عرفة الشابي

من الموسوعة التونسية
نسخة 17:07، 24 نوفمبر 2016 للمستخدم Admin (نقاش | مساهمات) (أنشأ الصفحة ب'لئن ركّزت مجمل الأبحاث التي هي بحوزتنا على أهمية الطور الجديد الذي عاينته الطريقة الشابيّة ا...')

(فرق) → مراجعة أقدم | المراجعة الحالية (فرق) | مراجعة أحدث ← (فرق)
اذهب إلى: تصفح، ابحث

لئن ركّزت مجمل الأبحاث التي هي بحوزتنا على أهمية الطور الجديد الذي عاينته الطريقة الشابيّة اعتبارا للمكاسب الجمّة التي حققتها، والمتمثلة في تكوين سيادة إقليمية بالقيروان مع التصدّر للحصول على البيعة وبلوغ مرتبة الملك على أيام عرفة الشابي، فإن تلك المكاسب يجب أن لا تحجب عن أنظارنا الكثير من السلبيات، ليس أقلّها احتكار مشيخة الطريقة من قبل العائلة الشابيّة ووقوف أفرادها حائلا في وجه بروز شخصيات تتمتع بما يكفي من الصيت من خارج المربّع العائلي.

اعتلى عرفة الشابي مرتبة المشيخة على إثر وفاة أخيه محمد الكبير في غضون العشرية الأخيرة من القرن الخامس عشر. والتزمت المصادر الصمت التام إزاء أطوار تجربته طوال الفترة التي سبقت إعلانه تكوين إمارته الطرقيّة بالقيروان بُعيد حدوث ما أسماه ابن أبي دينار مؤلف "المؤنس" "خطرة الأربعاء"، تلك التي استجلب خلالها السلطان الحفصي الحسن (1526 - 1542م) الأسطول الأسباني لاستعادة عرشه إثر نجاح إنزال سنة 1534م بقيادة القرصان العثماني خير الدين. أي أننا لا نعرف عن تجربة عرفة الشابي، تلك التي أفلحت في تطوير رصيد الطريقة بعد رحيل مؤسسها على ما أجمعت عليه المصادر، سوى السنوات الحافلة بوقائع انتصاراته العسكرية على الحفصيين والاسبان.

وهي مرحلة لا تغطي على محوريتها الأكيدة سوى السبع سنوات الفاصلة عن تاريخ وفاته، ذلك الذي أعادته أكثر الاحتمالات ترجيحا إلى سنة 1542م.

جميع ما نملكه حول الأربعة عقود الفاصلة بين موعد تولي عرفة الشابي أمر الطريقة ومبايعته بالقيروان وإعلانه تأسيس إمارته الطرقيّة، هو حضور غليان وجدل كبير حول تنامي صيته واتساع شهرته بجميع الأوطان الداخلية إلى حدّ دفع بالسلطان الحفصي محمد (1493 - 1526م) إلى استجلابه لتونس وإيداعه السجن مدّة لا تقل عن تسعة أشهر وذلك بإيعاز من قاضي العسكر محمد بن محمد التونسي المكنى "مغوش" (ت 1540م).

تظافر في حصول عرفة الشابي على واسع الصيت مجهوده الشخصي مع ذلك الذي بذله أخوته أبو الفضل وأبو الطيب وأبو الكرم وابناه أبو العباس أحمد (1493 - 1543م) ومحمد زفزاف (ت 1577م) . وتركّز مدار صيت الطريقة الشابية وشيخها عرفة بالأساس على استغلال ظرفية الانحسار التي عاينها المخزن الحفصي بُعيد وفاة مجدّده أبي عمرو عثمان (1435 - 1488م) ، وهي صعوبات توقّفت عندها تقارير الرحالة الأجانب وكتب الأخبار، تلك التي شدّدت على حضور ضيق بالواقع المعيش ورغبة كبيرة في تجاوز واقع الأزمة.

وتكشف دقة الشهادات العينية عن الصعوبات التي جابهتها جميع الفئات الاجتماعية خاصة القبليّة من بينها، تلك التي تزايد نسق توافدها بأعداد غير مسبوقة على القرى والحواضر المستقّرة، معقّدة بشكل غير مسبوق ظروف عيش سكانها الصعبة. فقد حملت رحلة الاسباني "مرمول" (Marmol) معطيات متأكدة عن "شن البدو لغارات متتالية على المدينة وإلحاق جسيم الأضرار بها وتقلّص مواردها الحيوية وانتشار الخصاصة بين سكانها". وإذا ما أضفنا إلى ذلك ثقل العبء الضريبي الموظف على سكان المدينة، حتى "غدت معيشتهم ضنكا"، نفهم بيسر أن سخط أولئك السكان على تردّي أوضاعهم المعيشيّة هو الذي كان وراء ترحيبهم بقدوم الحامية التركية التي استقرت بالمدينة، وذلك بالتزامن مع استيلاء خير الدين بربروس على مدينة تونس واستعجالهم "مبايعة إمام جامع عقبة عرفة الشابي مَلكا عليهم" بعد تأكد دخول ملك الاسبان شارل الخامس (1516 - 1556م) مدينة تونس.

