عثمان الكعاك

من الموسوعة التونسية
اذهب إلى: تصفح، ابحث
عثمان الكعاك الأول من اليسار رفقة مصطفى زبيس

[1903 - 1976م]

نشأته ودراسته

يحتل المؤرخ عثمان الكعّاك مكانة مرموقة في تاريخ الثقافة التونسيّة، لا لأنّه كاتب رقيق الأسلوب، ومحاضر شيّق الحديث، ومؤرخ مطّلع، ومترجم بارع فحسب، بل لأنّه أيضا من أولئك المثقفين الذين سخّروا حياتهم لخدمة وطنهم والنهوض به على الصعيد الثقافي والعلمي والحضاري. ولد في قمرت من ضواحي مدينة تونس الشمالية يوم 15 أكتوبر 1903 في أسرة عريقة من أصل أندلسي، أنجبت عددا من أفاضل رجال العلم والأدب والقانون. وزاول دراسته بالمعهد الصادقيّ، وبعد حصوله على شهادة ختم الدروس الثانوية لم تسمح له ظروف الحرب العالمية الأولى بمواصلة دراسته العليا بالخارج، فالتحق بالمدرسة العليا للغة والآداب العربية بتونس التي كان على رأسها المستشرق الذائع الصيت ويليام مارسي. واهتمّ في أثناء دراسته على وجه الخصوص بالترجمة والتاريخ إلى أن أحرز ديبلوم الدراسات العليا في اللغة والآداب العربية.

نضاله السياسي

كان عثمان الكعّاك طوال فترة الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) يعيش بحسّه المرهف وشعوره الوطني العميق أحداث وطنه وتطلّعات شعبه إلى التحرّر والانعتاق. فما إن وضعت الحرب أوزارها حتى التحق بصفوف الحزب الحرّ الدستوري التونسي الذي أعلن عن تأسيسه في جوان 1920 وانضمّ إلى المجموعة التي كانت تنادي داخل الحزب بضرورة الكفاح وتعبئة الشعب وإعداده لخوض معركة التحرير. وكانت المجموعة التي تزعّمها أحمد توفيق المدني تضمّ بالخصوص الطاهر الحدّاد وأحمد الدرعي ومحيي الدين القليبي وعبد الرحمان اليعلاوي وزين العابدين السنوسي. وإثر إقدام حكومة الاستعمار في سنة 1921 على إلغاء الرقابة المفروضة على الصحافة التونسية منذ 1911، شرع عثمان الكعّاك في التحرير بمجلّة "الفجر" لسان الحزب، وجريدة "الصواب" لصاحبها محمّد الجعايبي، وكان يدعو في مقالاته مواطنيه إلى الكدّ والجدّ للنهوض بأمّتهم حتى تلتحق بركب الحضارة والتّقدم كما كان يعيد إلى أذهانهم أطوار تاريخ بلادهم المجيد. واسترعت فصوله انتباه زعيم الحزب الشيخ عبد العزيز الثعالبي فضمّه إلى اللجنة المكلّفة بإمداد الصحف الوطنية بمقالات تعبّر عن موقف الحزب من أهمّ قضايا الساعة. وكانت تلك اللّجنة تضمّ أغلب الكتّاب الدستوريين في ذلك التاريخ أمثال أحمد توفيق المدني و محمد محيي الدين القليبي وزين العابدين السنوسي والمنصف المستيري. وهكذا تحوّل عثمان الكعّاك إلى صحافي ينشر المقالات السياسيّة في أغلب الصحف الدستوريّة، لا سيما منها "الأمة" و"إفريقيا" و"العصر الجديد". واشتهر بانتقاد إصلاحات لوسيان سان (1922) وبشنّ حملة شعواء على قانون التجنيس المؤرخ في 20 ديسمبر 1923 الذي فتح باب التجنّس على مصراعيه، حتى أصبحت الجنسية الفرنسيّة تمنح بسهولة لكلّ من يطلبها من التونسيين ويظهر "عواطف فرنسية". كتب في جريدة "الأمة" حول هذا الموضوع ما يلي: "إنّه لا فرق عندنا في التجنيس بين الدين والقوميّة، فهو قاض على كليهما. وهو في الدّين كفر بصريح القرآن، وهو في القوميّة قاض عليها بأصول العلم والنظريات الاجتماعية والقانونية الصحيحة... ولهذا فنحن نرفض التجنيس بتاتا، لأنّنا شعب يريد أن يعيش، والشعب إن أراد فهو فاعل".

