفة، فإن للخطاب التشكيلي لديه علاقات وثيقة وأصيلة بالمرجعية التراثية للفنون البربرية والفنون العربية الاسلامية بتونس. وذلك في لغة تشكيلية حديثة. وهو ما تجلّى في معالجته الإبداعية لفن الخط القيرواني أو للتراث الزخرفي على سبيل المثال. وكان يتمتّع بثقافة إبداعيّة شاملة ومنفتحة على فروع فنيّة شتى. وهو الذي كانت له مشاركات في فن المسرح في فترة شبابه الأولى. وقد تتلمذ للمسرحي والإذاعي عيّاد السويسي، فضلا عن ولعه بالسينوغرافيا من حيث طبيعتها الفضائية والتشكيلية. وكانت مثل هذه الخبرات قد غذّت في الرجل هاجس البحث عن المقوّمات التواصليّة في مقاربته لمنزلة الفنان داخل المجتمع وللشكل الفني داخل معترك الفضاء الحي والمعيش بوصفه عضوا صميما، بعيدا عن الاطار الذهبي لفن اللوحة ومناخاته المتحفيّة.

فالرموز والعلامات الوشمية والحروفية لم تعد أثرا متحفيّا. بل أصبحت مادة طيّعة تتجدد بين أنامل الفنان وإحدى ممتلكاته البصرية، بل وجزءا من النظام الرؤيوي التشكيلي الذي تتحرك فيه خيوط الصوف ما بين غائر وناتئ... وهكذا يكون الفن أعظم سبيل لتمثّل التّراث وشخصنته عندما يقتحم الأثر الثقافي شاشة الفنان فيصبح مكوّنا من مكوّنات رؤيته إلى العالم. فالتراث في ورشة علي الناصف الطرابلسي مادة للتشكيل المستمر تستفزّنا لأن نصرّفها من جديد في الحاضر وفق رؤيتنا لهذا الحاضر الكبير. إنه تصريف الماضي في الحاضر وتصريف الجماعي في السّرد الفنّي للكيان الذاتي. إننا في متابعتنا لهذه التجربة الفنية إزاء فنّ ينطلق من لغة الخيط والمغزل والمنسج، إلا أنه يؤكّد قدرة هذا الفن على الارتقاء بالممارسة التشكيلية إلى لحظتها النبيلة... وذلك رغم الاعتماد على مواد وتقنيات ترجع إلى سجل الفنون الوظيفية والنفعية مثل الزربية والمواد التزويقية. فكيف ينبئ الصّوف بشاعرية الفن وغنائية الحلم وحيوية الحياة أيضا في ثراء لحظتها الملهمة، خصوصا عندما يتصالح الصوف بلوينته مع مواد صلبة يدرجها الفنان في منسوجاته من قبيل النحاس والخشب؟ وكيف تختزل المادة من الشحنة التعبيرية والمؤثّرات الإدراكيّة ما يمكّن الفنان من المصالحة بين هذا البعد الجمالي الخالص وطبيعة البناء التصميمي والتزويقي الذي تقوم عليه أعماله لتأكيد وحدة الحياة داخل الممارسة الإبداعية؟ يتحوّل الصّوف على المنسج إلى رؤية جماليّة لا تسرد الحكايات والذكريات، بل تبشّر بتطلعات الفنان إلى المستقبل.. وبين الأصابع تمرّر الذات طريقتها في معاملة الطبيعة وحضارة الأشياء. إنها ملحمة العنكبوت عندما يحوّل الطبيعة الباطنية إلى خيوط تنسج أحلام الذات من خلال الفن. وجهاد الفن هو معركة الصوف هذه وهو هذا المسار الدؤوب من الطبيعة إلى الثقافة، بالقدر نفسه الذي يؤكد فيه الفن معركة الإنسان في انتقاله من حتمية الطبيعة وخشونتها إلى حرية الإبداع ومرونته. على أن هذه الحرية ليست هائمة بل هي مهذّبة ومشدودة إلى المحدّدات التقنية والهندسية التي يحتكم إليها هذا الخطاب الجمالي في معالجة الفضاء المنسوج.

ومهما اجتهد على الناصف الطرابلسي في تنويع خاماته الصوفية وتناول أشكاله بنوع من الرؤية المتحررة، فإنه ظل أمينا لمبدإ التوازن الهندسي والبصري وحريصا على تأكيد هاجس التصميم والحبكة. فماهي المقومات البنائية والجمالية التي اعتمد عليها الفنان لتأمين هذا التوازن البصري والهندسي؟ لقد اعتمد علي الناصف الطرابلسي مقوّمات التمركز والتناظر والإيقاع والحركة والتأليف. وهي ظواهر تقليديّة في الإنشاء الجماليّ تؤكد مدى إفادة الفنان من التراث التشكيلي للفن العربي الإسلامي كما هو الحال في فنّ الخط العربي وفي فنّ الرّقش أو الأرابسك وفي فنّ العمارة والتزويق.. ويُعامل الطرابلسي هذه الظواهر البنائية في الوقت نفسه الذي تؤكّد فيه منسوجاته هاجس البحث عن مؤثرات جديدة داخل التقنيات المعاصرة للغة التشكيلية.