البيّن إذن، أنّ كلّ إصرار على العودة بألمعيّة عرفة إلى فترة تسبق هذا الظرف المتأزّم يحتاج إلى إثبات تمكّن تلك الطريقة الصوفية من إحداث شبكة مكثفة من الزوايا تماثل ما تمكّنت الجزولية (نسبة إلى محمد بن سليمان الجزولي ت 1465م) من إنشائه وبشكل متزامن في المغرب الأقصى. فمشروع الشابيين قد استهدف قاعدة بشرية قبلية بدت أكثر تهيؤا لتقبل الانخراط فيها اعتبارا لطبيعة التحوّلات العميقة التي كانت بصدد المرور بها. لذلك انثال الأتباع على مدينة القيروان بمجرد أن طالتهم دعوة الشابيين، فأسّس عرفة عندها بيت الشريعة لتلقّي الهبات والصدقات وريع الزكاة في شكل "عوائد" قارة لم تنقطع تلك التجمّعات عن دفعها حتى بعد وفاة شيخ الطريقة بزمن طويل.

"أحي اللّه ب [عرفة الشابي على ما أورده مؤلف الفتح المنير] عبادا لم يكن فيهم ولاية ولم يعرفوا علْما، وإنما عمّهم اسم الاسلام فقط، فلم يتّصفوا بشرط من شروطه إلا نادرا. فلما فشا فيهم واعترفوا به وأخذوا على يده...صاروا يعرفون الله ويعرفون التوحيد ويعرفون السنة، ما بعد الاستقامة كرامة".

دخل الشابيّون بمجرد توصّلهم إلى إدماج منظوري القبائل المنتجعة بالجهات الوسطى والغربية لمجال إفريقية في مواجهة معلنة مع منافسيهم من الغريانيين المستبدين بإرث زاوية محمد الجديدي (ت1387 م) بعد تأصّل حضورهم بجهات الوسط والساحل الشرقي ورباطاته. ولم تصلنا بخصوص طبيعة العلاقات بين الطرفين أي مؤشرات تدلّ على حضور مفاوضات أو تحقيق تقارب بين المؤسستين المتنافستين بضراوة لا توصف على احتكار الوجاهة داخل أسوار مدينة عقبة. فلئن عُرف عن الغريانيين قربهم من أمراء المخزن الحفصي، فإنهم لم يرفضوا زكاة أهل الحرابة من البدو، معللّين ذلك بتفصّي المخزن الحاكم عن واجباته تجاه الزوايا لذلك "أظهر الله إرادته في جمع [تلك الأموال] على يد الفجّار من خلقه"، على أن يُبْدُوا استعدادا للتقارب مع الأتراك بمجرد أن وجّه أولئك حامية للاستقرار بالمدينة.

وهكذا تتبيّن لنا طبيعة الأهداف الدنيوية التي حركت ردود فعل شيخ هذه الطريقة الصوفية في تشوّفه إلى تحقيق وجاهة إقليمية، بدت واقعيا يسيرة المنال لولا الحركيّة المذهلة التي أبداها "رياس الطائفة القرصنة" الموالين للعثمانيين حال تمركزهم في النصف الثاني من القرن السادس عشر بالحوض الغربي للمتوسط.

وتدخل المواجهات التي خاضها عرفة الشابي ضد المخزن الحفصي بعد تحمله أعباء الامارة الطرقية بالقيروان ضمن هذا الاطار. غير أن جميع تلك الوقائع العسكرية لم تستطع أن تحرّر الطرفين الداخليين المتنافسين (المخزن الحفصي والامارة الشابيّة الطرقية بالقيروان) من الضغوط المسلّطة عليهما من قبل القراصنة الموالين للعثمانيين المتمركزين على المرافئ الشرقية (سوسة وصفاقس والمهدية وجربة) ، فضلا عن الحاميات الاسبانية الرابضة على السواحل الشرقية بين حلق الوادي والمنستير.

ولا يبدي مؤلف مناقب الشابييّن أي اهتمام بموضوع الوقائع العسكرية التي خاضها الشابيّون في أيام عرفة، سواء ضد الحامية التركية المتمركزة بالقيروان سنة 1538م في واقعة القرن أو ضد السلطان الحفصي الحسن الذي وجد خلال واقعة المنستير في 12 نوفمبر 1540م الدعم من قبل الحامية العسكرية الاسبانية المتمركزة بتلك المدينة. ما نعثر عليه ضمن ثنايا ما خطّه مؤلف تلك المدونة هو إقرار ضمني بتفوّق أولئك "الرياس القراصنة" منذ أواخر القرن السادس عشر، فقد "كتب على [وجوههم] الفتح، فأي بلد توجهوا له فتحه الله لهم". لذلك فإن ما وسمت به بعض الأبحاث تلك المواجهات ب"النضال القومي" أمر لا يخلو من إسقاط تاريخي وتحيّز عائلي. فالحضور المكثّف لمنظوري التجمّعات القبليّة المنتسبة إلى صفّ الشابيّة زمن خوض شيخها عرفة لمواجهاته، لم يمنع أولئك المنظورين من التلاعب بولائهم تجاه كلا الطرفين المتنازعين وفقا لمصالح شيوخهم وأهمية التنازلات والترضيات التي كان كل طرف مستعدّا لتوفيرها لهم. وهو ما تفطّن له شيوخ الزاوية الغريانية وعملوا وسعهم على الاستفادة منه بغرض إنهاء سطوة الشابييّن وزعامة شيخهم على "برّ القيروان".