نشاطه الثقافي

تميّز عثمان الكعّاك في مطلع العشرينات بنشاطه الثقافي الحثيث. فقد مدّ يد المساعدة لشقيقه مصطفى الكعاك إثر انتخابه رئيسا لجمعية قدماء الصادقية بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها. وبفضل جهود الأخوين استأنفت الجمعيّة نشاطها الثقافي واستعادت مكانتها إلى جانب صديقتها الكبرى الجمعية الخلدونية، ثم تحوّلت إلى ناديها الجديد بنهج دار الجلد، وقد أصبح يعجّ بالأدباء ورجال الفكر من صادقيين وزيتونيّين، وفي مقدّمتهم عثمان الكعّاك الذي اشتهر بالمحاضرات التاريخية والأدبية التي كان يلقيها من حين إلى آخر على منبر النادي الأدبي.

واستحكمت صلات المودّة بين المثقفين الدستوريين وتعاونوا على تأسيس عدد من المشروعات الثقافية والعلمية الملائمة لمطامحهم، مثل نشريّة "تقويم المنصور" التي أنشأها أحمد توفيق المدني بالتعاون مع رفاقه، وكانت تتضمّن أبوابا شتّى في الأدب والعلوم والفنون والتاريخ والجغرافيا. ونشر فيها عثمان الكعّاك عدّة فصول ودراسات منها الدراسة القيّمة التي صدرت في العدد الثالث من "تقويم المنصور" (1924) بعنوان "المجتمع التونسي في عهد الأغالبة"، ونشرت فيما بعد في رسالة مستقلّة.

وفي تلك الفترة نفسها فكّر بعض الأدباء المهتمّين بتطوّر اللغة العربية في بعث مؤسّسة وطنية تعنى بشؤون اللغة العربية وأطلقوا عليها اسم "المجمع العلمي التونسي" وانتخبوا مكتبا مؤقّتا يتركّب من أحمد توفيق المدني وزين العابدين السنوسي وعثمان الكعّاك. وفي سنة 1924 اجتمع عدد من الأدباء والكتّاب وقرّروا إنشاء منظّمة لجمع شملهم والدفاع عن حقوقهم وأطلقوا عليها اسم "الرابطة القلميّة". وانتخب الأعضاء المؤسّسون مكتبا مؤقّتا يضمّ أحمد توفيق المدني و محمد محيي الدين القليبي وعثمان الكعّاك وزين العابدين السنوسي. لكن ّ حكومة الحماية لم توافق على إنجاز هذا المشروع الذي طواه النسيان مع مشروع المجمع العلمي، بعد إبعاد أحمد توفيق المدني في سنة 1925 إلى الجزائر، بدعوى أنّه من أصل جزائري.