أما الظّاهرة الإيقاعية فهي من أهّم هذه الظواهر البنائية لدى هذا الفنان. ونتحسّسها من خلال التناظم والتتابع والتواتر في سلوك المفردات المستعملة، إذ الإيقاع هو من ذلك التتابع المنظم الذي يولّده عنصر ما على وتيرة نسقيّة منظّمة. و قد تنوعت لدى الفنان الأساليب الإيقاعية، إذ يبدو الإيقاع هندسيا ودقيقا تارة وغنائيا حرّا تارة أخرى..

ومن مزايا الظاهرة الإيقاعية في مثل هذه الأعمال أنها تمكّن من ضبط التناسب البصري ما بين مناطق الفراغ ومناطق الملاء. ولئن تجلى الإيقاع في تواصل الأشرطة المتوازية والجدائل الصوفية بعضها مع بعض داخل المنسوجة الواحدة، فإنّه يمكن لنا أن نتحسسه كذلك في تواصل المنسوجات كلها بعضها مع بعض أيضا داخل قاعة المعرض. فكثيرا ما تتناسل الأشكال الفنية أمام العين. وشيئا فشيئا نجد أنفسنا أمام منسوجة أخرى محاذية. وهو ما يؤكد الوحدة الأسلوبية للمعرض. و تأتي ظاهرة الحركية من تكثيف هذه المؤثرات الإيقاعية أمام العين الناظرة التي تسهم أيضا في تنشيط مواطن الحركة بين العناصر المكونة للعمل الفني. فحركة العين ووضعيتها لدى الناظر - وهو يتجول في المعرض - يساعدان على مضاعفة قوة التأثير الإيقاعي، كما أن من شاعرية الحركة الإيقاعية وموسيقيتها ما أنقذ العمل الفني من التورّط في رتابة الهندسة والتصميم. إن حركة الشكل أمام العين في إيقاع حيّ قد فتح الرؤية على آفاق حركيّة في معالجة الخطوط والأبعاد وأغرى اللعبة التشكيلية بلحظات لا متوقّعة في تناول الخامات المستعملة. ولعلّ من مزايا هذه الظاهرة الإيقاعية بطراوتها التشكيلية أنها أدّت بالفنان إلي البحث عن متعة العين من خارج فن الصّوف وتقنياته. ومن ثمة جاءت المنسوجات منفتحة على تعابير تشكيلية أخرى مثل النّحت والقولبة والنقش.

ولا ريب في أنّ أصابع الفنان في تناول خاماته المختلفة (صوف وخشب ونحاس وحديد...) تتحرك ضمن رؤية تركيبية وتوليفية. فالأساس الجمالي الذي يضمن وحدة العمل الفني وتماسك عناصره هو نفسه الذي يضمن تعايش الصّوف والحديد في الوقت ذاته وتعايش المساحات المسطحة مع العناصر البارزة. وهو ما يساعد على دعم هذه الوحدة الايقاعية التي تجمع منسوجات الطرابلسي وتدفع بالشكل الفني إلي آفاق مخياليّة أرحب، تمكّن الفنان من تجاوز المعالجة المتحفيّة للعناصر التراثية المعتمدة مثل الحروف وعلامات الوشم. إنه تزمين للشكل وبعث للحياة في المادة بعد أن كلّسها الاستعمال اليوميّ.

حصل علي الناصف الطرابلسي على عدّة جوائز. وكان قد كرّمته عدّة مؤسسات وجمعيات، آخرها المجمع التونسي للعلوم والاداب والفنون، تونس، في أثناء أيّام الخط العربي الثانية (2006) التي شارك فيها وقد التأمت بعنوان "الخط العربي بين العبارة التشكيلية والمنظومات التواصلية". أمّا آخر مشاركاته الفنية فكانت في المعرض السنوي لاتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين بمتحف مدينة تونس، قصر خير الدين (فيفري 2008).

ليس سرد الصّوف مثل سرد الأحداث والأساطير. وليست الحيَاكة هاهنا مثل الحكَاية الشعبية التي تتوارثها الأجيال في رموز منقوشة على الصّوف... بل يتضمن فن النسيج فرديّة الذات المبدعة وطريقها إلى الوجود. وبنسجه للصوف إنما كان الفنّان ينسج ذاته. وكانت خيوط الصّوف تنقّل إلينا طريقته في معاملة الطّبيعة وحضارة الأشياء، بألوان مختلفة، ساخنة وباردة.