نشاطه في باريس

ركدت الحركة الوطنيّة على نحو ملحوظ إثر هجرة الشيخ عبد العزيز الثعالبي إلى الشرق في جويلية 1923. ثم تفاقم الوضع بعد تخلّي الطاهر الحدّاد عن نشاطه الحزبي احتجاجا على موقف اللجنة التنفيذية من الحركة النقابيّة الوطنية التي بعثها محمد علي الحامي في سنة 1924. وازدادت الحركة الوطنية ركودا إثر محاكمة محمد علي وجماعته وإبعاد أحمد توفيق المدني وعبد الرحمان اليعلاوي إلى الجزائر سنة 1925. وعندئذ قرّر عثمان الكعّاك أن يتخلّى عن أيّ نشاط سياسي، وفكّر في التحول إلى فرنسا لمزاولة دراسته العليا. وبالفعل سافر إلى باريس في سنة 1926، والتحق بمدرسة اللّغات الشرقية، وظلّ في الوقت نفسه متّصلا بالشابي ومصطفى خريّف ومحمد الصالح المهيدي وبلحسن بن شعبان، يتبادل معهم الآراء حول بعض المسائل الأدبية والقضايا الفكرية، ويضبط بالتعاون معهم موضوعات المحاضرات والندوات التي ينظّمها النادي الأدبي. وأشار أبو القاسم الشابي في عدّة مواضع من مذكّراته إلى نشاط عثمان الكعّاك في نادي قدماء الصادقية. ولم يتخلّف عن المجالس الأدبية الخاصّة مثل مجلس محمد العربي الكبادي ومجلس زين العابدين السنوسي في مطبعة العرب ومجلس جبل المنار في الصيف، وقد كان يضمّ إلى جانب عثمان الكعّاك الصادق وحسن الزمرلي والمنّوبي السنوسي وسليمان مصطفى زبيس وغيرهم من رجال الفكر والأدب.

وكان عثمان الكعّاك يلقي المحاضرات في الأدب والتاريخ في مختلف الجمعيات الأدبيّة والثقافيّة، وينظّم الرحلات إلى داخل البلاد للتعريف بالمواقع التاريخية والمعالم الأثريّة. وأعطى دفعا جديدا للحياة الأدبيّة والفنيّة لما أنشئت الإذاعة التونسيّة في سنة 1938 وعيّن كاتبا عامّا لقسمها العربي. فدعا الأدباء والشعراء إلى إلقاء أحاديثهم وبحوثهم الأدبية والتاريخية والدينية على أمواج الأثير، وقد كانت "بالغة أقصى حدود الرقيّ "، على حدّ تعبير الشيخ الفاضل بن عاشور، كما فتح أبواب الإذاعة على مصراعيه في وجه المطربات والمطربين التونسيّين واشترط عليهم أنّ لا يقدّموا إلاّ الأغاني التونسية الصميمة. وبفضله دعمت الإذاعة التونسية الجهود التي كانت تبذلها الجمعية الرشيدية منذ إنشائها في سنة 1934 للنهوض بالأغنية التونسية.

ومن ناحية أخرى كان عثمان الكعّاك يشجّع الأدباء التونسيّين الذين يحذقون اللغة الفرنسية، مثل الصادق مازيغ، على ترجمة بعض الاثار الأدبيّة الأجنبيّة للاستفادة ممّا تتضمّنه من أفكار ونظريات وما تعالجه من قضايا فكريّة، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ حثّ بعض الأدباء الذين يجهلون اللغة الفرنسية أمثال الهادي العبيدي وأحمد خير الدين وجلال الدين النقاش ومحمود بورقيبة على تعريب بعض القصائد الفرنسية الرائعة. فكان يختار لهم القصائد المزمع ترجمتها وينقل لهم مضمونها باللغة العربية حتّى يعيدوا صياغتها شعرا.

نشاطه بعد الحرب العالمية الثانية

عهدت إدارة التعليم العمومي إلى عثمان الكعّاك في سنة 1944 بإدارة القسم العربي من المكتبة العموميّة بالعطّارين. فأقبل على القيام بتلك المهمّة بكلّ حماسة وتمكّن من إغناء تلك المكتبة بعدّة مطبوعات ومخطوطات عربية تونسية وشرقية، رغم جميع العراقيل التي اعترضت سبيله. وإلى جانب مهامّه الاداريّة استأنف نشاطه الأدبي والفكري، فأقبل من جديد على الكتابة في الصحف والمجلات التي عادت إلى الظهور أو أُنشئت إثر الحرب مثل "النهضة" و"الزهرة" و"الثريّا" و"المباحث" و"المجلّة الزيتونية" و"الأسبوع". واستأنف إلقاء المحاضرات على منابر مختلف الجمعيّات الثقافية، لا سيما منها الجمعيّة الخلدونية، وجمعيّة قدماء الصادقية وجمعيّة الشبّان المسلمين. وأصبح مواظبا على حضور جلسات النادي الأدبي التابع للجمعية الرشيدية التي انتخب على رأسها شقيقه مصطفى الكعّاك إثر وفاة رئيسها الأوّل مصطفى صفر في سنة 1942, كما اهتمّ عثمان الكعّاك بشؤون المسرح، فكان يتابع نشاط الجمعيات التمثيلية التي استأنفت نشاطها بعد انتهاء الحرب مثل جمعية الاتحاد المسرحي وجمعية الكوكب التمثيلي. وأسهم مع صديقه حسن زمرلي في تأسيس لجنة الدفاع عن المسرح التونسي وتولّى تدريس تاريخ المسرح في مدرسة التمثيل العربي.

نشاطه بعد الاستقلال

في سنة 1956 قرّرت حكومة الاستقلال تحويل المكتبة العموميّة بالعطّارين إلى مكتبة وطنيّة وعيّنت عثمان الكعّاك أوّل محافظ لها، وكان يفضّل تسميتها بدار الكتب الوطنية. وبقي على رأسها إلى أنّ أحيل على التقاعد في سنة 1965، فعيّنته الحكومة مستشارا لدى وزير الشؤون الثقافية الاستاذ الشاذلي القليبي الذي عهد إليه بإنجاز مشروع دائرة المعارف الموسيقية التونسية، لكن ّ المنية عاجلته قبل إتمام هذا العمل. وفي الفترة الممتدّة من 1956 إلى 1976 زار عثمان الكعّاك عدّة بلدان شقيقة وصديقة، مثل الجزائر والمغرب وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق والكويت وتركيا وإيطاليا وفرنسا، سواء لالقاء بعض الدروس أو المحاضرات أو للاسهام في الندوات والمؤتمرات العلميّة. وفي أثناء زيارته الأخيرة إلى الجزائر الشقيقة للمشاركة في الملتقى العاشر للفكر الإسلامي وافاه الأجل المحتوم بمدينة عنّابة يوم 16 جويلية 1976.

آثاره المطبوعة

بالإضافة إلى آثار عثمان الكعّاك المنشورة في مختلف الصحف والمجلات التونسيّة والعربيّة، التي لو جمعت لتألّفت منها عدّة مجلّدات، نشرت له بعض المحاضرات التي ألقاها على منابر الجمعيات، نذكر منها على سبيل المثال:"المقري" و"القلقشندي" و"ابن المقفع" و"عبد الحميد الكاتب" و"ابن قيّم الجوزية".

وأصدر أيضا عدّة مؤلفات وتحقيقات، نخصّ بالذكر منها:

  • تاريخ الجزائر العام، 1926.
  • بلاغة العرب في الجزائر، 1927.
  • المجتمع التونسي في عهد الأغالبة.
  • الأدلّة البيّنة النورانية في مفاخر الدولة الحفصية لابن الشمّاع (تحقيق)1936 ,.
  • الحضارة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط، 1956.
  • المراكز الثقافية بالمغرب العربي، القاهرة، 1957.
  • البربر (سلسلة كتاب البعث)، تونس، 1957.
  • التقاليد والعادات التونسية، تونس، 1957.
  • ديوان حازم القرطاجني (تحقيق)1964.
  • العلاقات بين تونس وإيران، 1972.


ببليوغرافيا

  • السعدي أبوزيان، عثمان الكعاك: الرجل والفكر والقلم، سلسلة ذاكرة وإبداع، المركز الوطني للاتصال الثقافي، تونس، 2009.